يوميات -إحسان شيرزاد-: معنى ان تكون مثقفاً (2-2)

خالد السلطاني
ksultany@yahoo.com

2012 / 7 / 3

يشرك كاتب المذكرات قارئه في الاحساس بالابتهاج والفخر، للمنجز الهندسي/ الإنشائي المتحقق، الذي اشتغل عليه إحسان شيرزاد على امتداد نشاطه المهني، الممتد طيلة نيف وستة عقود. انه نشاط جاد، وممتع، وعالي المهنية، وفي كثير منه رائد، ومتفرد. لكنه، بالطبع، لا يخلو من قلق، القلق الابداعي للحصول على اعلى درجات الاتقان والحرفية. نقرأ في اليوميات عن احداث مفرحة، إضطلع بها احسان شيرزاد، وآخرى تبعث على الحزن. فهو على سبيل المثال، تحدث عن اوائل اعماله الهندسية في اربيل، وهو جسر خرساني في منطقة كوره. والذي يذكرة بكثير من الحنيّة المشوبة بالغبطة "..هذا العمل الذي اعتز به يعد من بواكير أعمالي الانشائية..، وهو أول جسر كونكريتي مسلح بهيكل صلب من نوعه في العراق" (ص. 87). واذ يشكر العمال الذين تفانوا معه في انجاز واجبهم، فانه، احتفالا، في اتمام اعمال الجسر، يرتدي اللباس الكوردي التقليدي، ويقرأ "المولد النبوي" لهم ولاهالي المنطقة المحتفين به وبالجسر الجديد!. يتذكر الكاتب ايضاَ، وبهلع، حادثة سقوط قالب نصب الحرية، في ساحة التحرير ببغداد، هو الذي اوكلت له الاعمال الانشائية والاشراف الفني على التنفيذ. ويكتب ".. اذكر، أنه في المراحل الاخيرة للعمل، هبت رياح قوية أدت الى هدم القالب الخشبي، الذي كانت عملية ربطه قد استغرقت شهراً كاملاً. واتذكر أنه في ليلة العاصفة، وعندما كلمني المهندس حسيب صالح هاتفياً، ذهبت مسرعاً الى مواقع النصب ليلاً. وقد تطلب الموقف مضاعفة الجهود لإنشاء قالب خشبي جديد...واذكر ايضاًـ أنني لم انم في الليلة التى سبقت نهار فك القالب، خشية عدم تحمل النصب لثقله الكبير.." (ص. 141).
كثيرة هي المباني، التى إشتغل إحسان شيرزاد على حلولها الإنشائية. انها في الواقع، تعد، الآن، مثار إعتزاز المنجز الهندسي العراقي؛ مثل، اسس مصرف الرافدين ، واسس فندق بغداد، وعمارة بير داود، وجامع الست نفيسة، وعمارة منير عباس، وعمارة عبود، ، وجسور قناة الجيش، ومبنى مجلس الوزراء ، والمجمع العلمي العراقي، ومبنى اتحاد الصناعات، وغير ذلك الكثير من المباني سواء المشيدة في بغداد ام خارجها، بل وحتى في خارج العراق ايضا. (ثمة قائمة بجميع المباني التى اشتغل عليها شيرزاد انشائياً منشورة في "المذكرات" في صفحات رقم (889، و890، و891).
يميل إحسان شيرزاد الى الدقة. بل هو ينزع لإن تكون الدقة المتحصلة على قدر كبير من الكمال والاتقان. وهذا الامر لا ينحصرفي الجانب المهني فقط، وإنما يشمل كل ما يمكن له ان يكون موضوعاً لانشغالاته. يثبت ذلك ألاعمال الهندسية عالية الاتقان التى انجزها، وتبرهن عليها المعلومات الموثقة الغزيرة، الحافلة بها يومياته التى نقرأها في كتابه المنشور. في مذكراته خزين من المعلومات الدقيقة، وذات الصدقية العالية. انها مرجع رصين- كما اشير سابقاً – لاحداث متنوعة. وانا، هنا، اقتطع "جزئية" من ذخيرة تلك المعلومات؛ التى قد لا تكون مثار إهتمام كثر من القراء، لكنها ذات أهمية بالغة للمعماريين، ولتاريخ عمارة الحداثة بالعراق تحديداً. اذ يعرف غالبية المعماريين العراقيين، بان المعمار العالمي الشهير "فرنك لويد رايت"، زار بغداد في الخمسينات، والقى محاضرة في جمعية المهندسين العراقية. بيد إن دقة شيرزاد وحرصه التوثيقي، لا تفوت هذه المناسبة، اذ يذكرها في اليوم والشهر والسنة؛ انها: الاربعاء 22/ 5/ 1957، ويضيف في يومياته، مسجلا بعضاً من مضمون محاضرة رايت، ويذكر بانه ".. أشار في مستهل حديثه إلى ان تكليف مجلس الإعمار له بتصميم دار الأوبرا ببغداد، هو أحسن هدية له في ذكرى ميلاده الثامن والثمانين..، كما تم تكليفه في الوقت نفسه بتصميم مديرية البرق والبريد في بغداد" (ص. 148). نقرأ ايضا في المذكرات، بان "ألفار آلتو": المعمار الفنلندي المعروف، الذي كلف في وقتها بتصميم متحف الفنون الجميلة في العوينة بوسط بغداد، القى هو الآخر في يوم الجمعة الموافق 26 تموز 1957، على حدائق جمعية المهندسين محاضرة، عن مشروعه الجديد. (ص. 148). انها معلومة هامة لجهة تحديد تاريخ الزيارة والمحاضرة، تضيف معارف طازجة الى وثائق عمارة الحداثة بالعراق.
يسرد إحسان شيرزاد يومياته بإخلاص وتواضع صادقين. ورغم مهابة الاحداث وإهميتها، التى اضطلع بها كرجل دولة مقتدر، فانها تظل غامرة بالحس الانساني؛ الذي يجعل منها إحداثاً قريبة من قبل معظم القراء، ومفهومه لديهم. وهو لا يتوانى عن كشف احاسيسه الصادقة ويعرضها امام متلقي يومياته، بصورة مباشرة وعفوية. ولهذا ندرك، نحن القراء، بسهولة ونتفهم شعوره "ألانساني"؛ وخصوصاً عندما يكتب، وهو في بعثته الامريكية ".. كنت وأنا البعيد عن الاهل، ابعث برسائل صوتية الى والدتي.. ابدؤها بتلاوة القرآن الكريم، ..فقد كانت – رحمها الله – تحب سماع صوتي وأنا اتلو القرآن الكريم" (ص. 50). او عندما يشير في مذكراته الى ذلك مراراً "..قرأت المولد النبوي مع العائلة، كالعادة، بالغة الكوردية" (ص,766). او عندما يسجل في يومياته "الجمعة 29/11/ 1968: في جامع الامام الاعظم ، استمعت الى المقرئ الجيد الشيخ حسن أبو زايد، وقد قرأ قراءة ممتعة حقاً" (ص. 275). او عندما "يعترف" مسجلا ما يلي "الاحد 15/6/1969: ظهرت مقالة في جريدة النور حول الرأسمالية (الكومبرادورية)، ولم افهم معنى الكلمة!" (ص. 300). او عندما يكون محبطاً "الاربعاء: 1/1/1969: توقفت عن تسجيل مذكراتي لشعوري باليأس" (ص. 279)، لكنه سرعان ما يعود الى مزاجه المفعم بالامل ويكتب في مطلع عام جديد "الجمعة 1/1/1971: جعل الله هذا العام ، عام خير وسلام" (ص. 355). وعن شعوره تجاه زوجته المتوفية عمّا قريب، حينذاك، يكتب في يومياته "الثلاثاء 15/3/2005: آخر يوم الفاتحة، وعند صلاة العصر ذهبنا إلى المقبرة لقراءة القرأن، والوداع. وضعي سيئ للغاية" (ص. 778). وتصل مثل تلك الاحاسيس الزاخرة بالآلفة، المشوبة بالحميمية، مباشرة الى قلب القارئ، بكونها مشاعر انسانية، قابلة للفهم والادراك؛ هي التى، يوماً، لخص فحواها بعمق "كارل ماركس"، عندما قال مقولته المجنحة "ليس من ثمة شأن انساني، بغريب عليّ!".
لا يمكن، بالطبع، عرض "مذكرات احسان شيرزاد"، في مقال واحد. فالاحداث التى تعاطي معها الكاتب، وتلك التى مرّت على وطنه، غزيرة ومتشعبة وفريدة في نوعيتها، وحتى استثنائية في أهميتها. لكني اود ان اتجرأ، وأشير الى كلمة واحدة، يمكن بها ان تحدد وتصف حال كاتبها، وهي كلمة: "المثقف". واضيف لها "العراقي". ولئن عرّف الأنثروبولوجيون "الثقافة" – بكونها ، بمعنى الانجازات التى حققها الانسان عبر تاريخه الطويل، فإن إحسان شيرزاد، المثقف، قد ساهم في إضافة الكثير الى معلوماتنا، ليس، فقط، من خلال اختصاصه الهندسي، وإنما عبر مختلف الانشطة التى اضطلع باداء مهماتها على اكمل وجه. انه، وبحسب رؤى المفكر الايطالي انطونيو غرامشي، ليس الا "المثقف العضوي" عينه، الذي يحرص على ان تكون معارفه وعلمه وإجتهاده وقفاً على منفعة الناس ووسيلة لخدمتهم وتقدمهم، هو الذي يؤمن، كما كتب في مستهل "مذكراته" .
قد يطيب لآخرين، اعتزازاً، ان "ينسب" شخصية إحسان شيرزاد الى اثنيته. وهو امر اراه مفهوماً وحتى مقبولا، لجهة نزعة الافتخار المناطقي او القومي، التى جُبل عليها الانسان. لكني ارى، في الاقتصار على ذلك، ليس من شأنه تماماً ان يرفع من قدر الرجل، أو يزيد من أهميته، هو الذي ما فتئ يدلل عبر نشاطه المتنوع والشامل، (والذي تعكسه بصدق، يومياته المكتوبة) عن انشغالاته الكثيرة والواسعة، بوسع المجال الذي يتحرك فيه ويعمل به، متجاوزاً بالطبع ضيق الانتماء الاثني وانغلاقه، الذي يسعى كثر الى "الباسه" اياه. انه، بمعنى من المعاني، يمكن ان يكون، وبجدارة، نموذجاً "للمثقف العراقي" المرموق، الذين يفتخر الوطن به، الوطن كله، الذي قدم إحسان شيرزاد عصارة تجربته، واجتهاده المهني والشخصي في سبيل تقدمه ونجاحه.
بقى عليّ، في نهاية مقالتي هذه، إن اشير الى إمرين. عندما انهيت محاضرتي، التى القيتها على اساتذة وطلبة قسم العمارة بالجامعة التكنولوجية ببغداد، في نيسان الماضي، تقدم نحوي أحد الاساتذة، وبعد أن جاملني بالثناء على المحاضرة، فتح حقيبته، وقدم لي كتاب "مذكرات إحسان شيرزاد". قد لا يكون ذلك الاستاذ (الذي، مع الاسف، لا اتذكر اسمه الآن)، على دراية تامة بمدى غبطتي وفرحي بهديته، وأنا استعيد، الآن، عبر قراءة الكتاب، مسار شخصية هذا الرجل الكريم والجاد، الذي اعرفه شخصيا، واعرف مدى حبه وسعادته بعمله، وفرحه الغامر بلقاء الآخرين. (يدلل على ذلك اللقطات العديدة المنشورة في الكتاب، والتى يظهر إحسان شيرزاد في غالبيتها العظمى، ضاحكا وبشوشاً!). والامر الآخر، هو معرفتي في وقت لاحق، عن مساهمة كريمة أحسان شيرزاد: صديقتي وزميلتي العزيزة "شيرين"، في العمل لاشهر كثيرة على اعداد هذه المذكرات وتقديمها للطبع. فشكرا لها، لصنيعها المهم والمؤثر.
لقد اتاح لنا، إحسان شيرزاد، عبر يومياته المنشورة، أن "نسافر" معه الى مواقع السنين الماضية وامكنتها، الحافلة بالاعمال الجادة والمتنوعة، كان فيها، هو "المثقف العراقي"، يعلمنا كيف يمكن للمرء ان يكون مثقفاً حقيقياً نافعا ..وعضوياً!.
اطال الله في عمرك، ايها الرجل الكريم!.□□
د. خالد السلطاني
مدرسة العمارة/ الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن