الممثل المسرحي الذات والأداء والمعرفة

منصور عمايرة
buqasem_21@yahoo.com

2012 / 9 / 11

الممثل المسرحي الذات والأداء والمعرفة !
استهلال : إذا ما أعلن غياب المؤلف في الأدب، تبقى الكلمة كمنطلق للتأويل المتعدد حاملة للمعرفة، وإذا ما أعلن غياب النص المسرحي، يبقى الممثل الذات والأداء كمنطلق للتأويل المتعدد كحامل للمعرفة، وبناء عليه يمكن أن نعرف المسرح من خلال الممثل بأنه اختبار كبير يمارس على الممثل ويمارسه الممثل. فاختبار كبير، معرفة وفهم العمل المسرحي " ويكمن هذا الجزء في ذهن الممثل "، ويمارس على الممثل، الإخراج " الميزانسين "، التطبيق على الفعل، التدريب، وسنجد أنه يتمثل بكل هذا الجسد، وهو المقصود به التعليمات التي ستطبق ذهنيا وحركيا جسديا وانفعاليا، ويمارسه الممثل، مع الذات، مع الآخر الممثل، مع الآخر المتلقي، مع الآخر تقنيات المسرح " فنيات المسرح وتقنيات المسرح بشكل عام هو ما يقوم به الممثل".
ولو تمثلنا دمية على شكل الإنسان، سنجد أن الممثل من خلال التعريف السابق يتكون من العقل، وهنا يكون مستقبلا ومرسلا باتجاهين إلى الداخل والخارج، أي أن الممثل عندما يقف ليمثل على خشبة المسرح يكون قد استقى الأحداث والمعرفة من المؤلف / النص، ومن معارفه الذاتية، وهذا في حالة الاستقبال، وفي مرحلة لاحقة لا بد أنه سيستقبل من المتلقي / ومن الأشياء التي تؤثث المسرح، ومن الممثلين أيضا، وفي حالة الإرسال فهو ينقل المعرفة إلى المتلقي وهذه المعرفة تبدو متعددة:
- ذهنية كما استقاها من النص والمخرج، ومعرفة سابقة قد تكون متشابهة أو غير متشابهة للعرض المسرحي موجودة في باطنية الممثل، وهذه الصورة تكون لفظية سمعية غالبا.
- جسدية، وهي معرفة تنقل من خلال تجسيد الجسد وتمثله للانفعالات اللاشعورية / وللحركات الإرادية والشعورية، وهذه الصورة تكون حركية بصرية، وربما سمعية أيضا، مثل إحداث ضجة بالضرب على شيء ما مثل مقعد.
***
الممثل أولا : لا بد من الإشارة إلى أن الممثل هو الأصل في العرض المسرحي منذ القدم، فالممثل بدأ من حيث كانت الجوقة ليدخل معها في حوار، وترجع هذه الإشارة إلى 535 ق.م، وهنا الإشارة إلى ثيسبس كممثل أول يدخل في العرض المسرحي .
ولا بد من الإشارة إلى أن المخرج لم يكن معروفا حتى مجيئ القرن التاسع عشر، ويذكر بهذا الخصوص ساكس ميننجن Sax Mienengin حيث ارتبط الإخراج المسرحي به في 1874م، فكان الكاتب هو من يقوم بعمل الإرشادات ويقوم بتمثيلها أيضا، وعليه يمكن القول بأن الكاتب هو المخرج الأول بالمشاركة مع آخرين.
ولا بد من الإشارة إلى أن عملية الإخراج هي بداية العرض المسرحي، ولا يختلف اثنان على هذا الشيء، وخاصة في مرحلة باتت متقدمة بالإخراج المسرحي، من خلال منهجيات ورؤى إخراجية ما زالت تدرس وتمثل حتى الآن، وقد مرت بمراحل متعددة حتى باتت تمتاز بالتجريب بين فترة وأخرى، وهي بالتالي تصورات لخط سير المسرحية من أولها حتى نهايتها، من خلال مناقشة جملة من القضايا، الفنية والتقنية، والإدارية، فهذا المسرح لا يمكن أن يكون من دون هذه الجزئيات الثلاث.
***
قدرة الممثل وتميزه : هذه الدراسة تهتم بالممثل بشكل عام، وهو المرسل للعمل المسرحي، فالممثل حامل للمعرفة الإنسانية التراكمية، فهي ليست مجزأة، وهذه المعرفة تتكون من عناصر كثيرة تمثل الطريقة والمنهج الذي يمثل السلوك الإنساني، من خلال التجارب، والمعارف المكتسبة ذاتيا ومن الآخرين، وعندما نأتي إلى المسرح نتصور أن الممثل من سيقوم بتمثل التجرية والسلوك الإنساني، بالتالي هو من سيمثل كل واحد منا أو سيمثل الإنسان بصفة عامة، ولكن هذا التمثيل ليست صيغة الحياة التي تمر يوميا، وربما تكون مكرورة، والتي لا تعطي أي اندهاش أو استهجان، وبالتالي فهي لن تقدم لنا خبرة ومعرفة جديدة " إن قيام الممثل بإعادة تجسيد سلوك الإنسان إنما يهدف إلى خلق صورة مسرحية معبرة ومتكاملة، وهذا ما يشكل جوهر فن التمثيل، وتتوزع سلوك الإنسان حالتان إحداهما فيزيائية، والأخرى نفسية وليس لإحداهما أن تنفصل عن الأخرى وتختزلها، إن كل فعل من السلوك الإنساني هو فعل نفسي فيزيائي متكامل لا يتجزأ " 1 هذا السلوك يبين عن أن الإنسان يحمل المعرفة بكل ما لديه من طاقة، ونتحدث هنا عن طاقتين، الطاقة الذهنية والنفسية والمعرفية، والطاقة الجسدية وهي تحمل المعرفة والتجربة الإنسانية أيضا ... " فإن سيكولوجية الممثل وجسده في وحدتهما يشكلان في الوقت نفسه موصل الإبداع ومادته "2 الممثل وهو يقف على خشبة المسرح يتشكل من متعدد، الإنسان العادي وهو مثل المتلقي الذي يشاهده، والإنسان المتخصص " الفنان " وهو هنا يمتاز عن الآخرين بهذه الميزة بما لديه من طاقات تخييلية تختلف عن الإنسان العادي، وهو كذلك، يستطيع أن يجسد لنا بمقدرة واعية جدا التجربة الإنسانية كإنسان مبدع يختلف مره أخرى عن الإنسان العادي، فهو " لا يعيش على منصه المسرح بصفته الشخصية فقط، وإنما بصفته فنانا وصانعا ومبدعا ... ولهذا فإن مشاعر الممثل الشخصية تدخل في تفاعل مع العمليات السيكولوجية الفيزيائية التي يشعر بها الممثل الفنان "3
نجد أن هذه المشاعر هي الموجودة لدى الإنسان العادي وهي جملة من الأحاسيس والرؤى، ولكن الفارق كبير بين الإنسان العادي بمشاعره، والإنسان الممثل الفنان المبدع القادر على نقل تجارب الآخرين إلينا بصورة فنية مختلفة عما تدور في الحياة اليومية، والغاية من ذلك الوقوف على المعرفة الإنسانية، واكتساب معرفة وتجربة جديدتين، وكل هذا من أجل التأمل والتغيير أيضا، ولا ننسى جمالية المتعة والتسلية، فيجب على الممثل أن " يندمج بمشاعر دوره لكن بالقدر المطلوب، للعثور على شكل التعبير الصحيح الذي يعبر بدقة مطلقة عن الشعور المطلوب، والفكرة المطلوبة، والفعل المطلوب لإيصال الشكل – فيما بعد – إلى أقصى ما يمكن التعبير "4
***
الممثل الأداء الجسدي : إذا ما صح القول بأن الجسد حامل للمعرفة كما يبين ذلك " كامو" Albert Camus، يتأكد لدينا أهمية الممثل الحامل لهذه المعرفة من خلال مكونات عدة، وقفت عليها آنفا، لتكون ثلاث مكونات وهي الذكاء/ العقل، والمعرفة الخارجية من خلال التدريب والتعليم، والمعرفة الداخلية التي ترسل للمتلقي، وهي عملية الفهم للحياة وما تدور حوله المسرحية من فكر ورؤى وحوار، إن جسد الإنسان وهو يحمل هذه الجزئيات الثلاث، والتي تشكل الكلية المعرفية للإنسان، هي ما تشكل البعد التصوري لدى المتلقي، وعليه يمكن اعتبار كل ما يدور على خشبة المسرح هو نتيجة تفاعل مشترك تركز في جسد الممثل، وهذا التشارك وإن بدا الممثل وحيدا على خشبة المسرح، كما في المونودراما والحكواتي مثلا مع اختلاف بينهما، يدركه المتلقي من خلال طريقة التعامل مع المتلقي، وكيفية تعاطي المعرفة معه، وكيفية بث المعرفة من خلال جسد الممثل، والذي يبدو من خلال التمثيل، ليكون الصورة المرئية للآخر ... من هنا ندرك أن يكون الجسد فرجة للآخر، إذن الجسد يقوم بحركات ما وهي فيزيائية وروحية، هي حركات اندماجية من هاتين الخاصيتين للجسد البشري الجانب الفيزيائي والجانب النفسي الروحي، وهذا الجسد الفرجة كما أشار إليه " بارت " حيث يكون فرجة للجمهور في المناسبات العامة كالأعياد والاحتفالات والرقصات الطقوسية أو جوانب من الحياة الاجتماعية كالمسرح" 5 إذن الجسد قد يكون متاحا دائما للفرجة من خلال ما سبق، حيث أن المجتمعات كل المجتمعات، لا تخلو من الأعياد والمناسابات والرقص والطقوس والعادات والتقاليد، وهذا يدل على أهمية حضور الجسد في المجتمع ليس على مستوى الفرد فحسب، بل على مستوى الجماعة أيضا، لأن للجسد الدور الكبير بإبراز تلك الطقوس والمقدرة الكبيرة التي يملكها للتعبير عنها... وبالإشارة للاحتفال، وبما أنه أصل المسرح حيث اعتمد الجسد كتعبير شعوري ولا شعوري يمثل ماهية الإنسان، من هنا ندرك مرة أخرى، أن كينونة الإنسان تكمن في التعبير عما في نفسه وعما يدور في المجتمع من عادات وتقاليد وقيم وشعائر، وكل هذه الأشياء تنعكس على الإنسان، فيتمثلها الجسد بتلك الحركات والأداء التعبيري. إن الجسد المسرحي كما يرى باتريس بافيس يتمثل بأسلوبين للعب، التلقائية والمراقبة المطلقة، أي بين جسد طبيعي لدى الممثل وجسد دميه يحركه المخرج.6 وهذا يؤكد على طاقتين، طاقة ذاتية موجودة من خلال تشكل الجسد بكامله، وطاقة أخرى ناتجة عن التدريب، ولكن مهما كانت الطاقة الثانية متدربة فهي لن تكون بمفهوم الدمية كما يحلو للبعض " كريغ "، بجعل جسد الممثل دمية، لماذا ؟ لأن الجسد مهما تدرب على فعل ما لا بد أنه سينتكس إلى مخزون معرفي سابق، يتشكل في الجسد التلقائي الطبيعي، يكون متوائما ما بين الفيزياء والروح، أما تلك التدريبات فما هي إلا طريقة للبحث عن طاقة الممثل الكامنه فيه، والتي تبدو أنها غير مستفزة لتنتج فعلا مسرحيا على خشبة المسرح، يتمثل بتلك الحركات المتوائمة مع الفكرة/ الموضوع المسرحي، فيرى ديكارت أن " الروح لا توجد في الجسد وجود الربان في السفينة، بل ككائن يسكن في جميع أنحاء الجسد "7 وعليه فإن الحركات الجسدية المتنوعة والتي تحويها كل أجزاء الجسم من الأعلى للأسفل، هي عبارة عن إيقاعات لغوية حركية تنوب عن الكثير من الكلام، فالإشارة من العين قد تعطي دلالات مختلفة، إن هذه العلامات تندرج ضمن السياق، سواء أكان يعبر عن حالة مودة أو حالة من التشنج والرفض لما يحدث من قبل الطرف الآخر، وكذلك إيماءة الرأس تعطي تعبيرات لغوية حركية تعبر عن الرفض والقبول والتردد، وهذا ينطبق على الفم بحركاته المختفلة، وينطبق أيضا على الحاجب، ولا ننسى الأطراف والتي قد تكون معبرة بصورة أكثر وضوحا، وربما يلعب بذلك حجمها الذي يختلف عن الأعضاء الأخرى مثل العين والفم والرأس أيضا، فإذا ما استخدمت الأعضاء الصغيرة، لتخفي الأمور عن الآخرين، فإن الأعضاء الكبيرة تفضحها وهي تؤدي الدور نفسه الذي تقوم به الأعضاء الصغيرة، لهذا فإن لغة الجسد هي لغة ذات دلالات متنوعة، تتموضع حسب السياق كما يقال لكل مقام مقال، والمقال هنا بلغة الإشارة وليس باللغة المنطوقة.
إن الممثل لم يكن مقيدا بكل حركاته وإيماءاته بأحد على مدى السنوات والقرون الطويلة، حتى القرن التاسع عشر عندما صار خاضعا لسلطة المخرج، إن هذه الجزئية الثانية التي تشكل الممثل، والممثل ليس ملكا بشكل كامل للمخرج، بل إن هناك بعدا معرفيا مملوكا للممثل، ثم لديه بعدا جسديا آخر يملكه، وتبقى جزئية المخرج بنية تكميلية تتشكل مندمجة مع البنيتين، وهذا القول لا يقلل من أهمية المخرج ودوره الكبير في نقل المعرفة من خلال الممثل، بكل ما لديه من طاقة متنوعة... ولهذا سنجد أن الممثل أصبح من وجهة نظر المخرج يندرج في تقسيم كأن يكون الممثل أداة كما يبين ذلك أندري انطوان، ليكون الممثل آلة موسيقية محكمة الضبط يلعب بها المؤلف كما يريد ... والممثل الدمية كما يصفه جوردن كريغ حيث من واجبه أن يضمحل ثم يعوض بشخصية ساكنة تحمل اسم دمية ضخمة ليحصل على اسم أكثر شهرة ... والممثل المادة وهو القسم الثالث وهذا يتكفل به المخرج بقولبته وتكييف سلوكه وبث الحياة فيه خلال العرض.8 إن تلك التقسيمات تعد عدوا صارخا على الممثل، وكأنه لا يملك ذاك الجسد الخاص به، وهو يحمل الكثير من الإيقونات المعبرة بطرق شتى عن المعرفة التي يحملها، وكأنه لا يملك مرة أخرى روحا خاصة به وحده تكونت عبر فترات زمنية مختلفة، وهذه التقسيمات تبين عن إهمال الممثل على البعدين الفيزيائي والنفسي، وهي بالتالي تخلق منه شيئا ماديا، وكأنه خاو تماما من الفكر والروح . وندرك مرة أخرى مدى إخفاق الممثل أمام سطوة المخرج بدءا من القرن التاسع عشر، كأن التمسرح لم يعد تشاركيا، وهذا القيد الذي سيبدو على خشبة المسرح، سيجعل أداء الممثل هزيلا بأحيان كثيرة كلما أمعن المخرج بسلطته وتزمته، وكلما جعل مساحة أمام الممثل وللممثل، كلما جاء العرض المسرحي أكثر جمالية بكل المقاييس، ومن هنا ندرك الفوارق بين عرض مسرحي وآخر من خلال الفسحة أو المساحة الخالية التي تعطى للمثل، كي يؤدي دوره ويقدم تمسرحا مواجها بذلك المتلقي حامل المعرفة، والذي يعيد استقراءها مرة أخرى من خلال العرض المسرحي على خشبة المسرح. وربما يحلو للبعض بأن الحالة الجديدة التي خضع لها الممثل من خلال التمرين والتدريبات على العرض المسرحي، وهو كمادة خام " نص مسرحي " استطاع من خلال ما يملكه من جسد ورؤية معرفيه أن يكون هو المتحكم بخشبة المسرح، ومنفلتا من سلطة المخرج، لكن الواقع يبدو غير ذلك على خشبة المسرح، عندما نرى الممثل متعثرا بدوره والذي سيسمه من يشاهده بأنه لم يحفظ الدور المطلوب منه وإليه، وهذه المسألة الحفظية هي بالواقع ما تجعل الممثل رهينة للمخرج وتعليماته السلطوية، وخاصة عندما يكون جملة من الممثلين على خشبة المسرح، فتضيع شخصية ممثل بسبب حضور شخصية ممثل آخر، إن هذا الظهور على حساب الآخر هو ما يجعل عملية الأداء المسرحي من قبل الممثل كأنها حالة مربوطة بالإخراج، ولكن هذه الحالة قد تقل عندما يكون عدد الممثلين محدودا على خشبة المسرح، وربما تتلاشى في عرض المونودراما، وعرض الحكواتي كممثل فرد، لأن الحوارية على خشبة المسرح هي أكثر أنواع الأداء التمثيلي صعوبة، وهي أكثر أنواع التمثيل المسرحي التزاما بتعليمات المخرج، ليتساوق ما يقوم به ممثل مع ممثل آخر، وهنا تفسح الخشبة عن بروز ممثل على حساب آخر، ليعطى ممثل صفات الاستحسان وبدرجات متفاوته عن ممثل آخر، وهنا سندرك مدى التأثر النفسي للممثل، وهو سلاح بحدين إما أن يتحفز لينتج أفضل، أو أن يحبط ليكون ضعيفا، وهذا متعلق تماما بالمتلقي، الذي سيصنف الممثلين حسب ما قاموا به من دور إملائي أو دور تمثيلي فيه الكثير من الممثل وحضوره، مهما حفظ دوره سنكتشف أنه قادر على التمثيل، لأنه موجود أمامنا بشخصه وليس بحضورية تعليمات المخرج، له حضور فكري وروحي، ويرى ديكارت أن " الروح لها وظيفة خلق الأفكار والأحلام والصور والتمثلات "9 إن العلاقة بين الممثل والآخر، تتطلب وعيا ذهنيا بما يفعله الممثل وحضورا جسديا، لندرك أن الجسد هو من يقوم ببث إشارات، والقيام بحركات جسدية محفزة للآخر، لينتج فعلا ما بسبب تلك الإشارة الجسدية، وهذا حضور تفاعلي على خشبة المسرح بين الممثلين، لا بد أن يكون كل ممثل حاضرا ذهنيا وقادرا على حضورية الجسد دائما، بما يتسق مع الصورة الذهنية لدى الممثل. إن الإحساس جزء من الجسد، وعليه يمكن اعتبار أن " الذين يمارسون تمارين عضلية خلال سنوات، دون الاهتمام بالجسد الإحساسي أو دون تنمية النظرة الصافية تجاه الإحساس العضلي ليسوا متوازنين جيدا "10 من خلال هذه المقولة ندرك أن توازن الجسد لا بد أن يكون متوازنا ذهنيا وجسديا وإحساسا، بهذه المكونات الثلاثة نشكل الجسد الإنساني، وهذا الاهتمام بالإحساس، هو ما يجعل حضورية الجسد على خشبة المسرح، كحالة استمرارية متيقظة من حيث الانتباه والتفاعل الجسدي والأدائي الذي يصاحبة اللفظ والحوار . ومن خلال النظر بمقولة أرسطو وهو يتكلم عن الجسد والروح معا من خلال اجتماعهما كثنائي " بمقتضى اجتماعهما يؤثر الواحد ويتأثر الآخر، يحرِّك الواحد ويحرَّك الآخر، ولا تنتمي هذه العلاقات المتبادلة إلى أشياء تؤخذ بالمصادفة "11 وهذا يدل على اجتماع دائم بصورة متيقظة ومتشابكة معا لكل من الروح والجسد، ولا يوجد تناقض بينهما على اعتبار أن كلا منهما يمثل صورة الآخر.
تكمن أهمية الممثل في العرض المسرحي مقدرته على فهم الشخصية والدور الذي يلعبه على خشبة المسرح، إن امتلاك الممثل لطاقة خلاقة قادرة على تفهم الدور، هو ما يجعل الممثل متمكنا من خشبة المسرح وقادرا على التفاعل مع المتلقي، فالفضاء المسرحي هو الأهم لدى الممثل، وهذا الفضاء يتكون من جزئيات عديدة إضافة إلى المتلقي، الأمور الفنية التي تتوافر عند ممثل آخر وكذلك المخرج، والتقنية التي تتمحور على اتمام العرض المسرحي بقدرة عالية، من خلال اندماجها بالعرض كفكرة وأداء وتوصيل للمتلقي، ولهذا يشترط في الممثل أن تكون لديه الملكة للتمثيل، وليس العملية تبدو عادية من دون اعتماد على ذهنية قادرة على القيام بالعمل، ولهذا يبدو أن الممثل الذي يقوم بأي دور فاشل بطريقة أو بأخرى، لأن الفطرة والطبيعة الإنسانية للشخصية كل شخصية والمعرفة والثقافة التي تحملها كل شخصية، تجعل من كل شخصية ذات صفات مميزة تختلف عن الشخصية الأخرى، وعليه فإن قبول كل العروض وكل الأدوار، هو بمثابة اشتغال على عرض مسرحي كنوع من الرشوة واللامبالاة، وبالتالي هو عملية رديئة تنعكس سلبا على العرض المسرحي، ولذا يجب على الممثل الواثق بنفسه بما لديه من الإحساس والقدرات الجسدية والذهنية، أن لا يقبل كل عرض مسرحي يعرض عليه ليقوم به، مهما قيل عنه بأنه ممثل مبدع، فالممثل المبدع هو الذي يدرك تماما أين يكون وفي الوقت المناسب أيضا. عندما نتبين أهمية ودور الممثل على خشبة المسرح لا يستطيع أحد أن ينكر هذا سواء على مستوى الإخراج أو التمثيل أو النص والنقد، وأخيرا المتلقي، نؤكد على دور الممثل في نقل المعرفة إلى الآخرين، وهو يحمل على عاتقه خشبة المسرح من دون منازع، وهذا ما يجعل فسيفولد مايرخولد يصفه بأنه " العنصر الرئيسي على خشبة المسرح وكل ما هو خارج عنه مهم قدر كونه ضروريا له "12 إن الاهتمام بالمسرح والممثل أصبح يتم عبر الإخراج المسرحي، ليكون المخرج هو الوسيط، وليكون الإخراج الحديث " وظيفة ترمي إلى المحافظة على تماسك الفرجة ووسيلة فنية " 13 وبالنظر إلى الإخراج والمخرج الذي يتعامل مع النص والممثل، سواء أكان انتاجا فرديا أو جماعيا، فهو يهدف إلى توصيل رؤيته وتفسيره للعرض المسرحي إلى المتلقي، عبر الممثل حتى في ظل غياب التقنيات المسرحية كمسرح فقير لا يهتم كثيرا بالتقنيات، بقدر ما يهتم بتوصيل الرؤية الإخراجية، والرؤية التمثيلية عبر جسد الممثل، عندئذ سيقع كل العمل المسرحي على كاهل الممثل أثناء وقوفه على خشبة المسرح.
يبدو أنه من غير الممكن أن نجر أنفسنا إلى خشبة المسرح، ولا يخطر ببالنا أننا سنرى الممثل، نرى إنسانا حيا يلعب على خشبة المسرح، يرسم على الخشبة الحدث والحوار والجسد. إن هذا الجسد المعجون من الفكر والعاطفة والانفعال والحركة، هو الذي يدخل في علاقة جدلية على خشبة المسرح مع الممثلين، ومع نفسه ومع المتلقي والأشياء التي تؤثث الفضاء المسرحي، ومن خلال الجسد يستطيع الجميع أن يتفاعل معه حتى على مستوى التقنيات المسرحية التي تنبني أصلا على الجسد، ولا ينبني الجسد عليها، لماذا ؟ لأن الممثل هو الذي يصنع، يؤدي، يمثل، يقول، يتحرك، وبما أنه يفعل كل هذه الأشياء فهو بالتالي سيحرك الجميع . ولهذا فإن مقولة الروسي يفرينوف التي تحدث فيها عن الكلمات التي تحمل دورا مساعدا، ولكن العين هي التي تسمع أكثر مما تسمع الأذن ..14، هذا يؤكد أننا نرى الحركة، نرى الفعل، ونحس بالحركة ونحس بالفعل، يؤثر الممثل فينا ونتأثر بالفعل المنقول إلينا من الممثل، وبالتالي فإن المعرفة التي نطلبها على خشبة المسرح يحملها جسد الممثل الحي، إنه الإنسان الذي يخاطب فينا أشياء عدة، أولها العين وهي الجارحة التي ترى الحركة والفعل، والعقل الذي يتصور ما هية ما يحدث الآن، ويخاطب أجسادنا التي تبدو منفعلة ومتفاعلة مع الممثل، فنحن نستطيع كمتفرجين أن نحس بأجسادنا تلعب كما يلعب جسد الممثل، وهذا اللعب متقلب حسب الدور والحدث المعرفي الذي يرسل إلينا، فلا بد أن العاطفة تتغير من حالة إلى أخرى، فجسد المتلقي عندما يشاهد مأساة، يتفاعل مع طبيعة الحدث الذي يراه بالحزن والألم والتفكير الاستهجاني مثلا، وكذلك عندما يرى الكوميديا، يتحرك الجسد ويستجيب للفرح والأمل، والبعد الاستهجاني كحالة مضحكة تهكمية مثلا، لهذا فجسد الممثل الذي يحرك فينا كل الأشياء سواء المدركة أو التي نتحسسها بالبعد الخيالي أو استجابة للحركة الجسدية، والتي ربما تكون إرادية وغير إرادية، فالخوف لا يمكن أن يكون في لحظة ما إرادي لدى المتلقي لأنه حالة فجائية، وكذلك الفرح، أما لدى الممثل فهو حالة إرادية ؛ لأنه يملك معرفة مسبقة عما سيجري على خشبة المسرح، ولكننا نستثني من ذلك الارتجال الذي يكون خارج نطاق التدريب والمعرفة المسبقة في أحيان كثيرة.
إن مكونات الجسد متعددة منها الصوت، والذي بدأ الاهتمام به كجزئية جسدية، أي باعتباره لغة جسدية وليس كلاما " وليس من الضروري أن يكون هذا الصوت جميلا أو متناغما أو مركزا ونغما معبرا بعمق عن الشخصية بما تحمله من خصائص وفردية وحساسية " 15 من هذا نتعرف أن الصوت يعبر عن باطنية الممثل، وهذا التعبير هو ما ينقل إلى المتلقي للاندماج بما يقوم به الممثل، ولا يكون هذا الصوت ناتجا من فراغ أو من عدم، وإلا لكان العرض المسرحي فاقدا لقيمته، إن هذا الصوت يعبر عن الموقف كلغة جسدية يعبر عنها بالصراخ مثلا، حيث يكون هذا الصوت مفجوعا أو حزينا أو فرحا بطريقة ما من خلال الموقف الذي يقفه الممثل، وهو بالتالي التعبير الجسدي عن حالة الممثل، لما يمر به من مواقف كوسيلة تعبيرية.
إن المسرحي البولوني جرزي جروتوفسكي أعطى بعدا وأهمية كبيرة للممثل، بحيث من خلال حضوره على خشبة المسرح، ربما يتخلى عن الأشياء الكثيرة، والتي تبدو بنظره بهرجة، ولكن الممثل يستطيع أن يشيح نفسه عن تلك البهرجة والزخرفة، ويقف بجسده العاري وحده أمامنا من دون مكياج وأنوف كاذبة وبطون محشوة بالوسائد، وكل ما يتزين به الممثل قبل العرض في غرفة الملابس، إن هذا المسرح الفقير الذي نظّرإليه جروتوفسكي يقوم على حضورية الممثل، أي حضورية الجسد وهو ينتقل من حالة إلى أخرى ومن تجسيد شخصية إلى تجسيد آخر، فكل ما نطلبه على خشبة المسرح هو الممثل الذي يقف أمامنا، ننبهر بما يقوم به من دون أية زخرفة ونفاق زخرفي، قد لا يعني شيئا في عملية التواصل، وهذا ما يفعله جروتوفسكي يعطي بعدا وأهمية كبيرة للمتلقي الذي يدرك ما يحدث من خلال الجسد من دون زيف زائد، وكأنه مرة أخرى يجعل المتلقي يستشعر الإيهام بكل ما يراه أمامه، وهذا إيمان مطلق ربما نستطيع أن نسمه كذلك بثقة جروتوفسكي بالمتلقي، جروتوفسكي يبدو مثل ما يرخولد حيث يقول " يعطي الممثل الصدر وإن الممثل هو المركز ومركز دائرة الإبداع ... والممثل هو المسرح، وإذا كان في حوزته سحر يجذب المتفرج فإن مثل هذا السحر هو الذي يقوي فيه الإيمان بأنه هو المسرح "16 ستانسلافسكي يقدر الممثل، يثق بالممثل ولهذا يجعله يقوم بعملية الهضم والفهم للعمل بما لديه من مخزون معرفي سابق، كل هذا يتفاعل لينقل لنا عرضا مسرحيا يخاطب من خلاله المتلقي، عندئذ بعد كل عملية تدريب والهضم والفهم والإرسال تبدو العلاقة تشاركية ما بين الممثل والمتلقي، فالممثل عندئذ يتناسى المخرج " ميزانسين المخرج " ليدخل في علاقة حوارية جدلية بالتالي ما بين الممثل والمتلقي، وتتمثل هذه الحوارية بلغة جسدية للمتلقي من خلال تلقي العرض المسرحي، فهو ليس وعاء فارغا، بل مخزون معرفي وثقافي أيضا، هذه اللغة الحوارية ما بين المتلقي والممثل وهي تتمثل بحضوره الجسدي للمتلقي، وما بين الممثل الذي يتمثل بحضوره الجسدي والصوتي " اللفظ / الحكي " والإيقاع الحركي ما يخلص إليه العرض المسرحي، ليكون ما بين ممثل مبدع ومتلق واع، ولا نبالغ إذا ما قلنا إن المدرب الحقيقي للممثل المبدع المتلقي، والذي يعطي الدور الأهم للممثل، ليكون أساس العرض المسرحي... والجسد عند هوسرل من خلال التصور الفينومينولوجي على أنه " الهيئة والشكل المكاني العضوي الذي يكون في علاقة حميمية مع الكائن الحي، إنه محل الأحاسيس الجوانية، ومن ثم يمكن فهمه من وجهين، اولا باعتباره شيئا فيزيائيا وثانيا باعتباره مشاعر داخلية "17 ولا شك أن حضور الإنسان في العالم يكون من خلال الجسد . ومهما كان الذي يحدث أمامنا، فهو صورة لعرض الحدث بعيدا عن الواقع، أو محاكاة له ولكنه ليس الواقع، إن الحالة البصرية التي أشار إليها يفرينوف تبين عن مقدرة تمثل الممثل لجسده، فالجسد هو الذي يخاطبنا بعيدا عن الكلام أحيانا، أو من خلال المحاوره أحيانا أخرى، فتلك الصورة هي الشيء الأكثر حضورا أمامنا على الخشبة، والتي نتفاعل معها بعيدا عن حالة الممل، فالمسرح ليس خطابا عقليا بالكامل بقدر ما هو خطاب متعدد، عقلي حواري جسدي إحساس ومشاعر، وإيقونة الجسد قد تنوب عن الإيقونات الأخرى، فالجسد يحمل الخطاب العقلي والحواري والتعبير أيضا، وهذا ما يؤكده مايرخولد " فلا بد للمثل من أن يعمل على تطويع جسده لكي يستجيب بسرعة خاطفة للأوامر الصادرة إليه من الممثل – المخرج، الجسد هنا مادة إبداع، لكنها تحتاج إلى من ينظمها، ويضبطها وهو الممثل – الإنسان ... والمعادلة التي وضعها ن = أ+أ النون ترمز إلى الممثل وألف ترمز إلى المنظم الذي تصدر عنه الأوامر، وألف تعني جسد الممثل المنفذ للأوامر "18 ولكننا نلاحظ أن مايرخولد قد أغفل المتلقي وجسد المتلقي، فإن المتلقي أثناء العرض المسرحي لا بد أنه باث لعلامات تصل بطريقة أو بأخرى إلى الممثل على خشبة المسرح، فلا يجوز اعتبار المتلقي غفلا عما يدور أثناء العرض المسرحي، ويجب أن يتنبه إلى ذلك الممثل المتمثل بجسده الحضوري على خشبة المسرح، لم يعد المتلقي حالة جسمية هامدة يتلقى من دون تفاعل، إن المتلقي في العرض المسرحي يمثل الحالة التشاركية أثناء العرض المسرحي من دون نفاق، وربما بالنفاق من خلال التصفيق مثلا او الصفير أو الأصوات الاستهجانية التي تصدر من هنا أو هناك، إن ما قصده مايرخولد هو استسلام الممثل للأوامر الصادرة إليه من المخرج، وكأنها سيف مصلت لا مفر منه، ولكن الحقيقة الآن تبدو أن أوامر المخرج هي ما تنسجم تماما مع الممثل، لندرك أن الممثل هو الذي يصنع هاتيك الأوامر، وهو الذي يطبقها على خشبة المسرح، ولهذا نجد أن المخرج يميز بين ممثل وآخر من خلال امتلاك أدوات معينة عند ممثل تختلف عنها عند ممثل آخر، فليس كل ممثل يصلح لكل شيء على خشبة المسرح، وليس كل من يقف على خشبة المسرح يستطيع أن يمثل كما يجب أن يكون عليه التمثيل، لهذا فإن الممثل هو من يصنع تلك التعليمات بسب امتلاكه لعناصر معينة تجعله قادرا على القيام بالأداء التمثيلي المطلوب، وكأن المخرج أمسى متلقيا للعرض المسرحي أو متلقيا لجسد الممثل، وهو كذلك، فعندما يقف الممثل على خشبة المسرح تتلاشى كل الأشياء الأخرى بما فيها النص والمخرج، ولكننا نستطيع أن نتبين النص، ونستطيع أن نتبين المخرج، ونستطيع أن نعرف ما يحدث أمامنا من خلال جسد الممثل.
هنا نناقش أهمية الجسد كحضور فعلي ينوب عن الكلام، فتلك الحركات هي التي ستنوب عن الكلام، ولكن الجسد بالتالي هو اللغة التي نستطيع أن نتواصل معها وحتى بحضور الكلام. ولهذا نجد آرتو معولا على الجسد حينما يقول " إذا كان للموسيقى تأثير الأفاعي، فليس هذا لأنها تنقل إليها أفكارا روحية، بل لأنها الأفاعي تكون متمددة ومضطجعه على الأرض، ملتفة لفات طويلة، وتلامسها أجسادها على طولها تقريبا، لذا فإن الذبذبات التي تتوغل في الرمال تصلها كرسالة طويلة جدا ورفيعة، أنا أنوي أن أطبق على المتفرجين ما يفعله محبو الأفاعي، بحيث أجعلهم يصلون حتى إلى تلك النزوات الأرق والألطف عبر إحساسهم بها جسديا "19 إن قول آرتو يبين عن مدى استجابة جسد المتلقي لجسد الممثل بكل ما يعنيه هذا القول.
إن التعبير الانفعالي لدى الممثل، هو اللغة غير الشعورية التي تحدث للإنسان، وخاصة عندما نراه يستعمل جسده للتعبير عن مشاعره، وما يجيش في نفسه، وهذه اللغة اللاشعورية تعبر " عن الجوانب الأكثر حقيقية من ذواتنا من مشاعرنا وانفعالنا وحاجاتنا واتجاهنا، وهذه اللغة الأكثر صعوبة بكتابتها لكنها الأكثر أهمية في العلاقات الشخصية المتبادلة بيننا، وهي لغة جديرة بالاهتمام على نحو خاص من جانب الممثلين والراقصين والميميين أو الممثلين بالاشارات mimits وغيرهم من الفنانين المؤدين"20 ولكننا سنميز ما بين الحركات الجسدية كلغة لا شعورية وبين الحركة التي تنتج من العادة أو التقليد، ونشير بذلك مثلا إلى التحية، فكثيرا من الناس أو غالبيتهم يستعملون اليد للتعبير عن التحية برفعها أوضمها أو فتحها وهي مرافقة للتلفظ، فهذه الحركة وما يماثلها هي حركة شعورية ناتجة عن البعد الاجتماعي كعرف سائد بين الناس، ومثل هذه الحركات تبدو كثيرة في المجتمعات الانسانية سواء أكانت إيجابية تعبر عن قيمة خلقية مهذبة وعلاقات محترمة بين الناس، وتبين عن الرضى والقبول، أو تعبر عن قيمة سلبية غير مهذبة تبين عن الغضب والرفض... إن الممثل في التعبيرية " يجسد هذه الشخصية أو تلك، وتطالبه بأن يكون مترجما لحالات الروح، والممثل التعبيري لكي يحقق ذلك يجب أن يكون أداؤه فيزيقيا بالدرجة الأولى "21
***
نص الممثل/ الخيال : إن مفهوم النص لم يعد كما كان معروفا من قبل، وهنا نقصد به مفهوم النص المسرحي، حيث انبثق من خلال التمثيل المسرحي نص جديد، وهو نص الممثل، على اعتبار أن ما يقوم به الممثل، وهو حامل للمعرفة نص يستطيع أن يتبينه الآخر، ويستقرئة ويتأملة، ويقوم بعملية التأويل أيضا " وإن الممثل نفسه يقوم بتوليد نصه الخاص، وإن هذا النص خاصة عندما يفهم جيدا، وعندما يندمج مع الكلمات والحركة والإيماءة والرقص والموسيقى والإضاءة وغيرها من المكونات المسرحية، سيكون له تأثيره البالغ والمهم في الجمهور " 22
يبرز دور الممثل في لحظة تناسي النص المسرحي، وتناسي المخرج، ليكون الممثل وحده على خشبة المسرح حيث " يكون سيد الحركة والكلمة فوق الخشبة، فينقلنا من عالم ذاتي خيالي إلى عالم خارجي ركحي بواسطة لعبة الدرامي الذي يتكئ على الجانب الجسدي والفكري والنفسي "23
إن النص المسرحي لم يعد البداية الوحيدة، وليس النهايه في العرض المسرحي، ولكن الأداء التمثيلي على خشبة المسرح، يقوم بإنتاج نص مسرحي جديد، ولكن مبدعه هو الممثل، وهنا قد نشير أيضا إلى غيابية نص المخرج، فما يقوم به الممثل من حركات متنوعة ومختلفة، هو نص آخر يتلقاه المتفرج، ليبدو لنا أن النص المسرحي لم يبق مكتوبا من قبل المؤلف، ولم يبق ميزانسين المخرج المسرحي، بل صار لدينا نص ثالث، نص الممثل الذي يتواصل معه المتلقي. إن هذا النص هو ما يؤكده المخرج المسرحي الفرنسي جاك ليكوك " فإذا ما كان ستانسلافسكي يؤكد الواقعية النفسية للأداء، فإن ليكوك يؤكد الواقعية الجسمية والحركية له، أي قدرة الحركة على التعبير حتى لو كانت صامته، فاللغة هنا لغة الإيماءه التي تقوم على أساس التحرير للخيال الجسدي للمثل كما تشير أريان منشكين التي تأثرت بأفكار ليكوك "24
إن ستانسلافسكي كانت لديه طريقة لتعليم الخيال، أو تحفيز الخيال لدى الممثل حيث " يعتقد أنه يجب على الممثلين أن يصدقوا باحتمالية الأحداث في حياتهم الخاصة، قبل أن يتمكنوا من تصديق الأحداث على خشبة المسرح، وقد كان يعرف الطريقة الأولى للتعبير عن الحياة الانفعالية الصادقة للشخصية تكون من خلال الملاحظة والخيال واستخدام الحواس وأن يستدعي الممثل ويجتذب الانتباه إلى كل شيء يواجهه ليكتشف جوهره الحي وهذه الطريقة معروفة باسم الذاكرة المؤثرة أو الانفعالية وهي عملية يختار بها الممثل الانفعالات من خبرات حية مشابهة لتلك الشخصية ويستغل مطابقة أو ازدواج الأحاسيس الانفعالية داخل الدور، إن التذكر أو الاستدعاء الانفعالي يؤدي إلى الإلهام الذي يستخدم بواسطته الممثل أفضل ما بداخله ويحمله إلى فوق خشبة المسرح "25 هذا هو الممثل الذي ينقل معرفته إلى المتلقي من خلال الصورة الجسدية وما تتضمنه من فكر وانفعال، وهذا الفكر والانفعال ينتج الحركة التمثيلية التي يبرزها جسد الممثل... فالممثل هو المختبر الذي يدور عليه العمل المسرحي، ولا بد أن تكون هناك عناصر مساعده له لتفجير حركة الإبداع الخيالي، وقد أشار ستانسلافسكي إلى كلمة " لو " فهي " تبعث الحركة في الخيال الساكن، بينما تبني ظروف المسرحية الأساس لكلمة لو نفسها، وهما معا بالاشتراك والاتصال يساعدان في خلق عنصر الاشارة الداخلية "26 إن الانفعال الذي يحدثه الممثل على خشبة المسرح، يستدعي انفعالا لدى المتلقي، ويبدو المتلقي أيضا متأثرا بهذا الانفعال جسديا من خلال جسد الممثل.
إن حضورية الممثل المسرحي بجسده هو لحظة الترهين التي تدور فيها المسرحية، من خلال هذه اللحظة لن نجد المتلقي إلا متفاعلا مع ما يراه أمامه وهو الممثل. وإذا ما اعتبرنا أن الممثل له لغة خاصة من خلال حضورية الجسد على خشبة المسرح، فإننا لن نغفل – بعيدا عن المسرح الفقير – وجود المؤثرات الأخرى على أنها منجزات مسرحية أثناء العرض المسرحي، وربما ينطبق عليها أن تملك لغة أخرى مساعدة للممثل، ويتلقى هذه المنجزات المختلفة كالمخرج والسينوغرافي والديكور والإضاءة والموسيقى المتلقي، وهو الذي سيقوم بعملية التأويل لما يشاهده. ولو اعتبرنا أن المخرج هو من يفسر النص، وربما كتابته بطريقة جديدة يعتبر المساعد الأول للممثل، ولكن الممثل الذي يستقي التعليمات من المخرج لديه قدرة إدراكية لما سيقوم به أمام المتفرجين، والممثل يتلقى المساعدة من المنجزات الأخرى والتي تشكل العرض المسرحي، ويتلقاها مرة أخرى من المتلقي أيضا، فالمتلقي هو من يملك كتابة/ قراءة العرض المسرحي عن طريق التأويل بعد انتهاء العرض مباشرة، ويكون الحكم على العرض المسرحي نهائيا من قبل المتلقي، سواء أكان المتلقي العادي أو الناقد المتخصص بالمسرح بشكل عام . ومهما قام المخرج بتشذيب النص إذا جاز هذا التعبير، ليكون جاهزا حضوريا كعرض أمام المتفرج، فإن الممثل يقوم أيضا بتشذيب العرض ونص المخرج بما يملكه من قدرات معرفية وأدائية، وتكون اللعبة الأخيرة تتوقف تماما عند الممثل بعيدا في تلك اللحظة عن النص وعن المخرج.
ومهما يكن فإن العرض المسرحي تدخل فيه أشياء كثيرة على المستوى الفني وعلى المستوى التقني، ولكن أهمية العرض المسرحي بما ينقله من معارف إنسانية كبيرة تكمن في " قدرته على تحقيق التآلف والاندماج بين البشر على مستويات الجمالية والفكرية والاجتماعية ... فهو يجمع بين الخبرات النفسية والعضلية والخبرات الوجدانية والمعرفية ويوحد الفن والتكنولوجيا ويوثق الروابط بين المؤدي وبين الجمهور " 27يدل هذا على تكاملية العرض المسرحي ما بين التقني والفني والمعرفه والتواصل... وتبرز علاقة الممثل بالجمهور من خلال خطابين كما يبين ذلك هيلتون، وهذان الخطابان يتمثلان بالمباشرة مع الجمهور كخطاب موجه إليه، ومرة ثانية يكون على شكل المونولوج، كلا الخطابين يتطلبان قدرة تنبيهية للمتلقي على الجانب البصري كصورة، وعلى الجانب السمعي كصوت منطوق أو أصوات تسمع من أشياء أخرى تشارك في عملية التمثيل. وفي الخطاب المباشر يحاول " الممثل انتباه المتفرج إلى نفسه ويتحول إلى مرآة له .. 28
إن الممثل هو من يقوم بتنبيه المتلقي واستثارة حواسه وحالته النفسية، وانفعالاته من خلال ما يؤديه أمامه، وعلى هذا الأساس يتعلم الممثل من المتلقي وهو يقيس درجة الانفعال والإثارة التي أحدثها عند المتلقي، ليؤدي بالتالي إلى التغيير أو البحث عن دافعية جديدة، تتواصل مع المتلقي، نجد أن الممثل الذي يؤثر بالمتلقي فالمتلقي يؤثر بالممثل، لينتج بالتالي العمل المسرحي التشاركي، وهذا مقياس نجاح العرض المسرحي من فشله بعيدا عن أي نفاق من قبل المتلقي.
إن الحديث المباشر يعني إثارة الانتباه ولفت النظر إلى شخصية معينة ليتعاطف معها مثلا .. ولكن الخطاب المونولوجي الذي يؤديه الممثل وهو يخاطب نفسه، يبين عن أمرين أولهما مخاطبة الجمهور، وثانيهما الاعتراف الصادق أمام النفس، وكل هذا الخطاب الموجه من الممثل إلى المتلقي تزيد من حالة التيقظ لما يدور على خشبة المسرح، والعمل على ربط وتوثيق العلاقة بين الممثل والمتلقي... من خلال هذه العلاقة بين الممثل والمتلقي لا بد أننا سنلحظ مبدأ أفق التوقع، إن أفق التوقع يقيس درجة انتباه المتلقي من عدمه، وربما يقيس مرة ثانية مدى الانزياح في أفق التوقع، وقد يتفق المتلقي مع الممثل وقد لا يلتقيان، إن مبدأ أفق التوقع مهم في العملية التواصلية في العرض المسرحي، وخاصة أننا ندرك تماما أن العرض المسرحي موجه إلى جمهور، وهذا الجمهور سيبدو غير متجانس، ونجاح أفق التوقع دلالة على قدرة الممثل للامساك بتلابيب يقظة وانتباه المتلقي ليتابع العرض المسرحي من دون تشتت. ومرة أخرى إن هذا التوقع هو ما سيحكم بالتالي على العرض المسرحي، وعلى الممثل بشكل خاص. وهذا الحديث عن أفق التوقع يقود إلى الاشتباك في العرض المسرحي الذي يحدث ما بين الممثل والممثلين والتقنيات المسرحية والممثل مع ذاته من خلال العرض الذي يبرز الأحداث المسرحية، والاشتباك مع الجمهور من خلال مقدرة الممثل على " إنشاء عالم بديل مقنع ... فالأداء الجيد يجعل المتفرج يشعر وكأنه في قلب الأحداث المعروضة أمامه ويدفعه إلى الاشتباك الجدلي مع العرض وجوديا ومعرفيا " 29
والمتلقي بدوره و هو يتابع حركة الممثل يقوم بذلك " ليجلو عالم الشخصيات الخيالي ويفهم ظواهره المختلفة "30 و بناء على رؤية المتلقي يستطيع أن يتعرف أداء الممثل، ويستطيع أن يتبين مميزات الأداء التمثيلي ـ وبالتالي فهو من سيحكم على أداء الممثل كاستحسان أو رداءة، ولهذا تبدو علاقة الممثل بالمتلقي وطيدة، من أجل تدارك الموقف الذي جعل المتلقي، يبدو غير راض بأداء الممثل... الممثل الجيد هو الذي يستطيع أن يعي الحركات والسكنات، أي يعرف متى تأتي الحركة ومتى يكون السكون، فالمساحات الخالية من الحركة ومن الكلام، هي صورة تعبيرية ذهنية يعيها الممثل حسب النص المسرحي وتعليمات المخرج، ولهذا يتضح أن العمل المسرحي يبدو متكاملا عندما نحس القدرة الانسجامية في العرض ما بين الحركة والسكون وأداء الممثل الواعي. وهذا الأداء البصري له الحضور الأول لدى المتلقي، لأن العرض المسرحي يبدو كصورة مرئية تستهوي المتلقي أكثر بكثير من الصورة السمعية، والتي قد تقلل من عنصر التشويق والمتابعة من قبل الممثل، عندئذ تفقد المتعة في العرض مهما كانت تلك المتعة فكرية .
ولا بد من الإشارة إلى علاقة الممثل بالأشياء الأخرى، وهي لازمة ضرورية بعيدا مرة أخرى عن المسرح الفقير، وهذه الأشياء هي الملابس، والمكياج، حيث تكون منسجمة مع شخصية الممثل ومع الأداء بعيدا عن حدوث اختلالات غير مقصودة مثلا، فكل هذه الانسجامية هي ما تعطي للعرض أبعاده الجمالية المختلفة، وترقى إلى مستوى القبول والاندماج والاقناع... إن الإشارة إلى الممثل من خلال الأداء تتشارك معه أشياء أخرى، ويبدو كل ما يدخل في التمثيل فهو " ليس الممثل الحي فقط، بل أي عنصر يشارك في أداء الحدث وإن لم يكن بشرا "31 من هذا نتبين أن عملية التمثيل تدخل فيها أشياء كثيرة مادية، تشارك في الأداء التمثيلي، جنبا إلى جنب مع الممثل، فقد يكون كما يقول هلتون مجرد بناء معماريا كما يحدث في عروض الصوت والضوء، أو صوتا إذاعيا كما يحدث في الدراما الإذاعية .
والممثل لا يقف وحيدا على خشبة المسرح، من دون أن تحيط به جملة من الأشياء التي تؤثث الفضاء الركحي، وهذه الأشياء الضرورية للعمل المسرحي، برفقة الممثل حتى لو بدا أنه ممثل وحيد على خشبة المسرح كما في المونودراما، وتتعدد هذه الأشياء من حيث الحضور المعقول والمتلائم مع العرض المسرحي، فلابد أولا أن هناك أشياء يتعالق معها الممثل، وهذه الأشياء هي مكملات للشخصية حسب الموضوع المسرحي، فمثلا بروز المنضدة، او المسجل، أو المرآة أو المقعد أو الآنية ... إلخ، هي موجودة لاتمام العمل المسرحي، ليأتي بما يؤمل عليه أن يكون، وأن هذه الأشياء تتداخل في اللعبة المسرحية، فربما نجد الممثل يصبغ عليها الأنسنة فيخاطبها حتى لو كانت جمادات، وربما تدخل مع الممثل بحوار يدور ذهنيا في مخيلة الممثل، وربما تكون هذه الأشياء حميمية يفتقدها الممثل أو سببت له فرحا أو ألما ومعاناة، وبالتالي حتى لو قام بتحطيم بعضها فهي من منظور تشاركيتها في العرض المسرحي، وما يدور عليه الموضوع كحالة نفسية أو هذيانية، سواء أكانت واعية أو غير واعية.
ومن الأشياء الأخرى التي تكمل العرض المسرحي - بعيدا عن المسرح الفقير - تلك التقنيات التي تتوزع في العرض المسرحي منذ بدايته حتى نهايتة، وإن اختفت أحيانا لتظهر أحيانا أخرى حسب ما يتطلب اللعب المسرحي على خشبة الركح، فمثلا الإضاءة لم تعد بهرجة، وشيئا زائدا، وهي علاوة على ذلك لها وظيفة الإيضاح والظهور، وتبيان مفاصل الخشبة المسرحية، والفضاء المسرحي كله بما في ذلك المتلقي، ولا ننسى دورها بإبراز الحركة الجسدية، والملابس، والحالة النفسية والشعورية للمثل، ولا ننسى دورها أن لها وظيفة من حيث تحديد أبعاد الشخصية على خشبة المسرح، ومن حيث أبعاد الرسم الظلالي للشخصية في حالة نفسية معينة، ومن حيث اصباغ الهالة الكبيرة على الممثل في حالة يقوم بدور جبار أو مارد يدب الفزع في النفس البشرية، سواء أكان ذلك للشكل الخارجي أو المظهر الباطني، فالإضاءة قادرة على سبر غور النفس البشرية من الباطن، لنعرف ما تمور فيه، ويمكن للإضاءة أن تبرز هذا الشيء الذي ينتج عنه التضاؤل، وربما التلاشي في لحظة للشخصية التي تلعب الدور، وربما للإضاءة أن تساهم المتلقي برسم الصورة النفسية له، والتعاطف مع الشخصية سواء أكان بالمودة للشخصية المحبوبة والمرغوبة، أو بالشفقة على الشخصية القبيحة والتي تمثل البعد الإرهابي للنفس الإنسانية .
ومن الأمور الأخرى أيضا، علاقة الممثل بالأشياء التي يضعها على جسدة مثل الملابس والمكياج، وهذه الأمور تبرز مكانة الشخصية ليس من باب العبث، بل من زاوية ولوج هذه الأشياء التي لا يستطيع الإنسان أن يستغني عنها حتى في حياته اليومية المعيشية الواقعية، ولكنها على خشبة المسرح ليست واقعية بقدر ما تعبر عن الحدث الدرامي ورسم معالم الشخصية الركحية على الخشبة، إن الملابس الرثة قد تبين عن حالة الفقر، أو حالة اللامبالاة أو الجنون والهذيان، وهذا ما ينطبق مثلا على الشعر كقناع / لباس من نوع ما، هو كذلك يدخل في اللعب المسرحي، فالشعر المنفوش إذا لم يكن يجاري الموضة فهو سيدل على العبثية، وربما القذارة وعدم الاهتمام بالشخصية من حيث الملابس والشعر، توحي جميعها بحالة العدمية النفسية، التي يحس بها الممثل وهو الشخصية المسرحية على خشبة المسرح، ولا ننسى المكياج فهو في حالة الممثلة الشخصية المسرحية يعطي تصورات عدة، كأن تكون مهذبة، أو تكون جاهلة بالأمور العامة مثل استخدام هذه الأدوات، والتي ستبدو أنها حالة تمدن كموضة ومعرفة بطرق الموضة مثلا، وقد يعبر المكياج عن حالة العبثية للشخصية كحالة مرضية مرض فسيولوجي مثلا، أو مرض هذياني سيكولوجي، أو تعبر عن حالة الضياع والفقدان .
ومن الأمور الأخرى التي تتعالق مع الممثل، وجود الممثلين الآخرين على خشبة المسرح، حيث يدرك الممثل أن يدخل في علاقة تحاورية مع الممثلين الآخرين، ويعي تماما أنه يمثل حالة صراع تنبع من الاختلاف والاتفاق في وجهات النظر، أو طبيعة الأحداث التي تشكل حياة المجتمع في لحظة ما، وتتداخل العلاقة ما بين الرفض والقبول والتصارع، وربما تتداخل لتشي بحالة من النرفزة بسبب وجود الآخر، وبحالة من الود بسبب وجود الأخر أيضا، إلا أن علاقة الممثل مع الآخر الممثل، علاقة مقدرة بحكم العمل المسرحي والعرض المسرحي، ولا ننسى أن الشخصيات على الخشبة تتصارع بسبب الرؤى أو بسبب تشكيل الحدث، سواء أكان مرغوبا أو مرفوضا.
ومن الأمور الأخرى التي يتعالق معها الممثل على خشبة المسرح، الموسيقى، إن الموسيقى نتاج تفاعل الأحداث على خشبة المسرح، ونتاج الصراع بين الممثلين على خشبة المسرح، ونتاج التصارع المونولوجي للشخصية على خشبة المسرح، فهي تعبر عن الشخصية من منطلقين : المنطلق الجسدي الذي تتواءم معه الموسيقى، والمنطلق النفسي الذي يجب أن تتواءم معه الموسيقى، وقد يدخل الممثل بصراع مع هذه الموسيقى، والتي قد تذكرة بحالة ألم وعذاب كفراق مثلا، أو يدخل معها بحوارية مودة عندما تمثل له الموسيقى الروح الماضية القديمة التي يفقدها، ولكنه ربما يستحضرها الآن على خشبة المسرح، فتبدو العلاقة مع الموسيقى ودية، وقد تعبر الموسيقى عن حالة الرفض لأمورأخرى في الحياة مثلا، ولكنها تمثل على خشبة المسرح، فإيقاع الطبل والأدوات النحاسية ذات النغمة النشاز والقوية تعبر عن حالة من الحرب والقهر، ولكن الموسقى الهادئة وإن استخدمت فيها بعض الأدوات النحاسية مثلا، أوأي أداة أخرى، وحتى الطبل مثلا يعبر عن حالة احتفالية " عرس " إن انتقلت الموسيقى من حالة إلى أخرى وهي تتعالق مع الممثل برسم وتشكيل العرض المسرحي.
ومن الأمور الأخرى التي تتعالق بالفضاء المسرحي والممثل، ذاك التداخل الكبير جدا والمهم جدا والذي يحسب له الحساب الكبير، لاستمرارية العرض المسرحي، واستقبال النتائج النهائة عن العرض المسرحي، ذاك الشيء هو الجمهور، إن الجمهور هو أهم تعالق مع الممثل، والممثل يقف على خشبة المسرح من أجل التمسرح عن حالة ما أو موضوع ما، وأحداث معينة، لتنقل إلى المشاهد مهما كانت الغاية من ذلك، سواء أكان لمتعة وتسلية أو تأمل وتفكر، أو لنقل الفكر وتعليم الناس كما في المسرح السياسي، أو من أجل التغيير أيضا، أو من أجل التشاركية ونقل خبرات الناس إلى الآخرين، وتلك الخبرات هي بالطبع خبرات سابقة، ولكنها تصور الآن في الوقت الراهن أمام الجمهور، والذي يبدو واعيا لما يدور على خشبة المسرح، ويبدو أن هذا التعالق ستتضح معالمه عندما يستطيع الممثل قياس درجة الوعي والتيقظ والاهتمام لدى الجمهور حتى لو لم يقم بالتصفيق، مع أن التشجيع في العرض المسرح حافز مهم جدا للممثل، ولكن الممثل قد يستطيع قياس مدى تعالق المتلقي والاندماج في العرض المسرحي من خلال الجسد، فحركات الجسد المتململة مثلا، تعبر عن الاستجابة مهما كانت تلك الاستجابة كبعد اندماجي في العرض، أو استجابة كبعد عدم الرضى عما يرى ويسمع من قبل الممثل، وكذلك الأصوات التي تصدر من المتلقي فهي قد تعبر عن حالة القبول والاندماج مهما كانت منخفضة أو صاخبة، وقد تعبر عن حالة الاستهجان مهما كانت منخفضة أو صاخبة، وفي كل الحالات لا يستطيع الممثل أن ينفصل عن هذا التداخل المهم مع المتلقي، فالعرض المسرحي وجد من أجله ولهذا السبب جاء إلى المسرح. إن علاقة المسرح ككل، والممثل بشكل خاص بالجمهور يتمثل على اعتبار أن المسرح " ساحة اجتماعية، يجعل خبرة الأداء المسرحي الحي أو الموسيقي الحي أو ما شابه من أشكال الأداء مختلفة عن مشاهدة الأفلام في السينما أو التلفزيون، هو ذاك الشعور بأننا جزء من مناسبة اجتماعية ما أو من واقعة ما تحدث الآن أمامنا "32 إن ردة الفعل لدى المتفرج على أداء الممثل هو ما يجعل المسرح أكثر حميمية واجتماعية من الفنون الأخرى، لأن ردة الفعل في المسرح تكون حية وآنية.
***

الهوامش :
1 بوريس زاخوفا، فن الممثل والمخرج، ترجمة عبد الهادي الراوي، الأردن، عمان، ط1، وزارة الثقافة، 1996م .
2 المرجع نفسه،
3 المرجع نفسه،
4 المرجع نفسه،
5 حسن المنيعي، الجسد في المسرح، المركز الدولي لدراسة الفرجة، ط2 المغرب، 2010 م
6 المرجع نفسه
7 يوسف تيبس، تطور مفهوم الجسد من التامل الفلسفي إلى التصور العلمي، مجلة عالم الفكر المجلد 37 ع 4 المجلس الوطني للثقافة والفنون
والآداب، الكويت ن 2009
8 المنيعي، مرجع سابق
9 يوسف تيبس، مرجع سابق
10 المنيعي مرجع سابق
11 يوسف تيبس، مرجع سابق
12 نديم المعلا، الجسد والمسرح، مجلة عالم الفكر المجلد 37 ع 4 المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت ن 2009
13 المنيعي مرجع سابق
14 المعلا مرجع سابق
15 المنيعي مرجع سابق
16 المعلا، مرجع سابق
17 يوسف تيبس، مرجع سابق
18 المعلا مرجع سابق
19 المعلا مرجع سابق
20 جلين ويلسون، سيكولوجية فنون الاداء، ترجمة شاكر عبد الحميد، عالم المعرفة، الكويت 2000،
21 سعد أردش، المخرج في المسرح المعاصر، عالم المعرفة، الكويت، 1979
22 شاكر عبد الحميد، الخيال من الكهف إلى الواقع الافتراضي، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2009
23 نوال بن ابراهيم، دينامية التقي لدى المخرج والممثل، عالم الفكر مج25 ع1 1996.
24 شاكر عبد الحميد، مرجع سابق
25 المرجع نفسه
26 نوال بن ابراهيم ،مرجع سابق
27 جوليان هيلتون، نظرية العرض المسرحي، جوليان هلتون، ترجمة نهاد صليحة، مكتبة المسرح ع21سلسلة مركز الشارقة للإبداع
الفكري.
28 هيلتون مرجع سابق
29 هيلتون مرجع سابق
30 نوال بن ابراهيم مرجع سابق،
31 هيلتون مرجع سابق،
32 جلين ويلسون، سيكولوجية فنون الاداء، مرجع سابق،
***
منصور عمايرة كاتب وناقد مسرحي أردني
Buqasem_21@yahoo.com



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن