على هامش الثورة المصرية (57): النجاح بين فيليكس ويامانكا

عبير ياسين
abeeryassin@yahoo.com

2012 / 10 / 19

هل يمكن التطور عبر الإنفصال عما سبق والقطيعة مع الماضى؟ هل علينا أن نختار وننتقى بين ما يظل فى الذاكرة وما يتم نسيانه؟ وهل لا يمكن التعلم من الفشل؟ وهل كل عدم نجاح يعنى فشل؟ تساؤلات كثيرة تمر بنا سواء على مستوى الأفراد أو الشعوب. تساؤلات تتكرر بصور مختلفة ورؤي متعددة فالبعض يرى أن التحرك للأمام لا يتم بدون نسيان الماضى، والبعض يرى أن الحاضر ابن الماضى والمستقبل امتداد لما كان وما هو كائن، والبعض الآخر لا يعترف إلا بالماضى فيعيش فيه ويحكم على الحاضر والمستقبل بالفشل. وعلى الرغم من أن كل مجموعة لديها مبرراتها لمواقفها فأن التعميم صعب ومضر. ففى بعض الأحيان يكون النسيان ضرورة للإستمرار، وفى أحيان اخرى يكون الماضى بكل ما فيه وعليه مطلوب للتعلم منه أو للبناء عليه. ففى العلم والتقدم والشعوب بشكل جماعى حيث يصبح من المهم تذكر الماضى وتصحيح ما فيه والبناء عليه، ويصبح التقدم رهنا بقدرة المجتمعات على التعلم مما سبق وتصحيح المسار أو تغييره.

وخلال الفترة الماضية ساعدت مجموعة من الأحداث على تعميق تلك القضية وإعادة طرحها. فمن جائزة نوبل فى الطب التى فاز بها الطبيب اليابانى شينيا يامانكا، لقفزة فيليكس وما حققته من خطوات مهمة للعلم كان هناك استمرار وتصحيح وإضافة، والمهم أعتراف واضح بالماضى وبالإنجازات الى تحققت وبمن حقق خطوات ساعدت على الوصول لما تم فى الوقت الحاضر وما يمكن ان يحدث فى المستقبل. فى تلك الحالات لم يظهر من يغفل عن دور الجماعة المساعدة ولا عن دور من سبقه.

كان الموقف واضحا ليس فقط بالتعبيرات والتصريحات ولكن بوجود من بدأ أو من حقق خطوات تقدم سابقة. ففى حالة فيليكس وجدنا فى فريقه المساعد العقيد المتقاعد في سلاح الجو الاميركي جو كيتينغر (٨٤ عاما) صاحب الرقم القياسى السابق والذي قفز من المنطاد على ارتفاع ٣١.٣٣٣ مترا من سطح الأرض عام ١٩٦٠. تواجد كيتينغر وظل كجزء أساسى من الفريق الذى ساعد فيليكس، وكان هو الذى يوجهه أثناء الصعود. كما ظهرت الفرحة عليه بالإنجاز الذى تحقق بوصفه إنجاز للجميع وللبشرية.

نفس الفكرة تتواجد فيما يخص جائزة نوبل فى الطب والفيزيولوجيا لعام ٢٠١٢ والتى فاز بها مناصفة كل البروفيسور فى جامعة كامبريدج البريطاني، جون جوردون (79) والدكتور فى جامعة كيوتو شينيا يامانكا (٥٠ عاما) لاكتشافهما بأن الخلايا البالغة المتخصصة يمكن إعادة برمجتها لتتحول إلى خلايا جنينية يمكن أن تتحول إلى أي نوع من خلايا الجسم التي قد يحتاجها المريض في علاجه.

وفى عام ١٩٦٢ استطاع جوردون التأكيد على أن جميع خلايا الجسم تحمل الجينات نفسها على عكس ما كان يعتقد قبلها. واعتبر اكتشاف جوردون البداية للاستنساخ، كما أنه مهد الطريق لعلم الخلايا الجذعية. وفى عام ٢٠٠٦ توصل يامانكا إلى كيفية برمجة الخلايا البالغة في الفئران لتتحول إلى خلايا جنينية جذعية. وقد أكد يامانكا على أن فوزه بنوبل بعد ٦ سنوات فقط من إنجازه يرجع إلى تكريم د. جوردن على إنجازه الذى حققه عام ١٩٦٢ وهو نفس العام الذى ولد فيه يامانكا.

القصة متشابهة فى وجود عرفان وتقدير ممن بدأ وممن لحق به وفى كل الحالات نحن أمام حالات انسانية عميقة تجمع بين الشخصى والعام. إنجاز يتحقق لمن قام به وخلفه إنجاز يتحقق للبشرية على أمل أن تحقق خطوات تقدم للأمام. والسؤال ما الذى نأخذه من تلك الحالات بعيدا عن نشر صور حفلات الشاى اليابانية وصور الكاريكاتير الخاصة بقفزة فيليكس؟ هل دورنا فقط بعض المزاح والتحسر والاستمرار وكأن شئيا لم يحدث؟ أم ان هناك دروس أكثر عمقا يمكن الخروج بها من تلك الحالات؟ ولا يقصد بهذا إنكار الأهمية الرمزية لصور حفلات الشاى والتنظيم الذى تعبر عنه، ولا الكوميديا ودورها فى تخفيف حالة الغضب والإحباط وتحويلها إلى ابتسامة يمكن استثمارها إيجابيا، المقصود فقط هو التأكيد على وجود الكثير من المعانى الانسانية اللازمة للتقدم، ومنها:

* ضرورة الاتصال وعدم القطيعة: فلو حدثت القطيعة مع ما سبق لبدأ الجميع مرات ومرات دون الوصول للخطوات التالية ولضاع الوقت والعمر دون انجاز حقيقى سواء على المستوى الفردى أو العام.

* مساعدة السابق للاحق: فالدور والإحساس بالمسئولية لا ينتهى. ففى كلا الحالتين كان هناك دور أساسى لما قدمه السابق فى عملية التطور التى قام بها التالى ولعل فى تأكيد د. يامانكا على أن التقدم فى العلم أشبه بطبقات، وأن كل فرد يقوم بإزالة طبقة فتصبح الصورة أوضح لما يليه ويصبح من السهل للقادم التوصل للمزيد من الإنجازات توضيح لتلك الفكرة.

* الإعتراف بأهمية ما سبق ومن سبق: لم يسعى أيا من أبطال اللحظة لإلغاء دور من سبقهم وعلى العكس ظهر بشكل واضح كيف يرحب كل منهم بدور من سبقه. وضع ظهر واضحا مع أحاديث د. يامانكا عن أهمية ما فعله د. جوردون من وضع الخطوة الأولى والمهمة فى طريق البحوث التى أوصلته لما حققه، مؤكدا على أن ما قام به يعد امرا سهلا بالنظر لما قام به د. جوردون.

* الإعتراف بقيمة الفريق: ظهر العمل الجماعى واضحا وبقوة فى الحالتين ففى حالة فيليكس تابعنا جهود الفريق الذى وصل إلى مائة عضو واهتمام أعضاء الفريق الذى كان حقيقيا ويمكن ادراكه بالنظر إلى متابعة الفريق لما يقوم به ولغة الجسد التى كانت تتغير ما بين الترقب والخوف والقلق والسعادة. وضع ظهر واضحا فى تعليقات تؤكد على قيمة ما قام به الجميع من قبل فيليكس ومن قبل د. يامانكا الذى وجه طلبه للحكومة اليابانية بأن ترعى أوضاع الباحثين المؤقتين العاملين معه والذى أدت جهودهم -وفقا لحديثه- للوصول إلى نوبل. فهو لم يتحدث عن مطالب شخصية أو تعظيم شخصى ولم يسقط قيمة ما فعله الآخرون.

تلك ببساطة ملاحظات تستوقفنى لأنها بعيدة عما نراه فى الشرق الذى نعرفه حيث هناك أبطال أمام الكاميرات يتحدثون وكأنهم يملكون الحقيقة كاملة، وهناك غيرهم ممن لا يذكر أسمهم ولا يدافع أحد عن حقوقهم. وضع أعادنى لتذكر الباحث الشاب عبد الحميد شتا الذى توفى منذ عدة سنوات مثيرا لحالة من الجدل التى دخل البعض فيها كنوع من الظهور الإعلامى ودخل البعض فيها كجزء من الاحساس بالتقارب والتشابه مع قصته، ولكن مع الوقت وكالعادة مات الموضوع كما مات صاحبه. ويمكن أن يكون لكل منا فى مجاله عبد الحميد شتا أو يكون هو نفسه عبد الحميد شتا. وضع لا يشترط أن يموت فيه الشخص فعليا ولكن يمكن أن يموت معنويا ويظل فى الحياة كجزء من مشروع لا يخصه ولا يشعر بالإتماء له.

وضع يتجاوز الفرد للدولة حيث يفتقد الرابط الذى يشعره بالانتماء فلا أحد يهتم به ووجوده يتم التعامل معه بوصفه مجرد رقم فى قائمة الاسماء، ضغط على الموارد أو صوت انتخابى فى موسم الانتخابات، ودوره لا يقدره أحد. وضع لا يمكن معه أن نطالب الشخص بالشعور بالانتماء والتقدير لأنه لم يحصل على ما يستحقه من التقدير الانسانى، وعندما تحين الفرصة للرحيل عن الوطن أو المكان الذى يعمل فيه سيشعر بالسعادة لأنه لم يكن يوما جزءا من مجتمع يقدره ويحترم وجوده. صور كثيرة حولنا تفتقد روح فيليكس ويامانكا وتوضح لما نحن فى عالم غير العالم.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن