مَراكش؛ أسواقٌ، أعشابٌ، بذرُ

دلور ميقري

2013 / 1 / 26


1 ـ التسكّع خارج السوق:
حينما زار دمشق أحدُ الرحالة الطليان، في أواخر القرن السابع عشر، فإنه كتبَ مُعبّراً عن اعجابه الشديد بأسواقها وما تحفل به من نفائس الأقمشة والمصنوعات اليدوية: " لو أنّ مالَ المرء مخبئاً في عظم ركبته، لكسَره في الحال لكي يشتري ما أمكن من موجودات تلك الأسواق ". كذلك هوَ شعوري، في كلّ مرة أغشى فيها سوقَ السمّارين وما يَتصل به من فروع ودروب. عادةً، عندما أمرّ من هذا السوق، فإنني أكون آتياً من جهة " باب اغمات "؛ هناك، أين كنت أقيمُ في منزل حماي. وها أنا ذا عند غروب أحد أيام يناير، المعتدلة، وقد تناهت خطاي إلى مُختتم " درب القناريّة "، الفسيح نوعاً، والمتوّج بقوس حجريّ كبير. زقاقٌ ضيّق، ذو مدخل غير مسقوف، ينفتحُ إلى يسار الدرب، شاءَ أن يُلفت نظري نحوَ واجهة عمارةٍ تقوم ثمّة. اقتربت من باب البناء، كي أعاين خشبَهُ الثمين المُزيّن بالمسامير المعدنية والنقوش الملوّنة على شكل دوائر ومقرنصات، تنتهي في الأعلى بشكل نجمتين مُثمنتين. هناك، في صدر المكان، كان ينتصبُ أيضاً مدخلُ بيتٍ رياضٍ لا يقلّ بذخاً، يُمكن للمرء قراءة جملة على جداره تنبأ بأنه مَعروضٌ للبيع.
" ليتَ لديّ ثمنكَ؛ أيها الرياضُ الرائع، المَحظوظ بجيرة سوق السمّارين وساحة الفنا "، خاطبتُ ذلك المنزل في سرّي فيما كنتُ أعود أدراجي إلى الدرب الرئيس. الهررة، الصغيرة، المتألقة الوبر بالنظافة والممتلئة البدن صحّة ً وعافية، مشغول بعضها بالأكل في صحون دقيقة، فيما الأخرى تتأمل العابرين والمتسوّقين. يجدر التنويه هنا، إلى أنّ مفردة " العافية " تعني في الدارجة المغربية " النار ". وكم من المرات، وقعتُ فيها بمواقف طريفة على خلفية جهلي بهذا الأمر ( كأن أشكر موظفاً أو شرطياً بالقول : " يعطيك العافية " )، إلى أن أدركت معنى الكلمة في آخر المطاف. وأوباً إلى قطط الدروب، المراكشية، الشبيهة في نضارتها ونصاعتها بما أعلمه عن أخواتها في الشام. أكتب هذا، وأنا أتذكّر مَشاهد الهررة في مدينة القاهرة؛ التي كنتُ أفزع من لقياها للوهلة الأولى مُشتبهاً بكونها جرذاناً، نظراً لضآلتها ووساختها.
قلنا، أنني راوحتُ خطوي في مختتم " درب القناريّة ". ما أن خرجت منه، مُجتازاً القيسارية المظللة بالعقود والأقواس، والمُختصة محلاتها ببيع ألعاب الأطفال، حتى أخذني الطريقُ نحوَ " ساحة جامع الفنا " مروراً بمطعمٍ رياضٍ، إلى اليمين، يقع في مقابله البابُ الرئيسُ لمبنى " كافيه دو فرانس ". ثمّة، إلى الجهة اليمنى نفسها، المباركة، سيلحظ المرءُ مدخلَ " سوق السمّارين " حال اجتيازه للفسحة الواسعة، العامرة بالمحلات والبسطات والمطاعم والمقاهي. هذه الفسحة، المُكتظة أيضاً بحركة المشاة والدراجات النارية والمتسوقين والمتسكعين، هيَ في واقع الحال جزءٌ من " ساحة الفنا "، الكبرى. هناك، أطلبُ كأسَ عصير برتقال، منعشاً، من بائع فتيّ يطلّ من كوّة محلّه، الشبيه بعربة كاوبوي، تكساسيّة الطراز. عديدة هيَ هذه العربات، المركونة بمقابل " كافي دو فرانس "؛ والمنذور كل منها لبيع مشروبات العصائر أو لسلع التمر والزبيب والتين المجفف والنقل. كذلك تنبسط هناك على الأرض زرابٍ حائلة اللون، اصطف فوقها ما تيسّر من عقاقير وأعشاب وبذور العطارة، حملها رجال ونسوة من الصحراء، يتميّزون بملابسهم وكوفياتهم، الزرق. ولكن، ما حالُ ذاك الرجل العجوز؛ الذي مدّ بساطاً خلِقاً، تتنقل عليه بعضُ حماماته العجيبة الأشكال، وقد بدت أيضاً ثمّة أخوات لهن يعتلين سحاراتٍ خشبيّة..؟
من مجلسي على الكرسيّ الواطيء، المُتكرّم به البائعُ اللطيف، سأراقبُ أحدَ الرواة المُنشدين ممن اشتهرت هذه الساحة بأمثالهم على مرّ الأجيال والحقب: إنه عجوز نوعاً، نحيلٌ وقاتمُ البشرة، تلوح الحيوية في حركته الدائبة واقفاً أو متنقلاً. ها هوَ يقصّ على جمهورهِ إحدى الحكايات أو الطرائف، ثم يُتبعها بالغناء في الموضوع ذاته على أنغام ربابة وطبلة ومزهر في أيدي ثلاثة عازفين يرافقونه، تتراوح أعمارهم بين الصبا والكهولة. أحياناً، يشتط المنشدُ الراوي في استعمال بعض التعابير، مما يَجلبُ حَرَج بنات حواء؛ وفي المقابل، سرور الشبان المُتجلّي بصخب ضحكاتهم. بيْدَ أن أحداً هنا ( كما عاينتُ بنفسي خلال العديد من المرات )، ما كان ليبدي أيّ اشارة انزعاج أو ضيق حينما يستمع إلى أمثال هذا الراوي، الطريف؛ الذي لا بد أن أحد أسلافه هوَ من ابتدع الفن المُعرّف لاحقاً بـ " المونولوجيست ". إننا هنا أمام ظاهرة، تمت ولا شك للأدب الشعبي، الشفاهي. إنها تذكّرنا بظاهرةٍ مماثلة؛ ألا وهيَ " الحكواتي " في بلاد الشام، والتي اندثرت منذ زمن بعيد إثر دخول االراديو للحياة العامّة. ولكن، فيما أنّ دواعي السياحة قد أعادت الحكواتي إلى بعض المقاهي في دمشق كفلكلور حَسْب؛ فإنّ الراوي المراكشي، في المقابل، ما فتأ محتفظاً بموقعه في " ساحة الفنا " بين جمهوره المحليّ والغريب سواءً بسواء.
2 ـ داخل سوق السمّارين:
قبل أن يلِجَ المرءُ " سوقَ السمّارين "، المُتقلّب فيه منذ مُستهلّه أنواع الناس بين المتسوّق والمتسكّع والسائح، ينفتحُ أمامه " السوق البلديّ ": إنه مجموعة من القيساريات، الحجريّة العمارة، ذات الأسقف المرقشة بالجبس المزخرف. هذا السوق، خاصٌ بمنتجات الزيتون والمخلل ( أو " المصيّر " بالمحكية المحلية ). كذلك توجد بعض المحلات، ممن تبيع الجلود والأقمشة. في واقع الحال، فإنّ " سوق السمّارين " فيه مداخل لا يمكن حصرها، تؤدي إلى أسواق أخرى فرعية أو إلى الأزقة وحتى إلى المساجد. إنّ سقف هذا السوق الرئيس، والأكثر شهرة في مراكش، ليبدو دليلاً للمرء بأناقة معدنه وخشبه على السواء، والمنفتح هنا وهناك على الفسح السماوية. ها هنا إلى اليسار، إذن، مدخلُ " سوق البهجة ". وبما أنّ الجوّال غير ذي عجلة من أمره، فليلق إذن نفسه في هذا المكان أيضاً؛ الذي يُنبي اسمه بكونه مدخراً للأشياء الطريفة والمُسرّة. إنه يُشبه، إلى حدّ ما، " سوق الخجا " الدمشقي وسوق " خان الخليلي " في القاهرة. يتكوّن هذا من ثلاثة أدوار، يبدو للوهلة الأولى كما لو كان قديماً عبارة عن قيساريات منفصلة ثمّ تمّ وصلها بعضها ببعض. وهوَ إلى ذلك على شكل متاهة من الممرات، متشابكة ومُحيّرة؛ حتى أنني وعلى الرغم من دأبي على زيارته، فلا بدّ لي في كلّ مرة من سؤال أحدهم عن المخرج المؤدي إلى " الفنا "، أو الآخر المفضي إلى " السمّارين ". يتّم الارتقاء إلى الدورين، العلويين، بوساطة سلالم من الأدراج الحجريّة. الأرضيّة مرخّمة، والأسقف من معدن الصاج، تتدلى منها مصابيح مُبهرة النور مساءً. في الدور الأرضي، ثمّة عرائش ياسمينة ومجنونة، تضافر في بث الأريج والفتنة. المحلات، أكثرها لبيع وصياغة المشغولات الفضيّة من خواتم وعقود وأساور وغيرها. فضلاً عن المصنوعات البديعة، المنحوتة من خشب العرعر، الثمين، المروِّج عبقه الحرّيف في المكان. إلى المصنوعات الجلدية الفاخرة والزجاجية المصقولة والمعدنية المطروقة؛ من أحزمة وحقائب ومرايا ذات إطارات على شكل النوافذ التقليدية؛ وأيضاً أسلحة الزينة من خناجر وسيوف وبنادق، وكلّها مفضضة المقابض أو مظهّرة بالعاج والصّدف. ثمة محلات أخرى للأقمشة المراكشيّة، الحريرية والزاهية الألوان، والتي لم أرَ من قبل مثيلاً لها سوى في أسواق الشام وحلب وأربيل.
المدخل الرئيس لـ " السوق السمّارين "، كأنما هوَ أحدُ أبواب المدينة، المهيبة: ثمة قوسٌ حجريّ من النوع المَنعوت بـ " البواكي "، كبيرٌ وعال، مأطرٌ بالجبس المزخرف مع افريز من القرميد. فما أن تخطو قليلاً حتى يشدّ نظركَ محلّ أنيق المدخل، " بدائع مراكش "؛ يُحيلك اسمه إلى فن صنعة السجاد البربريّ، الأصيل، الشبيهة شهرته في أوروبة بالسجاد العجميّ لدينا في المَشرق. حينما قلت للمعلّم، المتوسط العمر والحفي الطلعة: " محلّكم اسم على مسمّى.. "، فإنه تبسّم بودّ ودعاني إلى معاينة القسم الداخليّ فيما هوَ يتكلّم عن مزايا بضاعته وأنها من الصوف مشغولة باليد خيطاً خيطاً. وإذ تصادف ارتقائي الدرجات القليلة، العريضة، مع دخول بعض السيّاح الذين سبقوني للتوّ، فإنني سمعتُ آهات التعجّب المنطلقة منهم: " أووو.. لا لاّ.. ". وبدلاً من ارسال بصري نحو الزرابي المعلقة على الجدران، رأيتني أتبع عيون أولئك الأوروبيين المشدوهة والمرتفعة إلى الأعلى. إذ تكلمتُ عن روعة السجاد المعروض هنا، فقل أن السقفَ هو إحداها؛ بخشبه الثمين المتقن الزخرفة، وبألوان يغلب عليها الأخضر والأزرق، وبأشكال نباتية وأزاهير مذهّبة ـ كأنما هيَ مستلة من أحد القصور أو المتاحف. ولكن، يبدو أنّ تلك المجازات، آنفة الذكر، ستتوالى أمام عياني في هذا السوق، العريق. وها هوَ احداها، " بازار الحمراء "، المتركن على بعدٍ يَسير، يُعيدنا أيضاً إلى المشرق بما أن الاسم الأول منه أعجميّ المَصدر. إنه قيسارية مغلقة، بناؤها من الحجر فيما سقوفها ذات زخرفة جصيّة، والأرضيّة من الرخام الفاخر، المُجزّع. عددٌ من المحلات تتجاور هنا، تحفل بنوادر التحف والفخاريات واللوحات الفنية. صاحب إحدى هذه المحلات، وكان رجلاً مُسناً، دعاني بلطف إلى معاينة بضائعه المعروضة في الداخل. ثمّة، عقدنا مقارنة بين أسواق مراكش والشام، بما أنّ الرجل سبق له في شبابه أن زار مدينتنا من أجل جلب تجارةٍ منها.





https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن