الحرية الإنسانية الجزء الثالث حريات الإنسان المتعلقة بحقوقه المعنوية

سعد شاكر شبلي
saad_shabli@yahoo.com

2012 / 7 / 21

الحرية مطلب إنساني ينسجم مع الفطرة السليمة، فيسعى الإنسان أن يكون حرّاً وغير مأسور في مختلف الميادين، المعنوية، الاجتماعية، والطبيعية وغيرها، وهناك نظرتان مختلفتان لمفهوم الحرية، الحرية بالمعنى الغربي، والحرية بالمعنى الإسلامي. فالغرب يرى أن الأساس الذي تبنى عليه الحرية هو ما يختاره الإنسان ولا يصل إلى منازعة حرية الآخرين، لكن يرد على هذه النظرة أمور: منها: احترام كل عقيدة يؤمن بها الإنسان حتى لو كانت خضوعاً أمام حجر أو عبادة للبقر، وهذا ما لا يقره عاقل،
واحترام اختيارات الإنسان حتى لو إنه اختار أن ينساق وراء شهواته المحرّمة مما يؤدّي إلى فقده لقيمته الإنسانية، وانحداره من رتبته الإنسانية إلى الرتبة الحيوانية.
أما الحرية بالمفهوم الإسلامي، فهي غير مفصولة عن الهدف الذي وجد الإنسان من أجله، وبما أن الإسلام هو دين الفطرة فنجد أن النصوص الإسلامية تتواءم مع هذه الفطرة، التي تستوجب تكامل الإنسان ورقيّه ونيله أرفع المراتب في هذا الوجود، فالإنسان العاقل حرٌ في دائرة الطريق الموصل إلى هدفه المنشود، فالتكاليف الإلهية والقوانين الربانيّة التي شرعها الله عز وجل تجلب إلى الإنسان المصالح وتدفع عنه المفاسد، فينتج عنها تكامله المعنوي والمادي، وبالتالي سعادته في الدارين الأولى والآخرة.
وفيما يختص بحريات الإنسان المتعلقة بحقوقه المعنوية فإنها تعني أن يكون الإنسان حرّاً داخل نفسه، متخلِّصاً من عبودية الأهواء النفسية والمعاصي، والمتعلُّقات الدنيوية بحيث ينظر إلى الدنيا أنها ممر للآخرة، وأما التحلل من التكليف الإلهي وإطلاق العنان للنفس فهو يفضي إلى عبودية من نوع أعمق . وقد قسم الفقه الغربي الحريات ذات المضمون المعنوي فجعلها تشمل الحريات المتعلقة بمصالح الأفراد المعنوية وهي العقيدة والعبادة وحرية الاجتماع وحرية الصحافة وحرية تكوين الجمعيات وحرية التعليم. أما الفقه العربي فقد قسم الحريات المتعلقة بمصالح الفرد المعنوية وجعلها تشمل حرية العقيدة والعبادة وحرية الاجتماع والرأي وتأليف الجمعيات وحرية الصحافة وحرية التعليم والتعلم وحق تقديم العرائض، أما ما يتعلق بهذه المقالة فإنها ستركز على الحريات التالية :-
أ . حرية الاعتقاد : هي إحدى الحرّيات التي نادت بها الديمقراطية تحت عنوان الحرّية الفكرية ، واحتلّت موقعاً مهمّاً في الأنظمة القائمة على أساس الديمقراطية، وهذه الحرّية تعني في الحضارة الغربية السماح لأيّ فرد في أن يفكّر كيفما شاء ، ويعتقد بما شاء ، ويُعلن عن أفكاره واعتقاداته ، ويدعو إليها كما يشاء ، شريطة أن لا يمسّ نفس فكرة الحرّية ، والأسس التي ترتكز عليها ، ولهذا الشرط نرى أن المجتمعات الديمقراطية تسعى إلى مناوئة الأفكار الفاشية التي تعارض أصل الحرّية، ومحاربتها، والتحديد من حريّتها ، أو القضاء عليها ، نظراً إلى أنّ هذه الأفكار تعارض بالصميم القاعدة الفكرية التي تقوم عليها فكرة الحريّة، والأسس الديمقراطية .أمّا الإسلام : فهو يختلف عن الديمقراطية في هذا الموقف ، وذلك بسبب اختلافه عن الديمقراطية في طبيعة القاعدة الفكرية التي يتبنّاها ، وهي التوحيد ، وربط الكون كلّه بربّ واحد ، فهو يسمح للفكر الإنساني بالانطلاق والإعلان عن نفسه ما لم يتمرّد على هذه القاعدة الفكرية ؛ لأنّها الأساس الحقيقي في رأي الإسلام لتوفير الحرّية للإنسان، ومنحه شخصيته الحرّة الكريمة التي لا تذوب أمام الشهوات ، ولا تركع بين يدي الأصنام .
إن مضمون هذه الحرية يكمن في أن يكون الإنسان حراً في معتقداته الدينية أو إلا يعتقد بوجود الأديان ، والعقيدة على هذا النحو أمر داخلي محض ليس له أية مظاهر خارجية . وإذا ما اعتقد الإنسان في ديانة ما أضحى له وجوباً الحق في العبادة أي ممارسة الشعائر الدينية وطقوس هذه الديانة . ومن الجدير بالذكر أن اتخاذ الدولة ديناً رسمياً لها لا يحول أبداً دون الحرية الدينية . بمعنى إن اختيار الإنسان لدين معين يريده بيقين، وعقيدة يرتضيها عن قناعة، دون أن يكرهه شخص آخر على ذلك . فإن الإكراه يفسد اختيار الإنسان، و يجعله مسلوب الإرادة، فينتفي بذلك رضاه واقتناعه ،لذلك رفع الإسلام الإكراه في العقيدة الدينية ، وكما جاء في قوله تعالى في سورة البقرة الآية 256 : [ لا إكراه في الدين] . كما أقر الإسلام أن الفكر والاعتقاد لا بد أن يتسم بالحرية، وأن أي إجبار للإنسان، أو تخويفه، أو تهديده على اعتناق دين أو مذهب أو فكر أمر باطل ومرفوض، لأنه لا يرسخ عقيدة في القلب، و لا يثبتها في الضمير. لذلك قال تعالى في سورة يونس الآية 99 : [ و لو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين] ، وقال أيضاً في سورة الغاشية الآيات 21 -22 : [ فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر ] كل هذه الآيات و غيرها ،تنفي الإكراه في الدين،و تثبت حق الإنسان في اختيار دينه الذي يؤمن به.غير إن حرية العقيدة يجب إن لا تثير مشاكل كثيرة نظراً لكونها قضية داخلية متعلقة بالإنسان ذاته وما يعتقد فيه ، فان حرية العبادة لا يتعارض معها حق الدولة في تنظيمها وتقيدها بحدود النظام العام والآداب العامة .
ب. حرية الرأي : تعد حرية الرأي بكونها الحرية الأم بالنسبة لطائفة الحريات المعنوية فإليها تعود كافة الحريات المعنوية الأخر مثل الصحافة والمسرح والسينما والإذاعة . وهذه الحرية تعني الحق الخالص والكامل لكل إنسان في أن يعبر عن آرائه وأفكاره بأية وسيلة من الوسائل . لهذا نص الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن على أن حرية تبادل الأفكار والآراء هي أثمن حق من حقوق الإنسان لذلك يحق لكل مواطن أن يتكلم ويكتب آرائه في صحف مطبوعة بكامل حريته .
كما نصت المادة التاسعة عشر من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على انه " لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية " .
كما تعد هذه الحرية من القضايا الشائكة والحساسة إذ أن الحدود التي ترسمها الدول أو المجاميع المانحة لهذه الحرية قد تتغير وفقا للظروف الأمنية والنسبة السكانية للأعراق والطوائف والديانات المختلفة التي تعيش ضمن الدولة أو المجموعة ، وأحيانا قد تلعب ظروف خارج نطاق الدولة أو المجموعة دورا في تغيير حدود الحريات.
ويعد الفيلسوف جون ستيوارت ميل ( (1806 - 1873 من أوائل المفكرين في العصر الحديث الذين نادوا بحرية التعبير عن أي رأي مهما كان هذا الرأي غير أخلاقيا في نظر البعض، حيث قال:" إذا كان كل البشر يمتلكون رأيا واحدا وكان هناك شخص واحد فقط يملك رأيا مخالفا فان إسكات هذا الشخص الوحيد لا يختلف عن قيام هذا الشخص الوحيد بإسكات كل بني البشر إذا توفرت له القوة ". وكان الحد الوحيد الذي وضعه الفيلسوف ميل لحدود حرية التعبير عبارة عن ما أطلق عليه " إلحاق الضرر " بشخص آخر ولا تزال هناك إلي هذا اليوم جدل عن ماهية الضرر ، فقد يختلف ما يعتبره الإنسان ضررا الحق به من مجتمع إلى آخر.

إما الإسلام فقد أكد بوضوح على حرية التعبير ، و ذلك من خلال ما ورد من نصوص في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ومن أمثلة ذلك :
أولا: أقر القرآن الكريم بتعددية الآراء وتنوعها ، وإن الاختلاف بين البشر ليس أمراً طبيعياً فحسب بل إيجابي حيث قال الله تعالى في سورة هود الآية 118 : [ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ] .
ثانيا : يوضح القرآن الكريم أن اختلاف الآراء قد يؤدي إلى النزاع والصراع ، وهنا قال تعالى في سورة النساء الآية 59 : [ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ ] .فالشيء المؤكد وجود آراء متعددة في المجتمع الإسلامي تعكس تنوعه وتياراته الفكرية.
ثالثا : ذكر القرآن الكريم أن المجتمع رجالاً ونساءً يتمتع بالحرية في التعبير عن آرائهم ومواقفهم، حيث قال الله تعالى في سورة التوبة الآية 71 : [ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ] . والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع لا يقتصر على الأمور الدينية والعبادات والعقائد فحسب بل كل النشاط الإنساني في التفكير والنقد والمعارضة والتقييم في شؤون السياسة والثقافة والاقتصاد.
ج‌. حرية التعلم : التعلم هو مجموعة من التغيرات السلوكية التي تظهر في سلوك المتعلمين نتيجة مرورهم بخبرة معينة ويستدل عليها من خلال قياس أدائهم المعرفي والنفسي والحركي والوجداني، ومفهوم التعلم مأخوذ من العلم الذي هو جمع المعرفة والمعلومات حول ظاهرة ما بطرق موضوعية تقوم على الملاحظة العلمية والتجريب بهدف تفسيرها والتنبؤ بها وضبطها. ويكون العلم بمثابة مجموعة من المعارف تعتمد في تحصيلها على منهج علمي موضوعي. ويمتد التعلم على امتداد حياة الإنسان ، ويختلف في كل مرحلة من المراحل نمو الإنسان من حيث الشكل والمضمون، ومن حيث الطرائق والأساليب، ومن حيث النتائج والآثار الناجمة عنه، ويتم في كل الأوقات، وفي جميع المجالات، ويتحقق بصورة واعية ومقصودة وإرادية حيناً، وبصورة عفوية وغير مقصودة ولا إرادية حيناً آخر.والتعلم هو المصدر الذي يزود السلوك بعناصر التغيير والتجديد، وهو الطاقة التي تجعله ديناميكياً مرناً، وتعمل على تحسينه وترقيته، أو جموده وانحطاطه، سوائه أو انحرافه، عمقه أو انتشاره .
كما يشتمل التعلم الإنساني على الأنماط السلوكية البسيطة والمعقدة منها، ويتجلى في مظاهر سلوكية متعددة عقلية واجتماعية وانفعالية ولغوية وحركية. فالتعلم مفهوم افتراضي يشير إلى عملية حيوية تحدث لدى الكائن البشري وتتمثل في التغير في الأنماط السلوكية وفي الخبرات، إذ من خلالها يستطيع الفرد السيطرة على البيئة المحيطة به والتكيف مع الأوضاع المتغيرة.
وفي الفلسفة الإسلامية يتجه حق حرية التعلم بطلب المعرفة الذي هو حق لكل فرد في أن يتعلم بالقدر الذي يتناسب مع مواهبه العقلية . وذلك من خلال التوجه نحو الإطار العام لمنهج المعرفة والذي حدده الله تعالى بالآيات الأولى التي نزلت في غار حراء ، وما بعدها من آيات في سورة العلق ، حين قال تعالى : [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَه (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19 )] .
وهنا يطلق القرآن الكريم على المعرفة أسم القراءة ؛ لأن المعرفة الإنسانية هي قراءة الإنسان حقائق الوجود ، أي شهودها والتعرف عليها ، وبموجب ذلك صنف القراءة – المعرفة – إلى قسمين رئيسين هما :
أولا : قراءة كتاب الخلق وهذه تشمل :-
(1) قراءة النشأة والحياة والمصير، أو آيات الكتاب ، وهي قراءة قام بها الرسل صلوات الله عليهم من خلال الوحي ، ثم بلغوها للذين أرسلوا إليهم .
(2) قراءة كتاب الكون ، أو آيات الآفاق ، وهي قراءة لمظاهر قدرة الله التي أودعها في الكون المتمثلة في تكوين الكون والقوانين التي تحكمها وتنظم وجودها ، وهذه القراءة يقوم بها العقل الإنساني والحواس البشرية من خلال العلماء الطبيعيين ويعبر عنها بالاكتشافات والاختراع .
(3) قراءة سفر الاجتماع الإنساني ، أو آيات الأنفس وتتضمن حركة المجتمعات الحضارية والنفسية والفكرية عبر العصور ، وهذه القراءة يقوم بها العقل البشري والحواس من خلال العلماء الاجتماعيين .
ثانيا : قراءة ما يسطره القلم في الأوراق والأسفار مما يقرؤه الإنسان في كتاب الخلق ويتوصل إليه الرسل والعلماء وتشتمل على :قراءة المعاني التي ترمز لها الحروف والكلمات والجمل التي يقوم بها كثير من الناس منذ بداية الشباب. وقراءة الحروف والكلمات والجمل وهذه يقوم بها الإنسان منذ سنوات طفولته.
وتأسياً على ما سبق فإن الحرية بمفهومها العام تشكل العمود الفقري في المنظومة الحقوقية، وتندرج ضمن المقومات الرئيسية للمجتمع الإنساني، وتعد عنصرا أساسيا لإتاحة المجال للإبداع والخلق، ولا يمكن بدونها تحقيق التطور والتقدم في حياة الإنسان؛ وهي لا تُنتج كل ما تنطوي عليه من قيم ومزايا إلا بارتباطها الوثيق مع المسؤولية التي يحدد مداها القانون. حيث يكون دور القانون في وقاية المجتمع من الاختلال والاضطراب، وصيانة قيمه من العبث، وحماية الأفراد ومصالحهم، وضمان التكافؤ بينهم، وتحقيق التوازن بين المصالح المختلفة، وهو أسمى تعبير عن إرادة الأمة.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن