الملحدون الناطقون بالعربية - قيمهم و معاناتهم

موريس رمسيس

2012 / 11 / 19

لا يستطيع الملحد في أي من دول الشرق أن يعلن عن إلحاده و عن عدم اعتقاده في وجود "الله " مع العامة أو في الأعلام صراحة ، باستثناء دولة لبنان إلي حد ما ، بالأخص إذا كان الملحد محسوب بالمولد على أتباع الديانة الإسلامية في تلك الدولة!

يختلف الملحدون في العالم عن بعضهم كثيرا بالرغم من تواجد الرابط المشترك بينهم و هو عدم وجود الإله (الله) لهذا الكون و الخالق له .. و من الصعب أيجاد روابط ثقافية مشتركة بين الملحدين في الشرق و مثيلهم في الغرب كما هو حادث مع أتباع الديانات المختلفة .. هم يختلفون في القيم و الأخلاقيات و الثقافات و أسلوب التفكير

في الغرب يقوم البعض باتخاذ "العلم" كمرجعيه و سبب منطقي علمي في عدم وجود الإله الخالق لكون و لبشر .. و يقوم آخرون باتخاذ المنطق الفلسفي لوصول لنفس الهدف و هناك الغالبية العظمى الذين تربوا و نشئوا في جو و حياة لا دينية و لا يمثل و جود الإله أو عدمه شئ بالنسبة لهم و هؤلاء يعتبرون العامة من أبناء الغرب لكنهم نظريا محسوبين على الديانة المسيحية أو اليهودية في العالم

نفس الشيء يحدث مع الهندوسي و البوذي و الكنفوشيوسى و باقية العقائد الأسيوية الأخرى بالرغم من عدم وجود عندهم "اله خالق" بالمعنى و المفهوم الغربي لكن هناك الحالات الإيمانية الموازية و هما حالتا "النرفانا" و " الكرما"

في الدول الأوربية جميعا (الشرقية/الغربية) ، تتغلب الثقافة المسيحية على الحياة العامة و تعتبر القيم المأخوذة من الموعظة على الجبل "ليسوع المسيح" و "الوصايا العشر" و باقية تعاليم الكتاب المقدس الأساس الأخلاقي التي يتخذها الناس مرجعا في حياتهم و معاملتهم ( الأمانة / عدم الغش / الصدق / عدم الكذب / الحب / عدم القتل / ... الخ) و تُكتسب تلك التعاليم و القيم السامية و بأسلوب مباشر مع الأطفال في المدارس بغض النظر عن دياناتهم المختلفة لكن يكون التأثير الأكبر لها من خلال الأسر المتدينة

يشب الطفل في الغرب على عدم الكذب و على الأمانة وعلى قيم و أخلاقيات كثيرة أخرى و حتى في حالة عدم إيمانه بآله أو ذهابه إلى الكنائس .. كما أن الوسط العام المحيط بالإنسان يساعده على الاحتفاظ بتلك القيم التي أكتسبها من الطفولة ، فهو لا يكذب باقية حياته و يحافظ على تلك القيمة دون أن يفقدها دون النظر إلى أي عقاب و ثواب ما قد يأتى من "آله خالق" أو من الناس .. أي يكون الإنسان مرآة لنفسه و يجد في ذلك السعادة الشخصية و الفخر بالذات بالتزامه في ممارسة القيم و الأخلاقيات العامة في الوسط المحيط به

لا يختلف الناس كثيرا في الغرب (مؤمنين أو ملحدين) في ممارستهم لأخلاقيات و القيم السائدة العامة في المجتمعات المختلفة و بدون غش و رياء

هناك القلة من الملحدين الذين وجدوا في العلم و الفلسفة مبررات منطقية و سببا وجيها لعدم وجود "الخالق"و هم المتواجدون بكثرة بين "الصفوة الثقافية" و هؤلاء "المثالين" في حياتهم ، فهم يحاولون الارتقاء بالقيم السائدة في مجتمعاتهم و العلو عليها (القيم السماوية) و يتواجد هؤلاء النخبة غالبا كأعضاء في الأحزاب اليسارية و أحزاب الخضر و يتمثل هذا الارتقاء في حصولهم سياسيا على الحقوق الإنسانية و الاجتماعية لشواذ جنسيا و لأجانب (المسلمين) و الملونين و يعتبرون ذلك إنجاز كبيرا و ارتقاء بالقيم السائدة (السماوية)

يقترب كثيرا الفكر اللا ديني في أوربا الغربية من الفلسفية الهيجلية لـ "هيجل" الذي تطغى عليه "المثالية" و "الالتزام"، كما أن القيم و الأخلاق تعتبر تراكمية عندهم و يمكن البناء عليها ، هذا الفكر السائد يبتعد إلي حد ما عن فكر و فلسفة "نيتشه" و يبتعد كثيرا عن الفلسفة الوجودية لـ "مارتن هايدجر / جان بول سارتر" .،. يمكن اعتبار "تجاوزا" فكر و ثقافة اللا دينيين فى الغرب بمثابة "عقيدة اللا دينيين" لِما يمارس اتبعها من التزام و إلزام قيمي أخلاقي

***

تختلف الصورة كثيرا مع الحديث عن الملحدين المسلمين (المحسوبين على الإسلام ) في الشرق الأوسط و أقصد هنا بالأخص عن الغالبية منهم التي تبتعد كثيرا عن التأثيرات و الأفكار الفلسفية المختلفة و يُعتبر الإسلام و تعاليمه و قيمه السبب المباشر في إلحادهم .. كما أن هناك الكثيرون الذين يفضلون الإلحاد عن الإسلام هربا من مشاكله مع البشر و مع الإنسانية جمعاء .. هناك أيضا القلة التي تتخذ من العلم و الفلسفة مبررات لعدم وجود الخالق و تسقط معه (الله) بالتبعية كل القيم و الشرائع و من التزامات الأخلاقية الإسلامية

قال الكاتب الروسي الشهير "دستويفسكى" في إحدى رواياته .. (أن كان الله غير موجوداً فكل شئ مباح) .. هذه هي الحالة التي أقصدها و التي يتواجد عليها المسلم عندما يصطدم في بادئ الأمر مع حقيقة نبوة "محمد" و مع حقيقة كونه "رسول" و مرسل من عند الخالق (الله )

نقطة انطلاق الوجودية عند "هايدجر و سارتر " تتبلور في عدم وجود "الله" فلسفيا و يحيا الإنسان وحيدا مهجورا أمام نفسه عندما يكتشف عدم وجوده كما أن "الوجود" الإنساني سابق على "الماهيه" بمعنى لا وجود "لفطره الإنسانية" و القيم الأخلاقية المسبقة فهي تأتى من داخل الإنسان ذاته لاحقا و بإرادته و لا يجد الإنسان في داخل ذاته أو في خارجها أي إمكانية (قيمة أخلاقية) يتشبث بها و بالتالي يصبح الإنسان حرا أو كما يقول "سارتر" هو الحرية ذاتها!

أعتبر غالبية الملحدين المسلمين في بادئ الأمر من حياتهم من أصحاب الفوضوية و العشوائية الفكرية و الأقرب إلي الحالة الوجودية فقد تركوا الإسلام لأسباب مختلفة كثيرة (نفسية / دنيوية / مادية ).و تعتبر تلك الحالة في الأغلب كرد فعل لتضرر النفسي و المعاناة المادية من التعاليم الإسلامية


بسبب التربية و النشأة الدينة و النفسية التي يشب عليها المسلم ، فهي (أي النشأة) تجعله يرتبط بـ "محمد" الرسول بشكل وجداني أقوى و أعمق عن ارتباطه بـ "الله" وجدانيا

عندما تتحول فجأة المكارم و الأخلاق (المحمدية) إلى موبقات و مفاسد ، فيسقط (محمد) الرسول في نظر المسلم و تسقط معه كل المنظومة الأخلاقية و ينهار وجود (الله) ذاته أمامه و يصبح المسلم عاري تماما أمام نفسه كإنسان وحيد مهجور في جزيرة موحشة وسط المحيط مع ذاته فقط

إذا أبتدأ المسلم بنبذ و رفض و إنكار فكرة وجود (الله) ذاته أساسا و لأي سبب ما (فلسفيً / نفسيُ / ماديً ) ، فسوف يرفض كل ما أتى به الإسلام جملةً و تفصيلا ويتبقى له فقط الحنين الوجداني المكتسب عنده منذ الصغر تجاه "محمد" الرسول و بعض تعاليمه و قيمه الخاصة!

في كلتا الحالتين السابقتين لا يستطيع الملحد المسلم أن ينتزع بسهولة كل مظاهر "البغض و الكراهية" تماما من قلبه و وجدانه تجاه "اليهود و النصارى" فقد تم اكتسابهما مع "لبن الأم" و سوف يستمر يعانى منهما و أشياء أخرى كثيرة أيضا في أغلب باقية حياته و يقوم في الوقت بإسقاط الأسباب التي قادته إلي الإلحاد على اليهودية و المسيحية أيضا!

يعيش الملحد المسلم في بداية إلحاده في صراع نفسي دائم و فوضوية و عشوائية فكرية لفترة طويلة لفقدانه بالتبعية لكل القيم والأخلاقيات الإسلامية التي أكتسبها طوال عمره و التي تُعتبر نفسها غالبا السبب المباشر له في إلحاده و في رفضه أي قيم أخلاقية أخرى (مسيحية /يهودية) لرفضه الوجداني لهما طوال فترة تدينه!

الحياة الثقافة الإسلامية لا يساعدان الملحد على استعادة توازنه النفسي مبكرا ، فهو يضطر كثيرا إلي "الكذب و النفاق" لتفادى إرهاب المتشددين و يضطر أيضا أن يمارس باقية الأخلاقيات المرفوضة لديه و بالتالي لا يستطيع الاستقرار نفسيا على أي قيم محددة قد يختارها هو لنفسه و يلزم نفسه بها في جو فاسد و موبوء لا مجال فيه لممارسة القيم الإنسانية الحقيقة!

بدون تواجد الظروف الملائمة ، يستمر الملحد المسلم في تلك الفوضوية الفكرية و لكنه في نفس الوقت يستطيع النجاح في عمله الخاص لكنه يفشل غالبا في أي عمل عام نهضوى (أحزاب / نقابات / وزارات / .. الخ) لما يتطلب ذلك من أيمان و اقتناع داخلي بكون تلك قيمة في حدد ذاتها ، لذا يُفقد الصبر و الاستمرارية في العمل العام على العكس من الجماعات الدينة الإسلامية التي تقوم بالتحديد المسبق لفكرها و قيمها و ثقافتها السلبية بكل حرية!


مع شكري و محبتي



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن