الشعراء كانوا اداة الاعلام والصحافة عند العرب

سمير بشير محمود النعيمي
sam_bas2003@yahoo.com

2012 / 5 / 5


الشعراء كانوا اداة الاعلام و الصحافة عند العرب
بقلم الاعلامي :سميربشيرمحمود النعيمي
لما كان للشعر من نفوذ في المجتمع العربي والعصر الاسلامي بمختلف حقبه فقد كان للشعراء دور كبير في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية عند العرب وفي العصر الاسلامي ايضا كان الشعر اداة اعلامية شعبية اشبه بالصحافة وبالاذاعة والتلفزيون في ايامنا الحالية ..
فالشعرمنذ القديم ينتشر بدون حدود ويحفظه الاميون وتتغنى به الفتيات وكل افراد المجتمع وبتغير الانظمة والخلفاء والملوك زاد نفوذ الشعراء كثيرا لسرعة انتشار اشعارهم وارائهم وحكمهم وامثالهم واصبح مديحهم يدوي بين الشعاب والوديان ويخترق المدن والامصار ويطوف بين البلدان بواسطة التجار والحجاج فيرفع من قدر الممدوح وينشر محاسنه وصفاته الحميدة الجيدة فتنتشر سمعته الطيبة بين الناس وكذلك ان كانت هجاء فسرعان ماينشر ذم المهجو بين الناس سرعة انتشار النار في الهشيم حتى وان لم يكن المهجو يحمل الصفات السيئة التي ذكرها الشاعرفتنتشر سمعته السيئة وتحط من قدره وقدر عشيرته بين الناس وكل ما كان اللفظ قوي البيان وسلس العبارة وجيد الوصف وسهل الحفظ كلما انتشر اسرع أن كان مدحا او ذما.
هذه الحقيقة ادركها الحكام والخلفاء جيدا ولخصها عبد الله بن الزبير في قوله (للنوار) حين خاصمت زوجها الشاعر (الفرزدق):
- اما ان ترجعي مع ابن عمك وزوجك وتصالحيه واما ان نقتله فلا يهجونا .
فالحكام يرون ان وجود الشاعر المعادي خطر عليهم فاما ان يقتلوه واما ان يخضعوا لمطالبه ويرضوه .
واصبح للشعراء نفوذ سياسي علاوة على النفوذ الاجتماعي حين شفع الفرزدق في جندي اسمه (قنس ) ليرجع الى والديه من الغزو فلم يستطع القائد قراءة الاسم (لان الكتابة كانت بدون نقط في حينها ) فاطلق هذا القائد كل من يحتمل ان يكون اسمه هو المقصود اذا نقطت الحروف بكل وجه فكانوا قرابة الاربعين جندي!
وحتى النفوذ الاجتماعي يتحكم به الشاعر بقصيدة اما تمدحهم فترفع من عليائهم واما تهجوهم فتقل من قدرهم ومنزلتهم وقد قال جرير بائيته المسماة بالدافعة والتي يهجو فيها الراعي الشاعر بقوله :
فغض الطرف انك من نمير................................ فلا كعبا بلغت ولا كلابا
فقد سدت في وجه بني نمير طريق السمو الاجتماعي حتى يقال انه لم يفلح رجل من تلك القبيلة بعدها ....فالشعراء كانت لهم القدرة على قلب الموازين والقيم الاجتماعية وكانت لهم تاثيرات نفسية عميقة على تصرفات الافراد فان ابن نوفل هجا عبد الملك ابن عمير بقوله :
اذا ذات دل كلمته لحاجة............... ............ فهم بان يقضي تنحنح او سعل
فقال عبد الملك تركني والله والسعلة لتعترضني في الخلاء فأذكر قوله فاهاب ان اسعل .
وقد كان الشعراء يتخيلون صفات معينة يمدحون بها ممدوحيهم او قبائلهم او انفسهم وقد تكون هذه الصفات موجودة اصلا فيكتسب قيمة ادبية اكبر وقد تكون محض خيال فيصبح مطلبا . و في العصر العباسي اصبح المديح ذا طابع تكسبي , فقد إستطاع أغلب الشعراء أن يرسموا لشخصية الممدوح صورة رائعة تتسم بجميع الصفات الحسنة والقيم النبيلة , وذلك كان يرضى غرور الممدوحين لأنه بمثابة الإعلام المسيّس والموجه , الذي يخدم الممدوح خاصة إذا كان من الطبقات السياسية العليا , ولا يثير غضب الناس عليه ولا على سياسته , ومن هذا المنطلق كان الممدوحون يغدقون الأموال على الشعراء , وينادمونهم ويقربونهم ،و تذكر المصادر أن مروان بن أبي حفصة مدح المهدي فاستهل مدحه برقيق الغزل فقال :

طرقتك زائرة فحيّ خيالها ................................ بيضاء تخلط بالجمال دلالها
قادت فؤادك فاستقاد ومثلها ............................ قاد القلوب إلى الصبا فأمالها
ثم يصل مروان بن أبي حفصة إلى لب القصيدة وفكرتها :
هل تطمسون من السماء نجومها ......................... بأكفكم أو تسترون هلالها
أو تجحدون مقالة عن ربكم ............................... جبريل بلغها النبيّ فقالها
شهدت من الأنفال آخر آية.............................. ... بتراثهم فأردتهم إبطالها
فيزحف المهدي من صدر مصلاه حيث كان جالسا حتى صار على البساط إعجابا بما سمع , ثم يقول لمروان : كم هي ؟ فيقول مائة بيت , فيأمر له بمائة ألف درهم فكانت أول مائة ألف يأخذها شاعر في أيام العباسيين ..
مضى الشعراء في مديح الخلفاء والولاة يضيفون إلى المثالية الخلقية من سماحة وكرم وحلم وحزم ومروءة وعفة وشرف وعلو الهمة والشجاعة والبأس , ومثالية الحكم وما ينبغي أن يقوم عليه من الأخذ بدستور الشريعة وتقوى الله والعدالة التي لا تصلح حياة الأمة بدونها , وبذلك كانوا صوتا قويا لها , صوتا يهتف في آذان الحكام بما ينبغي أن يكونوا عليه في سلوكهم كانت قصيدة المديح أحيانا بمثابة رسائل توجيهية(او مقالات توجهيهية) للحاكم ليصلح من حال رعيته ومثاله مدح أبي العتاهية لهارون الرشيد وتبليغه في مدحه مأساة اجتماعية فيقول :
من مبلغ عني الإما م......................................................... نصائحا متواليه
إني أرى الأسعار أسـعار....................................................... الرعية غالية
وأرى المكاسب نزرة............................................... وأرى الضرورة غاشية
وأرى اليتامي والأرامل ................................................ في البيوت الخالية
من بين راج لم ينزل.................................................... يسمو إليك وراجية
يا ابن الخلائف لا فقد ت ............................................... ولا عدمت العافية
إن الأصول الطيبا ت ....................................................... لها فروع زاكية
ألقيت أخيارا إليـك ......................................................... من الرعية شافية
ونصيحتي لك محضة .................................................. ومودتي لك صافية
هذه القصيدة بحق مادة اعلامية وصحفية دسمة لانها تشرح ماسي اجتماعية يعاني منها الشعب وتنبه الحاكم او الوالي لهذه المأسي فالشاعر ابو العتاهية بعد ان يمدح الملك هارون الرشيد يلفت نظره الى غلاء الاسعار و حاجة الايتام والارامل لمد يد المساعدة لهم ونعرج الى الشاعر الكبير والاعلامي الناجح المتنبي الشاعر الذي شغل الدنيا والناس وقد اعطاه كافور الاخشيدي الاسود الخصي وعدا بان يحقق امانيه واحلامه في تنصيبه (والي) على احدى المدن على ان يقوم المتنبي بمدحه ليتفاخر بشعر ومدح المتنبي الذي يكره كافور لانه سرق الحكم عنوة وهو العبد الوضيع فكان يمدحه مضطرا ليحقق طموحه وكان كافور يماطله ويراوغه و قد ضاق صبر المتنبي بهذه الوعود الكاذبة .....
ووصل أبو الطيب المتنبي إلى مرحلة اليأس والقنوط والإحباط في مصر.. أهمل مجالسَ كافور ، فما عاد يتردد عليها ، وحين كان يطلب منه قصيدة مادحة كان الشاعر الحزين لاينقاد بسهولة للطلب .. وهجَر عِشرةَ الناس ، ، وصار ينفرد بذاته ، ، ويجتر آلامه ، ويرسم الخطط التي تنقذه من هذا الشَّرَك الذي أوقعه به كافور ... وقبل أن يطفح الكيل ، جاء إلى كافور وسأله صراحة عن وعده بحكم ضيعة أو ولاية أو أي مكان .. وبَيَّن له أنه ما قدِم إلى مصر إلا بعد أن اطمأنّ إلى وعوده البراقة . فأجابه كافور :
" أنت في حال الفقر وسوء الحال وعدم المعين سَمَتْ نفسك إلى النبوة ، فإن أصبتَ ولاية صار لك أتباع ، فمن يطيقك ؟ " .
، فلن يخدع الشاعر بعد الآن لقد كانت نقمته على الرجل الملوّن المخادع ، وخيبة أمله في انهيار مشاريعه عظيمتين .
ولم يخطئ كافور في معرفة نوايا أبي الطيب ، فقد أدرك حقيقة مشاعره نحوه ، وكان يعلم أنه سيفرُّ من الفسطاط عند سنوح أول فرصة ، وأنه سيعقب فراره بشعر هجائي وسخرية لاذعة ، فنشر الجواسيس يراقبون أبا الطيب ؛ وعرف المتنبي كل هذا ، فكظم غيظه وأخفى عواطفه وخططه
ويبدو أنه أتخذ لنفسه حراساً انتقاهم من عبيده الأشداء لمقاومة كل هجوم محتمل ، وكانت خطته زيادة في إمكانية نجاحها أن يغتنم فرصة احتفالات الناس بعيد الأضحى للخروج من الفسطاط ، وهي خير فرصة للهرب والتخفي .
،وقد خرج المتنبي سراً من الفسطاط ، بعد ان سبقته الإبل المحملة بالسلاح والأمتعة والزاد لعدة أيام ، وأغذ السير ، فاجتاز برزخ السويس ، ثمّ أوغل في صحراء التيه شمالي سيناء .
وتنبه القوم بسرعة إلى فراره ، فلم يستطيعوا اللحاق به ؛ وكان غيظ كافور شديداً جداً ، وأراد المتنبي بعد أن أصبح بعيداً وآمناً أن يشهَد الناس مرة واحدة– على الأقل ـ على الازدراء الذي يكنّه لسيده القديم ، وتولت أيدٍ أمينةٌ إيصالَ قصيدة هجائية مقذعة إلى الخصيِّ كافور ، ولكن العملية لم تنجح ، لأن كافوراً شكّ في محتواها ، فأمر بإحراقها ، ولم يقف على ما فيها .
عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ"................. "بِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ
أَمّا الأَحِبَّةُ فَالبَيداءُ دونَهُمُ"......................"فَلَيتَ دونَكَ بيدًا دونَها بيدُ
لَولا العُلا لَم تَجُب بي ما أَجوبُ بِها.......... "وَجناءُ حَرفٌ وَلا جَرداءُ قَيدودُ

.......................................
إِنّي نَزَلتُ بِكَذّابينَ ضَيفُهُمُ...................عن القرى وَعَنِ التَرحالِ مَحدودُ
جودُ الرِجالِ مِنَ الأَيدي وَجودُهُمُ.......... ......"مِنَ اللِسانِ فَلا كانوا وَلا الجودُ
ما يَقبِضُ المَوتُ نَفسًا مِن نُفوسِهِمُ"...... ........ "إِلّا وَفي يَدِهِ مِن نَتنِها عودُ
مِن كُلِّ رِخوِ وِكاءِ البَطنِ مُنفَتِقٍ"...... ..... "لا في الرِجالِ وَلا النِسوانِ مَعدودُ
أَكُلَّما اغتالَ عَبدُ السوءِ سَيِّدَهُ"....... ......... "أَو خانَهُ فَلَهُ في مِصرَ تَمهيدُ
صارَ الخَصِيُّ إِمامَ الآبِقينَ بِها"...... ........"فَالحُرُّ مُستَعبَدٌ وَالعَبدُ مَعبودُ
نامَت نَواطيرُ مِصرٍ عَن ثَعالِبِها"...... ......"فَقَد بَشِمنَ وَما تَفنى العَناقيدُ
العَبدُ لَيسَ لِحُرٍّ صالِحٍ بِأَخٍ" ............ "لَو أَنَّهُ في ثِيابِ الحُرِّ مَولودُ
لا تَشتَرِ العَبدَ إِلّا وَالعَصا مَعَهُ...... ....... "إِنَّ العَبيدَ لَأَنجاسٌ مَناكيدُ
ما كُنتُ أَحسَبُني أحيا إِلى زَمَنٍ"..... ..... "يُسيءُ بي فيهِ كَلبٌ وَهوَ مَحمودُ
وَلا تَوَهَّمتُ أَنَّ الناسَ قَد فُقِدوا"....... ...... "وَأَنَّ مِثلَ أَبي البَيضاءِ مَوجودُ
وَأَنَّ ذا الأَسوَدَ المَثقوبَ مِشفَرُهُ"...... ....... "تُطيعُهُ ذي العَضاريطُ الرَعاديدُ
................
مَن عَلَّمَ الأَسوَدَ المَخصِيَّ مَكرُمَةً"...... ......... "أَقَومُهُ البيضُ أَم آبائُهُ الصيدُ
أَم أُذنُهُ في يَدِ النَخّاسِ دامِيَةً"...... ........"أَم قَدرُهُ وَهوَ بِالفَلسَينِ مَردودُ
أَولى اللِئامِ كُوَيفيرٌ بِمَعذِرَةٍ" ....... ......."في كُلِّ لُؤمٍ وَبَعضُ العُذرِ تَفنيدُ
وَذاكَ أَنَّ الفُحولَ البيضَ عاجِزَةٌ"...... ....."عَنِ الجَميلِ فَكَيفَ الخِصيَةُ السود

في رأيي لو أنَّ كافوراً أعطى أبا الطيب حُكْم مصر كلها لكان خيراً له من أن تقال فيه هذه القصيدة الرائعة الخالدة ، فحكم مصر ينتهي بانتهاء حياة المتنبي أو كافور ، ثمّ يأتي بعدهما حاكم آخر ؛ أما القصيدة فلا ينتهي أثرها بانتهاء حياة هذا أو ذاك ، وإنما هي باقية خالدة ، ترددها الأجيال بعد الأجيال ، ويدرسها الطلبة في مدارسهم على اختلاف درجاتها ومستوياتها ، يحفظونها عن ظهر قلب ، ويستشهدون ببعض أبياتها في مناسبات شتى وفي مختلف أقطار الوطن العربي .
لقد أخطأ كافور في عدم تولية المتنبي حكم صيدا ، أو أيّ ضيعة أو ولاية ، وكان بإمكانه أن يتفادى النقمة الكبرى ، بل الفضيحة الخالدة على مر العصور وكرّ الدهور .
فالقصيدة لا تشبه هجاء حسان بن ثابت لقريش ، ولا هجاء جرير للفرزدق أو الأخطل ، ولا الكميت لبني أمية ، ولا هجاء جميع الشعراء لحكامهم أو لخصومهم ، وإنما هي نسيج وَحْدِه ؛ خالدة على مر الزمن ، لم تنقص الأيام والسنون حرارتها ، لم تطفئ لهبها ولم تخمد سعيرها ولا شكَّ أنّ سر نجاحها وروعتها في المقام الأول : صدق عاطفة صاحبها ، وشدة ثورته.
كان الشعراء هم بحق اداة الصحافة والاعلام واليوم المقالة والتقارير السياسية لاتقل عن قصيدة الامس ان لم تتجاوزها



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن