خمس فرضيَّات حول الوحي

سعيد ناشيد
saidnachid@gmail.com

2012 / 7 / 21

ربّما نحن نقف اليوم أمام عتبة الحداثة السياسية. لكنّنا نقف عاجزين مترددين، خائفين متوجسين، نتقدّم بمقدار، ونتردّد أو نرتدّ بمقادير. لا نجرؤ على الولوج ولا نستطيع الرّجوع. أمامنا عقبة كأداء تعيقنا وتمنعنا : النص الديني. أي، المصاحف السبعة ( ناقص ستة )، إضافة إلى الأصحاح الأربعة ( زائد خمسة ).
حمل المسلمون النص الديني على كل الوجوه المحتملة، استنفذوا كل الممكنات التفسيرية المتاحة، وجرّبوا جميع المستويات التأويلية، من مناهج الظاهر إلى مدارج الباطن، لكن بلا جدوى. كما لو كانوا يحملون صخرة سيزيف إلى الأعلى ثم تتدحرج، فيعودون إليها.
هل وصل الإصلاح الديني واللاهوتي عند المسلمين إلى الباب المسدود، أم أننا عكس ذلك نحتاج إلى فرضيات تأسيسية جديدة؟
هذا بالضبط.
إمكانية الرِّهان على مرجعية النص القرآني لتقويض سلطة النص السني، بمعنى سلطة نصوص الحديث التي شهدت تضخماً تصاعدياً لا متناهيا، هي المنطلق المسوغ لمشروع المفكر العربي جورج طرابيشي، والمتولد عن ملحمة نقد نقد العقل العربي، بدءاً من نظرية العقل وانتهاء إلى من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث. وفي هذا يوافقه جل القرآنيين، أو نحسب الأمر كذلك.
لكن يبقى إجراء آخر، خطوة أخرى قبل ولوج عتبة الحداثة السياسية، أو هكذا نظن. ذلك أن الانغلاق اللاهوتي الذي لا نزال نتخبط في عتمته إلى اليوم، هو ثمرة انقلابين قديمين وليس مجرّد انقلاب واحد. نعم، هناك " انقلاب سني "، استعرضه جورج طرابيشي بإسهاب. وهو الانقلاب الذي حوّل الرسول إلى اقنوم ثان يجاور الذات الإلهية بل ويجاوزها أحياناً، ما أفسد مبدأ التوحيد الربوبي الذي هو القصد والغاية. لكن الحاصل أيضاً " انقلاب قرآني " بموجبه أصبح النص القرآني ذاته اقنوماً ثانيا أو ثالثاً.
وتحديداً نقول، تعرّض الإسلام الرّباني لانقلابين متتوليين أو متوازيين، انقلاب سني وانقلاب قرآني.
وفعلا، إذا كانت البشرية لا تزال في حاجة إلى فرضية الله -ليس بسبب معضلة الموت والفناء ومسألة قوانين الكون وشاعرية الوجود وحسب، وإنما بسبب أن الوجود نفسه هو نقص في الأصل ولغز بلا حل- فإن النّصوص الدينية "المقدّسة" لكافة الأديان –وضمنها الإسلام- تنتمي إلى السياق التواصلي والثقافي والأخلاقي للعالم القديم والمتقادم. وهي ما عادت بأي حال من أحوال التأويل تلبي حاجيات مجتمعات الحداثة السياسية والديمقراطية والحريات الفردية وحقوق الإنسان.
 سأحاول أن أبسط خمس فرضيات حول الوحي. وقبل ذلك، أودّ التذكير ابتداء بمنهجية بالغة الأهمية :
نستطيع أن نعتبر كل فرضية جديدة بأنها صالحة أو أكثر صلاحية، حين يكون بوسعها أن تفسر عدداً أكبر من الظواهر وتحل عددا أكبر من المشاكل. وعلى هذا النحو سنرى كيف أن فرضيتنا تستطيع بالفعل أن تفسر عدداً أكبر من الظواهر وتحل عدداً أكبر من المشاكل. وعلى الأقل، فإنها تفعل ذلك بنحو أكثر معقولية وانسجاماً.
وأيضاً، قبل أن أبسط تلك الفرضيات، أرى لزاماً أن أثير اعترافاً صريحاً، من باب صدق القول على الأقل :
عندما أطلعتُ صديقي الباحث السوري حسان جمالي على هذه الفرضية، أرسل لي شريطاً في موقع اليوتوب للمفكر و"عالم الدين" العراقي أحمد القبانجي، والذي لم أكن أعرفه وقتها إلاّ من خلال ترجماته لبعض مؤلفات المفكر الإيراني عبد الكريم سروش. وفي ذلك الشريط صادفت ما يشبه فرضيتـ(ي) الأساسية. ثم، أفادني أحد أعز أصدقائي، الحسن الشباني، بما يملكه من خزانة كتب ثرية، في الاطلاع على إحدى أهم مصادر هذا التصور عند المصلح الديني الإيراني الكبير عبد الكريم شروس نفسه، لا سيما كتابه الذي ترجمه أحمد القبانجي، بسط التجربة النبوية، والذي لم أكن قد اطلعت عليه من قبل.
غير أن توجيه أستاذي جورج طرابيشي، بما يملكه من معرفة واسعة بخرائط طرق المشهد الثقافي، كان أكثر أثراً وأشد عمقاً. فمن بين ما دلّني عليه، مؤلف غير معروف عندي، رغم أنه يمثل نوعاً من السبق ضمن استراتيجية نزع السحر عن لحظة الوحي. المقصود، كتاب الشخصية النبوية للأديب والشاعر العراقي معروف الرصافي، وهو الكتاب الذي أفادني أيّما فائدة في إعادة إسناد الفرضية التي تشغلني.
ملخص ما قاله الأديب والشاعر العراقي معروف الرصافي، وما يقوله المصلح الديني الإيراني عبد الكريم شروس، ويشرحه عالم الدين العراقي أحمد القبانجي، هو أن الوحي القرآني –يقول القبانجي- وحي إلهي فعلا ورباني بالفعل، لكنه ليس من عند الله أبداً. إنه بلغة القبانجي، ليس وحياً سماوياً ولكنه وحي وجداني. ولذلك، يكون الوحي تابعاً لشخصية الرّسول –يقول سروش- وليس العكس. ميزة سروش أنه يقول ذلك وهو يحمل صفة رجل دين. ميزة القبانجي أنه يستطيع أن يقول ذلك الكلام وهو يرتدي جبّة علماء الدين. أما أنا فلست أحظى بهذا الامتياز. لكني ربما كنت أيضاً من دون جبة أذهب غير مذهبهما العرفاني، وربما أبعد من ذلك قليلا.
مقصود القول، إننا وعلى سبيل التوضيح، نستطيع أن نقول بكل نزاهة معرفية وصدق إيماني : ليس الله هو الذي قال ( ويل لكل همزة لمزة ) كما وردت في القرآن ! لكن، مثل هذا الأسلوب يظل الصياغة التي عبر بها الرسول الأمين عن الوحي الرباني، والذي تلقاه في شكل إشارات غامضة فاضت عن معارج الغيب.
أما هذا الذي نسميه بالوحي ليس سوى نور إلهي –يقول القبانجي- يغمر قلب الرّسول.
الفرضية الأولى : الوحي كتخييل
ما يعتبره القبانجي نوراً إلهياً يغمر قلب الرسول، هو مجرّد تعبير قد لا يخلو من غموض، عن ما يسميه الفارابي وابن سينا وصدر الدين الشيرازي وابن عربي وسبينوزا بالقوة التخييلية للأنبياء والرّسل.
فرضية القوة التخييلية تجعل الوحي ليس ثمرة جدل نازل كما تصور بعض فلاسفة نظرية الفيض في الإسلام، وإنما هو محصلة جدل صاعد ينطلق من ذات الإنسان ليحاول الاتصال بمعارج الغيب الذي منها تفيض بعض الإشارات والعلامات فيلتقط بعضها بعض الناس في ظروف ثقافية دقيقة. سوى أن طريق الصعود هذه المرّة ليس العقل ( الرياضي ) وإنما الخيال ( الصوفي ). لذلك ليس غريبا أن يقول محمد إقبال عن النبوة " إنها ضرب من الوعي الصوفي "[1].
يحلل معروف الرصافي تجربة الوحي برؤية لا تنكر النبوة كما قد يظن البعض لكنها تحاول تجاوز النظرة السحرية إلى عالم النبوة، إذ يقول : " فلا ريب فيه أنه في خلوته بغار حيراء كان لا يفكر إلا في أمر النبوة، وإن تفكيره كان مقرونا بتخيّل جبريل وتصوره كيف يأتيه وكيف يناديه ويوحي إليه، ولا يستطيع طبعا أن يتخيله إلا بصورة إنسان. فهذه العوامل كلها من خلوته وطول تفكيره وتخيله وانطباع الصورة المخيلة في نفسه هي التي أثرت في أعصابه حتى اعترته حالة رأى فيها جبريل في أفق السماء، وهو في الحقيقة ليس في أفق السماء، بل في ذهنه ونفسه، وحتى سمع منه ما كان يفكر فيه : ( يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل ) "[2].
لقد كان رسول الإسلام قوي الخيال. " وأعظم دليل على سعة خياله وقوته ما جاء في القرآن وفي الأحاديث النبوية من وصف الجنة وجهنم، ولا حاجة إلى إيراده لأنه معلوم ومذكور في الكتب. ولا ريب أن الجنة التي وصفها محمد بأوصافها الباهرة المعلومة إنما هي من بنات خياله الواسع القوي، لأنها بهذا الشكل المبهج العجيب غير مذكورة في التوراة ولا في الإنجيل، فجنة محمد جديرة بأن تكون المثل الأعلى للسعادة المخيلة في الحياة "[3].
بقي فقط أن نضيف استدراكا، ربما وعاه وأدركه معروف الرصافي نفسه عندما قال عن الرسول إن " عقليته لا تتجاوز في تفوقها إلا العقلية العربية في زمانه وبيئته "[4].
ما يعني إن الخيال الذي يصف الجنّة أو الجحيم، لا يتخطى المتخيل الإدراكي لمجتمع قدامي ينتمي إلى العالم القديم.
إلا أن قوة الخيال في تجربة النبوة تظل معطى أساسياً. لذلك، عادة ما كان الرّسول الكريم يعمد إلى تنشيط قدراته التخييلية عبر ثلاث طرق وأساليب رئيسية :
أولاً، كان يختار فترات معينة للعزلة والاعتكاف، حيث كان ينعزل في غار حيراء بجبل النور قرب مكة، على سبيل المثال، وذلك لمدة شهر في العام ولعدة سنوات متتالية.
ثانياً، كان يختار فترات الليل للاعتكاف الرّوحي والتعبّدي. ولا شك أن سكينة الليل تساهم في تنشيط قدرة الإنسان على الخيال. 
ثالثاً، كان يلجأ إلى الصوم ويمتنع عن الأكل والشرب والجنس لفترات معينة. وهي التجربة التي تساعد على تنشيط روح الخيال من باب التعويض عن "الحرمان" المادي والجسدي.
في توضيحه لهذه المعطيات التحليلية، كتب تيودور نولدكه في مؤلفه الضخم  تاريخ القرآن : " ولا يجوز أن نغفل عن أن معظم الوحي حدث ليلا كما يبدو، حين تكون النفس أكثر قابلية لاستقبال التخيلات والانطباعات النفسية عما هي عليه في وضح النهار. ونحن نعلم بالتأكيد أن محمداً كثيراً ما قضى الليل متهجداً وأنه كثيراً ما صام. وتشتدّ بالصيام القدرة على مشاهدة الرؤى كما اكتشفت الفيزيولوجيا الحديثة مؤخراً "[5].
وأيا يكن، فأهم ميزة تُميز الرّسل بحسب تأكيد ابن عربي وتوضيح سبينوزا، ليست العلم أو المعرفة، وإنما هي ملكة الخيال، والتي هي وسيلة الاتصال مع الصور التي تفيض عن العقل الكلي. يقول سبينوزا عن آيات الوحي بأنها نظراً إلى أن مقصودها لم يكن سوى إقناع الأنبياء " فقد كانت هذه الآيات تتفاوت تبعاً لآراء الأنبياء وقدراتهم، بحيث لا يمكن للآية التي تعطي اليقين لهذا النبي أن تقنع آخر مشبعا بآراء مختلفة. لذلك، اختلفت الآيات باختلاف الأنبياء وكذلك اختلف الوحي عند كل نبي طبقاً لمزاجه على النحو التالي : إذا كان النبي ذا مزاج مرح توحى إليه الحوادث التي تعطي الناس الفرح مثل الانتصارات والسلام، وبالفعل نجد أن من لهم هذا المزاج قد اعتادوا أن يتخيلوا أموراً كهذه. وعلى العكس من ذلك، إذا كان النبي ذا مزاج حزين توحى إليه الشرور كالحرب والعذاب، وإذا كان النبي رحيما ألوفا غضوبا قاسيا... كان قادراً على تلقي هذا الوحي أو ذاك. كذلك فإن فوارق الخيال تكون على النحو الآتي : إذا كان النبي مرهفاً فإنه يدرك فكر الله ويعبر عنه بأسلوب مرهف أيضا. وإذا كان مهوشا أدركه مهوشاً. ومثل هذا يصدق على الوحي الذي يتمثل بالصورة المجازية : فإذا كان النبي من أهل الريف كانت صورة الوحي متضمنة للأبقار والجاموس، وإذا كان جنديا تكون صورة قواد وجيش، وأخيراً إذا كان رجل بلاط، تمثل له عرش ملك وما شابه ذلك"[6].
هذه الأطروحة قد نجد لها جذوراً أو إرهاصات في التراث الصوفي الإسلامي.  إذ كتب عبد الكريم شروس في أحد هوامش بسط التجربة النبوية : " مما يجدر ذكره كلام سلطان ولد، ابن مولانا جلال الدين الرّومي، في بيان العلاقة بين الشرائع السماوية وصفات الأنبياء وخصوصياتهم. يقول : إن اختلاف الشرائع يعود إلى اختلاف خصال الأنبياء، فكل شريعة جاءت متناسبة مع مزاج وطبيعة النبي المبعوث بها "[7].
على ضوء هذه الأطروحة التي تحاول قدر الإمكان، طرد السحر من الدين، بوسعنا أن نلاحظ بأن الوحي عند خاتم الأنبياء والرسل، قد جاء شاملا لكل هذا التنوع في الخيال والمزاج والمشاعر والانفعالات، وذلك بسبب الحساسية النفسية المفرطة التي ميزت النبي محمد وجعلته ينفعل ويتفاعل بحدّة مع مختلف الظواهر الاجتماعية التي عاصرها أو عايشها. وكثيرا ما كان يدخل في صراع نفسي مع رغباته المتنافرة أحيانا. وكثيراً ما وبّخه وأنبه الوحي القرآني نفسه في إطار الصراع النفسي الذي كان يعيشه. وإن كانت لنبي الإسلام من شهامة، فهي أنه لم يتحرج من تضمين القرآن لسور وآيات توبخه وتؤنبه، ليقرأها الناس حتى في صلواتهم.
عموما، تلك التوترات "الإنسانية" انعكست بدورها على المزاج العام للآيات القرآنية، والتي جاء بعضها حاداً وعنيفاً، وبعضها الآخر جاء مرناً ومتسامحاً، وبعضها يكاد يضرب بعضها الآخر، وهكذا دواليك.
الفرضية الثانية : الوحي كتأويل
آيات القرآن الرباني –والتي هي في الأصل آيات وحيانية وليست نصاً كلاميا كتبه الله في لوح سماوي أو رسالة محمولة من السماء- هي مجرد تأويل لغوي قام به الرسول الأمين للإشارات الإلهية الغامضة، والتي كان يحاول إدراكها بقوته التخييلية.
وفي ذلك نلاحظ، ثلاث سمات طبعت مخيلة الرّسول أثناء التقاط الإشارات الإلهية ومحاولة ترجمتها إلى عبارات بشرية :
1- انها لم تكن دائماً على نفس المرتبة من القوة والإتقان. وهذا ما يفسر ظاهرة وجود آيات محكمات وآيات متشابهات. وهو ما تعبر عنه الآية : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخرٌ متشابهات) سورة آل عمران، الآية 7.
2- انها ليست دائما على نفس المستوى من القيمة والأفضلية، وأن هناك آيات " خير " من آيات أخرى، بحسب ما تعبر عنه الآية ( ما ننسخ من آية أو نُنسِها نأت بخير منها أو مثلها ) البقرة- 106. وهناك آيات " أحسن " من آيات أخرى، بحسب ما تؤكده الآية ( واتبعوا أحسن  ما أنزل إليكم من ربكم ) سورة الزمر، الآية 55.
3- انها ليست معصومة عن الخطأ، وذلك سواء بسبب الصراع النفسي الذي عانى منه الرسول، أو جراء ظروف إملاء وكتابة المصاحف قبل ظهور قواعد جامعة للغة العربية. وهذان الاعتباران يفسران ظاهرتين اثنتين :
أولاهما، تسرب بعض الآيات الشيطانية قبل نسخها، فيما تبرره الآية ( ما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فنسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ) سورة الحج، الآية 52.
ثانيهما، تسرّب بعض الأخطاء النحوية إلى النسخة المكتوبة للمصحف. سنذكر بعضها في حينه.
الفرضية الثالثة : ختم النبوّة لا يعني كمال الوحي
والآن، كيف كان الرّسول الأمين يحول الإشارات الإلهية إلى عبارات بشرية؟
لا جواب في التراث.
سنعول على المقاربة التحليلية، أي إننا سنأتمر بأوامر المنطق والبرهان.
على سبيل التقريب، لقد تمثل الوجود الكلي للرّسول في صورة فهمها واستوعبها بما هو متاح له وقتها من ألفاظ وعبارات وأساليب تعبيرية وتصورات ذهنية. ثم ترجمها إلى عبارات بسيطة تصف الله بأنه ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن ) سورة الحديد، الآية 3.
وأيضا، لقد تمثلت له الذات الإلهية في شكل صورة توحي بمبدأ الصيرورة الكونية الجارفة، والتي أدركها الحكيم هيراقليطس، لكن الرسول، لم يجد ضمن المتاح اللغوي والثقافي العربي وقتها ما يعبر به عن تلك الصورة سوى عبارة بسيطة تصف الله، والذي هو الوجود الكلي، بأنه ( كل يوم هو في شأن ) سورة الرحمان، الآية 29.
وكثيراً ما تمثل له مقام الربوبية في شكل يبعث على الإحساس بمقام ملك عظيم جالس على عرشه، أو هكذا رآه. غير أنه لم يجد ضمن الجهاز المفاهيمي للغة كانت لا تزال في طور البناء والتشكل، ما يعبر به عن مثل هذا التمثل سوى أن يكتفي بتوصيف حسي ومباشر يقول : ( ثم استوى على العرش ) سورة الأعراف، الآية 54، أو ( الرّحمان على العرش استوى ) سورة طه، الآية 5.
بل، ليست اللغة مجرّد أداة للتعبير عن الصور الوحيانية التي يتلقاها الوجدان أو المخيلة. وإنما هي الوعاء الذي يمنح للتمثلات شكلها. ولذلك، فإن اللغة العربية، التي كانت لا تزال في طور البناء والتشكل، قد ساهمت في تحديد الشكل اللغوي والمفاهيمي للوحي الإسلامي.
وبما أن اللغة التعبيرية كانت لا تزال في طور التشكل وتفتقد إلى القواعد النحوية والمفاهيم النظرية، فقد جاء الوحي بهذا المعنى " ناقصاً ".
ولا يظنّن أحد أن نقص الوحي يعني انتقاصا من الذات الإلهية. أبدا، فهو بالأحرى دليل على نقص اللغة البشرية وعوز العقل الإنساني، ودليل على انفراد الله بمطلق الكمال.
لقد فهم المسلمون مفهوم ختم النبوة بنحو خاطئ؛ إذ ظنوا أن ختم النبوة رديف لاكتمال وكمال الوحي، ومن ثمة ضرورة الاعتماد عليه إلى أن يرث الله الأرض وما عليها. إلا أن كمال النبوة لا يعني كمال الوحي.
ولربما كان محمد إقبال أول من تنبه إلى خطأ الخلط بين كمال النبوة وكمال الوحي، كتب يقول : " إن النبوة في الإسلام لتبلغ كمالها في إدراكها الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها. وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمدا إلى الأبد على مقود يقاد منه، وأن الإنسان، لكي يحصل كمال معرفته لنفسه، ينبغي أن يُترك ليعتمد في النهاية على رسائله [أو وسائله] هو "[8].
فما عساها تكون تلك الوسائل، إن لم تكن مستمدة من داخل الخطاب الفلسفي هذه المرّة؟
لقد استطاع فلاسفة الإسلام بنحو كبير أن يوسعوا من الوعاء المفاهيمي لكي يصير أكثر قدرة على استيعاب تصور أكثر " معقولية " للذات الإلهية، إذ يقوم على مفاهيم الوحدة والقدم والامتداد البسيط واللامتناهي، وعدم احتلال أي حيز في الزمان والمكان. ولذلك، حتى الفقهاء الذين اضطروا إلى البحث عن "معقولية" ما للذات الإلهية، لم يجدوا بدّاً من الاعتماد على نصوص الفلاسفة في هذا المضمار، كما جرى لابن تيمية نفسه.
غير أن الفلاسفة الذين طوّروا الخطاب اللاهوتي، تمردوا في المقابل على "سلطة" النص الديني. وهذا ما لم يغفره لهم الفقهاء، لا سيما منهم من يجيشون العوام ويهيجون الأنام.
 
الفرضيّة الرّابعة : الآيات كعلامات
إذا كان الوحي الرباني آيات، فإن الآيات وفق التحديد القرآني، ليست نصا مغلقاً أو نصوصاً مقدسة ولا هي مدونة أحكام وأوامر، وإنما هي علامات وإشارات ربانية يفيض بها الكون من معارج الغيب. كما أن الوحي نفسه وفق التوصيف القرآني وبحسب رؤية محمد إقبال، هو " صفة عامة من صفات الوجود"[9].
( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ) سورة فصلت، الآية 37.
( ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ) سورة الروم، الآية 32.
( انّ في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون ) سورة يونس، الآية 6.
بعض تلك الآيات والعلامات والإشارات الربانية، منظور ومرئي للجميع، وأما بعضها الآخر فلا يُدرك إلا من خلال أعلى مراتب المخيلة.
ولذلك لا غرابة أن يرى النبي محمد نفسه مخاطباً وحيداً أو رئيسيا في الكثير من آيات القرآن؛ طالما أنه كان الشخص الأقدر على تمثل أفق التوحيد الربوبي للإسلام الخالص :
- قل هو الله أحد... (الإخلاص1).
- قل أعوذ برب... (الناس1 والفلق1).
- قل يا أيها الكافرون... (الكافرون1).
- قل أوحي إليّ أنه استمع... قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا. قل إني لن يجيرني من الله أحد... (الجن 1 و21 و22).
- يا أيها الزمل قم الليل... إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا... واصبر على ما يقولون... (المزمل1... و4 ... و9...).
- يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر... (المدثر1 و2 و3...).
- ألم نشرح لك صدرك... (الشرح 1).
- ألم تر كيف فعل ربك... (الفيل1 والفجر 6).
- أرأيت الذي يكذب بالدين... (الماعون1).
- اقرأ باسم ربك... (العلق1).
- إنا أعطيناك الكوثر .. فصلِّ لربك وانحر... (الكوثر1 و2).
- ... ما ودعك ربك وما قلى... ولسوف يعطيك ربك فترضى... وأما بنعمة ربك فحدث (الضحى 1 و5 و11).
- ويسألونك عن الروح.../ عن الجبال.../ عن ذي القرنين.../ عن الساعة.../ عن المحيض.../ عن اليتامى.../ عن الخمر والميسر.../ عن اليتامى.../ ...
...
الفرضية الخامسة : الوحي لا يخص الأنبياء وحدهم
 
ليس الوحي ميزة خاصة بالأنبياء والرّسل دون غيرهم، وإنما هو ظاهرة عامة يشترك فيها كافة الناس، حتى من غير الأنبياء. كما في الآية : ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) سورة القصص، الآية 7.
بل، قد تشمل ظاهرة الوحي سائر الكائنات الحية، من قبيل النحل على سبيل المثال، وفق القول القرآني ( وأوحى ربّك إلى النّحل أن اتّخذي من الجبال بيوتاً... ) سورة النحل، الآية 68.
ولذلك " فإن المتصوفة يرون التجربة القلبية التي يعيشها الإنسان هي عين الوحي الإلهي ولا تقل شيئا عن الوحي، وأطلقوا عليها عبارة وحي القلب من أجل تحاشي العوام، وإلا فكل التجارب عبارة عن الوحي، غاية الأمر أن الوحي ذو مراتب : فهناك مرتبة دانية ومرتبة عالية "[10].
يصدق هذا على عموم الوحي. لكنه يصدق كذلك على الوحي القرآني. ولذلك سنرى كيف استطاع بعض الصحابة في بعض الأحيان استباق عبارات من الوحي القرآني.
لم تنزل جميع الآيات على لسان الرسول؛ إذ هناك آيات نزلت على لسان بعض الصحابة، أو نزلت بصيغة مؤيدة لعبارات نطق بها أحد الصحابة. وعلى سبيل الاستدلال نذكر ضمن ما أورده السيوطي في الاتقان في علوم القرآن، ما يلي :
" أخرج الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله قال إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه. قال ابن عمر وما نزل بالناس أمر قط فقالوا وقال إلا نزل القرآن على نحو ما قال عمر.
وأخرج ابن مردويه عن مجاهد قال كان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن.
وأخرج البخاري وغيره عن أنس قال، قال عمر : وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وقلت يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب واجتمع على رسول الله نساؤه في الغيرة فقلت لهن عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن فنزلت كذلك.
وأخرج مسلم عن ابن عمر عن عمر قال : وافقت ربي في ثلاث في الحجاب وفي أسارى بدر وفي مقام إبراهيم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس قال قال عمر : وافقت ربي أو وافقني ربي في أربع نزلت هذه الآية ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين الآية فلما نزلت قلت أنا فتبارك الله أحسن الخالقين فنزلت فتبارك الله أحسن الخالقين.
وأخرج عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن يهوديا لقي عمر بن الخطاب فقال : إن جبريل الذي يذكر صاحبكم عدو لنا فقال عمر من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين قال فنزلت على لسان عمر.
وأخرج سنيد في تفسيره عن سعيد بن جبير أن سعد بن معاذ لما سمع ما قيل في أمر عائشة قال سبحانك هذا بهتان عظيم فنزلت كذلك.
وأخرج ابن أخي ميمي في فوائده عن سعيد بن المسيب قال : كان رجلان من أصحاب النبي إذا سمعا شيئا من ذلك قالا سبحانك هذا بهتان عظيم زيد بن حارثة وأبو أيوب فنزلت كذلك.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : لما أبطأ على النساء الخبر في أحد خرجن يستخبرن فإذا رجلان مقبلان على بعير فقالت امرأة ما فعل رسول الله قال حي قالت فلا أبالي يتخذ الله من عباده الشهداء فنزل القرآن على ما قالت ويتخذ منكم شهداء.
وقال ابن سعد في الطبقات أخبرنا الواقدي حدثني إبراهيم بن محمد ابن شرحبيل العبدري عن أبيه قال : حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد فقطعت يده اليمنى فأخذ اللواء بيده اليسرى وهو يقول وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ثم قطعت يده اليسرى فحنا على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول وما محمد إلا رسول الآية. ثم قتل فسقط اللواء قال محمد بن شرحبيل : وما نزلت هذه الآية وما محمد إلا رسول يومئذ، حتى نزلت بعد ذلك "[11].
مجمل القول، إن الوحي الديني في أصله إشارات غامضة ومتناثرة وفائضة عن عوالم الغيب، أفلحت مخيلة الرّسول في التقاط بعضها، بعد جهد ذاتي جهيد وتمرن وإصرار، قبل أن تعمل على ترجمتها إلى لغة بشرية. وكثيرا ما شارك آخرون في تلك الترجمة، ليس فقط من خلال أسئلتهم واستفساراتهم، وإنما عبر مشاركتهم في صياغة بعض الآيات القرآنية. وطبعا، كل هذا داخل سياق ثقافي وتاريخي مستنفر أصلا لأفق انتظار خطاب وحياني من الغيب.
وإن كانت مدارج البيان تتفاوت تباعاً وتبعاً لتفاوت قوة المخيلة بين لحظة وأخرى، فقد انعكس ذلك التفاوت في الأخير على أسلوب القرآن نفسه، والذي جاء متفاوتاً في الدقة والبلاغة، لكنه يظل في كل أحواله أسلوباً بشرياً وتراثياً، بل وقدامياً أيضاً.
إن الوحي هو في آخر التحليل، إيحاءات بصرية أو سمعية أو وجدانية، تمثلها الرسول قبل أن يتأولها ويبدع عباراتها، أحيانا بمخيلته الخاصة، وأحيانا بمشاركة الآخرين من الصحابة ومن كتاب الوحي أيضا.
ومن ثم جاء القرآن في الأخير، ثمرة لثقافة ومزاج نبي الإسلام عليه السلام، ولثقافة ومزاج كل من عاصره أو عاشره بإحسان.
 


 محمد إقبال، تجديد الفكر الديني في الإسلام، ترجمة عباس محمود، دار الهداية للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة، 2006، ص : 148.[1]
[2]  معروف الرصافي، كتاب الشخصية المحمدية، منشورات الجمل، ألمانيا، الطبعة الأولى 2002، ص : 96.
 الرصافي، كتاب الشخصية المحمدية، ص : 95.[3]
[4]  الرصافي، كتاب الشخصية المحمدية، ص : 15.
 تيودور نولدكه، تاريخ القرآن، ترجمة جورج تامر، منشورات الجمل كولونيا (ألمانيا)- بغداد 2008، ص : 25.[5]
 باروخ سبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة وتقديم حسن حنفي، دار التنوير، بيروت، الطبعة الأولى، 2005، ص : 146.[6]
 عبد الكريم شروس، بسط التجربة النبوية، ترجمة أحمد القبانجي، منشورات الجمل، بيروت- بغداد 2009، ص : 26.[7]
 محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام، ترجمة عباس محمود، دار الهداية للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة 2006، ص : 149.[8]
 محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام، ترجمة عباس محمود، دار الهداية للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة 2006، ص : 148.[9]
 عبد الكريم سروش، الصراطات المستقيمة، ترجمة القبانجي، منشورات الجمل، بيروت- بغداد 2009، ص : 20.[10]
 جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، تحقيق سعيد المندوب، دار الفكر، لبنان، الطبعة الأولى 1996، ج:1، ص : 101، 102.[11]



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن