قراءات في محاكمات قادة هيئة الاتحاد الوطني

حسين البحارنه

2005 / 2 / 9

ورقة الدكتور حسين البحارنه في ورشة جمعية العمل الوطني بمناسبة ذكرى محاكمات أعضاء هيئة الاتحاد الوطني
مقدمـــة:

نتيجة للخلافات الطائفية التي نخرت في جسم المجتمع في البحرين خلال عامي 1953-1954 ، فقد تم عقد اول اجتماع تاريخي شعبي موحد ضم جمهوراً من الطائفتين الشيعية والسنية في اوائل اكتوبر من عام 1954 وذلك في مسجد خميس بالمنامة حيث اتخذت فيه قرارات بتكوين جبهة وطنية موحدة للمطالبة باصلاحات سياسية في الجهاز الاداري والجهاز القضائي وبانتخاب مجلس شعبي تمثيلي ، على ان يتم هذا الاجتماع في قرية السنابس بعد اسبوع من ذلك الاجتماع.

وقد تقرر انه بعد تكوين الجبهة الوطنية ، يتقدم ممثلو الشعب بالمطالب الشعبية الى الحكومة حسب القرارات التي تتخذ في ذلك الاجتماع ، على ان يصاغ قسم يعتبر دستورا للمناضلين الاحرار ويقسم عليه في كل اجتماع.

وقد تم الاجتماع الشعبي في السنابس في 13 اكتوبر 1954 ، وقد ضم جميع العناصر الوطنية من الشيعة والسنة الممثلين لجميع المدن والقرى في البحرين. وقد اتخذت في ذلك الاجتماع القرارات التالية:

1- اختيار هيئة تنفيذية عليا قوامها مائة وعشرون عضواً تنبثق منها لجنة تنفيذية قوامها ثمانية اعضاء يعتبرون ممثلين للشعب.

2- اختيار امين عام للهيئة التنفيذية العليا.

3- اختيار مساعد لأمين الصندوق.

4- اجتماع الجمعية العمومية شهرياً ما لم تستدَع للاجتماع عند الضرورة ، في اي وقت يراه الامين العام وتقره اللجنة التنفيذية.

5- تعيين ثمانية خلفاء للجنة التنفيذية فيما لو اعتقل اعضاؤها الثمانية الاول.

6- اللجنة التنفيذية تمثل الشعب لدى السلطات وامينها العام هو المسؤول المباشر عن تنفيذ مقرراتها.

7- الاسراع بتقديم المطالب الى حاكم البحرين.

8- تترك صياغة المطالب الى اللجنة التنفيذية ، الا ان المطالب يجب ان تركز على النقاط الرئيسية التالية:

(1)- تأسيس مجلس تشريعي.

(2)- وضع قانون عام للبلاد جنائي ومدني.

(3)- السماح بتأليف نقابة للعمال.

(4)- تأسيس محكمة عليا للنقض والابرام.

9- المباشرة فوراً بجمع التبرعات للهيئة التنفيذية العليا.

10- المباشرة فوراً بجمع التواقيع لاثبات شرعية اعضاء اللجنة التنفيذية الثمانية.

11- اعتبار القسم الذي صيغ في الاجتماع الاول دستوراً للهيئة ويجب ان يتلى في بداية كل اجتماع يعقد للجمعية العمومية او المؤتمرات الشعبية التي تقام في المستقبل.

بعد اتخاذ القرارات السالف بيانها ، تم اختيار 120 شخصاً يمثلون الشخصيات البحرانية من الطائفتين الذين حضروا ذلك الاجتماع.

وقد كونت هذه الجماعة المشكلة من 120 شخصاً ، جمعية عمومية لما سمي فيما بعد بِـ"الهيئة التنفيذية العليا".

ثم تم اختيار ثمانية اعضاء من الجمعية العمومية ، شكلوا المجلس الاداري للهيئة. وهؤلاء الاشخاص هم: 1- علي بن ابراهيم ، 2- محسن التاجر ، 3- ابراهيم بن موسى ، 4- عبدالله ابو ذيـــب ، 5- عبدعلي العليوات ، 6- عبدالعزيز الشملان ، 7- ابراهيم فخرو ، 8- عبدالرحمن الباكر.

وقد تم اختيار عبدالرحمن الباكر من اعضاء مجلس الادارة ليكون أميناً عاماً للهيئة. كما اختير محمد المحروس اميناً للصندوق ، واحمد الجابر مساعداً له. وقد سمي هذا المجلس بِـ "اللجنة التنفيذية".

ولتثبيت شرعية مجلس الادارة او اللجنة التنفيذية ، باشرت الهيئة بجمع توقيعات التأييد للمجلس من مختلف طبقات الشعب حيث تم وضع عريضة ضمت نحو 25,000 توقيع من افراد الشعب. وتبدو هذه نسبة عالية من المؤيدين للهيئة من سكان البحرين الاصليين آنذاك الذين كانوا لا يزيدون علــــى -/80,000 فرداً.

وكان اول اجراء قامت به اللجنة التنفيذية في بداية عام 1955 ، هو توجيه خطاب الى حاكم البحرين الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة ، متضمنا المطالبة باجراء اصلاحات جذرية في اجهزة الحكم في البلاد.



وقد ضم هذا الخطاب المطالب الشعبية التالية:

1- تأسيس مجلس تشريعي يمثل أهالي البلاد تمثيلاً صحيحاً عن طريق الانتخابات الحرة.

2- وضع قانون عام للبلاد جنائي ومدني على يد لجنة من رجال القانون يتمشى مع حاجاتها وتقاليدها المرعية على ان يعرض هذا القانون على المجلس التشريعي لاقراره. وكذلك اصلاح المحاكم وتنظيمها وتعيين قضاة لها من ذوي الكفاءة الذين يحملون شهادات جامعية في الحقوق على ان يكونوا قد مارسوا القضاء في ظل القوانين المعترف بها.

3- السماح بتأليف نقابة للعمال ونقابات لاصحاب المهن الحرة تعرض قوانينها ولوائحها على المجلس التشريعي لاقرارها.

4- تأسيس محكمة عليا للنقض والابرام مهمتها ان تفصل في الخلافات التي تطرأ بين السلطة التشريعية والتنفيذية وفي أي خلاف يحدث بين الحكومة وأي فرد من افراد الشعب.

وقد تضمن الخطاب المذكور تواقيع كل اعضاء الهيئة التنفيذية. كما ارسلت نسخ من الخطاب الى كل من وزارة الخارجية البريطانية والمقيم السياسي البريطاني في البحرين ، والمعتمد السياسي البريطاني في البحرين ، ومستشار حكومة البحرين.

ولكن حينما كلف عضوان من اللجنة التنفيذية بتسليم الخطاب المذكور الى حاكم البلاد في قصره في الرفاع ، فانه في الوقت الذي تسلم الخطاب المذكور منهما ، إلاّ أنه بعد أن أنَّبهما على تأليب الشعب ضده، طردهما من مجلسه قائلاً لهما: "نحن نعلم كيف ندير شئوننا وما انتم إلاّ رعايا عليكم السمع والطاعة".

ولكن بعد يومين من تسلم الحاكم للخطاب المذكور ، اصدرت الحكومة بياناً للشعب ردت فيه على مذكرة الهيئة قائلة:

"ان "بعض اناس" سموا انفسهم ممثلين للشعب تقدموا بمطالب ليس من حقهم ان يتقدموا بها لانهم لا يمثلون احدا والحكومة جادة في تنفيذ الاصلاحات ضمن المخطط الذي رسمته وانها تحذر هؤلاء من الاخلال بالامن ، فان الحكومة قادرة على الضرب على ايدي العابثين بشدة".

اما الحكومة البريطانية ، فانها ايضا تنكرت لمطالب الهيئة واعتبرت أن المطالبة بمجلس تشريعي ونقابة للعمال هي سابقة لاوانها. إلا انها اقرت بوجوب اجراء اصلاحات في المحاكم وايجاد قانون للعمل والعمال شامل وسن قوانين حديثة ، وبخاصة القانون الجنائي. كما ان المعتمد البريطاني الذي تولى الرد بخطابه المؤرخ 17 مارس 1955 ، باسم الحكومة البريطانية ، على مذكرة الهيئة للحاكم ، وعد الهيئة بالقول بانه قد وضع قانون جنائي جديد للبحرين من قبل خبير جنائي بريطاني ، وان هذا القانون الذي يراعي ظروف وعادات البلد ، هو جاهز للتنفيذ. كما ان الحكومة البريطانية ، بطلب من الحاكم ، قد ارسلت المستشار القضائي البريطاني (المستر بيس) الى البحرين. وقد باشر العمل فعلا بحضور القضايا الجنائية في المحاكم ، وهو بصدد ادخال اصلاحات كثيرة على الجهاز القضائي ويقوم في نفس الوقت باعداد بعض القوانين الضرورية. كما ان الحكومة البريطانية اوفدت احد موظفيها الكبار (المستر اوزلي) الى البحرين كخبير في شئون العمل والعمال لاعداد قانون للعمل. وعن توجه حاكم البحرين الجديد ، بين خطاب المعتمد البريطاني الى الهيئة بان الحاكم قد وافق على احداث تغييرات وتعديلات في قوانين البلدية في البحرين ، وقد عين كذلك لجاناً لتشرف على ادارة المعارف وادارة الصحة بناء على توصيات اللجنة الرسمية التي تقوم باجراء التحقيق في شئون الادارة بالبحرين. كما عين الحاكم الكولونيل هامرسلي مساعداً لقومندان الشرطة. وهو ذو خبرة واسعة في هذا المجال وسيقوم بتنظيم قوة الشرطة وادارتها على اسس حديثة ، كما عين الحاكم ايضا اثنين من مفتشي الشرطة البريطانيين.

هذا ما جاء في خطاب المعتمد البريطاني للهيئة من الاصلاحات التي قال ان حاكم البحرين هو بصدد اجرائها. ولكن البيان الذي اصدره المستشار عن حكومة البحرين لم يكشف عن مثل هذه الاصلاحات المنتظرة ، رفض مطالب الهيئة الاصلاحية المقدمة في خطابها الى حاكم البحرين رفضاً مطلقاً.

ونتيجة للموقف السلبي للحكومة من مطالب الهيئة السياسية ، ونظراً لعدم رد حاكم البحرين على خطابها اليه ، فقد قامت الهيئة ، من ناحية ، بتأسيس اول نقابة عمال في البحرين دون الحصول على ترخيص من الحكومة بذلك وقبل الانتهاء من انجاز قانون العمل والعمال الذي كان يعده الخبير العمالي البريطاني (المستر أوزلي). وقد اقبل العمال على الاشتراك في النقابة اقبالاً منقطع النظير.

ومن ناحية اخرى ، اعلنت الهيئة الاضراب العام في البلاد. وهو الاضراب الثاني الكبير الذي تبع الاضراب الاول في اواخر سنة 1954. وقد استجاب الشعب لهذا الاضراب بشكل منقطع النظير ، اذ عم الاضراب سائر المدن والقرى وتعطلت كل الاعمال ، واصبحت الهيئة فعلياً مسئولة عن جميع مرافق الحياة. ونتيجة لهذا الاضراب ، تدخل المعتمد البريطاني كوسيط بين الهيئة والحاكم. وقد تقدمت الهيئة ثانية الى المعتمد البريطاني بنفس مطالبها السابقة طالبة الاعتراف بها كهيئة سياسية، الامر الذي جعل حاكم البلاد يعيد النظر في قراره السابق ، ويعترف بالهيئة - بعد وساطة المعتمد البريطاني - كهيئة سياسية ، على "ان يسمح ، في نفس الوقت ، لهيئات سياسية اخرى ان تشكل ، اذ رغب سكان البحرين ذلك". وهذا يعني ان البحرين كانت مقبلة - تحت ضغط حركة الهيئة الوطنية - على الاعتراف بتشكيل احزاب سياسية في البحرين.

وبتاريخ 20 مارس 1956 ، تم اجتماع وفد من ممثلي الهيئة - وهم عبدالرحمن الباكر وعبدالعزيز الشملان وعبدعلي العليوات ومحسن التاجر - مع حاكم البحرين (الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة) ووقع الجميع على وثيقة الاعتراف بِـ "هيئة الاتحاد الوطني" (بدلاً من الهيئة التنفيذية العليا) كأول حزب سياسي في تاريخ الحكم في البحرين. وقد وقع على هذه الوثيقة كل من حاكم البحرين واعضاء وفد الهيئة، كما وقع عليها كل من المعتمد البريطاني في البحرين ومستشار الحكومة (شارلز بلجريف) كشاهدين.

ولكن نتيجة للاضرابات والمظاهرات التي عمت البحرين منذ 29 اكتوبر 1956 ، يبدو أن شهر العسل بين الحكومة والهيئة لم يدم طويلاً ، اذ انه تأييدا لثورة جمهورية مصر ضد العدوان الثلاثي عليها اثناء حرب السويس ، فقد قامت فئات مخربة من وسط المظاهرات ، باشعال الحرائق في كثير من المنازل الخاصة بموظفي سلاح الطيران البريطاني في المحرق وتخريب بعض المنازل والمؤسسات التجارية البريطانية في البحرين. وقد إستدعى الامر ، للمحافظة على الامن والنظام ، تدخل القوات البريطانية في البحرين ، بناء على طلب من الحاكم ، لمساعدة قوة شرطة البحرين - الضعيفة في العدة والعتاد نسبياً - وذلك لمقاومة المظاهرات واعادة الامن والنظام في مختلف مناطق البحرين. وقد استمرت المظاهرات لمدة خمسة ايام.

إن هيئة الاتحاد الوطني التي ايدت قيام المظاهرات السلمية في البحرين مناصرة منها للثورة المصرية ضد العدوان الثلاثي على مصر ، لم تكن ، في الحقيقة ، وراء التخريب والحرائق التي شملت المنازل الخاصة بموظفي سلاح الطيران البريطاني وبعض دوائر المؤسسات الاجنبية في البحرين. وقد شهد ضابط شرطة بريطاني في المحكمة الخاصة بقرية البديع التي جرت فيها محاكمة زعماء الهيئة ، بان الحرائق التي شبت في المنازل والمؤسسات الاجنبية كان وراءها افراد اجانب ، ولم تكن نتيجة لمظاهرات المواطنين الذين قد شاركوا فقط برمي الحجارة على الشرطة والقوات البريطانية التي تدخلت لقمع المظاهرات. وقد هيأت فوضى المظاهرات واضطراب الامن الداخلي في البلاد الفرصة الذهبية لحكومة البحرين ومستشارها ، وبتأييد من الحكومة البريطانية ، بان تخطط لالقاء القبض على قادة هيئة الاتحاد الوطني ليلاً اثناء تواجدهم في منازلهم وبدون ان يظهروا اية مقاومة. وبذلك ، تم للحكومة ما ارادت وبسرعة خاطفة.

وقد كان عبدالرحمن الباكر وزميلاه عبدالعزيز الشملان وعبدعلي العليوات قد القي القبض عليهم في منازلهم في فجر اليوم السادس من نوفمبر 1956. وقد حوصرت منازلهم بقوات مسلحة مكونة من شرطة البحرين ومن ضباط بريطانيين وجنود. وقد نقلوا بسيارات مدرعة الى جزيرة جدة ، بانتظار محاكمتهم بعد توجيه التهم الجنائية اليهم. وقد القي القبض ايضا بنفس الطريقة على كل من ابراهيم حسن فخرو وابراهيم بن موسى اللذين قد اعتقلا ايضا بنفس التاريخ مع زملائهم الثلاثة ، وأودع الجميع في سجن جزيرة جدة ، وذلك انتظارا للمحاكمة الجنائية التي كانت تنتظرهم.



المحاكمات

تشكيل المحكمة الخاصة بقرية البديع

1- هيئة المحكمة: لقد جرت محاكمة قادة هيئة التحرير الوطني الثلاثة وهم عبدالرحمن الباكر وعبدالعزيز الشملان وعبدعلي العليوات مع زميليهما ابراهيم فخرو وابراهيم الموسى في الطابق الثاني من بناية دائرة الشرطة في قرية البديع في اليومين 22 و 23 ديسمبر 1956 حيث حجزت لهم مقاعد في قاعة المحاكمة مع حجز نحو خمسة مقاعد لخمسة اشخاص من صيادي السمك كانوا قد جلبوا من القرية ليأخذوا امكنتهم في تلك المقاعد لتبدو المحاكمة للناس وكأنها محاكمة علنية. هذا مع العلم ان المحاكمة العلنية تفترض ان يكون باب المحكمة مفتوحاً لمن يود حضور المحاكمة من الجمهور. أما هيئة المحكمة الخاصة التي شكلها حاكم البحرين الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة ، فقد كانت تتكون من ثلاثة قضاة هم الشيخ عبدالله بن عيسى آل خليفة (وهو عم الحاكم) والشيخ دعيج بن حمد آل خليفة الذي ترأس المحكمة (وهو اخ الحاكم) والشيخ علي بن احمد آل خليفة. ويذكر شارلز بلجريف في تقريره السنوي الحكومي لسنة 1956 ، ان الثلاثة من اعضاء الاسرة الحاكمة المشكلة منهم المحكمة الخاصة كانوا قضاة يرأسون محاكم البحرين العادية في المنامة. وقد انضم الى هذه المحكمة الخاصة رئيس كتاب محاكم البحرين الاستاذ سالم العريض كمسجل لسير الدعوى. أما هيئة الادعاء فقد تألفت من المستر (بن) المدعي العام ومدير الهجرة العامة والكولونيل (رايت) وهو قومندان الشرطة. كما حضر ضابط قبرصي يتكلم اللغة العربية بصفته مترجماً للمدعي العام الذي كان قد قدم لائحة الاتهام امام قضاة المحكمة باللغة الانجليزية. ابتدأت المحاكمة امام المحكمة الخاصة صباح يوم 22 ديسمبر 1956 حينما اذن رئيس المحكمة ، الشيخ دعيج بن حمد آل خليفة ، للمدعي العام ، بحضور المتهمين الخمسة ، بتلاوة لائحة الاتهام ضد المتهمين ، وقد تلى المدعي العام لائحة الاتهام باللغة الانجليزية على مسامع القضاة الذين لا يتكلمون اللغة الانجليزية ، بينما تولى الضابط القبرصي ترجمتها اليهم باللغة العربية. وقد تضمنت لائحة الاتهام ادانة المتهمين بارتكاب الجرائم التالية:

1- "محاولة اغتيال الحاكم او عزله ، واغتيال ثلاثة من الاسرة الحاكمة ، واغتيال السير شارلس بلكريف مستشار حكومة البحرين وذلك بغية الاستيلاء على الحكم بالقوة بواسطة فدائيين انتدبوا لهذه الغاية من قبل الهيئة حسب وثيقة رسمية تدينهم بذلك. وقد ضبطت في حوزة عبدالكريم عبدعلي العليوات الذي شغل وظيفة كاتب رسمي للهيئة. وكذلك محاولتهم نسف القصر الجديد في القضيبية ونسف مطار المحرق. هذا بالاضافة الى اتصالهم بدولة اجنبية للاستعانة بها على تنفيذ المؤامرة".

2- "تهييج الرأي العام في البحرين خلال اربع سنوات وايجاد فجوة كبيرة بين الحاكم وشعبه بوسائل دعاياتهم من مناشير واجتماعات وخطب ، هذا بالاضافة الى ما ينشرونه في الصحف المحلية والخارجية من تشويه الحقائق وتوسيع الخرق بين الحاكم وشعبه".

3- إدخال المنظمات العسكرية تحت ستار منظمة كشفية يراد بها ان تكون نواة للجيش الذي ينوون تشكيله للاطاحة بالحكومة الشرعية ، كما صرح به نائب سكرتير الهيئة يوم الاحتفال بتدشين المنظمة.

4- "الاخلال بالامن خلال الايام الاولى من شهر نوفمبر من قيامهم بالاضراب والمظاهرات تأييداً لمصر".

حينما انتهى المدعي العام من قراءة لائحة الاتهام ، لم يطالب بتوقيع اية عقوبة على المتهمين تطبيقاً لاية احكام من قانون للعقوبات مطبق في البلاد وساري المفعول ، كما هو جاري العمل عليه في المحاكمات الجنائية.

والحقيقة هي أن حكومة البحرين كانت قد طبقت في البحرين قانون العقوبات لسنة 1955 الذي اشرف على وضعه خبراء بريطانيون كلفوا بذلك من الحكومة البريطانية ، بناء على طلب الحاكم. ولكن حينما ترجم هذا القانون الى اللغة العربية وأصدره حاكم البحرين كقانون جنائي واجب التطبيق في البحرين ، اعترضت الحركة الوطنية (الهيئة التنفيذية العليا) على الكثير من أحكامه الخاصة بتقييد حرية التعبير واعتبار الكثير من تصرفات الافراد والمؤسسات في هذا المجال جرائم معاقبا عليها بعقوبات شديدة. هذا عدا ان القانون يعتبر التعرض لملكة بريطانيا ولاعضاء اسرتها جناية معاقبا عليها بأقصى العقوبات. ونتيجة لهذه الاعتراضات على القانون من الهيئة ، فقد اوقف الحاكم تطبيقه. ولكن يبدو ان قانون العقوبات لسنة 1955 قد اعاد الحاكم تطبيقه في البحرين بعد حوادث المظاهرات والاضرابات التي جرت في 29 اكتوبر 1956 والتي اشرنا اليها سابقاً.

وعند انتهاء المدعي العام من تلاوة لائحة الاتهام ، طلب رئيس المحكمة الخاصة من المتهمين التقدم الى المحكمة بدفاعهم. وقد طلب عبدالرحمن الباكر التكلم عن نفسه وعن زملائه الذين فوضوه بذلك. وحينما سمح له بالدفاع ، قال إن المحكمة الخاصة لم يصدر بتشكيلها مرسوم من الحاكم وان المحاكمة العادلة يجب ان تعقد في مقر محاكم البحرين بالمنامة وليس في هذه القرية النائية. هذا عدا ان المتهمين لم يخبروا مسبقا بهذه المحاكمة الصورية ولم يسمح لهم بدراسة التهم الموجهة اليهم بشكل مفاجئ ، كما أنه طلب من المحكمة السماح لهم بتوكيل محامين للدفاع عنهم في هذه الجرائم الخطيرة المنسوبة اليهم، الامر الذي يقتضي ضرورة تأجيل هذه المحاكمة لمدة اسبوع على الاقل لتتم دراسة هذه التهم الخطيرة جدا الموجهة ضدهم من قبل المحامين الموكلين للدفاع عنهم. ولكن رئيس المحكمة رفض هذه المطالب المقدمة من عبدالرحمن الباكر عن نفسه وعن زملائه الاخرين ، وطلب من المدعي العام تقديم شهود الاثبات من الضباط الانجليز الذين اعتقلوا المتهمين من منازلهم بعد تفتيشها لغرض الاستيلاء على اوراق ووثائق وسجلات هيئة الاتحاد الوطني. ومن الاوراق التي قدمت للمحكمة لاثبات الجرائم التي ادان المدعي العام المتهمين بانهم كانوا ينوون القيام بها ، قصاصة ورقة واحدة تتضمن كل الجرائم التي تضمنتها لائحة الاتهام. وقد كانت هذه الورقة - التي عثر عليها بيد عبدالكريم العليوات ، كا قال المدعي العام - مكتوبة بخط اليد ومنسوبة الى "الفدائيين" ، ولكنها غير معنونة لجهة ما. كما انها غير موقعة ، ولكنها تتضمن عبارة "نحن الفدائيين جئنا الى البحرين لنقوم بالاعمال التالية ....الخ". وهي نفس الاعمال التي تتضمن الجرائم الخطيرة التي عددها المدعي العام في لائحة الاتهام. وبعد تلفيق التهم على المتهمين والسماع الى شهادات الضباط البريطانيين وشهادة مستشار الحكومة (شارلز بلجريف) ، اجلت المحاكمة الى اليوم التالي للنطق بالحكم الذي يبدو انه كان جاهزا لقراءته. هذا مع العلم ان رئيس المحكمة ضاق ذرعا بطلب تأجيل المحاكمة من قبل المدعي العام لليوم التالي لتقديم عدد آخر من الشهود وأبدى رغبته بالنطق بالحكم في نفس اليوم دون ضرورة للاستماع الى بقية الشهود.

وفي اليوم التالي وهو 23 ديسمبر 1956 ، عقدت جلسة صباحية لسماع عدد من شهود الادعاء العام بالنسبة للتخريب والحرائق التي تمت في المنازل والبنايات اثناء المظاهرات والاضرابات بعد تاريخ 29 اكتوبر 1956. ثم عادت المحكمة في الساعة الخامسة من بعد ظهر يوم 23 ديسمبر وكانت صحيفة الحكم جاهزة بيد رئيس المحكمة الذي طلب من مسجل المحكمة الاستاذ سالم العريض قراءة الحكم على المتهمين.

وكانت خلاصة الحكم المختصر هي "ان المحكمة بعد اطلاعها على حقيقة الاتهام الذي وجهه الادعاء العام والمدعم بالمستندات والاوراق ، وبعد سماعها شهادة الذين لا يتطرق الشك الى شهادتهم ، اقتنعت بان ما نسب الى المتهمين الخمسة كان ثابتاً وصحيحاً. وحيث انهم رفضوا الدفاع عن انفسهم، وقد منحتهم المحكمة ذلك الحق ، فإن المحكمة قررت ان تصدر حكمها كالتالي:

"سجن كل من عبدالرحمن الباكر وعبدالعزيز الشملان وعبدعلي العليوات 14 عاماً لكل منهم ، وسجن كل من ابراهيم بن موسى وابراهيم فخرو 10 سنوات لكل منهما ، ابتداء من تاريخ اعتقالهم". وحينما طلب عبدالرحمن الباكر من رئيس المحكمة السماح للمتهمين باستئناف الحكم المذكور ، رفض اعطاءهم حق استئناف الحكم المذكور. وبذلك انتهت الجلسة المختصرة لهذه المحاكمة الخطيرة في تاريخ البحرين السياسي.

هذه صورة حية للمحاكمة الصورية التي اجريت للمتهمين من قبل المحكمة الخاصة المشكلة من كبار اسرة حاكم البحرين الذي اتهمهم بالمؤامرة على قتله شخصياً. ويبدو ان الحكم المذكور الخالي من الحيثيات والاسباب ، إعتمد اساساً على قصاصة ورقة مكتوبة باليد بدون توقيع وبدون ذكر الجهة الموجهة اليها. ان هذه القصاصة كتبت من شخص مجهول ، بينما ألصقت التهم الخطيرة التي تتضمنها بالمتهمين دون مراعاة لقواعد العدالة المطلوبة في مثل هذه المحاكمات الخطيرة.

وللحقيقة والتاريخ ، فقد اصدرت الهيئة التنفيذية العليا ومن بعدها هيئة الاتحاد الوطني - المعترف بها رسمياً من قبل حاكم البحرين بتاريخ 20 مارس 1956 - نحو 76 بلاغاً للجمهور منذ نشأتها بتاريخ 25 اكتوبر 1954 وحتى تاريخ القضاء عليها من قبل الحكومة بتاريخ 6 نوفمبر 1956. ولا تتضمن تلك البلاغات المنشورة باسم الهيئة أي تعرض شخصي او قذفاً لشخص حاكم البحرين الذي كانت تكن له الهيئة الاحترام والولاء. كما ان البلاغات المذكورة لم تتضمن قذفاً او سباً في حق افراد الاسرة الحاكمة او في حق مستشار الحكومة الانجليزي (بلجريف) الذي كان باستمرار يقابل امين سر الهيئة وعلى اتصال شخصي به. كما ان امين سر الهيئة كان له اتصال شخصي بحاكم البلاد ايضا. إلا ان بلاغات الهيئة كانت تنتقد بصراحة وبشدة سياسة الحكومة وسياسة مستشار الحكومة ودكتاتوريته وسلطاته الواسعة في الحكومة ومعارضته المستمرة للاصلاحات السياسية التي كانت تطالب بها الهيئة في بياناتها. ولا تشكل اي من البلاغات الرسمية المذكورة للهيئة اية جريمة من الجرائم الخطيرة التي دبجتها قصاصة الورقة المكتوبة باليد وغير المعنونة وغير الموقعة والتي لا يمكن الاعتماد عليها كأساس للتجريم بالجرائم الخطيرة الصادرة بحق المتهمين في اية محاكمة عادلة منشأة وفقا للقانون. والغريب في المحاكمة الصورية الخاصة هو ان المدعي العام لم يستند في لائحة اتهامه امام تلك المحكمة على اي من البلاغات الستة والسبعين الرسمية الصادرة من الهيئة وباسمها بين سنتـي 1954-1956 وذلك لانه لم يجد فيها كلها او بعضها ما يمكن الاعتماد عليه لتبرير التهم الخطيرة الموجهة للمتهمين بموجب قصاصة الورقة مجهولة المصدر والعنوان والمجردة من التوقيع. وقد بين المدعي العام ان الشخص الذي وجدت بحوزته هذه الورقة - وهو عبدالكريم العليوات ابن المتهم عبدعلي العليوات - إدعى أنه عثر عليها ملقاة في الطريق المؤدي الى بيتهم. وقد سأل الشيخ علي بن احمد آل خليفة - عضو اليسار في المحكمة - المدعي العام: هل الورقة معنونة او ممضية ، فأجاب الاخير قائلاً لا. كما طلب منه جلب عبدالكريم العليوات لأخذ شهادته امام المحكمة بشأن هذه الورقة المهجورة ، فأجاب المدعي العام ان عبدالكريم العليوات هو موقوف ولا يمكن احضاره امام المحكمة لاخذ اقراره بشأن هذه الورقة. فالمدعي العام قد أجاب إذاً متحدياً بالقول بانه ليس بالامكان الاستجابة لهذا الطلب. ولكن لم يبدِ رئيس المحكمة رأياً او تعليقاً بالنسبة لهذا الطلب. كما انه يستشف من أسئلة قاضي اليسار الشيخ علي بن احمد ، ان لديه حساً قانونياً لا ينكر ، إذ ان أسئلته التي لم يُستجب لها ، كانت تتعلق بأمر هو من صميم عمل المحكمة الذي كان يجب عليها ان تحقق فيه وتطلب سماع شهادة عبدالكريم العليوات ، لا ان تتجاهل هذا الطلب كلياً ، خاصة وان المتهمين الذين رفضت المحكمة طلباتهم ، رفضوا الدفاع عن انفسهم امام هذه المحكمة التي ابدوا شكوكهم في شرعيتها مسبقاً.

إن هيئة الاتحاد الوطني وقادتها المتهمين لا يمكن ان توجه اليهم تلك التهم الخطيرة التي تتضمنها قصاصة الورقة المذكورة التي لم تصدر عن الهيئة او عن اي عضو من اعضائها. إلاّ انه كان من الممكن مساءلة المتهمين على اساس البلاغات الرسمية (وعددها 76 بلاغاً) التي اصدروها منشورة للملأ والتي يعترفون بها. ولكن مثل هذه المساءلة لم تخطر ببال المحكمة مطلقاً.

ومن الانتقادات التي يمكن ان توجه الى حكم المحكمة الخاصة بشأن المتهمين ، هو ان الحكم المذكور لم يكن مسبباً. كما انه لم يستند الى قانون جنائي ساري المفعول في البلاد ، وكذلك فانه لم يبين في الحكم الصادر بحق المتهمين ، المواد الخاصة من قانون العقوبات التي صدرت بموجبها العقوبات والاحكام بالسجن عليهم لمدة 14 سنة لثلاثة منهم ولمدة 10 سنوات للاثنين الاخرين منهم. وعليه ، فإنه اذا كان قانون العقوبات لسنة 1955 قد اعيد تطبيقه فعلاً في البحرين بعد حـــــــوادث 29 اكتوبر 1956 ، لماذا إذاً لم تشر الاحكام الجزائية التي صدرت بحق المحكوم عليهم الى تحديد المواد القانونية من هذا القانون التي صدرت وفقاً لها تلك الاحكام. ويؤكد المستشار شارلس بلجريف في تقريره الحكومي الشامل عن حوادث الشغب لسنة 1956 ، بان قانون العقوبات قد اعيد تطبيقه في شهر نوفمبر 1956.



2- قرار نقل المحكوم عليهم من سجن جدة الى سجن جزيرة السينت هيلانة

بعد صدور حكم المحكمة الخاصة بتاريخ 23 ديسمبر 1956 ، ارجع المحكوم عليهم الى سجن جدة ، في الوقت الذي كان فيه حاكم البحرين يتفاوض مع الحكومة البريطانية على ان تقدم له التسهيلات اللازمة لنقل الثلاثة من قادة الهيئة - وهم الباكر والشملان والعليوات - الى جزيرة سينت هيلانة في جنوب المحيط الاطلسي وذلك لقضاء فترة سجنهم لمدة 14 سنة لكل منهم في تلك الجزيرة التابعة لبريطانيا ، على ان يبقى الاثنان من القادة الاخرين - وهما ابراهيم بن موسى وابراهيم فخرو - لقضاء مدة سجنهما لعشر سنوات لكل منهما في سجن جزيرة جدة في البحرين.

وكان يقتضي ترتيب نقل ثلاثة القادة المحكوم عليهم الى سينت هيلانة ، ان تتم المراسلات اللازمة بين حاكم البحرين وحاكم مستعمرة سينت هيلانة ، عن طريق وساطة الحكومة البريطانية التي وافقت على هذا الترتيب. وكان هذا الترتيب يقضي بتطبيق قانون سنة 1869 البريطاني الخاص بنقل السجناء من مستعمرة للتاج البريطاني الى مستعمرة اخرى ، على اقليم البحرين. وقد تمت هذه المراسلات السابقة بهذا الشأن ، الامر الذي كان يدعو الى اصدار الملكة البريطانية قانون الامر الملكي اللازم - وهو المسمى بِـ "Order in Council" - الخاص باعطاء الشرعية القانونية لترتيبات نقل القادة المحكوم عليهم الى هذه الجزيرة وذلك على ان يتم نشر هذا القانون في دائرة المعتمد البريطاني عن طريق لصقه على لوحة الاعلانات بالدائرة على ان يتم ذلك بتاريخ سابق على تاريخ نقل القادة المحكوم عليهم الى السفينة الحربية البريطانية (لوخ انش) الرابضة في ميناء الجفير. وبهذه الطريقة ، يكون امر التسليم للمحكوم عليهم الصادر من حاكم البحرين بشأن نقل السجناء الى عهدة قائد السفينة الحربية البريطانية ، صحيحاً.

وقد تم نقل المحكوم عليهم الى السفينة الحربية البريطانية بتاريخ 28 ديسمبر 1956. إلاّ أن القانون الخاص بالامر الملكي (Order in Council) - الذي يعطي الشرعية القانونية لامر تسليم المحكوم عليهم لقائد السفينة الحربية - قد تم نشره بنفس التاريخ وهو 28 ديسمبر 1956. ولكن لم يكن يعرف حينذاك في اية ساعة من ذلك اليوم قد تم نشر قانون الامر الملكي المذكور ، كما لم يكن يعرف ايضا في اية ساعة من ذلك اليوم تم نقل المحكوم عليهم وتسليمهم ، بموجب امر التسليم ، الى عهدة قائد السفينة الحربية.

لقد وصلت هذه السفينة الحربية - بعد رحلة بحرية طويلة - الى جزيرة سينت هيلانة بتاريـــخ 27 يناير 1957 حيث اودع المحكوم عليهم من قادة هيئة الاتحاد الوطني في السجن الذي نظمه لهم حاكم الجزيرة. والحقيقة ان السجن المذكور لم يكن سجناً بائساً بالمعنى المعروف لدينا ، وانما كان سجناً بالمعنى الرمزي فحسب ، اذ ان المحكوم عليهم قد وضعوا في منزل كبير مجهز من طابقين وعلى رابية خضراء مطلة على البحر وتحيطها اشجار الفاكهة من كل جانب. كما ان كلاً منهم قد اسكن في حجرة خاصة بحمام خاص وكانوا طلقاء إذ لم يكونوا مكبلين بالحديد ، كما كان الحال في سجن جزيرة جدة. وكان يوجد لهم طباخ وخادمان وحراس يتبادلون معهم اطراف الحديث لتسليتهم في سجنهم الطليق. وكانوا يشرفون على اكلهم ، وكانت تأتيهم السيارة مرتين في الاسبوع للسياحة في الجزيرة. وكان يزورهم السياح الاجانب القادمون الى الجزيرة لتناول الحديث معهم. وكان لديهم راديو لسماع اخبار البلاد العربية واذاعة لندن ، كما كانوا يقرأون الصحف التي كانوا يزودون بها وهم في السجن ، عدا عن الصحف العربية التي سمح لهم بجلبها من البحرين مرة كل شهر. وكانت تصلهم الرسائل الخاصة من عائلاتهم ، ولو أنها كانت خاضعة لرقابة البريد في البحرين.



المحاكمة الاولى امام رئيس قضاة المحكمة العليا

في سينت هيلانة باسم عبدالرحمن الباكر:

حيث انه يوجد قانون بريطاني قديم (يرجع الى القرن السادس عشر) يسمح لاي سجين في اي اقليم من اقاليم المملكة المتحدة او في اي مستعمرة من مستعمرات التاج البريطاني ، بان يطلب اصدار امر قضائي يسمى "هيبيوس كوربوس" (habeas corpus) لاطلاق سراحه من السجن الموجود فيه ، اذا كان يرى ان سجنه غير قانوني ، فقد تقدم في ديسمبر 1958 احد السجناء من قادة الهيئة المسجونين في سجن سينت هيلانة - وهو عبدالرحمن الباكر - الى رئيس قضاة المحكمة العليا لهذه الجزيرة ، طالبا اصدار هذا الامر القضائي باسمه لاطلاق سراحه من السجن وذلك على اساس انه تم سجنه في الجزيرة على اساس غير قانوني. وقد وافق رئيس القضاة على هذا الطلب بتاريخ 29 ديسمبر 1958. والامر القضائي "هيبيوس كوربوس" هو تعبير لاتيني ويعني جلب جسم الشخص السجون امام المحكمة.

ونتيجة لذلك ، وبعد اتخاذ الاجراءات القانونية التي قام بها المحامي البريطاني وشركاؤه في لنــدن - المستر بيرنارد شريدان - الموكل من قبل الباكر ، باشرت المحكمة العليا لسينت هيلانة ، برئاسة رئيس القضاة المستر "بريت" (Brett) ، اجراءات المحاكمة في الجزيرة التي مثل فيها مقدم طلب الالتماس (الباكر) المحامي المستر براون (Brown). أما المدعى عليها وهي الحكومة البريطانية فقد مثلها المحامي المعين من الحكومة البريطانية وهو المستر ماكنا (Mc Kenna). وحيث ان المحكمة التي انعقدت بتاريخ 17 مارس 1958 للنظر في طلب اطلاق سراح مقدم الطلب (الباكر) على اساس ان سجنه في الجزيرة هو سجن غير قانوني ، لم ترَ ضرورة لمناقشة شرعية او عدم شرعية الحكم الذي صدر في البحرين من المحكمة الخاصة التي انشأها حاكم البحرين ، نظراً لان الاشخاص المحكوم عليهم يخضعون لسلطته القضائية. لذلك ، فان رئيس القضاة وجه محامي مقدم طلب الالتماس ومحامي المدعى عليها بان يحصرا مرافعاتهما في شأن شرعية الاجراءات القانونية التي تمت في هذه القضية فيما يتعلق بمدى مطابقة تلك الاجراءات للقوانين والاوامر الملكية البريطانية الصادرة بشأن نقل السجناء المحكوم عليهم من سلطة حاكم البحرين الى سلطة الحكومة البريطانية ، ممثلة بحاكم مستعمرة سينت هيلانة.

وعليه ، فقد تركزت مرافعات مُحامِيي الطرفين على مدى انطباق القانون الملكي لسنة 1869 بشأن نقل المسجونين في المستعمرات البريطانية من مستعمرة الى اخرى ، على وضع سجناء سينت هيلانة، وكذلك على تاريخ نشر القانون الخاص بالامر الملكي في البحرين وتاريخ امر تسليم المحكوم عليهم الصادر من حاكم البحرين الى قائد السفينة الحربية.

وقد وجدت المحكمة ، نتيجة للمرافعات المرفوعة أمامها ، ان القانون الخاص بالامر الملكي لسنة 1956 الذي يتضمن اجازة الحكومة البريطانية للاتفاق الذي جرى بين حاكم البحرين وحاكم سينت هيلانة بشأن نقل السجناء الى سجن بهذه المستعمرة وفقاً لما يتطلبه القانون البريطاني لسنة 1869 ، قد نشر في دار المعتمد البريطاني في البحرين بتاريخ 28 ديسمبر 1956. كما وجدت المحكمة ان أمر تسليم السجناء الصادر من حاكم البحرين الى عهدة قائد السفينة الحربية ، قد نُفِّذ ايضا بتاريــــخ 28 ديسمبر 1956 وذلك بالرغم من انه كان يحمل تاريخ 26 ديسمبر 1956 ، وهو تاريخ سابق على تاريخ نشر القانون الخاص بالامر الملكي لسنة 1956 في 28 ديسمبر 1956 الذي يعطي الصلاحية القانونية لامر التسليم الصادر من حاكم البحرين. ولكن لم يصل الى علم المحكمة اي تأكيد بشأن ساعة النقل الفعلي للسجناء الى السفينة الحربية وتسلمهم من قبل قائد السفينة في نفس ذلك اليوم. وهذه المعلومة المفقودة اضعفت طلب الالتماس المقدم امام المحكمة لاطلاق سراح السجين عبدالرحمن الباكر. أما كون امر التسليم الموقع من حاكم البحرين بشأن نقل السجناء الثلاثة الى عهدة قائد السفينة ، يحمل تاريخ 26 ديسمبر 1956 - وهو تاريخ سابق على نشر قانون الامر الملكي لسنة 1956 بدار المعتمد البريطاني بتاريخ 28 ديسمبر 1956 - فقد رأى رئيس القضاة انه لا اهمية لذلك ، لان العبرة هي بتاريخ تسليم السجناء الفعلي لقائد السفينة الذي تم فعلاً في 28 ديسمبر 1956. ولكن محامي مقدم طلب الالتماس اعترض قائلاً أنه بالرغم من القول بان امر تسليم السجناء لقائد السفينة قد تم تنفيذه في نفس اليوم الذي نشر فيه قانون الامر الملكي وهو 28 ديسمبر 1956 ، إلا أن كون أمر التسليم المذكور قد وقعه حاكم البحرين بتاريخ سابق هو يوم 26 ديسمبر 1956 ، يجعله باطلاً ، وان هذا البطلان يبطل بالتالي سجن مقدم طلب الالتماس في سينت هيلانة بدون محاكمة عادلة ، وفقاً لمبادئ العدالة والانصاف التي تستند اليها المحاكم البريطانية في مثل هذه الطلبات.

ولكن رئيس القضاة المستر "بريت" (Brett) لم يقتنع بوجهة نظر محامي مقدم طلب الالتماس. وقد قال في نهاية حكمه انه في ظل الظروف الخاصة بهذه القضية ، لا يستطيع ان يعتبر سجن مقدم طلب الالتماس في سينت هيلانة ، في هذه المرحلة على الاقل ، أمراً يمكن ان يطعن فيه على اساس التاريخ الذي يحمله أمر تسليم السجناء الى قائد السفينة وهو 26 ديسمبر 1956 ، إذ ان العبرة بتاريخ تنفيذ أمر التسليم الذي تم بنقل السجناء الفعلي الى عهدة قائد السفينة الحربية وذلك في 28 ديسمبر 1956.

ولكن رئيس القضاة اقر في آخر جملة من حكمه ، بان الطلب المقدم في هذه القضية قد اثار اسئلة قانونية ذات اهمية موضوعية تتضمن بعض الصعوبات ، بالنسبة له على الاقل. ولكنه ، مع ذلك ، رفض الاستجابة لطلب الالتماس المقدم بشأن اطلاق سراح مقدم طلب الالتماس. وقد صدر هذا الحكم بتاريخ 20 مارس 1959 ،

ومع ذلك ، فانه يبدو أن الاشارات في هذا الحكم الى غياب بعض المعلومات التي تتعلق ، بصورة خاصة ، بوقت نشر قانون الامر الملكي لسنة 1956 وبوقت امر تسليم السجناء الى قائد السفينة وذلك بتاريخ نفس اليوم (وهو 28 ديسمبر 1956) ، قد فتح المجال للتفاؤل في امكانية استئناف هذا الحكم امام محكمة الملكة في لندن والتي تعرف بِـ"اللجنة القانونية لمجلس الملكة".



الاستئناف امام اللجنة القانونية لمجلس الملكة بلندن:

لقد قام محامو عبدالرحمن الباكر الذي رفض طلب التماسه امام المحكمة العليا في سينت هيلانة بشأن اطلاق سراحه من سجنه في الجزيرة ، بالتقدم بالطعن في الحكم السالف الذكر وذلك بالاستئناف المقدم الى اللجنة القانونية لمجلس الملكة “The Legal Committee of the Privy Council” في لندن. وقد تمت المرافعات في شأن هذا الاستئناف خلال الايام 26 ، 27 ، 28 ابريل 1960 امام هذه المحكمة المشكلة من خمسة قضاة من اللوردات المعينين من الملكة. ويعتبر مجلس الملكة هو محكمة الاستئناف العليا للقضايا المحكوم فيها من المحاكم العليا في المستعمرات البريطانية وفي البلدان التابعة لاتحاد دول الكومنولث البريطاني التي لم تجد ضرورة لان تنشيء محاكم استئناف عليا خاصة بها في بلدانها.

وكان دفاع رئيس فريق المحامين المستر ريبورن (Mr Raeburn) ، بصفته ممثلاً عن المستأنف (عبدالرحمن الباكر) ، امام قضاة مجلس الملكة ، منصباً على عدة نقاط قانونية منها ان الحكومة البريطانية حينما طبقت قانون سنة 1869 بشأن نقل السجناء من مستعمرة الى اخرى تحت التاج البريطاني ، على البحرين بتاريخ 19 ديسمبر 1956 ، لم تكن تتمتع بسلطة الاختصاص القضائي وفقا للقسم 4 من قانون السلطة القضائية البريطانية لسنة 1890 ، بالنسبة للمواطنين البحرينيين المحكوم عليهم من المحكمة الخاصة لحاكم البحرين بتاريخ 23 ديسمبر 1956. وحيث ان القسم 4 من القانون المذكور يعطي حق الاجابة النهائية على مثل هذا السئوال الى وزير الخارجية البريطاني ، فإن مجلس الملكة قد حول فعلاً هذا السئوال الى وزير الخارجية البريطاني للاجابة عليه ايجاباً او سلباً ، وسيكون جوابه حاسماً لهذا الامر المختلف عليه ، وفقاً لقانون السلطة القضائية البريطانية لسنة 1890. وقد تسلم مجلس الملكة رد وزير الخارجية البريطاني على هذا السئوال بموجب خطاب الاخير بتاريــخ 8 ابريل سنة 1960. وكان جواب وزير الخارجية المذكور كما كان متوقعاً ، وهو ان حكومة صاحبة الجلالة الملكة كانت لها صلاحية السلطة القضائية بتاريخ 19 ديسمبر 1956 على المواطنين البحرينيين الثلاثة من قادة الحركة الوطنية المقبوض عليهم وذلك لغرض تطبيق القانون البريطاني لسنة 1869 على البحرين بشأن نقل السجناء من مستعمرة بريطانية الى مستعمرة بريطانية اخرى. وتطبيقاً لهذه السلطة القضائية الممنوحة للحكومة البريطانية ، فانها اصدرت بتاريخ 19 ديسمبر 1956 القانون الخاص بالامر الملكي الذي يجيز الترتيب الذي جرى بين حاكم البحرين وحاكم سينت هيلانة بشأن تطبيق قانون سنة 1869 بشأن نقل السجناء من مستعمرة الى مستعمرة اخرى ، على اقليم البحرين وذلك على اعتبار ان البحرين اصبحت ، لغرض تطبيق هذا القانون فقط ، في حكم المستعمرة، بالرغم من كونها دولة محمية لا مستعمرة. وبعد حصول قضاة مجلس الملكة الاستئنافي على تلك الاجابة النهائية من وزير الخارجية ، لم تكن لهم سلطة مناقشة هذه الاجابة من وزير الخارجية البريطاني او عدم قبولها وذلك في ضوء حكم القسم 4 من قانون السلطة القضائية البريطاني لسنة 1890 المطبق في اقليم البحرين بموجب الباب الثامن من القانون الخاص بالامر الملكي لسنة 1952 الخاص بانشاء محاكم بريطانية في اقليم البحرين. وعلى هذا الاساس ، فقد حكم قضاة مجلس الملكة بان الاجابة المستلمة من وزير الخارجية البريطاني على السئوال المذكور ، لغرض هذه المحاكمة ، تنهي أي خلاف حوله وذلك في ضوء حكم القسم 4 من قانون السلطة القضائية البريطانية لسنة 1890 المطبق في اقليم البحرين. كما ان قضاة محكمة مجلس الملكة لم يعطوا اهمية قانونية لمرافعة محامي المستأنف بشأن الطعن في شرعية امر تسليم السجناء الى قائد السفينة الحربية الصادر من حاكم البحرين والذي يحمل تاريخ 26 ديسمبر 1956 ، في الوقت الذي لم ينشر القانون الخاص بالامر الملكي لسنة 1956 - الذي يجيز اصدار امر التسليم المذكور الصادر من حاكم البحرين - إلا بتاريخ 28 ديسمبر 1956. والسبب في ذلك هو ان قضاة المحكمة وجدوا ان العبرة بالتاريخ الحقيقي لتسليم السجناء فعلاً الى قائد السفينة ، او بمعنى آخر ، بتاريخ تنفيذ امر التسليم ، وليست العبرة بتاريخ امر التسليم الصادر الذي يحمل تاريخ 26 ديسمبر 1956. وقد كان هذا التسليم قد تم تنفيذه فعلاً بتاريخ 28 ديسمبر 1956 ، وهو نفس التاريخ الذي نشر فيه قانون الامر الملكي لسنة 1956.

ولكن الامر الوحيد الذي وجد القضاة فيه صعوبة لاتخاذ قرار حاسم بشأنه هو السئوال بشأن الوقت الذي نقل فيه المستأنف مع رفيقيه فعلاً الى السفينة الحربية في يوم 28 ديسمبر 1956 ، وهل كان هذا الوقت سابقاً ام لاحقاً لوقت نشر قانون الامر الملكي في نفس يوم 28 ديسمبر 1956. إن هذه الصعوبة في الاجابة على هذا السئوال الذي واجه قضاة مجلس الملكة في الاستئناف الماثل ، نتيجة لعدم توفر المعلومات بشأنه ، هي نفس الصعوبة التي واجهت رئيس قضاة المحكمة العليا في سينت هيلانة بشأن الاجابة على هذا السئوال الذي لم تتوفر المعلومات اللازمة للاجابة عليه ، الامر الذي أدى الى الحكم برفض طلب الالتماس باطلاق سراح عبدالرحمن الباكر امام تلك المحكمة سابقا. إذ انه لو توفرت معلومات لمحكمة مجلس الملكة الاستئنافية تثبت ان المستأنف مع رفيقيه قد سلموا الى عهدة قائد السفينة الحربية في ميناء الجفير في وقت سابق على وقت نشر قانون الامر الملكي لسنة 1956 لذي يتضمن اجازة الحكومة البريطانية لترتيبات نقل السجناء الى سينت هيلانة ، فان هذه المحكمة ستحكم بقبول الاستئناف الماثل امامها ، وذلك نظراً لان نشر كل من هذا القانون لسنة 1956 والتسليم الفعلي للمستأنف مع رفيقيه الى قائد السفينة الحربية قد تم في تاريخ واحد هو 28 ديسمبر 1956. وكان على هذه المحكمة الاستئنافية ان تعرف ما اذا كان وقت امر تسليم السجناء الى قائد السفينة الحربية قد تم قبل او بعد وقت نشر قانون الامر الملكي لسنة 1956 المذكور لتستطيع ان تبت في امر الاستئناف سلباً او ايجاباً في ضوء انكشاف تلك الحقيقة. اذ انه اذا كان امر تسليم السجناء الى قائد السفينة قد تم قبـل وقـت نشـر قانـون الامـر الملكـي لسنــة 1956 في دائرة المعتمد البريطاني من يوم 28 ديسمبر 1956 ، فان امر التسليم سيعتبر باطلاً على اساس ان حاكم البحرين لم تكن له صلاحية اصدار امر التسليم المذكور اذا كان وقت تنفيذه قد سبق وقت نشر قانون الامر الملكي لسنة 1956 الذي يخول حاكم البحرين باصدار امر التسليم المذكور.

وعليه ، لو كان يوجد في الاستئناف ما يثبت ذلك ، فان الحكم الصادر من محكمة سينت هيلانة الصادر في 20 مارس 1959 ، سيصبح حكماً باطلاً وبالتالي ، فانه سيتم الافراج عن المستأنف عبدالرحمن الباكر مع رفيقيه عبدالعزيز الشملان وعبدعلي العليوات وذلك على اساس هذا البطلان.

ولكن قضاة مجلس الملكة لم يستطيعوا ان يبتوا في هذا الامر المتعلق بوقت تقديم امر تسليم السجناء الى قائد السفينة الحربية وذلك على اساس عدم وجود شهادة اثبات بشأن هذا الامر الذي لم يثر في السابق امام المحكمة العليا في سينت هيلانة المستأنف حكمها. ولذلك ، فانه لا يمكن اثارة هذا الامر لاول مرة امام هذه المحكمة الاستئنافية. وعلى اساس هذه الاسباب القانونية ، لم يجد قضاة مجلس الملكة ، المشكلة من خمسة لوردات من القضاة ، سبيلاً لالغاء حكم المحكمة العليا في سينت هيلانة الصادر بحق المستأنف بشأن عدم الاستجابة لطلب التماسه الخاص باطلاق سراحه من سجنه بجزيرة سينت هيلانة. ولكن بالرغم من ان هذا الحكم الاستئنافي قد اثار خيبة امل سجناء سينت هيلانة ، إلا أنه ، في نفس الوقت ، تضمن بارقة أمل لهم باشارته الواضحة الى امكانية تقديم دليل جديد في قضيتهم يثبت بالفعل الوقت الذي نشر فيه قانون الامر الملكي لسنة 1956 في دائرة المعتمد السياسي والوقت الذي نفذ فيه أمر تسليم السجناء ، الموقع من حاكم البحرين ، الى قائد السفينة الحربية الرابضة في ميناء الجفير وذلك من نفس ذلك اليوم وهو 28 ديسمبر 1956.

وعليه ، فان محاميي السجناء (المستر شريدان وشركاه) فكروا جدياً في رفع دعوى جديدة امام المحكمة العليا في سينت هيلانة باسم شخص آخر من السجناء وهو عبدالعزيز الشملان ، لتبدأ اجراءات المحاكمة من جديد على اساس طلب اصدار امر قضائي (هيبيوس كوربوس) جديد باسم الاخير لاطلاق سراحه من سجنه غير القانوني في الجزيرة.

ويتميز هذا الامر القضائي عموماً ، الضامن لحرية الافراد ، بانه في حالة فشل الحصول عليه باسم احد السجناء (كما حصل في حالة طلب الباكر) ، يمكن تقديم نفس الطلب باسم سجين آخر من جديد ، وهكذا يمكن تقديمه باسم السجين الاخر الذي يليه وهو السجين الثالث في حالة فشل طلب التماس السجين الثاني ... الخ.

ونظراً لان محاميي سجناء سينت هيلانة استطاعوا - خلال الفترة التي عقبت صدور حكم محكمة مجلس الملكة بتاريخ 1 يونيه 1960 بشأن رفض الاستئناف المقدم سابقاً باسم عبدالرحمن الباكر - ان يحصلوا على الدليل المطلوب بشأن الوقت الحقيقي الذي تم خلاله تسليم امر حاكم البحرين الى قائد السفينة الحربية بشأن وضع السجناء في عهدته بتاريخ 28 ديسمبر 1956 ، فانهم لذلك ، باشروا في اتخاذ الاجراءات القانونية اللازمة بشأن السجين الثاني وهو عبدالعزيز الشملان. وسنبين تفصيل هذه الاجراءات القانونية المستجدة ادناه.



المحاكمة الثانية باسم عبدالعزيز الشملان امام

رئيس قضاة المحكمة العليا في سينت هيلانة:

إنه بناء على ظهور بعض الحقائق التي كشفت عنها شهادة احد شهود المسئولين البريطانيين فيما يتعلق بتحديد الوقت الحقيقي من صباح يوم 28 ديسمبر 1956 الذي سلم فيه السجناء إلى عهدة قائد السفينة الحربية البريطانية (لوخ انش) بموجب امر التسليم الموقع من حاكم البحرين ، فقد تقدم محامو السجناء، بناء على تلك الحقائق ، بطلب جديد - باسم عبدالعزيز الشملان في هذه المرة - الى رئيس قضاة المحكمة العليا في سينت هيلانة ، ملتمسين منه الموافقة على اصدار أمر قضائي جديد (هيبيوس كوربوس) لاطلاق سراح مقدم طلب الالتماس من سجنه غير القانوني في المستعمرة المذكورة. وقد نجح هذا الطلب هذه المرة ، نتيجة لتوفر الدليل بشأن العقدة المفقودة في المحاكمة الاولى امام المحكمة بشأن الوقت الذي تمَّ فيه تنفيذ امر تسليم السجناء الى قائد السفينة الحربية في ميناء الجفير في صباح يوم 28 ديسمبر 1956. وبناء على ذلك ، فان رئيس قضاة المحكمة العليا في المستعمرة (سينت هيلانة) المستر "إي أبوت" (E. Abbott) ، لم يجد في هذه المرة اية صعوبة تذكر في قبول طلب التماس عبدالعزيز الشملان باطلاق سراحه من سجن سينت هيلانة على اساس ان سجنه في الجزيرة لا يقوم على اساس قانوني. وبناء على مبدأ الحريات الشخصية المطلقة التي يجسدها الامر القضائي المذكور موضوع الالتماس ، فان الحكم القضائي الذي صدر من هذه المحكمة باطلاق سراح الملتمس عبدالعزيز الشملان من سجنه في الجزيرة ، يعم ويشمل أثره السجينين الاخرين الباكر والعليوات لانهما قد سجنا مع مقدم طلب الالتماس في ظل نفس الظروف وبموجب لائحة اتهام واحدة وجهت لهم جميعا.

وقد صدر الحكم المذكور باطلاق سراح سجناء سينت هيلانة بتاريخ 13 يونيه 1961 وذلك بعد بقائهم في ذلك السجن منذ وصولهم الى مستعمرة سينت هيلانة على ظهر السفينة الحربية البريطانية بتاريخ 27 يناير 1957.

وبمراجعة حيثيات الحكم المذكور ، يتبين لنا ان اطلاق سراح سجناء سينت هيلانة من قادة هيئة الاتحاد الوطني في البحرين ، قد تم على اساس نقطة قانونية اجرائية بحتة. ويمكن شرح ذلك على لسان رئيس القضاة المستر ايليوت أبوت (E. Abbott) في حكمه التاريخي كالتالي:

لقد بين القاضي:

"أنه في الساعة السادسة صباحا من يوم 28 ديسمبر 1956 ، حينما وضع السجناء الثلاثة على ظهر السفينة الحربية البريطانية (لوخ انش) ، الرابضة في ميناء الجفير في البحرين ، كان أمر التسليم الذي يجيز نقل السجناء من البحرين الى سينت هيلانة ، باطلاً وذلك على اساس الحقيقة التي انكشفت لاحقاً وهي أن قانون الامر الملكي لسنة 1956 الذي يعطي الصلاحية القانونية لامر التسليم الذي اصدره حاكم البحرين ، لم يوضع على لوحة الاعلانات لدى دائرة الوكيل السياسي البريطاني (المعتمد) في البحرين إلا في الساعة الثامنة من صباح نفس اليوم الذي صدر فيه امر التسليم وهو 28 ديسمبر 1956. ولما كان امر التسليم قد صدر في الساعة السادسة من صباح ذلك اليوم ، فانه يتبين ان السجناء قد سلموا لعهدة قائد السفينة الحربية قبل ساعتين من وقت نشر قانون الامر الملكي لسنة 1956. وعليه فقد كان امر التسليم باطلاً بطلاناً مطلقاً ، ولا يوجد شيء مما حدث فيما بعد ، يمكن ان يصحح هذا البطلان. وباعتبار أمر التسليم هذا باطلاً ، فانه يبقى باطلاً الى الابد".

واخيراً ، فبصدور هذا الحكم العادل ، بعد جهد مضني من المراجعات والمحاكمات استغرق نحو اربع سنوات ، يصور عبدالرحمن الباكر في كتابه "من البحرين الى المنفى" في الصفحة 380 منه ، مدى الفرحة التي عمت الحاضرين في قاعة المحكمة من الجمهور بقوله:

"لا يتصور المرء كيف كانت فرحتنا كأنما ولدنا من جديد بعد المحاولات العديدة منذ عام 1958 الى عام 1961 لطلب الافراج عنا في عدة محاكم حتى حقق الله الحق وأزهق الباطل ، وأخذ كل واحد منا يفكر: ترى هل صحيح اننا اصبحنا احراراً واننا لن نؤخذ قسراً في زنزانة ضيقة في احدى البوارج الحربية البريطانية الى سجن البحرين الرهيب".

وتجدر الاشارة الى انه نتيجة لاهتمام الصحافة البريطانية والبرلمان البريطاني بأمر سجناء سينت هيلانة خلال سنتي 1960-1961 ولطلب البرلمان البريطاني باطلاق سراحهم من السجن في الجزيرة، تقدمت الحكومة البريطانية بطلب خاص الى حاكم البحرين للعفو عنهم واطلاق سراحهم ، ولكنه رفض هذا الطلب وطالب الحكومة البريطانية بارجاعهم الى البحرين لاستكمال مدة سجنهم هناك. ولم تكن حكومة البحرين مرتاحة حقيقة من المحاكمات الجارية في سينت هيلانة وفي لندن لاطلاق سراح قادة هيئة الاتحاد الوطني.

ولكن البرلمان البريطاني اتخذ موقفاً متشدداً من حكومته يقضي بعدم الاستجابة لطلب حاكم البحرين بارجاع السجناء الى البحرين ، خوفاً من ان يتعرضوا الى مزيد من الاذى والضرر. وطلب اعضاء البرلمان المتعاطفون مع قضية سجناء سينت هيلانة في عدة جلسات برلمانية صاخبة ، بان يبقى السجناء في سجن سينت هيلانة الى ان تستنفذ اجراءات المحاكمات في الجزيرة بشأن اطلاق سراحهم. وقد استجابت الحكومة البريطانية لهذا الطلب البرلماني ، رافضة بذلك طلب حاكم البحرين بشأن ارجاعهم الى البحرين.

التعويض المادي عن السجن غير القانوني:

ومن الميزات الاخرى العديدة لهذا الامر القضائي - المسمى (هيبيوس كوربوس) - الذي يعطي الحق للسجين المحجوزة حريته في احدى السجون البريطانية ان يقدم التماساً للقضاء باطلاق سراحه ، هي ان السجين الذي يصدر حكم قضائي باطلاق سراحه بناء على طلب الالتماس الذي يتضمنه هذا الامر القضائي، يستحق التعويض المادي المباشر من الحكومة البريطانية التي وافقت على سجنه في احدى السجون التابعة لها ، وذلك بدون ضرورة لاقامة دعوى مدنية خاصة ضد الحكومة البريطانية للمطالبة بهذا التعويض. ونتيجة لذلك ، فقد باشرت الحكومة البريطنية حال وصول قادة هيئة الاتحاد الوطني الثلاثة ، عن طريق الباخرة ، الى لندن بتاريخ 14 يوليه 1961 ، بتقديم تعويض مادي لهم عن سجنهم في سينت هيلانة غير القانوني وذلك بمبلغ وقدره -/45,000 جنيهاً استرلينياً حيث تسلم كل واحد منهم في لندن مبلغ -/15,000 جنيهاً استرلينياً.

وبذلك ، ومن خلال المحاكمات التي جرت في سينت هيلانة وفي محكمة اللجنة القانونية لمجلس الملكة في لندن ، انتهت القصة الانسانية البائسة لسجناء قادة هيئة الاتحاد الوطني الذين اصبحوا احراراً طلقاء.

وقد وزع قادة الهيئة عند وصولهم الى لندن بياناً للصحف البريطانية قالوا فيه:

"إن الحكم العادل الذي صدر مؤخراً في سينت هيلانة ، بالافراج عنا قوى ايماننا بنزاهة القضاء البريطاني. إننا اعضاء في هيئة الاتحاد الوطني ، الهيئة الشعبية المعترف بها رسمياً في البحرين ، هدفنا ورائدنا الاصلاح وتحسين اوضاع الشعب البحراني والعمل من اجل الحياة الحرة الكريمة ، في ظل نظام ديمقراطي سليم يكفل للمواطن حريته وسلامته ، ذلك النظام الذي يتمتع به كل مواطن في بريطانيا وفي العالم الحر".

واثناء وجودهم في لندن ، كانت اهم مشكلة تواجههم هي موضوع سفرهم الى الخارج ، وكيف يسافرون من بريطانيا بدون حملهم جوازات رسمية من حكومتهم التي رفضت طلب الحكومة البريطانية باعطائهم جوازات سفر - ولو مؤقتة - للسفر الى الجهة التي يودون السفر اليها.

وقد فضل عبدالعزيز الشملان وعبدعلي العليوات ، السفر الى سوريا والبقاء هناك الى ان تسمح لهما حكومة البحرين بالرجوع الى البحرين. أما عبدالرحمن الباكر ، فقد فضل ان يسافر الى لبنان ويبقى هناك على ان يُرجع اليه هو الاخر جواز سفره ليقدم الى البحرين التي يعتبرها وطنه الام التي ولد فيها.

وفي ظل ظروف رفض حكومة البحرين ارجاع جوازات سفر الباكر والشملان والعليوات اليهم ، قررت الحكومة البريطانية منحهم جوازات سفر بريطانية مكتوب فيها بعد اسم كل منهم ، عبارة "شخص محمي" (Protected Person).

وختاماً ، إذا كان لنا ان نسجل امراً مهما نال قسطاً وافراً من تفكير عبدالرحمن الباكر اثناء وصول المحامي (المستر شريدان) الذي تولى الدفاع عنه وعن رفيقيه في سينت هيلانة ، فان هذا الامر كان يتعلق بمصدر تمويل حملة الدفاع عن المسجونين والاشخاص الذين كانوا وراءها. وعليه فهو يذكر في الصفحة 381 من كتابه السالف ذكره (الطبعة الثانية لسنة 2002) تحت عنوان "من الممول"؟ ، ما يلي:

"لقد كان حديثي مع المحامي شريدان طويلاً جداً حول الجهة الممولة للقضية من اساسها. وقال لي: "انني لا اعلم عن المصدر ، وكل الذي اعرفه ان صديقكم في لندن يدفع لنا كلما طلبنا منه مبلغاً من المال. ويمكنك عند اجتماعك بالصديق (في لندن) ان تعرف عن الممول للقضية كلها".

ثم يكرر الباكر في الصفحة 388 من كتابه ، في مجال شكره للاشخاص والهيئات التي قدمت المساعدة المادية والمعنوية له ولرفيقيه ، شكره واعتزازه "بالمجهودات الجبارة التي بذلها اخواننا في الكويت وكذلك المجهود الهائل الذي بذله زميل لنا في لندن ، وكان له الاثر الفعال في انجاز جميع المهام على الوجه الاكمل".

وحيث ان عبدالرحمن الباكر لم يرد أن يكشف في كتابه اسم ذلك الزميل والصديق الذي كان في لندن يعمل من اجل اطلاق سراحهم ، فانه يجدر التساؤل: تُرى من يكون ذلك الصديق الذي عين المحامين في لندن لتولي الدفاع عن سجناء سينت هيلانة ومتابعة قضيتهم اثناء سير المحاكمات امام المحكمة العليا في سينت هيلانة وامام محكمة مجلس الملكة (Privy Council) بلندن؟!



مراجع هذا البحث هي التالية:

1- التقرير السنوي لحكومة البحرين لسنة 1956 المتعلق بالوصف العام لحوادث الشغب في تلك السنة وبتشكيل المحكمة الخاصة لمحاكمة قادة هيئة الاتحاد الوطني. وقد كُتب هذا التقرير باللغة الانجليزية باسم مستشار الحكومة السير شارلز بلجريف.

2- كتاب المستشار السير شارلز بلجريف باللغة الانجليزية المعنون: “The Personal Column”.

3- الحكم الصادر من رئيس القضاة المستر بريت (Brett) في قضية عبدالرحمن الباكر امام المحكمة العليا في سينت هيلانة ، بتاريخ 20 مارس 1959 بشأن الالتماس باطلاق سراحه من سجن الجزيرة.

4- الحكم الصادر بتاريخ 1 يونيه 1960 من "اللجنة القانونية لمجلس الملكة البريطانية بلنــدن" (Privy Council) في قضية الاستئناف امام قضاة الملكة لهذه المحكمة والمقدم باسم عبدالرحمن الباكر.

5- الحكم الصادر بتاريخ 13 يونيه 1961 من رئيس قضاة المحكمة العليا في سينت هيلانة المستـر إي ابوت (E. Abbott) بشأن طلب الالتماس المقدم باسم عبدالعزيز الشملان لاطلاق سراحه من سجن الجزيرة.

6- كتاب عبدالرحمن الباكر المعنون "من البحرين الى المنفى" (سينت هيلانة) الطبعة الثانية لسنة 2002 مطبعة بيروت - لبنان.

1. “Bahrain Government Annual Reports”, Review of the year 1956, pages 3-8, by Charles Belgrave, Adviser to Government published by Archive Editions, England.

2. “The Personal Columns” by Charges Belgrave, 1958.

3. The case of Abdul Rahman Al-Baker v. Robert Edmund Aldorf (1960), Judgment of Chief Justice Brett, in the Supreme Court of St. Helena, 20 March, 1959, case of Judicial Committee Privy Council, Abdul Rahman Al Baker v. Robert Edmund Aldorf, June 1, 1960.

4. Case of Abdul Aziz Al Shamlan v. Robert Edmund Aldorf, Judgment of Chief Justice Mr. E. Abbott on 13 June 1961.


** ورقة مقدمة بتاريخ 23/12/2004 في ورشة بجمعية العمل الوطني بمناسبة ذكرى محاكمات أعضاء هيئة الاتحاد الوطني في 23/12/1965



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن