مفهوم -الحق- في فلسفة حنا أرندت السياسية

ابراهيم تيروز
bratai1977@yahoo.com

2012 / 11 / 16

يمثل التفكير الفلسفي في المفاهيم السبيل الأضمن لتجاوز ما قد يعتري وعينا من نسيان، إذ يمكننا القول بأن تاريخ الإنسانية برمته هو بمثابة انماء للمفاهيم وللتصورات تنظيرا وممارسة، ولهذا لا يكف الإنسان عن الحاجة إلى تحيين مكاسبه، والى استعادة مراحل تدرجه في بلوغها، إذ بفعل تعاقب الأجيال وبفعل الانغماس في الظرفي والملح زمنيا، يكتسح النسيان لحظات مهمة من تاريخ هذا التطور. وبفعل هذا النسيان يسقط الفكر في آفة الاختزال وأحادية البعد، وتغيب من ذاكرته المفارقات والتناقضات التي أفرز توترها وصراعها ما بلغه هذا الإنسان من تطور على مستوى الفكر. ولعل هذا بالضبط ما حذا بأفلاطون ومن قبله سقراط الى القول بأن المعرفة تذكر، و الأوضح من ذلك هو ما نلفيه لدى نيتشه من ربط لوهم الحقيقة بالنسيان. فضدا على آفة النسيان هذه نزعم أننا في هذه الورقة سننبش في مفهوم له ماله من مكانة مركزية في حياتنا الفكرية والسياسية، وسننبش فيه بالأخص رفقة مفكرة ألمانية معاصرة متميزة نعتقد أنها استطاعت لا بفضل مؤهلاتها وأدواتها الفلسفية فقط أن تبلور تصورات عميقة بصدد هذا المفهوم ولكن بفعل ما عرفه أيضا معيشها الوجودي من خصوصية و ما اكتنفه من مآزق وتحديات أيضا. وسنحاول في الختام أن نخرج بإضاءات يمكن أن تهم واقعنا الوطني والتاريخي اليوم.
1-استشكال مفهوم الحق.
تنبع اشكالية مفهوم الحق من ارتباط هذا المفهوم في مستوى أول بمفهوم الإنسان وفي مستوى ثان بمفهوم الدولة. ذلك أن منظورنا للحق سوف يختلف حتما باختلاف منظورنا لهذين المفهومين. فاذا انحزنا في تصورنا حول الانسان الى اعتباره كائنا محكوما كغيره بسلطة هذا العالم وحتمياته, فاننا لا شك سنرى في الدولة امتدادا طبيعيا لوجود الانسان كقوة تصارع غيرها من أجل البقاء, وسيكون الحق حينئذ هو ما يتحصل من ميزان القوى المتصارعة في الدولة وبالدولة. أما إذا انحزنا الى اعتبار الانسان كائنا مستقلا عن العالم وقادرا على فرض ارادته وحكمته وفضيلته عليه، أي على هذا العالم، فسنرى في الدولة تجسيدا لتلك الإرادة ومسافة من التسامي والتعالي قطعها الإنسان في علاقته بالعالم وبالطبيعة، وسيكون الحق حينها هو ما يجب أن يكون وليس ما تمليه القوة، بل ما تمليه الحرية الممكنة للجميع.
إذا كان مفهوم الحق يرتبط في الأصل بالإنسان فمنذ ظهور الدولة وتطورها كامتداد له و لارادته، صار الحق مرتبطا ارتباطا وثيقا بماهيتها وطبيعتها, وذلك إلى درجة يمكن القول معها بأن "الحق" اليوم هو فضيلة الدولة إذ لا حق خارج الدولة و إن كان لا حق أيضا مع الاستسلام الكلي لها.
فالدولة ضرورة لا محيد عنها، وسيادتها سد منيع ضد أي نكوص نحو همجية الفوضى والتسيب، ومن ثمة يجب ضمان استمراريتها وسيادتها, غير أن الدولة إذا ما استقلت في وجودها عن أغلبية المواطنين وانفصلت عن إرادتهم, ستتحول لا شك الى مصدر لقهرهم وقمعهم وهضم حقوقهم, فالحق إذن هو ذلك الوسط العدل بين رذيلتين يمكن أن تقع فيهما الدولة ألا وهما: الطغيان والاستبداد من جهة والتسيب والفوضى وضعف السلطة من جهة أخرى.
إن العودة إلى الفلسفة السياسية الحديثة بالخصوص هو ما من شأنه أن يكفل تبين هذه المفارقات وتوترها وتبين هذه الإشكالات وعمقها. فبالعودة مثلا إلى كل من ميكافيلي وهربز سنجد دفاعا واضحا عن ما يمكن أن نسميه بالحق في الدولة وسيادتها, أو بالأحرى حق الدولة في الوجود وفي الحفاظ على استمراريتها ووحدتها وقوتها كضرورة لا غنى عنها لضمان حد أدنى من الحقوق, خاصة وأن الدولة حينها كانت لا تزال تعاني من منافسة السلطة الدينية وفي حاجة ماسة الى استكمال استقلالها عنها. لكن في المقابل وبالعودة مثلا الى كل من جون لوك ومونتيسيكو سنجد بشكل أوضح دفاعا عن دولة الحق وعن حق سابق على الدولة ولا يقبل بأي شكل الاختزال أو الانتهاك في ظلها, بل هو حق طبيعي ما وجدت الدولة الا لحمايته وانمائه. ولهذا يجب ضمان التوازن الكافي بين الدولة من جهة والمجتمع المدني من جهة أخرى. ان هذا التقابل بين الدولة والمجتمع المدني وبين سيادة الدولة وحرية الفرد وبين السلطة والحق الطبيعي وبين القانون الوضعي والخاصية الانسانية هو عينه التقابل الذي لطالما تذبذب مفهوم الحق بين أطرافه, وكأن الانسان فكرا وممارسة يسعى باستمرار الى ضمان التوازن بين كفتين: كفة الحرية وكفة الأمن والسلم. (1)
فأي الكفتين أرجح في زمننا هذا؟ وما هي السبل الكفيلة باستعادة الوسط العدل الأرسطي حيث نصل الى الحق؟ وكيف ساهمت أرندت كفيلسوفة معاصرة في اعادة التأسيس لمفهوم الحق؟ والى أي حد استطاعت أن تعمق وعينا بهذا المفهوم وأن تفتح أمامنا أفاقا وامكانات جديدة لممارسته؟ وبأي شكل يمكن للفكر المغربي السياسي المعاصر أن يستفيد من نبشها في أسس التوتاليتارية وفي تفاهة الشر؟

2- ملامح من فلسفة أرندت السياسية العامة
سنحاول في هذه المحطة من هذه الورقة استجماع بعض الملامح الأساسية لفلسفة أرندت السياسية, ولعل ذلك هو ما يمكن أن يتيحه لنا الوقوف عند الجهاز المفاهيمي الذي تنسج من خلاله هذه المفكرة فلسفتها وتصوراتها الأساسية.
تنتقد أرندت "الذاتوية" الأنوارية, إذ بارتكاز هذه الأخيرة على تأكيد جذري لقدرة الانسان بتغلبه على الجهل بواسطة العلم, وعلى الطبيعة بواسطة التقنية, وعلى مشاكل المجتمع بالفردانية والاستقلال الذاتي, انساقت وراءه إرادة السيطرة والسلطة, وجردت الإنسان من إنسانيته. فالنزعة الذاتية الحديثة ارتكزت على انسانية مجردة ومؤسسة على الفكر الداخلي المجرد, وهو ما أغرق الذات في الانغلاق على نفسها وحال بالتالي دون التمييز بين الفعل بمعناه الانساني والفعل بمعناه التقني أي كصناعة، وجعل العقل الحديث يسقط في نزعة أداتية.
أ- الفعل: إذا كانت الفبركة أو الصناعة تروم هدفا نهائيا ومحددا يتوصل إليه بخطوات إجرائية محددة مسبقا، فالفعل الإنساني سواء في السياسة أو في التربية ليس عملا عنيفا على غرار الفبركة ولا يجب أن يختزل المواطنين والغير إلى مواد قابلة للسيطرة والمعالجة. بل يجب أن لا ينفصل الفعل الإنساني في ماهيته عن معنيين, ألا وهما: الولادة والتعددية. ذلك أن الوجود الإنساني ليس محكوما بأفق الموت وحده, كما يؤكد هايدغر على ذلك, ولكنه مطبوع بالولادة أيضا, وبقدوم ذوات جديدة إلى هذا العالم, و التي من شأنها أن تسهم فعليا وحقيقة في تجديد هذا العالم وفي توجيه مساراته. لهذا ينبغي على الفعل الإنساني أن يكون منفتحا على مشاركة الغير. فالتعدد جوهر الحياة الإنسانية إذن، كما أن الفعل الإنساني يلزمه دوما أن يمر عبر الكلمة وعبر التواصل والتشاور والتحاور وهو ما يعني القبول بلا محدودية المبادرات والأفعال وردود الأفعال والتي تعبر جميعا عن انطلاقات وبدايات فقط, وليست بالضرورة مفضية إلى نتيجة محددة سلفا, كما هو الحال بالنسبة للفعل الصناعي أو التقنية(2). وهكذا يكون جوهر الشرط الإنساني انما يقوم في الفعل المبادر والمجدد وفي ضمان التعددية بشكل يضمن المساواة ويسمح بالاختلاف في نفس الوقت.
ب- السياسة: تقتضي السياسة التخلي عن ثنائيات: الكذب والصدق / الحقيقة والخطأ / الخير والشر / الصديق والعدو. لأنها ثنائيات اختزالية تقضي على روح وعلى التعددية وجدوتها وعلى القبول بالآخر المختلف, وأساس الحياة السياسية هو الفعل المبادر الذي يدشن ويبدع الجديد ويمنح بالتالي ولادة جديدة في للانسان في هذا العالم, فهو بمثابة مجازفة في اتجاه "النحن" بتعدديتها واختلافها في مقابل أحادية الأنا, خصوصا وأن هذه الأحادية هي ما يكرس الاختلاف المطلق بين الذوات الانسانية, ويحول دون بلوغ المساواة النسبية التي تسمح بالاختلاف النسبي كذلك. ان المطلب الأساسي للحياة السياسية ليس هو المساواة أمام القانون، بل هو بالأحرى التمتع بنفس المشروعية في الفعل والمبادرة السياسيين وفيما يسبقهما من مناظرات وحوارات. وبذلك يكون من الضروري أن لا تهيمن الدولة على أنفاس الحياة السياسية بل يجب أن تكتفي بضمان السلم والأمن وان تفسح المجال أمام المجتمع المدني ليكون المصدر الحقيقي والأصيل للحياة السياسية.
ج- العام والخاص والحرية:
ان التقابل الحاصل بين العام والخاص هو ما يصنع بفضل الحياة السياسية, وليس العكس. اذ يمكن القول بأن كون الانسان حيوانا سياسيا, هو ما جعله يستطيع أن يكون حيوانا اجتماعيا بعد ذلك. اذ بواسطة مشاركة الانسان في الحياة العامة مشاركة حقيقية, يحمي حياته الاجتماعية الخاصة أما الخلط بين الحياة العامة والخاصة فيؤدي حتما الى القضاء عليهما معا, كما يحدث بفظاعة في ظل الدولة التوتاليتارية على سبيل المثال والتي ينعدم في ظلها أي وجود حقيقي للفضاء العمومي بما هو فضاء للتعددية وللاختلاف فتطغى الحياة الخاصة على الحياة العامة ويتم القضاء على الأخر المخالف قضاءا تاما يفضي في النهاية الى افقار الذات وافقار الحياة الخاصة نفسها. واذا كانت الحرية هي المبرر الحقيقي لوجود السياسة, فان الدولة التوتاليتارية تعمل بالأساس على الفصل بينهما حيث تجعل نهاية احداهما بداية للأخرى. في حين أن الحرية لا امكان لها الا في ظل حرية سياسية يتيحها بالأساس وجود فضاء عمومي - وهوما تمثل الأغورا اليونانية نموذجه التاريخي الأمثل - بما يسمح بالمشاركة في صناعة الرأي والقرار السياسيين. ولهذا لا يمكن اختزال السياسة في ممارسة الدولة لسيادتها, بل لابد من ربطها بخلق فضاء عمومي يسمح للمجتمع المدني بالانفتاح على إمكاناته الاجتماعية والثقافية والسياسية, أي الاتجاه إلى اللامتوقع والى ما "ليس بعد" وليس الى ما هو مقرر سلفا ضمن ماهية ميتافيزيقية للإنسان. ولا يمكن بالمثل أن تختزل الحقوق والحريات في ما تسطره الحياة القانونية بل تبقى الحريات وتبقى الحقوق مرتبطة بكونية تتعدى جميع الخصوصيات. (3)
د- التوتاليتارية:
ليست التوتاليتارية بالنسبة لأرندت نابعة من المنطق الأناني للحفاظ على بقاء الذات, بل نابعة بالأساس من ظاهرة من ظواهر التجديد التي تعرض لها الإنسان. فبدل الانسان الفاعل داخل جماعة معينة, وبدل الانسان الخاضع لمصالح متصارعة فيما بينها داخل فضاء ديموقراطي, تم تكريس صورة الانسان المتماهي مع الجماهير, أي تلك الصورة التجريدية لذلك الانسان الذي لا ينتمي الى جماعة محددة, والذي لا يملك صلة حقيقية بذاته نفسها, لأنها بالضبط صورة ذلك الانسان الضائع بين حشود الجماهير. بالنسبة لحنا أرندت مفهوم الحشد لم يولد إلا مع "مثال" الإنسان الذي تمجده الإيديولوجيات الثورية لحقوق الانسان, والتي بعيدا عن أي طابع إنساني تكرس عبادة خطيرة للانسان, فحيث يتخيل الانسان أن لديه كامل الحق فحينه
وباختصار ليست التوتاليتارية مجرد نظام مستبد يسيطر عليه الحاكم المطلق أو الحزب الوحيد, بل التوتاليتارية منتوج جماهيري أفضى بما فيه من حماسة واندفاع, الى القضاء على الفضاء العمومي, والى وأد روح التعددية وعلى الحرية والاختلاف, وأصبح بالتالي الحق في التمتع بالحقوق محذوفا من أساسه, وأصبح بالامكان ممارسة الشر في الوقت الذي يبدو فيه شيئا عاديا وتافها, خاصة وأن الحيوان السياسي في الانسان قد أبيد تماما وأبيد أو دمر معه المجال الاجتماعي ما يحمله من روابط ثقافية انسانية, ليدخل الانسان مع التوتاليتالية في تجربة اللاانتماء وفي مستوى الفاجعة الأنطولوجية حيث يقضى على الشخصية الأخلاقية وكل مرجعية من شأنها أن تميز بين الخير والشر. (5)
3- حق الظهور أو أساس الحق لدى أرندت(6).
ما يصنع بالنسبة لأرندت عالما هو "الفعل" جماعة ومعا وبالأخص عالما مشتركا يتشكل من خلال الفضاء الممتد بين الناس الفاعلين والمتكلمين. والفضاء المشترك يمكن التفكير فيه وفهمه من خلال علاقته بالفعل معا وجماعة, ومن خلال علاقته مع فضاء للظهور والانكشاف للأخرين, اذ لا يمكن الفصل بين التعددية والفعل والانكشاف أو الظهور. ان التموضع داخل المنظور الأرنتي تفكير بالأساس في ضياع حقوق الانسان كضياع لحق الظهور والانكشاف داخل الفضاء العمومي, وكشكل من أشكال اختفاء الانسان كضياع لحق الظهور والانكشاف داخل الفضاء العمومي, وكشكل من أشكال اختفاء الانسان وغدوه لا مرئيا.
يتم التفكير في العالم وفي السياسة كما ترى أرندت من خلال مفاهيم: الفعل والكلام والتعددية وفضاء الظهور, فالتعددية الانسانية هي ما يميز هذا العالم المسكون لا بالانسان وانما بأناس مختلفين وفريدين. ان تعددية الكائنات الفريدة(6-1)هذه هي ما يشكل بالنسبة لأرندت شرط الفعل والقول الانسانيين. وهذين الأخيرين هما ما يكشف الفردانية الفريدة للناس, "الفعل والقول هما النمطان اللذين بهما ينكشف ويظهر الناس لبعضهم البعض" (6-2) فهما يؤسسان للحياة بين الناس – وهذا ما يشكل حسب أرندت دائما ولادة ثانية تؤكد وتفعل الظهور الفيزيائي الأول – مما يسمح للناس بالانكشاف وبرؤية الماهية التي يجسدونها أو ما يكونونه. الفعل والقول هما اذن شرطا وجود العالم المشترك وشرطا انسانية الانسان بالقدر الذي يؤسسان فيه "الظهور داخل العالم الانساني" (6-3) ويؤسسان الفضاء المشترك بين الناس.
هذا الفضاء الذي تم خلقه بين الناس عن طريق الفعل والقول هو ما يخلق فضاء الظهور من منظور أرندت: "انه فضاء الظهور بأوسع معنى أي ذلك الفضاء حيث أظهر للأخرين وحيث يطهرون لي هم أيضا, وحيث لا يوجد الناس كموضوعات أخرى حية أو ميتة وانما كأناس يقومون بظهورهم الخاص علنيا." (6-4) الفضاء العمومي للظهور حاضر دائما بالقوة ووجوده يضمنه تجمع الناس الفاعلين بشكل جماعي ومشترك. هكذا يكون الطغيان بامتياز هو شكل الحكومة التي عن طريق العزل الخاص بالطاغية ونظيره الخاص بالذوات المعزول بعضها عن بعض تحول ومن خالال سلطتها دون انتاج تجمع للناس يسمح لهم بالفعل التشاركي ويكفل لهم فضاءا للظهور.
أرندت في تفكيرها بصدد الفعل والعالم المشترك توظف السجل الدلالي الخاص ب "قابلية الرؤية" أو الانكشاف وتتحدث عن الاشعاع وعن "انارة" وعن "نور" هذه الذائرة العمومية. وهكذا اذا ما انكشف وظهر الفاعل من خلال الفعل فهذا الفعل يسمى "الضوء الجذاب أو المثير... الذي لم يكن ممكنا سوى بفضل المجال العمومي" (6-5)
3- أ- الحق في التمتع بحقوق وحق الظهور:
من المفاهيم المفاتيح لنظرية أرندت السياسية المتعلقة بحقوق الانسان ما تجسده عباراتها الشهيرة "حق التمتع بحقوق" أو "الحق في الحق" أو "الحق في الحصول على حقوق", « droit d’avoir des droits » وهي عبارة تسهم بها في اعادة تأسيس مزدوجة – خاصة بعد سقوط الدولة / الأمة وبعد رعب المعسكرات – لحقوق الانسان وللحق في السياسة وفي عالم مشترك وذلك لمنع حدوث أي عزل للناس وهو ما تعرض له "البدون – حقوق", لكن أرندت تعرف أيضا الحق في اطار اعادة التأسيس لتفكير أعمق في الفعل والذي يأخذ موقعا مركزيا ضمن فلسفتها ككل, كما يتم التفكير فيه من خلال التفكير في حقوق الانسان المرتكزة بالأساس على الحق في الفعل التشاركي والمتعدد.
الحق في الحصول على حقوق هو قبل كل شيء حق المشاركة داخل جماعة سياسية فاعلة, اذ يتعلق الأمر بحق الناس في أن يحاكموا أو أن تتحدد قيمتهم من خلال أفكارهم وأفعالهم, وعلى النقيض من النظام التوتاليتاري أو في معسكرات التعذيب حيث "البراءة, بمعنى التجريد الكلي من أية مسؤولية, هي ما يشكل العلامة المميزة لوضعية "البدون – حقوق" فكل شيء كما لو كان توقيعا رسميا بتجريدهم من أي وضع سياسي" (6-6)
ان الحق في التمتع بالحقوق هو حق المشاركة داخل العالم المشترك والجماعي والحق في السياسة ينطلق من كون حرمان فردا من حقوقه الأساسية هو بالأحرى حرمانه من القدرة السياسية التي لديه في مجال السياسة, وبالتالي فالحق بالتمتح بحقوق هو الحق في الانتماء لجماعة ما والحق في الفعل السياسي هو بالمثل عربون للحق في فضاء للظهور, وذلك لأن ما يشكل أساس المجال العمومي للظهور هو الفعل والقول المتصفين بالتعددية.
ان أرندت تحاول عبر الحق في التمتع بحقوق اعادة التأسيس لحقوق الانسان وذلك بنوع من التجاوز لأساسها في الدولة / الأمة والتي برهنت وأوضحت أرندت فشلها في ضمان
وحماية تلك الحقوق مثلما أوضحت فشل التأسيس لها في الحقوق الطبيعية, اذ على العكس من النظريات الطبيعية التي تصرح أن الناس متساوون بالطبيعة, تؤكد أرندت أن المساواة بين الناس "هي فقط مساواة في الحقوق أي مساواة انسانية في مقاصدها" (6-7) في حين أن الحق في التمتح بحقوق لا يضمن للانسان الا من خلال وضعه كمواطن وليس من خلال انتمائه للجنس البشري الشيء الذي يتأكد من خلال وضعية "البدون – حقوق" ان أرندت تبحث عن سبيل رساؤء الحقوق داخل جماعة سياسية كونية وداخل انسانية سياسية لا يعود الحق في التمتع بحقوق كحق في المشاركة ضمن جماعة سياسية وكحق في الفعل وحق في الفضاء للظهور, مضمونا لكل من فقد جنسيته أو مواطنته, فؤلاء البدون – حقوق يتعرضون لشكلين من الحرمان: حرمان من الانتماء لجماعة سياسية وحرمان من الوضع القانوني. ان فقدان المشاركة في العالم المشترك يفضي حتما وكنتيجة الى الاقصاء من فضاء الظهور مثلما أن فقدان الحقوق يشبه الاختفاء والخروج من دائرة الضوء ورؤيا لهذا السبب فان: المواطنة (كأسلوب أو كنمط للفعل....) يجب ان تفهم من خلال نمط للفعل الجماعي لا ينفصل هو نفسه "عن ظهور مشترك للموجودين" يشترط الزاميا هو الأخر تأسيس وصيانة الفضاء العمومي للظهور. ولهذا ترجع اعادة تعريف الحقوق بطريقة غير مباشرة بالحق في التمتع بحقوق وبالحق في الظهور الى التفكير فيها مجددا داخل جماعة سياسية فاعلة تمكن من خلق دائرة للضوء ولقابلية الرؤيا ان أردنت فضلا عن ما سبق تفكر مفهومها للحق في التمتع بحقوق انطلاقا بالأساس من التجربة التوتاليتارية للمعسكرات, ذلك أن ضياع الحقوق لا يشير ببساطة لفقدان الحرية كما هو الحال عند ضياع حق شخص ما كمواطن, وكمثال السجين الذي أصبح حقه في الحرية معلقا لوقت معين. ان ضياع حقوق الانسان يحول حسب أرندت دون "حتى امكانية النظام من أجل الحرية" (6-8) ويؤدي الى الاقصاء من الجماعة ومن السياسة, وبما أننا امام شيء أهم وأساسي أكثر من الحرية ومن العدالة التين تندرجان في حقوق المواطن (6-9) فان الأفراد المحرومين من حقوق الانسان قد فقدوا بالأحرى "حقهم في الفعل" (6-10) وحقهم في التمتع بحقوق من الأصل. وفقدان الحقوق اذن هو "فقدان الحق في التعددية, وفقدان الحق في الظهور أيضا" لذلك يجد الناس المسلوبة حقوقهم أنفسهم وقد زج بهم في الظلمة الخاصة "بالبدون – حقوق" وفي المكان المظلم من المجتمع الذي تم اقصاءهم منه.
يتحدد الحق في التمتع بحقوق بالنسبة لأرندت بكونه موضوع هذا الفقدان وبكونه نقيدا له بالضبط, وعندما نقوم بالتنظير لحق المشاركة من خلال جماعة ما, ولحق المشاركة في السياسة وفي الفعل وفي الظهور, فلأجل لحيلولة دون أي عودة الى هذا الاقصاء الكلي والمدمر الذي تبلور على يد نظام معسكرات الاحتجاز بشكل كرس موت الحقوق التي لطالما اعتبرت غير قابلة للانتزاع. لقد جعلت المخيمات الناس سطحيين حسب تعبير أرندت وجعلت الجميع هدفا للارهاب وللتحكم الكلي. ان ما تطمح اليه أرندت هو ان تجعل هذا العزل أو الاقصاء من السياسة ومن الفعل والظهور أمرا مستحيلا, انها تبحث عن طريقة للحيلولة دون أي اختفاء أو اخراج الناس من دائرة الرؤية ومن فضاء الظهور والذي يضمن لهم صيانة انسانيتهم.
3- ب- الحق في الفعل والحق في الظهور:
تستخدم أرندت حقه في التمتع بحقوق للتأسيس من جهة لفلسفة للفعل والذي أضاعته مخيمات الاحتجاز وانعكاساتها, ومن جهة أخرى لأجل حقوق للانسان متمركزة حول الحق في الفعل المتعدد.
يرتكز مفهوم الفعل عند أرندت على اظهار الفاعل لهويته ولكينونته داخل الفعل والقول بما يؤسس للسلطة وللفضاء العمومي للظهور, فمفهوم الفعل عند أرندت يرتبط بالتعددية وبفضاء الظهور وبذلك يمكن تعميق التفكير في حق الظهور, هذا الحق يفهم من منظور الحق في التمتع بحقوق كأساس للحق في السياسة وفي الفعل, في مقابل ضياع الحقوق كنوع من الاختفاء والخروج من دائرة الرؤية. ضد المعسكرات وضد اختزال الانسان الى سلسلة من ردود الأفعال تعمق أرندت التفكيري مفهوم الفعل كأساس للعالم المشترك ولحق التمتع بحقوق وكضمان وحيد لمجتمع سياسي ولفضاء يسمح يظهور الحقوق. ضد المعسكرات التي تنتج "الانسان المثال" (6-11) للدولة التوتاليتارية تنظر أرندت للحق في الفعل كأساس للمواطنة, والمواطنة السياسية مفهومة من خلال الفعل الجماعي ومن خلال ظهور للأخرين هو ما يستلزم كشرط ضروري فضاءا عموميا للظهور. ان الحق في الفعل وفق هذه الصياغة هو ما يؤسس الحق في الظهور.
ان ما يراد الايحاء به هنا هو أن الفعل التعددي هو ما بيني المجتمع السياسي وهذا الأخير هو ما يؤسس للمساواة بين الأفراد في الحقوق. ان الناس غير متساوين بالطبيعة, وانما يصبحون كذلك بخلق مجتمع سياسي ومؤسسات سياسية. هناك اذن انتاج للمساواة عبر التنظيم السياسي وعبر انشاء الحق المتساوي في ولوج الفضاء العمومي بطريقة ذاتية الظهور والانكشاف.
هكذا يكون من الواضح أن الحقوق لا تكون ممكنة الا بضمان الفعل المتعدد والتشاركي المؤسس للمجتمع السياسي ولفضاء الظهور, فضد الدولة / الأمة التي استبقت للمواطنين ممارسة الحقوق فقط (وليس تشريعها) تفكر أرندت في شكل جديد للمجتمع, وضد ظاهرة البدون – حقوق المقصيين من مجتمع الدولة / الأمة والمقصيين بالتالي من جميع الحقوق تفكر أرندت في حق في الفعل وحق في الظهور وحق في الحقوق ارتباطا بجماعة سياسية منتجة للمساواة وللحقوق.
ان أرندت وهي تعيد التفكير في الحقوق مرتكزة على جماعة سياسية فاعلة ومؤهلة للظهور يتضح أن الأمر لا يتعلق بالتأسيس للحقوق على الفرد وانما بالأحرى على التعددية الانسانية وعلى الانسانية مفهومة كمشاركة في مجتمع سياسي يؤسس للمساواة بين الناس, في حالة ضياع حقوقه, الانسان "الذي ليس شيئا أخر غير كونه انسانا" (6-21) لا يعامل أبدا بعد ذلك "كشبيه من لدن الأخرين" (6-31) ان الحق في التمتع بحقوق لا يبلغه الا مواطن ينتمي الى جماعة سياسية. ولهذا تعمق أرندت التفكير في مفهوم للانسانية يتناسب مع مفهوم المجتمع السياسي القائم على التعددية الانسانية. لكي يضمن انسان معاملته كنظير يستلزم الأمر فضاءا عموميا للظهور كفيلا باعطاء أفعاله وأقواله معنى ودلالة ما, ولكي يكشف بالتالي تفرده الانساني ان المساواة التي تخلقها الجماعة السياسية هي وحدها التي تسمح باظهار التفرد الانساني, أما عندما يقصى الانسان من الجماعة السياسية فحينئذ فقط يعود الى اختلافه الجذري، ذلك أن هذا الاقصاء من الجماعة السياسية ومن الانساني يرجع "البدون – حقوق" الى وضعية "المعطى السلبي الخالص لكينونتهم" (6-14) ويحول بينهم وبين السمو بهذا المعطى عبر الفعل والقول الجماعيين المتعددين لأجل تحقيق الظهور والوجود داخل العالم المشترك.
4- على سبيل الختام .
ان الجهاز المفاهيمي الذي بلوره تفكير أرندت السياسي ليمكننا بحق من وضع البنان على لب معضلاتنا السياسية المعاصرة و بالأخص في العالم العربي وبلدنا المغرب بالخصوص. إذ أن غياب فضاء حقيقي للظهور أحال شرائح عريضة من المواطنين الى فقدان الحق في التمتع بالحقوق وجعل فعلهم السياسي فعلا غائبا أو على الأقل صوريا. ففي ظل التغاضي عن استعمال المال في الاستحقاقات الانتخابية وفي ظل حضور مؤسسات حزبية صورية ومنخورة من الداخل وفي ظل صحافة مراقبة وموجهة عزف المواطن عن الفعل بعد ما يئس من محاولة الفعل وكف عن الظهور بعدما يئس من العثور على فضاء حقيقي للظهور وللخروج من ظلمة العزل والاقصاء.
ولكن وفي هذه اللحظة بالذات وبعدما أكتشف الناس الفضاء الافتراضي للأنترنت كفضاء أفضل للظهور وبعدما استعادت الشعوب العربية ايمانها ورأسمالها الرمزي بامكانية التغيير: هل يجب أن نثير االنتباه الى أهمية الحق في الدولة والى ضرورية استمراريتها؟ أم يجب أن نوجه الانتباه الى ما يمكن أن يعقب الثورات من أنظمة توتاليتارية؟ أم يجب أن نفكر بشكل أعمق في كيفية اعادة بناء مؤسساتنا السياسية جذريا كفضاء للفعل السياسي وللتعددية ولحق الظهور ولحق التمتع بالحقوق.

الهـــــوامــــش

1)- تمت الاستفادة بهذا الصدد من مقالة ل: "محمد أندلسي" بعنوان: (مفارقات مفهوم الحق وشروط امكان تفكير فلسفي في مسألة "حقوق الانسان") وهي منشورة على شبكة الانترنت بموقع:
http://mohamedandaloussi.maktoobblog.com/1464233
2)- راجع ما أورده الشباك في كتابه التربية والحداثة والذي ترجمه السيد محمد أسليم وبالذات في الفصل المخصص للتربية عند حنا أرندت.
http://aslimnet.free.fr/traductions/chebbak/ha5.htm
3)- تمت الاستفادة هنا من مقالة أخرى ل: "محمد اندلسي" بعنوان: تصور "أنا أرندت" للسياسة. وهي منشورة بنفس الموقع السابق.
http://mohamedandaloussi.maktoobblog.com/457207
- كما يمكن الرجوح لمقال من ترجمة د. عز الدين الخطابي ضمنه لكتابه: "2 الترجمة والفلسفة السياسية والأخلاقية", وذلك في ابتداء من "ص": 102.
4)- راجع ما أورده "محمد سعد" في مقال له بعنوان "نقد الشر المحض" وهو أيضا متوفر على شبكة الأنترنت بموقع: http://marocphilosophie.maktoobblog.com/85
6)-ابتداء من هذا العنوان ماتبقى من المقال هو عبارة عن ترجمة بتصرف لمقال بعنوان
Raphaëlle Nollez-Goldbach, « Le droit d’apparaître »,
in Du tiers absent au tiers exclu, de l’invisibilité sociale et politique, Buenos Aires, Argentine, 11 avril 2007
ويمكن الاطلاع عليه من هنا:
http://fr.scribd.com/doc/113353685/Le-droit-d%E2%80%99apparaitre-arendt

http://www.4shared.com/office/RPDt19cY/Le_droit_dapparatre_arendt_2.htm

6-1) H.Arendt. « condition de l’homme moderne » Paris, calamann – levy ,2005.PM232
6-2) H.Arendt. « condition de l’homme moderne » Paris, calamann – levy ,2005.PM232
6-3) H.Arendt. « condition de l’homme moderne » Paris, calamann–levy ,2005.PM236
6-4) H.Arendt. « condition de l’homme moderne » Paris, calamann– levy ,2005.PM258
6-5) H.Arendt. « condition de l’homme moderne » Paris, calamann – levy ,2005.PM237
6-6) - H.Arendt. « les origines de totalitarisme » quarto Gallimard 2002–.PM597
6-7) - H.Arendt. « les origines de totalitarisme » quarto Gallimard 2002– .PM517
6-8)- - H.Arendt. « les origines de totalitarisme » quarto Gallimard 2002– .PM600
6-9)- - H.Arendt. « les origines de totalitarisme » quarto Gallimard 2002– .PM599
6-10)- - H.Arendt. « les origines de totalitarisme » quarto Gallimard 2002– .PM807
6-11)- - H.Arendt. « les origines de totalitarisme » quarto Gallimard 2002–.PM807
6-12)- - H.Arendt. « les origines de totalitarisme » quarto Gallimard 2002–.PM604
6-13)- 6H.Arendt. « les origines de totalitarisme » quarto Gallimard 2002–.PM60
6-14) H.Arendt. « condition de l’homme moderne » Paris, calamann–levy ,2005.PM26



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن