( إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ ) أى اصبح من الجن عندما عصى (أَمْرِ رَبِّهِ)

أحمد صبحى منصور

2012 / 8 / 15

أولا : مشكلتنا مع الحشرات الزاحفة
1 ـ يتكرر هذا دائما فى موقعنا ( أهل القرآن ).. يأتى الينا بعضهم مختلفا معنا لأن منهجه مخالف لمنهجنا ، فنعظه بالتى هى أحسن فيسىء الأدب ، فنطرده من الباب فيزحف من الثقوب ..هم أنواع كثيرون ..منهم من هو عدو لنا مبين ويدخل لتعطيل مسيرتنا وعند أول مواجهة يسفر عن أنيابه ، ومنهم من لا يقرأ ولا يفقه فى الاسلام إلا ما يحمله من أوزار التراث فإذا ووجه بما لا يعلم ثار ، ومنهم ومنهم .. تختلف خلفياتهم ولكن يتفقون جميعا فى أنهم يتبعون اسلوب الحشرات ، تطردهم من بيتك فيرجعون ، تغلق عليهم الباب فيتسللون من الشباك . لا يعرفون معنى للحياء أو الكرامة ، ولا يشعرون بالخجل أو العار .. أمامهم فضاء الانترنت على مصراعيه ، ولديهم آلاف المواقع التى تلعننا ليل نهار ، ولكنه يحلو له أن يأتى الى موقعنا وهو مدرسة لها منهج مخالف له فيصمم على التسلل اليه كلما طردناه .
نحن نكتب فى موقعنا وفى موقع وحيد خارج مدرستنا هو الحوار المتمدن ، ولا نفرض أنفسنا على أحد ، ولا نفرض فكرنا على أحد ،ولاسبيل لنا لأن نتغير . على النقيض منا توجد هذه الحشرات ، فلا سبيل لهذه الحشرات أن تتغير .. فمن شاء لنفسه أن يتحول الى حشرة ثم يفخر بما يفعل ، ويسعد بأننا نطرده فيعود لا يمكن أن يكون سوى حشرة ، بل أقل من الحشرة لأن الحشرة مخلوقة هكذا ، وهى بلا عقل ولا إدراك ، مجرد غرائز ..أما من يخلقه الله جل وعلا فى أحسن تقويم ثم يهبط باختياره الى أن يكون فى أسفل سافلين فهو أسوأ من الحشرات .. وقد قيل فى التراث فى سبب تسمية الذباب بالذباب : ( لأنه إذا ذٌبّ لاستقذاره آب لاستكباره ) أى إذا طردته مستقذرا عاد اليك مستكبرا.
2 ـ أكتب هذا بمناسبة تصميم إحدى الحشرات على التسلل الى موقعنا ( أهل القرآن ) ، يحاول جرّنا الى مناقشات فى موضوعات قلنا فيها رأينا من قبل ، وكما نؤكد تماما فنحن لا نفرض رأينا على أحد فى موقعنا أو خارجه ، وهناك مقالات كثيرة ينشرها الموقع تخالفنى فى الرآى ولأصحابها صفحتهم التى ينشرون فيها ما يرون ، وأجعل مقالاتهم التى لا أتفق معها رئيسة لتنال الاهتمام . ودائما نكرّر إننا مدرسة علمية فى فهم القرآن الكريم وتراث المسلمين ، وأننا كلنا أمام القرآن تلاميذ يتعلم بعضنا من بعض ، وأن ما أقوله هو وجهات نظر تحتمل الخطأ والصواب وتحتاج للنقد . وكثيرا ما يأتى نقد صائب فأسارع بالرجوع عن الخطأ ، وأشكر من نبهنى اليه . وأحيانا كثيرة أعلن أننى استفدت مما قاله فلان ،أو أننى عرفت هذا لأول مرة من فلان . وكل ذلك منشور فى الموقع .فالباحث دائما ( باحث ) عن الحق ، والباحث يعلم إنه يعرف أشياء ويجهل أشياء أكثر حتى فى مجال تخصصه ، ولو أفنى فيه مثلى أربعين عاما .
3 ـ الوجه الأول للمشكلة أن هناك تناقضا بينى وبين هذا الصنف من الجهلة أصحاب الهوى ، تراه سعيدا بجهله ويسعد به جهله . لا يريد أن يقرأ ، وإذا ووجه بخطئه وجاءته النصيحة بالتى هى أحسن لكى يقرا ، مع التأكيد له بأننا نحترح حريته فى الرأى ثار وأخذته العزّة بالإثم وبالجهل معا ، فإذا قيل له بكل أدب : هذا منهجنا وهذه مدرستنا التى تقبل النقد البنّاء ولا تقبل الجدل وتضييع الوقت إزدادت ثورته وظهرت حقيقته عدوا مبينا ، فإذا طردته عاد ، فإذا عاودت طرده عاد مفتخرا بأنه المطرود دائما العائد بعد طرده دائما ..لا يحسّ بالعار ..لأن من هم مثله لا إحساس لديهم ، يفتخرون بما يخجل منه البشر لأنهم أصبحوا حشرات وليسوا من البشر ..
الوجه الثانى للمشكلة هى مشكلة النشر عندى .. فبعد أربعين عاما من البحث والتأليف والتخصص لم أنشر إلا ثلثى ما كتبته ، وهناك مؤلفات كاملة لم تنشر على موقعنا وسبق نشرها كتبا من قبل ، وأخرى لم يسبق نشرها ، ومؤلفات لم تكتمل ، ومؤلفات على وشك الاكتمال ، وسلاسل مقالات انتهى معظمها وتم نشرها وبقى القليل ، وكتب تم نشر جزئها الأول ووعدت باستكمال بقية الاجزاء .. ولا أعرف متى سأكمل كل المطلوب فالوقت ضيق والجهد بعد الستين من العمر ضئيل وكليل ، والأعباء الواجبة تحتاج الى طاقم من المساعدين ..وفى خضم هذا كله تأتى هذه الحشرات تتكاسل عن قراءة ما سبق ، ولو قرأت لا تقتنع ، ونحن نحترم حرية كل إنسان فى الرأى والاختلاف ، ولكن هذه الحشرات تصمم على فرض رايها ونفسها علينا لتجبرنا على الالتفات اليها وأن نهشها و ( ننشها ) كل حين ، ونهشها وننشها فتعود .. تتفوق على الذباب والهاموش .
ثانيا : فتوى ( ابليس كان أى أصبح من الجن بعد عصيانه )
1 ـ هناك المئات من أشئلة الفتاوى ، والردود عليها ، وهناك آلاف الأسئلة تتراكم وأفزع من رؤيتها لأنه لا وقت لدى للرد عليها كلها . ومن الأسئلة التى تمت الاجابة عليها بإيجاز ـ طبقا لمنهج الرد على الفتاوى ـ هذا السؤال : ( يقول الله عز وجل فى القرآن الكريم (وإذ قال ربك للملائكة اسجدوا لادم إلا ابليس فسجدوا إلا ابليس كان من الجن ففسق عن امر ربه) هل ابليس من الجن ام من الملائكة كلنا نعلم ان ابليس من الجن . ارجو التوضيح ) وجاء الرد : ( آحمد صبحي منصور :ابليس كان من الملائكة فاصبح من الجن بعد طرده من الملأ الأعلى. فى قوله تعالى ( كان من الجن ) (كان) هنا تعنى (أصبح ) .وتاتى ( كان ) بمعنى أصبح كثيرا فى القرآن الكريم كقوله تعالى ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) ( البقرة 185 ) أى أصبح مريضا أو على سفر ، وكقوله جل وعلا ( وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ )( البقرة 196)أى فمن أصبح مريضا أو أصبح به أذى من رأسه . ومعلوم أن المريض قبل الذهاب للحج ليس عليه الحج لأنه غير مستطيع ،أى ان الآية الكريمة تشير الى شىء (أصبح) عليه الحاج من مرض أو أذى فى رأسه. ويلاحظ ان الأمر جاء للملائكة جميعا بالسجود ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) ( البقرة 34) فلو لم يكن من الملائكة ما تعين عليه السجود مثلهم ، ولأنه منهم ولأنه عصى وأبى واستكبر كما يقول رب العزة فقد (كان ) أى (أصبح ) من الكافرين ) . إنتهت الفتوى .
وجاء التأكيد على أن إبليس ( كان ) من الجن ، أى ( اصبح ) من الجن بعد عصيانه فى مواضع مختلفة من مقالاتى وكتبى ومنها بحث ( ليلة القدر ).
2 ـ جاءت حشرة لتقرأ بحث ( ليلة القدر ) المنشور من عدة سنوات حسبما أتذكر ففوجىء بما لايعلم فاعترض فنصحناه بالقراءة فأرغى وأزبد ، وأساء الأدب ، فطردناه ـ فتسلل من بين الشقوق ، وكلما طردنا لاستقذاره آب وعاد ـ مثل الذباب ـ لاستكباره . والعجيب أن إعتراضاته سبق التعرض اليها فى سياقات مختلفة فى مئات المقالات ومئات الفتاوى .. ولكنه لا يقرأ وليس محتاجا مثلنا للقراءة ، فهو سعيد بجهله ويسعد به جهله .
3 ـ ونعطى مزيدا من التوضيح فى إثبات أن ابليس ( كان ) من الملائكة أى ( اصبح من الملائكة ) بعد أن عصى واستكبر ( فكان) أى أصبح من الكافرين بعد أن سبق وقد ( كان ) من قبل من الملائكة ، بل من ( الملأ الأعلى ) منهم .
ثالثا : نبدأ بالمعانى المختلفة لكلمة ( كان ) فى القرآن الكريم .
لنا كتاب لم يكتمل بعد بعنوان : ( القرآن الكريم أكبر من قواعد النحو العربى ) . كان فى الأصل مقالان نشرتهما فى جريدة الخايج العربى فى أوائل التسعينيات لأؤكد فيها الاختلاف بين لسان القرآن وقواعد اللغة العربية الموضوعة فى العصر العباسى ، وكيف أنها تقاصرت عن فهم القرآن الكريم وأن القرآن الكريم أكبر من تك القواعد ،ويجب أن تخضع له تلك القواعد وليس العكس ، واستشهدت فى المقالين بأدلة قرآنية فكوفئت بهجوم من الحشرات السلفية فأعرضت عنهم بعدها . وأتمنى أن أكمل هذا الكتاب ليكون دراسة أصولية تاريخية تسير مع نشأة وإزدهار علم النحو ومدارسه بين البصرة والكوفة ، والتعارض بين علم النحو واللسان القرآنى . يهمنا هنا أنه فى هذا الكتاب ـ الذى لم يكتمل بعد ـ فصل خاص بالأزمنة يقارن بين روعة الاعجاز القرآنى فى موضوع الأزمنة وتهافت النحويين فى تقسيمها الى ماض ومضارع ومستقبل فقط . وفى هذا الفصل تعرضت للمعانى المختلفة لكلمة ( كان ) ومشتقاتها . وأنقل باختصار بعض ما جاء فيه من المعانى المختلفة لكلمة ( كان ):
1 ـ تأتى ( كان ) بمعنى النفى أو بمعنى ( ليس )، وذلك بصيغ مختلفة منها: أن ذلك لا يجوز أو لايصح أو لاينبغى ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ ) (آل عمران 79 )، ( وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ ) ( آل عمران 161 ) أى ليس ولا يصح للنبى أن يغل ويظلم. ومنها نفى الحدوث مستقبلا كقوله جل وعلا : ( مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء )( آل عمران 179 )
2 ـ ( كان ) بالمعنى المألوف : بمعنى حدث فى الماضى وانتهى : مثل قوله جلّ وعلا : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ) (البقرة 36 ) ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ) ( البقرة 213 ) وقوله جل وعلا :( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ )(آل عمران 93 ) وقوله سبحانه وتعالى عن المسيح والسيدة مريم عليهما السلام : (كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ )( المائدة 75 ).
3 ـ وعكس ما سبق تأتى ( كان ) بمعنى الثبوت والاستمرار والمستقبل ، وذلك فى سياقات مختلفة منها : 3/ 1 : أن يستمر الفرد على نفس عقيدته حتى الموت فينطبق عليه هذا الحكم ، مثل قوله جل وعلا :( إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا)(النساء 107)،( قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ.مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ )( البقرة 97 : 98 ).
3 / 2 : ومنها علاقة القرابة الثابتة والمستمرة : ( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) (الانعام 152 ) .
3/ 3 : فى الموضوعات التى تفيد الشرط وما يترتب عليه: ( قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (البقرة 94 : 95 ). ( وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء )( المائدة 81 )، ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )( آل عمران 110 ). ( وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ )( الانعام 35 )
3/ 4 : فى التشريع الذى يجب تطبيقه مستقبلا بعد نزول الوحى مثل تشريع قصر الصلاة فى الخوف: ( وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ ...) ( النساء 102 )، وفى ثبوت واستمرارية فرضية الصلاة : ( إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا ) ( النساء 103 ) ، والميراث : ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ) ( النساء 176 ).
4 ـ والأكثر أن تأتى (كان ) فى وصف الله جل وعلا ، ويكون معناها هنا فوق الزمان والمكان ، ونستشهد ببعض أمثلة من سورة النساء مما يفيد الثبوت والاستمرارية فوق الزمان وقبل الزمان فى وصف رب العزة : (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا : 1) ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا 23 ) ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا 24 ) ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا 29 ). ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا 43 ) ( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً 47 )( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا 56 ) ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا 58 )( وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا 85 ) ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا 86 ) ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا 94 ) وعشرات الآيات.
5 ـ ( كان ) بمعنى صار وأصبح :
( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) ( البقرة 34 ) أى أصبح من الكافرين بعد أن أبى وإستكبر، ومثله ( فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ (74) ( ص )، أى أصبح من الكافرين ، وهذا يفسّر قوله جل وعلا فى نفس الموضوع :( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ (50) ( الكهف )،أى أصبح من الجن لأنه فسق عن أمر ربه. ومنه قوله جل وعلا عن صيام رمضان : ( أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) ( فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ )(البقرة 184 : 185 )،أى من أصبح مريضا أو على سفر. ( وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) ( البقرة 196 ) أى من أصبح مريضا أو به أذى من رأسه .( وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ) ( البقرة 280 ) أى أصبح المدين ذا عسرة . ( فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ) (آل عمران 97 ) أى من دخل البيت الحرام أصبح آمنا . ( قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) (الانعام 11)، أى كيف أصبحت عاقبة الكافرين .( الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ )(النساء 141) أى أصبح أو صار لكم فتح ، وأصبح أو صار للكافرين نصيب .
6 ـ وقد تأتى (كان ) فى آية واحدة بمعانى مختلفة ، ومنها : ( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ، أى نفى كونه من اليهود والنصارى أو من المشركين، وإثبات كونه
حنيفا مسلما . ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا ) أى لا يصح ولا يجوز ولا ينبغى . ( وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً ...) كان هنا تعنى الاستمرارية فى إطار التشريع ،وتختتم الاية بقوله جل وعلا ( وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)(النساء 92 ) أى بما يفيد الثبوت الأزلى فوق الزمان والمكان. ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) هنا تأتى النتيجة مقدما وهى مترتبة على الشرط وهو ( تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ) ( آل عمران 67 ) وقوله جل وعلا هنا : (لَكَانَ خَيْرًا ) أى لأصبح خيرا لهم .
ما سبق جىء به موجزا بعد حذف التفصيلات لأنها تخرج عن موضوع المقال ، ونكتفى منه هنا بأن( كان ) لها معان مختلفة ، ومنها أن تأتى بمعنى ( اصبح ) و( صار ) ، وبهذا فإن ابليس كان من الجن أى أصبح وصار من الجن بعد عصيانه .
رابعا : نوعيتان للملائكة
1 ـ وسبقت الاشارة فى أحد مقالاتنا الى أن ملائكة الجحيم لم يتم خلقهم بعد ، وهذا فى التعليق على قوله جل وعلا :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) ( التحريم ). وألاية واضحة فى أن النار وقودها الناس والحجارة أى تتغذى وتستمر بوقودها من المشركين أصحاب النار بعد يوم الحساب، فإن النار لم تخلق بعد ، وستخلق مع يوم القيامة وحين يكون وقودها اصحابها وأهلها ، إذ سيؤتى يوم القيامة بجهنم: (كَلاَّ إِذَا دُكَّتْ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) ( الفجر )، وستبرز فجأة وتظهر لأصحابها : (وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) (الشعراء ). وإستمرار نارها مقترن بحطبها أو وقودها ، لذا يقول جل وعلا عن المشركين أنهم وقود جهنم :( وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)(آل عمران )، ويقول جل وعلا:( وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15)( الجن ) . وبالمناسبة فمعنى ( كان ) فى هذه الآية ( أصبح ) أى أصبحوا لجهنم حطبا . والتعبير بالماضى هنا من سمات الاسلوب القرآنى فى الحديث عن أحوال الآخرة .
2 ـ فمن أساليب القرآن التعبير بالماضى عن أحوال الآخرة المستقبلية ، فيقول جل وعلا محذرا المشركين من أن يكونوا وقودا للنار :(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)( البقرة ) فقال جل وعلا بأسلوب الماضى: (أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) ولكنه يفيد المستقبل . ومثله قوله جل وعلا عن قيام الساعة باسلوب الماضى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) ( الزمر ). وهذه ناحية أخرى من الاختلاف بين اللسان القرآنى وقواعد علم النحو فيما يخص الأزمنة.
3 ـ ونعود الى موضوعنا ، فقد إستشهد بعضهم خطأ فى موضوع ابليس بقوله جل وعلا عن ملائكة النار :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) ( التحريم ). فملائكة النار لا وجود لهم الآن ، بل سيتم خلقهم يوم القيامة بعد الحساب ، وهم لا يعصون الله جل وعلا ويفعلون ما يؤمرون .
3 ـ أكثر من هذا .. فالملائكة سيتعرضون للحساب ، وهذا سبقت لنا الكتابة فيه ، وبسرعة نشير الى قوله جل وعلا : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ(75)( الزمر ) (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً (95) ( مريم )(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً (38)( النبأ )
4 ـ أكثر من هذا أيضا ..فمن إعجاز القرآن الكريم أن مصطلح ( الملائكة ) المعرف بالألف واللام يأتى فقط عن الملائكة الموجودين فى هذه الدنيا وقبلها . أما من لا وجود له من الملائكة الآن فيأتى التعبير عنه بدون ألف ولام ، أى يقال ( ملائكة)،فيقول رب العزة عن ملائكة مفترضين لا وجود لهم فى الواقع :( قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) الاسراء ). (وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) الزخرف ) ويزعم المشركون كذبا : ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنزَلَ مَلائِكَةً (24) المؤمنون ). والصنف الآخر هم ملائكة النار الذين لا وجود لهم الآن ، ويأتى التعبير عنهم بدون ( أل ) كقوله جل وعلا ( وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً (31)( المدثر ) ويقول جل وعلا :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) ( التحريم ).
خامسا : أبليس و(الملأ الأعلى )
1 ـ جسد الانسان مخلوق من مادة عضوية طينية . أما نفسه فتنتمى الى البرزخ . والتفصيلات فى سلسلة مقالات :( لكل نفس بشرية جسدان )، الجسد المادى الذى ترتديه النفس فى الدنيا ، ثم جسدها المتكون من عملها فى الدنيا والذى سيكون به نعيمها أو عذابها يوم القيامة. مخلوقات عالم البرزخ من أنفس البشر والجن والملائكة ليست مادية ، لذا لا يمكن لنا رؤية الملائكة ـ مثلا ـ إلا عند التخلى عن الجسد المادى فى لحظة الاحتضار وفى اليوم الآخر .
2 ـ مخلوقات البرزخ هى من طاقة خالصة ، وهى تتنوع وتتدرج . والتعبير القرآنى عمّا لا نعرفه وما لا ندركه يأتى لنا بصورة تقربها من إدراكاتنا ، فالطاقة التى يعرفها الانسان حتى البدائى هى النار ، لذا تأتى الإشارة الى خلق الملائكة من نار ، وذلك فى أطار حوار ابليس مع رب العزة حين سجد الملائكة لآدم ورفض هو السجود فقال :( قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) (ص ). الملائكة مخلوقة من طاقة أو ( نار ) ، والجن مخلوق من طاقة أيضا ولكن مختلفة ، أو بالتعبير القرآنى (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)(الحجر).
3 ـ والملائكة مستويات ، فهناك الملائكة الموصوفون بأنهم من الملأ الأعلى كالروح أو جبريل،وهناك ملائكة الموت وملائكة تسجيل الأعمال. ولأنهم مخلوقون من طاقة فسرعتهم هائلة تطوى الزمان والمكان ، وهى أيضا مختلفة حسب مستويات تلك العوالم البرزخية، ويقول جل وعلا يقرّب لمداركنا هذه السرعات المذهلة وتفاوتها :( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(1)( فاطر1 )،فالمقياس هنا هو ( الجناح ) تشبيها بالطيور ، وتتفاوت السرعات أو الأجنحة ، الى ما لا نهاية .
4 ـ وتحت عالم الملائكة يوجد مستوى أدنى وهو عالم الجن ، وهم لا يستطيعون الدخول الى عالم الملأ الأعلى . هم فقط يحاولون التّمّاس معه ليتسمعوا أخباره فتطاردهم الشهب الحارقة :( وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعْ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً (9)( الجن ). إبليس كان من قبل من الملائكة من الملأ الأعلى ، ثم عصى فطرده الله جل وعلا من الملأ الأعلى وأهبطه الى مستوى الجن . وأصبح وذريته من الشياطين ـ كالجن ـ ممنوعين من الصعود الى المستوى الأعلى للملأ الأعلى : ( إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإٍ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) الصافات )،ألايات الكريمة تتحدث هنا عن الشياطين كما تحدثت الايات قبلها من سورة الجن عن الجن.
5 ـ ونعطى تفاصيل أكثر عن هبوط ابليس من ( الملأ الأعلى ) الى مستوى أقل ليكون من الجن ومع الجن :
يقول جل وعلا فى سورة ( ص ) عن موضوع سجود الملائكة فى الملأ الأعلى لآدم ورفض ابليس :( مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإٍ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَاسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78 ). أى طرده رب العزة من الملأ الأعلى .
ولأنه مطرود من الملأ الأعلى أوالمستوى الأعلى للملائكة فهذا الطرد هو هبوط الى الأسفل مع مستوى الجن ليكون من الجن ، ولذا يأتى التعبير فى نفس القصة بالهبوط فى سورة الأعراف : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ (13) .
6 ـ ولو تخيلنا أن إبليس جنى من الجن ، فكيف إلتحق بالملائكة وهو ليس منهم ؟ وكيف له أن يصعد الى الملأ الأعلى وهو من الجن وليس من الملائكة ، بل ليس من الملأ الأعلى من الملائكة ؟ إن الجن ممنوعون أصلا من الصعود للملأ الأعلى .
سادسا : الأمر بالسجود جاء لابليس لأنه من الملائكة
جاء الأمر لكل الملائكة ومنهم إبليس لأنه واحد منهم . وهذا واضح جدا من السياق القرآنى فى هذا الموضوع فى ناحيتين :
1 : وحدة الأمر لكل الملائكة وسجودهم جميعا إلّا ابليس :ففى سورة الاسراء : ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ (61)، وفى سورة طه: ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ (116) وفى سورة البقرة :( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ (34 )وفى سورة (ص ) : ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ )،وفى سورة الأعراف : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ (11) وفى سورة الحجر : (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)
2 : فى الحوار الذى دار بين رب العزة وابليس يأتى التأكيد على أن ابليس مأمور بالسجود كبقية الملائكة لأنه منهم ، ولو لم يكن من الملائكة لما سأله ربه عن عدم السجود ، ففى سورة الحجر: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) وفى سورة (ص )( قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَاسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ (75) وفى سورة الأعراف :( قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ )( 12 )
سابعا : من يزعم أن ابليس لم يكن من الملائكة يتهم رب العزة بالظلم
1 ـ لو تخيلنا أن إبليس من الجن إذن فلم يكن مأمورا بالسجود لأنه ليس من الملائكة . وعندئذ لا حرج عليه إن رفض السجود لأنه ليس مأمورا به أصلا . فالأمر للملائكة وهو مباشر لهم دون غيرهم من الجن.
2 ـ ولكن إبليس حين رفض السجود عوقب باللعن والطرد من الملأ الأعلى . وهذا يضعنا فى مأزق الاختيار بين موقفين : إن إبليس ملك من الملائكة وعصى أمر ربه فعوقب بما يستحق وهو الطرد من الملأ الأعلى ، وهذا هو العدل الالهى ، وإما زعمهم بأن ابليس لم يكن من الملائكة وإنما كان ولا يزال من الجن ، إذن فإن معاقبته بالطرد واللعن ظلم ..أى من يقول هذا الرأى يتهم رب العزة بالظلم ، أى إنه جل وعلا ظلم ابليس وعاقبه على أنه لم يطع أمرا ليس أبليس مأمورا به .. بإيجاز ..نحن بين أن نختار : إمّا إتهام رب العزة بالظلم ونجعل ابليس مظلوما ، وإمّا أن نختار الحق وهو أن ابليس كان ضمن الملائكة ومأمورا مثلهم بالسجود لآدم ، ولكنه أبى واستكبر فكان أى أصبح من الكافرين ، وكان أى اصبح من الجن بعد طرده من الملأ الأعلى ليصبح فى مستوى أدنى وأقل ، أى أصبح من الجن .
3 ـ المسلم وجهه لله جل وعلا حقا يدافع عن رب العزة مؤمنا أنه جل وعلا ليس ظلّاما للعالمين ، وأنه جل وعلا لا يظلم أحدا . أما الذى فى قلبه مرض فهو منحاز الى ابليس يدافع عنه ، ويجعل نفسه تابعا لابليس اللعين ، وفى سبيل ابليس يندفع فى الجدال فى الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير . هذا الصنف موجود فى كل زمان ومكان ، هو صنف من (الناس ) طالما يوجد هناك ( ناس ). وقد أخبر بهم رب العزة مسبقا فقال جل وعلا فى سورة الحج :( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) ) (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9)
أخيرا :
1 ـ من ألفاظ القرآن الكريم ( الدّابة ) و ( الدواب ). وقد تعرضنا لهذا فى القاموس القرآنى ، فالدابة هى كل ما يتحرك ويدبّ من الكائنات الحية فى هذا الكوكب الأرضى ، بدءا بالطفيليات والميكروبات والحشرات الى الانسان . والله جل وعلا يجعل الكافرين شرّ أنواع الدواب ، أى أسوأ من الحشرات والجراثيم ، يقول جل وعلا فى سورة الأنفال : ( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55). أى هم أسوا من الحشرات لأنهم لا يؤمنون . ولو أتعبت نفسك فى دعوتهم فلن يسمعوا لأنهم صمّ بكم عمى ، وحتى لو أسمعهم الله جل وعلا لأعرضوا : : ( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) .
2 ـ ولأنهم حشرات فلو طردتهم لعادوا اليك . فالحشرات تمتاز بعدة خواص: ( 1 ) المثابرة ، فلو طردتها عادت اليك ، ولم يحدث أن هششت ذبابة فخجلت وتركتك ، بل لا بد أن تعود . (2 ) الصمود ضد محاولات الانسان للقضاء عليها،فلم تفلح المبيدات فى القضاء على الذباب أو البعوض او الصراصير.(3 ) المهارة فى التخفى .
3 ـ وما يسرى على الدواب الحشرية يسرى ايضا على الدواب من الحشرات البشرية من الكفار الذين لا يؤمنون ، والذين هم صم بكم عمى لا يعقلون ، والذين يجادلون فى الله بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير . والدليل هو موقفهم من موقعنا ( أهل القرآن ) . تجد فيهم المثابرة والصمود والمهارة فى التخفى. ولهذا فكلما طردتهم من الباب تسللوا من الشقوق والثقوب ، ويحترفون التخفى خلف أسماء وهمية ، ولا تستبعد أن يكتب أحدهم تحت أى إسم ,اى وصف .. ولا تنفع معهم كل المبيدات الحشرية ..!!



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن