التقليد والتحقيق في سلوك طلاب الجامعة - د. عبد الكريم سروش

أحمد القبانجي
ahmedalqubbanchi@gmail.com

2012 / 12 / 22

د. عبد الكريم سروش
المترجم: أحمد القبانجي

هذا المقال عبارة عن محاضرة ألقيت في جامعة جيلان وهي احدى محافظات ايران عام 1989 م. ونصها:

ما أود أن أتحدث عنه في هذا اليوم يتمثل في تحليل بعد واحد من أبعاد السلوك الديني لطلاب الجامعة، وخاصة الطلاب الذين يتحملون مسؤولية أكبر في هذا المورد، أي الأخوة والأخوات المشتغلون في مؤسسة الجهاد الجامعي(1) ويتولون مسؤوليات ثقافية ودينية في فضاء الجامعة وملتزمون بمد يد العون للآخرين في الأمور العقائدية والدينية.
السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المورد: لماذا نرى بعض التكاسل لدى الإخوة المتدينين والملتزمين في تقوية الجوانب الفكرية والعقائدية لديهم وخاصة بعد الثورة(2) أو لا يعيشون الرغبة الكافية بهذا الاتجاه؟ ولماذا كان مفكرونا وكذلك طلابنا الأعزاء قبل الثورة الإسلامية يهتمون أكثر بالجوانب الفكرية والعقائدية، ولكنهم حالياً يتوجهون إلى نشاطات أخرى, وبشكل عام أن هذه النشاطات ربما تضيق الخناق على التفكير الديني العميق وتجعله مهمشاً، فإذا كان الحال كذلك فما هو الحل والعلاج؟.
وضوح العدو قبل الثورة:
في نظري أن هذه المسألة تحظى بأهمية بالغة من جهة, وكذلك تحظى بتعقيد كبير ، فالحالة التي عليها شبابنا وخاصة طلابنا الجامعيين الملتزمين دينياً والمحبين للثورة في الحال الحاضر يملك أبعاداً مختلفة، فقبل الثورة كان العدو معيناً تماماً, والمواجهة كانت من موقع الوضوح في الرؤية وبجميع الإمكانات والقدرات، فالنظام السابق كان يعتمد على القوة المادية الوحشية ويستخدم آليات العنف والضغط لقمع القوى المناهضة له وخاصة الإسلامية منها، وقد حشّد لهذه المواجهة قدرات ثقافية عظيمة واستخدم شريحة واسعة من المثقفين لهذا الغرض، فمن جهة كانت إشاعة ونشر الأفلام المتحررة والأفكار والكتب الخارجية وإشاعة الآداب الغربية وغير الإسلامية والمضادة للثقافة الإسلامية التي يعيشها شعبنا، وقد وضع رؤوس أموال طائلة لمواجهة الفكر الإسلامية وتوهين عرى الالتزام الديني في مجتمعنا، فقد حضر العدو إلى الميدان بجميع وسائله وأجهزته.
وضوح الشعارت والأهداف :
ومن جهة أخرى كان شبابنا المسلم والمتدين بمعرفتهم لهذا العدو المضاد للقيم والدين والإنسانية يعلمون بوضوح أين ينبغي أن يكون هجومهم. وماذا يجب أن يغيروا ويبدلوا من هذا الواقع السلبي، ففي عالم المواجهة والنضال فإن معرفة العدو وتشخيصه وصرف النظر عن الاهتمام بالجزئيات والتفاصيل والصراحة في رفع الشعارات تحظى بأهمية كبيرة لديهم، فالإمام الراحل في باريس وقبل ذلك في النجف قد طرح شعار (على الشاه أن يذهب) وهذا كان هو الشعار الأصلي للمواجهة في تلك المرحلة، فكان شعاراً صريحاً جداً وليس فيه أية شائبة من الغموض والإبهام، ولا أحد يتردد أو يشك في فهم معنى هذا الشعار والمراد منه، فكان من الواضح جداً ما هو الهدف ومن أين تنطلق الحركة , وبذلك تم تجميع القوى والطاقات لصبها في هذا الهدف الرئيس، والحمد لله وبتوفيق منه وتكاتف جميع أفراد الشعب تحت قيادة هذا الإمام تحقق ذلك الغرض.
مظلومية الاسلام وأنصاره قبل الثورة:
وليس فقط وضوح الشعار ووضوح العدو وتكاتف الشعب هو الذي ساهم في دفع شر العدو بل إن القوى الثقافية للمتدينين والسائرين في خط الثورة الإسلامية لها سهم كبير في إنجاح هذه النهضة، فالهجوم الفكري والثقافي اقترن مع هاجس العلم والمعرفة ورفع الحجب عن الذهنية الإسلامية والتفكير الديني والسعي للخلاص من مضيق الأقلية والمظلومية، فكانت هذه العوامل أساسية لسلوك هذه الشريحة من المؤمنين الملتزمين، فمثل هذا الجيش المجهز وإن كان صغيراً ولكنه ملتزم ومضحي في سبيل المبادئ والقيم قد وقف في مواجهة تلك القوى الشيطانية المدججة بكافة أنواع الأسلحة (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله) البقرة: 249.
كانت هذه عصارة إجمالية وكلية جداً لما كان عليه الحال قبل انتصار الثورة الإسلامية في مجتمعنا، يعني كانت هناك عناصر ساهمت في انتصار هذه النهضة, منها مظلومية الإسلام، والثاني كون أتباع هذه النهضة أقلية، والثالث عدم وضوح الأبعاد الفقهية للحكومة بعد الانتصار مع وجود أبعادها الإنسانية والعرفانية الإسلامية، الرابع: تميّز العدو وتشخيصه ودعوته للمواجهة، هذه الأمور هي التي تكاد تضمحل وتزول من مجتمعنا في مرحلة ما بعد انتصار الثورة الإسلامية وفي عصر ما بعد الثورة، ومن أجل معرفة أفضل في ما نعيشه نحن من وضع فعلي نرى من الضروري القيام بمقارنة هذه الحالة مع حالة ما قبل الثورة.
تبدل الثورات الى مؤسسات بعد الانتصار:
اليوم نحن لسنا أقلية في المجتمع بل نحن الغالبية، وطبعاً الغالبية المنتصرة، ولسنا نحن في موقع المظلومية أيضاً، والعدو الذي كان متحداً في السابق قد انهار وتشظى واختفى ليعمل تحت الأرض، وقد تبين البعد الفقهي للإسلام أكثر من السابق وربما تتلخص الحركة الإسلامية في ما بعد الثورة بأنها تبرز وجهها الفقهي وتتلخص الحركة الإسلامية في البعد الفقهي، يقول المرحوم الدكتور شريعتي في تحليل سوسيولوجي في باب تحول الميول الدينية والعقائدية للثورات المبتنية على العقيدة: بعد مدة المومانية تبدلت إلى الاستيتوسيون، يعني أن الثورات والحركات النهضوية تتبدل إلى مؤسسات، أو على حد تعبير (شبينغلر) المؤرخ الألماني: إن الثقافات تتبدل إلى حضارات، والثقافة في مرحلة التحرك تكون على شكل منظومة فكرية تتبع الوقت والصيرورة وتواجه الأعداء وتدمرّ، وتشق الطريق، ولا تخاف من أي شيء, والعمدة في رسالتها قصم ظهر العدو وتثبيت وجودها، ولكن بعد مدة كأن هذا النهر المتلاطم والموّاج يصل إلى البحر أو السد، وتنتهي حالة الفوران والتلاطم والحركة فيه ويحكمه نوع من السكون (سكون البحر).
هدف الثورة إسقاط العدو وسيطرة مذهب معين:
وفي المرحلة الثانية أي مرحلة السكون البحري، تبتديء مرحلة التمدن والتحضر، وهكذا تصل الثقافات من مرحلة الحركة والفعالية إلى هذه المرحلة، وما لم تزول هذه المرحلة فسوف تضطر إلى الوصول إلى هذه الغاية، أو بعبارة أخرى (أن الثورة تتبدل إلى مؤسسة) وقد أكد علماء الاجتماع مراراً بأن غالبية الثورات الدينية التي كانت تعيش في بداية نموها وظهورها الهياج وشدة الدوافع وقوة الأهداف مما يحقق فيها الحركة والدينامكية والاستمرارية، فإنها بعد مدة تتبدل إلى مؤسسة ساكنة وكسولة ومحافظة وعديمة الروح، وتضحى حكومة كسائر الحكومات الأخرى تأخذ وتعطي بآليات السياسة والتعاطي مع الآداب والرسوم المتعارفة وتصبح في عدادها وفي منظومتها، ولو نظرتم إلى سفارات فلسطين في بعض البلدان الخارجية ستشاهدون جيداً ما أقصده من هذا الكلام، وسترون من هم الأشخاص الذين احتلوا هذه السفارات وماذا يعملون حالياً.
وعندما تقارنون حالهم الآن مع حالهم في السابق وفي بداية الثورة الفلسطينية وبتلك الشعارات الحارة والأهداف السامية فسترون مقدار الفاصلة الكبيرة التي تفصل بين الحالتين أو المرحلتين، وسترون أن هذا النهر كيف انتهى به الأمر إلى السد أو إلى المستنقع، ولو لم نصدق أن جميع الثورات ستنتهي يوماً إلى السكون، فلا يمكننا إنكار أن الثورات تهدف إلى تحقيق فكرة أو مذهب معين، فالثورات والنهضات لم تقم أساساً لكي تبقى إلى الأبد ثورة ونهضة، بل هدفها إسقاط العدو وكسر وتحطيم قدراته وإزالته من جو المجتمع والسلطة والحلول محله، ولذلك ينبغي أن نتوقع بعد انتصار الثورة حدوث تحول عظيم في تفاصيل الحركة الإسلامية.



أوجه الفرق بين ماقبل الثورة وما بعدها:
وأول هذا التفاوت يتجلى في تحرر الفكر من سجن المظلومية (وإن لم يكن تحرراً كاملاً).
والثاني: أن الشريحة التي كانت في عداد الأقلية أصبحت أكثرية.
والثالث: أن الأبعاد التي كانت مغفولة ومهمشة من الفكر الثوري أخذت تبرز إلى السطح حسب حاجة المرحلة وتسلط عليها الأضواء.
والرابع: أن العدو سيكون أخفى ويعمل بشكل أكثر تستراً ومكراً بل قد يلبس رداء الصديق، وهذا هو الحال الذي نعيشه في هذه المرحلة.
معنى الاسلام الفقاهتي:
والفرق الأهم الذي يجدر التحقيق فيه أكثر، وهو على حد اطلاعي ومعرفتي بأفكار ومدونات المفكرين القدماء في مجتمعنا, أن هذا الأمر لا يقبل الإنكار، وهو أن التأكيد على البعد الفقهي للإسلام كان غائباً ومنسياً في كتابات وأفكار وأقوال هؤلاء المفكرين النهضويين ولم يطرح هذا البعد بشكل مقبول، والسر في ذلك ما سأبينه لاحقاً، ولكننا بعد الثورة واجهنا عبارات -في نظري- لها مضمون عميق وخطير، وهي عبارة: الإسلام الفقاهتي، وهذا التعبير لم نسمعه ولم نقرأه أبداً في مرحلة ما قبل الثورة، ولم يستخدم كتّاب الثورة الإسلامية هذا التعبير، أنظروا إلى كتابات وأقوال الشهيد الصدر، الطالقاني، المطهري، الدكتور شريعتي، الدكتور بهشتي والكثير من المفكرين الآخرين، فلم يستعمل أياً منهم هذا التعبير، فكلما سمعتم عن الإسلام قبل الثورة وما حققه ودرسه العلماء ورموز النهضة هو ما يتصل بالأبعاد العقائدية والإنسانوية والرؤية الكونية للإسلام المقترنة بالأفكار العلمية والعرفانية، وإن كان هناك جوانب فقهية للحديث والكلام فالغالب أن يستخدم لغرض مواجهة الأفكار المنافسة، كما في كتابات الشيخ المطهري في باب الاقتصاد الإسلامي أو حقوق المرأة في الإسلام.
اختزال الإسلام في الفقه:
ولكننا اليوم وبعد أن وصلت ثقافة الصورة إلى ساحل التمدن والتحضر وتحولت الثورة والحركة إلى مؤسسة، فإننا نواجه مثل هذا التعبير عن الإسلام، فلو أنكم شققتم هذه العبارة (الإسلام الفقهي) فماذا ترون؟ وماذا يعني الإسلام الفقهي؟ من الواضح أن المعنى الأكثر مقبولية لهذه العبارة هو الإسلام الذي يملك فقهاً وشريعة، ولكن هل هناك من يعتقد بأن الإسلام ليس له فقه؟ أضف إلى ذلك أن الإسلام إذا كان له فقه، فله عرفان أيضاً، وكذلك قيم أخلاقية، وتفسير، وعقائد، ومسائل فلسفية، ورؤية كونية، فلماذا لم يقولوا الإسلام الأخلاقي أو الإسلام العرفاني؟ ولماذا هذا التأكيد على فقه الإسلام؟ لعلهم يقولون أن أكثر معارف الإسلام موجودة في الفقه، ولكننا نعلم جميعاً أن الأمر ليس كذلك، ولعل غرضهم أن أكثر عناصر الإسلام تأثيراً ومورد حاجة للناس هو الفقه، ولا أقل أن الفقه في نظر هؤلاء القائلين يعد من أهم وأجل المعارف الدينية, أو أن الفقه من حيث العمل والتطبيق من أهم أبعاد وأركان الإسلام، وعلى أية حال فإن كل هذه المعاني تشير إلى أن هذا البعد من الدين يمتاز بخصوصية مهمة، وإلا فلا دليل على رفعهم في الجمهورية الإسلامية لشعار الإسلام الفقهي، والتحرك نحو تأصيله وإبرازه، فعندما تشيع عبارة الإسلام الفقهي بهذا المعنى فإن ذلك يستلزم ويستدعي بعض الأمور، ويقتضي إيجاد فوارق جدية في وضعنا الحاضر بالنسبة لوضع ما قبل الثورة.
أسباب التركيز على الفقه:
أما الدواعي: فمن الدواعي المهمة لهذا التعبير أن المؤسسة الدينية تتلخص معلوماتها ومعارفها الدينية في العلوم الفقهية، فعالم الدين في عصرنا الحاضر يعلم من الدين فقهه وأحكامه أكثر من أي شيء آخر، وفي الحقول المعرفية الأخرى تقل معرفته كماً وكيفاً، ولذلك لا عجب أن يكون الإسلام معادلاً للفقه في فهمهم، أو أنهم يرون أن الفقه يعد من أهم معارف الإسلام، وجذور هذه المسألة يجب أن تدرس في عملية التدريس والتعليم في الحوزة.
أما المقتضيات: فالإسلام الأخلاقي والإنسانوي والعرفاني والفلسفي هو إسلام نقدي ومتحرك ومثير للأسئلة وعلامات الاستفهام، بخلاف الإسلام الفقهي (على الأقل في نظرية الاجتهاد والتقليد) فهو إسلام لا يتحمل السؤال والنقد لأن الأحكام الفقهية ليست مجالاً للبحث بل للتقليد والتعبد، ومن هنا تبين أهم وظائف الإخوة والأخوات من طلاب الجامعة وذلك في عملية الفصل والتمييز بين الأمور التقليدية وبين الأمور غير التقليدية، وما لم يتم تمييز هاتين المنظومتين عن بعضهما بشكل كافٍ وجلي فستكون خطواتنا مترددة ومرتبكة.
الاسلام التقليدي يبحث عن الأتباع والاسلام التحقيقي يبحث عن الحقيقة:
قلنا إن الإسلام الفلسفي والعرفاني والإنسانوي يتحمل النقد وإثارة علامات الاستفهام، أي أنه يقع في مقام التحقيق ويفتح الباب للسؤال والبحث ولا يلزم أتباعه بالتقليد، أما الإسلام الفقهي فكما قلنا أنه يقع في مقام التقليد ولا يتحمل السؤال والنقد، لأنه لا يقع في دائرة البحث العقلاني، ولا أقل من أن النظرية السائدة في الاجتهاد والتقليد تقرر أن الشخص غير المجتهد مكلف بالتقليد وأن قول الفقيه بالنسبة له حجة تعبدية، ولكن هذا الكلام, إذا كان مقبولاً في دائرة الفروع, فهو غير مقبول أبداً في دائرة الأصول (وإن كان هذا الكلام في الفروع أيضاً محل نقاش، والصحيح أن المقلد إذا لم يثق بصحة قول الفقيه ومثلاً عندما يرى التعارض الشديد فغي آراء الفقهاء في مسألة مهمة، فلا يستطيع الاطمئنان بأن أحد هذه الأقوال بعينه، يمثل الحقيقة والشرع، فهنا لا يجب عليه تقليد الفقيه) وبعبارة أخرى أن ما كان قبل الثورة هو الإسلام التحقيقي، وما نراه اليوم في الجو الديني والثقافي هو الإسلام التقليدي، ولكل واحد من هذين الإسلامين أتباع وأنصار، فالإسلام التقليدي ناظر إلى العوام والإسلام التحقيقي ناظر إلى الأذكياء والمحققين، فالأول يخلق الأتباع والثاني يخلق الشجعان.
وما نراه اليوم من طرحهم للإسلام الفقهي فإنهم يركزون على هذا البعد وهذه الزاوية من الدين وكأن جوهر الدين يتلخص في التقليد وفي التفقه، وفي هذه الدائرة أيضاً لا مجال للبحث والنقاش بين المقلد والمجتهد، فأحدهما يفتي والآخر يقلد ويعمل، ولكن حال شبابنا الباحث عن الحقيقة في مرحلة ما قبل انتصار الثورة لم يكن يعيش هذا الوجه للدين، فالوجه الذي كان يعيشه شبابنا مع الدين هو ما يفتح لهم طريق التساؤل والبحث، وهذا هو الشيء الذي نفتقده الآن من وجوه الدين والإسلام، فلو رأينا ظهور شخصيات بارزة في الفكر الديني أمثال الشيخ مطهري فليس بسبب أنه كان يدعو الآخرين للتقليد واتباع الفقهاء، بل السر في ذلك أنه فسح المجال للآخرين لطرح أسئلتهم وإثارة شبهاتهم.
وهكذا الحال في شعبية ومحبوبية الدكتور شريعتي، فلا ينبغي التذرع بوجود عوامل أخرى من قبيل المؤامرة تقف وراء شعبية وامتداد الدكتور شريعتي في الوسط الاجتماعي، السر في ذلك أن الشباب يستطيعون أن يتواصلوا معه في البحث ويشاركوه في التحقيق المعرفي، ويستطيعون أن يسألوا وأن يقبلوا أو لا يقبلوا جوابه، فهنا ليس موضوع كلامه من المواضيع الفقهية التعبدية، وليس ارتباطهم بشريعتي كما هي الرابطة الجافة بين المفتي والمقلد، فالطرفان يرتبطان برابطة البحث الموضوعي والتحقيق المعرفي، فليس المورد هنا مورد المريد والمرشد.
ما أروم التأكيد عليه في كلامي هذا أن الأعزاء يجب أن يتأملوا جيداً في هذه النقطة بالذات ويجعلونها معياراً للعقل والتفكير السليم، ولينظروا إلى ما حولهم وليسمعوا ما يتداولونه من خطط وكلمات في جو المجتمع وينظروا حتى في أقوال الكبار والشخصيات الدينية ليعلموا ما هي الحقيقة والواقع, فإذا كان الأمر كذلك فاليوم نرى أن مثل هذا الإسلام التحقيقي يتم طرده وتهميشه في الوعي العام باسم إسلام المثقفين، أو الإسلام التنويري، في حين أنه لو كان هناك خطأ وبعض الإشكالات في الإسلام المعرفي التنويري والتحقيقي فإنه ليس بأكثر من الخطأ والإشكال في الإسلام الفقهي التقليدي، فالإفراط والتفريط مذمومان على حد سواء، ومن شأنه أن يضفي على الوجه اللطيف للدين السماوي، وجهاً عبوساً تكليفياً ويضيق الخناق على المساحات الجميلة الأخرى للدين، وهذا بنفسه نوع من كفران النعمة والجهل بالدين والرسالة الإلهية.
عامة الناس من أهل التقليد:
واليوم نرى كمّاً هائلاً من حالات الإخلاص والعشق جارية في بلدنا مما لم يرَ تاريخنا نظيره، ويكفي أن يفتح الإنسان عينيه ليستطيع الرؤية من موقع الوضوح، ولكن لا ينبغي التشويش على حالة العشق بالأخذ بآلية العقل فقط، بل يجب تحليل حالة العشق هذه أيضاً ومعرفة حدودها ولوازمها ومتعلقاتها، فعامة الناس من عشاق الصفات. وعامة الناس من أهل التقليد في عامة المسائل، ولكن هذا التقليد يجب أن يعتمد على تحقيق المحققين، فلا ينبغي أن يكون التقليد على كافة المستويات والصعد، صحيح أن المجتمعات البشرية في قسمها الأعظم تتشكل من الناس المقلدين، ويشكل أهل الفكر والتحقيق والبحث العلمي أقلية فيها، غاية الأمر أنها أقلية مؤثرة، أي الأقلية التي تعتمد عليها الأكثرية، لأن التقليد لو لم يعتمد على التحقيق فإن صرح المعيشة والحضارة سينهدم، وهنا أجد من الضروري توضيح الموضوع أكثر..
ثلاث مستويات للدين:
بشكل عام في الأمور العقائدية هناك ثلاثة فروع:
أحدها فروع الدين والأحكام الفقهية.
والآخر الموضوعات (في مقابل الأحكام).
والثالث أصول العقاد والمعارف.
وما يدخل واقعاً في دائرة التقليد الأحكام الفرعية فقط، فلا يجوز التقليد لا في الموضوعات ولا في الأصول، يعني أن من هذه الفروع والأغصان الثلاثة للدين واحد منها يخضع للتقليد، أي ثلث معارف الدين، وثلثان منها غير تقليدية ولا تدخل في دائرة التقليد، وعلماء الدين أيضاً وكذلك العقل والشريعة يؤكدون على أن أصول العقائد والمعارف لا يجوز فيها التقليد، وكذلك في الموضوعات، وما يجعل الفقيه فقيهاً هو العلم بأحكام الله لأنه من هذه الجهة أكثر تخصصاً من الآخرين، أما بالنسبة للموضوعات فحاله حال الآخرين، فمثلاً في مسألة تشخيص أن هذه المدينة كبيرة أو صغيرة لا فرق في ذلك بين الفقيه وغير الفقيه، فهذه من الموضوعات، وكذلك مثلاً لمعرفة أن هذا الشيء الذي لصق بقميصي هل هو دم بعوضة أم دم إنسان، فلا فرق في هذا الأمر بين الفقيه وغير الفقيه لأنها من الموضوعات، ولكن الحكم بطهارة أو نجاسة هذا الدم هو من شؤون الفقيه فقط.
يجب التحقيق في الاصول لا التقليد:
والآن انظروا إلى العوام كيف أنهم يقلدون الفقيه في الفروع الثلاثة كلها، فهم مقلدون في الأحكام والفروع لعلماء الدين (وهذا صحيح) وكذلك مقلدون في الموضوعات إذ يسألونهم عنها (ولا ينبغي أن يسألوا مثلاً هل أن طهران مدينة كبيرة أم صغيرة؟ وهكذا أصفهان وشيراز.. وكذلك هم مقلدون في المعارف وأصول العقائد، في صفات الله وفي علم الإمام وعصمته ورأي الإسلام في الإنسان والشيطان وحتى في التحليلات السياسية و... إلــخ، ففي كل هذه المسائل يقلدون رجال الدين ويسدلون الستار على عقولهم ويجمدونها، فهنا ليس المورد مورد تقليد، فالناس جميعاً في مثل هذه المسائل مكلفون بأن يقبلوا ويعتنقوا ما وصلت إليه أفكارهم وقناعاتهم لا فيما يقوله المفتي ورجل الدين.

حفظ دين العوام لا يعني ابقاهم في الجهل:
وكما قلنا آنفاً أن عامة الناس مقلدون في عامة المسائل، وهذا هو حكم عامة الناس في سائر المجتمعات البشرية ولا يختصون بمجتمعنا، ومواجهة هذه الحالة من التقليد والتحرك لحلحلة الوضع ليس بالعمل الهين، فمن جهة يجب توعية الناس وتحريك أفكارهم وتفعيل عقولهم، ولكن من جهة أخرى ينبغي المحافظة على إيمان العوام، وهذه نقطة في غاية الأهمية، فجميع علماء الكلام قالوا لنا وكذلك التجربة التاريخية تؤيد هذا المعنى أنه لا ينبغي التشويش على إيمان العوام (يعني الإيمان التقليدي بالعقائد الصحيحة الحقة لا الاعتقاد بكل أمر خرافي) فلا ينبغي إثارة الشبهات في أفكارهم وعقائدهم، لأن هؤلاء يعيشون بإيمانهم وبتعاطفهم, وهذا الإيمان هو رأسمال العوام, فدينهم هو وطنهم الذي ترعرعوا فيه، فلا ينبغي إخراجهم من وطنهم، فهم عاشوا مع هذا الدين من موقع العشق والعلاقة الحميمة وبنوا روابطهم الاجتماعية وعواطفهم النفسية مع الآخرين على هذا الأساس, ولا فرق بين أن يكون مسيحياً أو مسلماً، فالكاسب في السوق لا يتعامل مع زميله الكاسب الآخر من موقع الخداع والحيلة، فجميع هذه العلاقات الإنسانية لديهم قد بنيت على أساس هذه المعتقدات والروابط الدينية، وهذه المعتقدات ثمينة جداً ولا ينبغي تشويهها أو تعكير صفوها أو إزاحتها من الذهنية العامة، وهذا هو المعنى الدقيق للشريعة، وهي الإيمان الذي يعيشه العوام وينبغي أن يحفظ فهو بمثابة القشرة التي تحفظ ما بداخلها، فمن غير السليم أن تكسر هذه القشرة وتتعرض العقائد إلى التزلزل والإرباك، ولكن هذا لا يعني أن يبقى العوام في حالة التقليد دائماً ويتعامل القادة الدينيون معهم بلغة المريد والمرشد، هذا أولاً.
وثانياً : إن الخواص (أهل التحقيق والبحث) ينبغي أن يتوغلوا في دائرة البحث ويعرفوا موقفهم وموقعهم من جغرافيا الدين والمعتقدات ولا يتحرشوا بعقائد العوام ويثيروا الشبهات حولها ويربكوا حياتهم ومعيشتهم.

يجب فصل الأمور التعبدية عن غيرها:

إن علاقة العوام برجال الدين تتميز بفارق مهم وجوهري مع رابطة الخواص مع رجال الدين، فأحدهما يسأل رجل الدين من موقع التقليد والآخر من موقع التحقيق، إذاً فتوصيتي الأولى للإخوة الأعزاء هو أن يعرفوا هذه الأقسام الثلاثة للدين، وأن أحدها يرتبط بحالة التقليد وأن القسمين الآخرين خارجان عن دائرة التقليد، وليس فقط لا ينبغي التقليد فيهما بل ينبغي ارشاد الناس أن هذين القسمين لا يخضعان للتقليد.
أذن على طلاب الجامعة التمييز بين حدود التعبديات وغير التعبديات، ففي المسائل غير التعبدية ينبغي أن يتحركوا بشجاعة ويبحثوا في أصول المسائل والاعتقادات وينفخوا روح الشجاعة في الآخرين أيضاً، ولا يتوقفوا هم والآخرون عن حدود التساؤل وإثارة علامات الاستفهام، فعملكم لا يقتصر على السؤال وإتباع ما يقال في الجواب على مستوى التقليد. بل أولاً: أن تُفهِموا علماء الدين بالمستجدات والمتغيرات الفكرية والمعرفية الموجودة في العصر الحاضر.
ثانيا: الدخول معهم في بحث وتحقيق في المسائل الدينية، ونفس هذه التساؤلات تضفي اعترافاً بوجود التنوع الفكري والمعرفي في الوسط الديني، فعامة الناس ربما يعيشون التقليد من جميع الجهات وليست هناك مصلحة في إثارتهم وتشويش أذهانهم، ولكن ليس من المصلحة أيضاً أن يبقى الجميع على هذه الحالة من الجمود والركود، فلابد أن ينتهي التقليد إلى حقل التحقيق ويبني أساسه عليه، وأعلم أنه لا يوجد أي منظومة فكرية أو حضارة بشرية بنيت على التقليد المحض وبقيت ثابتة، وكذلك لا توجد أي حضارة بنيت على العشق المحض وبقيت ثابتة، فالتقليد يحتاج إلى ملح التحقيق وكذلك العشق يحتاج إلى ملح العقل، وبدونهما سيكون الطعام مجرد فيتامينات بدون ملح، بل يفقد حتى الفيتامين.

طرح الاسئلة في الدين ضمان لديموميته وازدهاره:

لو لم تطرح تساؤلات من قبلكم ولم تثر شبهات في مسائل الدين والحياة فلا نتوقع أن يتغير حالنا نحو الأفضل، ويجب أن يكون معلوماً أن جميع العلماء من فقهاء وعلماء في الرياضيات والطب وغير ذلك كلهم بشر وأن البشر يتمتع بخصوصيات ومميزات، فلو أنكم طرحتم دائماً أسئلة فرعية وفقهية على علماء الدين فإنهم سيكرسون جهدهم في تقوية علومهم في هذا الحقل فقط، ولكن لو أثرتم علامات استفهام في المسائل السياسية والاجتماعية والثقافية وما إلى ذلك في مقابلهم فسيجدون أنفسهم ملزمين بالبحث والتحقيق في هذه المسائل، فالعلم إنما يتحول إلى مؤسسة اجتماعية فيما لو كان تابعاً لقانون العرض والطلب والشراء والبيع، هذه هي الحقيقة، وهي أن الناس إذا تعاملوا مع رجال الدين من موقع التقليد المحض فسوف لا يثير ذلك دوافع البحث والتحقيق فيهم ولا يتحركون على مستوى تقوية معارفهم في حقول أخرى غير الفقه ولا يرون أنفسهم بحاجة إلى ذلك، فهم من البشر، والبشر لا يتحرك نحو شيء بدون مثيرات, فالمطهري لم يصبح مطهري، والطباطبائي لم يصبح طباطبائي إلا عندما التفت إليهم جماعة من المثقفين وأخذوا يطرحون عليهم أسئلة جديدة تستدعي معارف جديدة ومعاصرة، ولا أقل كنا نرى في مجتمعنا قبل الثورة عندما كانت هناك حرية نسبية لطرح الأفكار المخالفة للإسلام حين ذلك صدرت كل هذه الكتب العلمية والفكرية من المطهري أو الطباطبائي أو الشهيد الصدر في مواجهة المدارس الفكرية الغربية وبخاصة المدرسة الماركسية التي أثرت كثيراً في شبابنا، فاحتاج هؤلاء الشباب إلى من يرجعون إليه في مثل هذه المسائل، فرجعوا إلى مطهري والسيد الطباطبائي وآخرين.
وطبعاً كان هؤلاء العلماء يملكون القدرة ورأس المال الفكري اللازم من جهة, وكذلك يملكون الشوق إلى الحركة في هذه الخط ويملكون روح التضحية ويرون أنفسهم ملزمين بأن يسيروا في هذا الخط ويحلوا العقد الفكرية للناس، فلولا هذا المقدار من التحريك والإثارة فإن استعداد هؤلاء الكبار لا يخرج من القوة إلى الفعل، وهذا هو قانون المسألة، أريد أن أقول لأخوتي وأخواتي من الطلاب الأعزاء أنكم تأخذون على عاتقكم مسؤولية ثقيلة جداً وهي مسؤولية التحقيق في هذه المسائل وإثارة انتباه رجال الدين إليها لا مجرد التقليد والاستماع فقط، ولا ينبغي التعامل الخاطئ مع هذه المسألة بنفخ روح التحريق في الآخرين بدل التحقيق ولا ينبغي التعامل مع هذه المسألة من هذا المنطلق بحيث أن علماء الدين يبقون يراوحون في مكانهم في دائرة الفقه والأصول ويعتبرون ذلك كل الدين والإسلام، فالفقه له مكانه الخاص ويجب أن يبقى، ولكن إذا كانت العمدة في العلوم الحوزوية تتحدث في إطار الفقه ويبقى الشيخ مطهري والطباطبائي بمثابة الاستثناء من القاعدة فإن هذا الجهد لا يثمر حركة وترشيداً للدين، ولا تتصوروا أنكم في الجامعات تعيشون واجب إسكات الآخرين من الطلاب ونهيهم عن إثارة الأسئلة، فليست كل الأمور من قبيل نجاسة الدم التي يخفى حكمها علينا، فهناك مئات المسائل في الشأن السياسي والاجتماعي والإنساني لا يصل المجتمع إلى نتيجة إلا من خلال السؤال وطرح الإشكالات والبحث والتحقيق فيها، وخطابي إلى الطلاب المتدينين الثوريين بأن لا يزرعوا في قلوب إخوانهم الخوف من إثارة الأسئلة، ولا ينبغي أن تكون الأسئلة كلها عن الحلال والحرام، فالسؤال عبادة، ولو أن الشخص لا يتحرك في هذا الخط فإنه لا يمكنه التواصل مع طلاب الجامعات وربما يتحول الطلاب إلى مقلدين لا محققين.

يجب أن يعتمد التقليد على التحقيق:

أجل فإصدار أوامر وفتاوى لجماعة من الجهلة والأتباع أمر سهل ويسير، ولكن الجامعات هي محل التحقيق لا التقليد، فأنتم لستم تواجهون الشريحة الواسعة من عامة الناس، إذا أردتم أتباعاً ومقلدين فعليكم الذهاب إلى المساجد، والمساجد لها منابرها ووعاظها ويتعلم الناس منهم الدين ويسألونهم كل ما يدور في أذهانهم من الأحكام والموضوعات ويتحركون معهم من موقع التقليد، ويبقى إيمانهم محفوظاً أيضاً، ولكن كما قلت لكم أن كل تقليد يجب أن يعتمد على تحقيق، ولو لا التحقيق لدعم التقليد وأن يكون التقليد مبنيا على قاعدة متماسكة من التحقيق فإن التقليد بدوره سينهار يوماً ما، فالتقليد لا يستطيع إلى الأبد أن يبقى تقليداً، فلابد أن يصل في مرحلة إلى قاعدة ودعامة التحقيق، وهناك يجب أن يتحلى الإنسان بالشجاعة لطرح الأسئلة والإشكالات وينفخ هذه الروح في الآخرين، وهذا هو المحل الذي أنتم فيه، فلو لم تتحركوا في هذا الخط وبقيتم على هذه الحالة فقد جلستم في غير محلكم ويجب أن تخلوا مكانكم إلى أهل التحقيق والشجاعة في طرح الأسئلة.
أتذكر أنني عندما قرأت أول كتاب فلسفي في مرحلة الشباب كان تحت عنوان (سقراط، الرجل الذي يملك الجرأة على السؤال)، وفي ذلك الوقت كان هذا المفهوم غامضاً ومجهولاً بالنسبة لي، وخاصة عندما قرأت أن سقراط كان يقول: أنا ذبابة أرسلني الله تعالى لإيقاظ أهالي أثينا، وهذا التواضع من سقراط لم أفهمه أيضاً بشكل واضح، ولكنني الآن أستطيع أن أفهم معنى ما قرأته سابقاً، وعليكم أيضاً أن تسيروا في خط سقراط المتواضع وتثيروا علامات الاستفهام وتتحلوا بالجرأة على البحث والتحقيق ونفخ هذه الروح في الآخرين، لأن أصل المسألة يكمن في هذا المعنى.

عدم مواكبة المؤسسة الدينية لعلوم العصر:

إن الإخوة يعاتبونني كثيراً وقد طرحوا هذه المسألة في مؤسسة الثورة الثقافية عدة مرات وهي أن الكثير من الدروس في الجامعة التي تتصل بالمعارف الدينية ليست بذلك المستوى المطلوب وغير موفقة، وقد بحثنا كثيراً في هذا المجال عن سر عدم التوفيق في هذا الحقل، هل يكمن في الكتاب، أو في المعلم، أو في ظروف الجامعة؟ وهنا أريد أن أكشف عن جذور هذه القضية أمامكم، فالأخوة والأخوات يعلمون جيداً أن غالبية الأساتذة في هذه المواد هم من رجال الدين، وقسم مهم من الكتب الموضوعة لتدريس المعارف الدينية تعتمد على بنية فلسفية و قوية ثقيلة، وخاصة في كتب المرحلة الأولى والثانية من تدريس المعارف، والكتب الصادرة الآن تتميز بأنها أخف من السابق، فرجال الدين وخاصة في المائة سنة الأخيرة لم يتلقوا دروساً في الفلسفة وعلم الكلام بشكل كافٍ، فالغالب في الدراسات الحوزوية ترتبط بتعليم الفقه والأصول، وعامة رجال الدين في الحوزات العلمية يصرفون عمرهم في تحصيل الفقه والأصول، إلا ما ندر من الأشخاص الذين يملكون ذوقاً فلسفياً وكلامياً وتفسيرياً، فالتفسير والكلام والفلسفة لا تعد من الدروس الرسمية في الحوزة ولا يوجد مفسرين من الطراز الأول في الحوزات العلمية، ولو وجد من يدرس التفسير أو الفلسفة فإنه من الهواة لا أنه متخصص ومتبحر في هذا الشأن، ولحد الآن لم يتغير هذا الحال كما ينبغي، وليس غريباً أن آية الله الخوئي وهو من الفقهاء الكبار في عصرنا عندما بدأ بكتابة تفسير للقرآن باسم (البيان) ولم يصدر منه سوى مجلد واحد وكان بمثابة مقدمة للتفسير الكبير، توقف عن الاستمرار في هذا الشأن، ومن جهة أخرى واصل المرحوم العلامة الطباطبائي في مدينة قم دروس التفسير وأنجز منها عشرين مجلداً لتفسير القرآن بعمق وجودة عالية، وعلى حد تعبير الشيخ مطهري أن هذا التفسير من حسنات هذا العصر، وإضافة إلى ذلك فإن الطباطبائي كان يدرس الفلسفة ولم يتدخل في دائرة الفقه، مع أنه كان مجتهداً في الفقه والأصول وقد كتب حاشية على الكفاية وطبعت، ويعلم أهل الشأن والخبرة أن تلك الحواشي والهوامش قيمة جداً، ولكن بسبب دروس التفسير والفلسفة لم يصبح آية الله، والمشهور أن السيد الخوئي قال عن السيد الطباطبائي أنه سلك مسلك التضحية والفداء، يعني أنه ضحى بشخصيته ومكانته وأخذ يدرس الفلسفة والتفسير بدل الفقه والأصول وفقد مكانته الإجتماعية الكبيرة، وهكذا كان، فالسيد الطباطبائي سار في درب صعب وتكمن عظمته في سلوكه هذا الطريق الشائك، وأنتم ترون أن شخصاً كبيراً كالمطهري يتربى ويتتلمذ على يد هذا الرجل العظيم وهذا يعكس تلك التضحية والإيثار.
حفظ المكانة الإجتماعية هي الأهم لدى رجال الدين:
وعندما يقال أن السيد الطباطبائي كان قد سلك مسلك التضحية والفداء فمعناه واضح، يعني أن الوضع الحاكم على أمر التعليم والتربية في الحوزات العلمية إلى درجة أن عالماً يتوجه إلى التفسير والفلسفة فإنه يفقد منزلته الاجتماعية التي يحظى بها الفقيه، وقد درس الإخوة والأخوات تاريخ العلم والثقافة والحضارة وفهموا هذه النقطة بشكل جيد, وهي أن أحد الأسئلة المهمة للمؤرخين هي كيف نشأ وترعرع العلم في أوروبا ولم يترعرع في مناطق أخرى؟.
وفي مقام الجواب عن هذا السؤال الصعب ينبغي البحث في مطاوي العلل والعوامل المذكورة لهذه المسألة، وأحدها أن العالم في دائرة العلوم التجربية كان يحظى بمنزلة اجتماعية في المجتمعات الأوروبية، يعني أن الناس كانوا ينظرون إليه بنظر الاحترام والتقدير، فالعالم التجريبي والطبيعي لا يضحي بشيء هناك، بل يزداد احتراماً في نظر الناس، ولكن على سبيل المثال عندما كان مجتمعنا يعيش القرن السابع ونرى شخصاً كالمولوي (جلال الدين الرومي) يستهزئ بالأطباء ويقول لهم: أذهبوا إلى عملكم الذي لا ينفعكم بشيء سوى مبلغ من المال، ولكن لا تملكون منزلة اجتماعية عند الناس، وعندما يخاطب المهندسين والمعماريين بأن علمكم هو علم بناء الحظيرة وأنتم بلهاء سميتم أنفسكم علماء، فما هو الموقف المتوقع منهم؟
وبعد ذلك عندما يتحرك شخص لدراسة هذه العلوم فإنه يشعر في نفسه بالخجل ويتصور أن السعادة والراحة إنما هي لأولئك الذين سلكوا طريقاً أفضل منه وضمنوا لهم سعادة الدنيا والآخرة، تصوروا أن شخصاً يشعر بمثل هذا اللوم والتوبيخ في قلبه فهل تبقى له رغبة في العمل؟ وهل ينفتح على مثل هذه العلوم؟
الآن أنتم في الجامعات ترون هذا السيل من الطلاب الذين يتوجهون إلى فروع الطب والهندسة والعلوم الإنسانية ولا يتوجه إلا قلة منهم للعلوم الإنسانية،ونحن في البداية كنا نقول لبعض الأصدقاء لا تصغروا وتهينوا العلوم الإنسانية إلى هذا الحد، ولا تقولوا أن العلوم الإنسانية نجسة وملوثة وأنها غربية (مثل علم النفس وعلم الاجتماع والاقتصاد و...) ألا ترون أن الطلاب يتوجهون بكثافة إلى فروع الطب والهندسة؟ وهل يمكن إدارة المجتمع بالطبيب والمهندس فقط؟ ألا نحتاج إلى مفكرين في العلوم الإنسانية؟ فلماذا تهينون مثل هذه العلوم وتوصموها بالغربية والكافرة. ولكن لو أعطيتم مكانة لهذه العلوم فإن الشاب الجامعي سيتحرك في طلبها ويفتخر بهذه العلوم، فماذا تتوقعون من الشاب؟ هل نتوقع أن جميع الشباب يضحون بحيثيتهم ومكانتهم ويسبحوا ضد التيار ويتحركوا في الجهة المخالفة لميول مجتمعهم وأسرتهم وأقربائهم ويتحدّوا الواقع الاجتماعي ويختاروا الدراسة في هذه العلوم من موقع العشق لها؟ كم لدينا مثل هؤلاء الشباب؟.
الحوزة تفتقد للمحققين في العلوم الإنسانية:
وفي الحوزات العلمية نرى أن منزلة الفقيه والأصولي باقية كما كانت ولم ينحسر موج التجليل والتعظيم للفقهاء، ولذلك فإن رجال الدين الذين يتعلمون في هذه الحوزات العلمية فإنهم يتخصصون بدراسة هذه العلوم إلا إذا وجد شخص منهم رغبة شديدة في دراسة فنون أخرى، ومنهم الشيخ مطهري والسيد الطباطبائي الذين يعتبران استثناء من القاعدة، وفي اليوم الذي تتغير فيه النظرة وتتحسن فيه دروس المعارف هو اليوم الذي يتحول فيه هذا الاستثناء إلى قاعدة، فالمطهري كان كزهرة واحدة في بستان الحوزة، وتصوروا أن هذا البستان كان مليئاً بالورد والزهور فكيف سيكون حالنا؟ نحن الآن نفتقد إلى مثل هذه الحالة، والأشخاص الذي يستطيعون علاج هذه الظاهرة هم الذين يستمعون إلى كلامي جيداً وينفتحون على هذه المسألة، ولولا إثارتكم للأسئلة وشجاعتكم الناشئة من حبكم للحقيقة والتحقيق، فإن الركود المعرفي سيستمر ويطول ويبقى غبار الجهل والتعصب والدغمائية مهيمناً على الذهنية العامة ولا نشم نسيم صحراء الأفكار الحرة.
بعد الثورة صار المتدينون أكثرية:
إلى هنا كان بحثنا يدور حول شعار الإسلام الفقهي، وقلنا أن بعداً واحداً من الأبعاد التي نعيشها في فضاء المجتمع أننا كنا في زاوية الأقلية وصرنا أكثرية بعد انتصار الثورة، وهذا يقتضي أن يرتاح بالنا فلا أحد يطرح الشبهات والشكوك ولا يوجد كلام جديد في مقابلنا، ونحن بشر ربما نحيك الرطب واليابس من الفكر ونعيش الفرح في أنفسنا لأنه لا أحد يتجرأ ويثير الشكوك والشبهات المخالفة لعقائدنا، وهكذا يسير الفكر نحو الركود والجمود، فنحن قد قضينا على المخالفين في مجال الفقه والعقيدة، ربما يتصور البعض بأن في ذلك مصلحة، ولكنني أقول بأن تطهير المجتمع من العقائد المخالفة، إن كان فيه مصلحة للعوام، فالخواص لا ينبغي أن يقبلوا بذلك، لأن الجميع سوف يتضرر، وأقول مرة أخرى بأنه يجب المحافظة على إيمان المقلدين ولا ينبغي إحداث شق وشرخ في سور عقائدهم، ولكن أولاً لا يجب أن يبقى المقلد مقلداً دائماً، وثانياً: يجب أن ينتهي هذا التقليد إلى التحقيق، وهذا التحقيق لا يثبت ولا يشتد إلا بوجود صراع فكري وسجال علمي بين أبطالنا وأبطال المدارس الفكرية الأخرى، فهذا هو ميدان البطولة والجرأة، أما طالب السلامة والعافية فإنه يجلس في الظل، ولكن طالب الدر والجواهر يقذف بنفسه إلى البحر.

ضرورة التحقيق في العلوم الجديدة:

ولكن لا يتصور طلاب السلامة والراحة أن الواجب أن يكون الجميع مثلهم، ولا يتصور أحدكم أن الجميع يجب أن ينزلوا إلى البحر فإن الغالبية ليست من هذا القبيل ولا ينبغي لهم ذلك لأنه يتسبب في تزلزل عقائدهم واهتزاز إيمانهم، فنحن أهل الأرض نحتاج إلى رجال يلقون بأنفسهم في البحر، لأننا لو بقينا غافلين عما يدور في هذا العالم فإنهم لا يغفلون عنا، فلا تطأطئوا برؤوسكم وتدفنوها في الرمل، فالعالم الذي نعيشه اليوم عالم زاخر بالأمواج المتلاطمة والمتغيرات العظيمة .
فهناك مفكرون آخرون يبتكرون العلوم والحقائق والمعارف وينتزعونها من عالم الطبيعة والعقول النيرة ونبقى نعيش في زاوية الحرمان، فنحن لو كنا نفكر حتى في مصالحنا، فإن هذا الحرمان الفكري سينتهي بضررنا جميعاً.
نحن نعيش في ظل الجمهورية الإسلامية ونتحدث يومياً بكفر الأفكار الشرقية والغربية ونعتقد ببطلان جميع منتوجات الفكر البشري ونرى أنفسنا فقط على الحق، ومثل هذه التصورات والادعاءات تجعلنا غافلين عن ضرورة التحقيق والتمعن في هذه العلوم، فلا يكفي أن نقول أن علماءنا فهموا أن هذه العلوم باطلة فنحن بدورنا نستغني عن التحليل والتحقيق، فهذا هو منهج التقليد وربما يكون نافعاً لشريحة من الناس، ولكن بالنسبة لأهل التحقيق فلا يجوز أبداً، فيجب عليكم أن تدرسوا بدقة المنظومات الفكرية الأخرى، كما تودون أن يدرس الآخرون منظومتكم الفكرية ويتعاملوا معها من موقع الإنصاف ولا تقنعوا بدراستها بشكل إجمالي، وكذلك تودون أن تطرحوا أفكاركم ومعارفكم عن الآخرين بدون أي مانع وعائق، ولا أقل على أهل التحقيق منهم، فكذلك يجب عليكم أن تفتحوا نوافذ المعرفة على شبابنا بدون أي مانع أو عائق.

لزوم توفير فضاء مناسب للتحقيق:

وهناك نقطة أود ذكرها هنا، فظهور أهل التحقيق في الوسط الاجتماعي لا ينسجم أبداً مع إيصاد أبواب المعرفة ونوافذ الفكر، فعندما نقول نحن نحتاج إلى شخص موسيقي جيد، فالطريق لتحقيق هذا الأمر لا يتمثل بأن نختار شخصاً واحداً ونعلمه الموسيقى سراً، فلعل هذا الشخص ليست لديه ملكة الموسيقى والذوق الفني، وربما يكون هناك من هو أفضل منه، فالطريق السليم لتحقيق ذلك أن نفتح الباب لدراسة الموسيقى أمام الكثيرين حتى يمكننا الحصول على شخص أو عدة أشخاص ممتازين ومتميزين، وهكذا الحال في العلوم الأخرى فيجب فتح فضاء للمشاركة الجمعية في البحث والتحقيق والنقد وطرح الآراء حتى ينتج هذا التنور عدة أشخاص ممتازين، فشرط المعرفة الاستعداد لهذا الأمر، والبداية تتمثل في أن لا نتصور أن الوضع الذي نحن فيه هو أفضل الأوضاع الممكنة، وبالتالي لا نسعى لتغييره وتحريكه.
الوضع الموجود ليس هو الافضل:
نصل الآن إلى خلاصة ما نتصوره من الحالة التي يعيشها مجتمعنا بعد انتصار الثورة، وهي: أن الأقلية انتصرت ووصلت إلى سدة الحكم والمظلومين تخلصوا من ظلامتهم، ورجال الدين الذين يدرسون الفقه والأصول بشكل عام صارت لهم مكانة فكرية وسياسية في المجتمع وهؤلاء يعتبرون أن النظم الفكرية والسياسية الأخرى في العالم باطلة ويرون أنفسهم أنهم على حق، ولا يرون في مقابلهم مخالفاً جدياً ولا منافساً لهم في ساحة الفكر والعقيدة، فلا يجدون من يبارزهم في هذا الميدان، والأشخاص الذين يعيشون مع عامة الناس يجدون أنهم من أهل التقليد في جميع أقسام المعارف الدينية، ومن الطبيعي أن أرى في هذا الوسط أشخاصاً وربما تكونون أنتم أيضاً ممن تصابون بالارتخاء الفكري والعقائدي ولا تشعرون بالحاجة أكثر إلى طلب المعرفة والعلم في مجالات الدين.
إن شكر نعمة الانتصار لا يتحقق في غلق أبواب التحقيق أمام المشتاقين، ففي أجواء عدم التحقيق لا تطرح الشبهات لا أنها تحل، فهناك فرق بين عدم طرح الشبهة وحل الشبهة، فمن يدفن رأسه في الرمل لا يرى شيئاً، ولو قبلتم أنه لا توجد منظومة متكاملة تقوم على التقليد المحض.. ولو قبلتم أن التقليد يجب أن ينتهي إلى التحقيق.. ولو قبلتم أن الاعتقاد المحض لا يحل مشكلة ولا يفتح عقدة وأنه سوف يتزلزل عاجلاً أم آجلاً.. ولو أنكم قبلتم بأن رجال الدين لا يعطوكم شيئاً إلا من خلال عرض أسئلتكم وإثارة الإشكالات أمامهم.. ولو أنكم قبلتم أن هذه الأسئلة لا تثار في أذهانكم إلا عندما تلقون بأنفسكم في بحر طلب الحقيقة وتتوغلون في وديان البحث والتحقيق.. ولو قبلتم أن طلاب الجامعات هم في مقام التحقيق لا التقليد، ففي ذلك الوقت تتغير جغرافيا إيران الفكرية وتنفتح إيران على العالم.
الدفاع عن الدين لا يقتصر على الدفاع الفلسفي:
وأختم كلامي بنقطة أخرى، إننا ولحد الآن عندما نبحث في أمور العقائد نبحث في الجوانب الفلسفية للمسألة، وكأن الدفاع عن الدين يتخذ طابعاً فلسفياً دائماً، وكأن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الفكر الديني والفكر الفلسفي وأن المدخل المنطقي للفكر الديني هو الفلسفة، هذا هو السائد في الذهنية العامة في مجتمعنا، وأنا برغم علاقتي الشخصية مع الفكر الفلسفي ولكنني لا أجد بُداً من تقييم هذه الملاحظة، وهي أن الفلسفة اليوم تحظى باحترام كبير في مجتمعنا لم تحظ به طيلة تاريخ الثقافة الإسلامية، وأنتم تعلمون أن الفلاسفة والمتكلمين في البلاد الإسلامية كانوا يعيشون التهميش والإقصاء فضلاً عن اتهامهم بأنهم ضد الدين أو ضعفاء العقيدة والإيمان، وأن الفلاسفة قد فتحوا متجراً أمام الأنبياء، والامتياز الذي ربما يعطى للفلاسفة أنهم يبحثون عن الله وربما يصلون إلى عقيدة التوحيد ولكن بطريق طويل بخلاف الأنبياء الذين يوصلون الناس إلى الله بأسرع وأقصر الطرق.
وهذا المعنى نراه في قصة يرويها المولوي جلال الدين الرومي يقول: أن فقيراً دعا الله تعالى أن يرزقه كنزاً, وبعد مدة من التضرع والدعاء رأى فيما يراه النائم أن أحداً يقول له: إذهب إلى خارج المدينة وقف في النقطة الفلانية وضع السهم في القوس وأينما وقع السهم في ذلك المكان يوجد كنز، فعمل هذا الفقير بهذه التوصية ولكنه كلما بحث لم يجد شيئاً، وكرر هذا العمل ولكنه لم يحصل على نتيجة، فذاعت قصته في المدينة واشتهرت وسمع بها الحاكم الطماع فأرسل جماعة للبحث عن الكنز ولكن لم يجدوه، ومرة أخرى تضرع الفقير إلى ربه ورأى في عالم الرؤيا أن أحداً يقول: إننا لم نأمرك بأن تسحب القوس وترمي بالسهم بعيداً بل قلنا لك ضع السهم في القوس فقط واتركه ليسقط، ولكنك فعلت غير ذلك وحُرمت من الكنز، ويريد جلال الدين الرومي أن يستوحي من هذه القصة أن الفلاسفة من هذا القبيل وقد سحبوا القوس ورموا بالنبال بعيداً رغم أن الكنز تحت أقدامهم.
التصوير الممسوخ للدين ولزم تطهير الأذهان منه:
هذه هي المكانة وهذا هو المستوى الذي حظي به الفلاسفة في أوساط المجتمعات الإسلامية، وأريد أن أذكر هذه النقطة أنني عندما أتحدث عن ضرورة التحقيق في أمر الدين فلا يعني ذلك نفياً ولا إثباتاًَ للتحقيق الفلسفي، بل أقول إن الإخوة الأعزاء يجب أن يطلعوا على الفلسفة وخاصة الفلسفة المتداولة الأرسطية، وفعلاً لستُ في صدد البحث عن هذه المسألة، ولكن ما أراه لازماً واقعاً أن نفهم عقائدنا ومعارفنا الدينية بصورة جيدة وجديدة، نحن نملك تصويراً ممسوخاً في تراثنا الديني عن الله وعن الإنسان، وعن المجتمع، وعن الدين، وعن حقيقة الوحي، ويجب علينا تصحيح هذه الرؤية، فأولاً يجب توضيح ملابسات هذا الموضوع و بعد ذلك نتحرك على مستوى إثبات هل أن هذا حق أم باطل، فأصل هذا الموضوع غامض ومظلم وممسوخ.
وأختم حديثي بكلام للإمام أمير المؤمنين عليه السلام إذ قال: فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتابين، ولو أن الحق خلص من نفس الباطل لانقطعت عنه ألسن المعاندين، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان (الخطبة 50) .
وأتصور أن الخطوة الأولى التي يجب أن نخطوها في هذا المجال إزاحة غبار الرسوبات التاريخية عن وجه الحق الجميل، وفي هذه الصورة سيعشقه جميع الناس وتنجذب إليه قلوبهم، نسأل الله تعالى أن يوفقنا للحركة في خط الطاعة والخدمة لأمتنا وأن يجعلنا من عباده الخالصين ويوفقنا للسير في طريق التحقيق لا التقليد، وجهاد النفس والشفقة على الخلق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وهي مجموعة طلابية من الاصوليين المتشددين الموالين للحكومة الاسلامية , اشبه بقوات التعبئة و الباسيج.
(2) المقصود الثورة الاسلامية في ايران.




التعريف بالمؤلف :
عبد الكريم سروش هو الاسم المستعار لحسن حاج فرج الدباغ، من كبار المثقفين الإيرانيين الدينيين المعاصرين، من مواليد طهران سنة 1945، درس في المدرسة الثانوية (الرفاه) وهي من المدارس التي كانت تحرص على الجمع في مناهجها بين الدروس الدينية وبين المواد العلمية المعاصرة، التحق في جامعة لندن في فرع الكيمياء وحصل على الدكتوراه، وكان إضافة لتخصصه في الكيمياء والصيدلة متبحراً في فلسفة العلم ومطلعاً على معطيات أحدث تياراتها النقدية الحديثة وتراث المدرسة الوضعية.كان سروش قريباً من علي شريعتي ومرتضى مطهري، وهما وجهان محوريان في فترة ما قبل الثورة في إيران، وبعد الثورة عاد إلى بلده وشغل مناصب عليا في الدولة وأخرى بحثية أهمها مؤسسة الأبحاث والدراسات الثقافية .

ظهر سروش منذ أوائل الثمانينيات كواحد من الكتاب غزيري الإنتاج في إيران، وعالجت كتاباته الأولى النظريات الماركسية وموضوعات فلسفة العلم، ومن أهم أعماله البارزة في تلك الفترة كتاب "المعرفة والقيمة" و كتاب "ما هو العلم؟ ماهي الفلسفة؟" إضافة إلى دراسة نقدية لكتاب محمد باقر الصدر "الأسس المنطقية للاستقراء" نقلت على العربية ضمن كتاب السيد عمار أبو رغيف بعنوان "الأسس المنطقية للاستقراء في ضوء دراسة الدكتور سروش" سنة 1989، وهي السنة التي بدأ فيها سروش بنشر مقالات "القبض والبسط للشريعة" وقد أثارت جدلاً واسعاً ونقاشاً حادا بين المؤيدين والمعارضين، فجمعت بعد ذلك في كتاب حمل العنوان نفسه "القبض والبسط في الشريعة" ونقل إلى العربية.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن