دراسة في وعي الثقافة الأمازيغية

عبد النور إدريس
abdennour.driss@gmail.com

2012 / 4 / 24

دراسة في وعي الثقافة الأمازيغية بقلم د. عبد النور ادريس
■ أكد تلاقح الحضارات منذ الأزل أن الأبعاد الثقافية وإن لم تنصهر بحكم احتكاكها وتقاربها في قالب واحد. فإنها بالتالي لا تتعارض بل يكمل بعضها البعض وهذا ما جعل أيادي سكان المغرب "البربر" مفتوحة لاحتضان الحضارة الإسلامية قبل وبعد وصول المولى إدريس الأول للمغرب رغم أنه لم يتول سلطة البلاد لقرابته من نسب النبي صلى الله عليه وسلم بل لمكانته العلمية التي حظي بها، مكانة علمية أهلته لسلطانهم كما وقع لمهدي الموحدين إذ يقول ابن خلدون في هذا الإطار: «... ولا نجعل من هذا الباب إلحاق مهدي الموحدين بنسب العلوية فإن المهدي لم يكن من منبت الرئاسة في هرتمة قومه وإنما رأس عليهم بعد اشتهاره بالعلم والدين ودخول قبائل المصامدة في دعوته وكان مع ذلك من أهل المنابت المتوسطة فيهم»1.
فإدريس الأول إذن لم يأت غازيا ولا محاربا بدليل أن القبائل المتواجدة بالمغرب آنذاك كانت في قمة قوتها وأوج عصبيتها يقول ابن خلدون عن هذه الوضعية في مقدمته ص 133 الطبعة الأولى 1978 مؤكدا أن قوتهم هاته لم تكن مدعومة من قبل عصبية دينية وأنهم غير محتاجين لنسب ما حتى ينالوا الملك يقول: «... وهم غير محتاجين لذلك فإن منالهم للملك والعزة إنما كان بعصبيتهم ولم يكن بادعاء علوية ولا عباسية ولا شيء من الأنساب... ولقد بلغني عن يغمراسن بن زيان مؤتل سلطانهم أنه لما قيل له ذلك أنكره وقال بلغته الزناتية ما معناه أما الدنيا والملك فنلناهما بسيوفنا لا بهذا النسب وأما نفعهما في الآخرة لمردود إلى الله وأعرض عن التقرب إليهما بذلك»2 فكل شيء يؤكد على أن الأمازيغيين كانت لديهم حضارة متميزة وقفت صامدة في وجه الحضارات المترادفة على المنطقة، هذه الحضارة التي أطلق عليها المؤرخون الحضارة "الليبيكية" تملك من قوة السلاح والسلطان ما حافظت به على استقرارها السياسي دون إغفال ما يترتب عن هذا الاستقرار من ترك الفرصة للثقافة المميزة أن تظهر وتتجدر، يقول «فرجليوس» - القرن الأول قبل الميلاد – في ملحمته الشعرية "الاليادة" التي أشار فيها إلى بعض المدن الليبية: «أن الليبيين من جنس لا يقهر في الحروب والمعارك» - نسبة للحضارة الليبيكية بشمال افريقيا – كما أن وصف "ز.روجيي" لسكان الأطلس يوحي بنبوغ هذا الشعب الذي لا يتصف بأوصاف الشعوب المنحطة المتوحشة يقول: «... قد كان الأهالي يعتقدون أنه يوصل إلى السماء، وقد كان هؤلاء الأهالي يستمدون اسمهم من هذا الجبل إذ أطلق عليهم فعلا اسم "الأطلسيين" وقد قيل أنهم لا يتغذون على الكائنات الحيوانية وليست لديهم أوهام». هذه القولة تحيلنا للقول بأن أهالي شمال افريقيا – أهالي الأطلس – قد اكتشفوا الدورة الزراعية التي تفرض استقرارا حياتيا يقول كلمته بالنسبة للاستقرار الحضاري.
كما أن تسمية "بربر" بالنسبة لمعناها في قاموس الحضارات السابقة لم تكن قدحية تعني التخلف والتوحش كما نعتت به من طرف الاستعمار الكولونيالي بل إن كلمة "بربر" أطلقتها الحضارة الإغريقية للإشارة إلى سكان شمال افريقيا وذلك للدلالة على غير المنتمين لحضارتها وهي تؤكد بذلك وجود الفوارق اللغوية والثقافية والتنظيم السياسي وهذا يدل على أن ساكنة شمال افريقيا كانت متميزة بلغتها الخاصة وبتنظيمها السياسي وبثقافتها.
كما أن الحضارة الرومانية أطلقت اسم "بربر" على كل الشعوب وخاصة التي رفضت الاحتلال الروماني واستعصت عليه وحاربته وعلى الخصوص سكان الأراضي الإفريقية.
كل هذه الطروحات التاريخية تشخص بعمق أزمة الثقافة الأمازيغية المطروحة حاليا – وبشكل فلكلوري – على الواجهة إذ أصبح الوتر شديد التوتر، فبعد التهميش المفتعل للبادية المغربية نجد أن اللغة الأمازيغية وقفت صامدة أمام الهزات التاريخية منذ القدم كما أمام الحضارات والثقافات الكبرى التي توالت على حوض البحر الأبيض المتوسط، وسوف لا نذكر فضل تمازجها بهذه الحضارات والتفاعل معها والتأثر بها منذ أن تربى بوغرطة في أحضان الحضارة الرومانية ونهل من ثقافتها متأثرا بها ومؤثرا فيها وهذا ما تؤكده رسالة إلى هيسيبيا من شيبون الإيميلي (185-189 ق.م) قنصل روماني كان مسؤولا عن هدم قرطاجة سنة 146 ق.م يقول فيها «إن ملك يوغرطة قد أبان البرهان على شجاعة فائقة في حرب نومنسا وأنا متأكد من أن هذا سيدخل عليك السرور، أن لك رجلا ينبغي أن تفخر به وأن تفخر بجده ماسينيسا3.
فالثقافة الأمازيغية إذ تعلى حضورها المتجدر بالثقافة المغربية ككل. تؤكد على تفردها، هذه السمة التي تشكل الفن الأمازيغي كتعبير دينامي متحرك لواقع تطور وواكب الحياة المغربية منذ عصور واكتوى بنار التغيير وتفوق على سلطة الزمن.
إن اللغة الأمازيغية هي حقا ما تحفظ به تلك الزمرة الاجتماعية "إمازيغن" سلوكها وتقاليدها على المدى الطويل، حقيقة أن الثقافة الأمازيغية لها خصوصيات ساعدتها على البقاء صامدة في وجه التاريخ حتى أن قوة حضورها خلقت بواعث عدة لدراستها، غير أن دورها في بناء الحضارة المغربية الحديثة لازال مهمشا ويمكن إرجاع هذا الابعاد إلى أن المساهمة التي بذلتها في الجسم الثقافي المغربي لم ترق إلى حدود التدوين – دون إغفال المجهودات الأخيرة في هذا الميدان – فعائق الشفاهية هذا هو الذي جعل الكثير من الباحثين في الثقافة الأمازيغية يقف مشلولا لا لندرة وقلة النصوص كمراجع بل لضرورة أخذ هذه النصوص في منابعها الأصيلة "الرواة" فيصبح البحث ميدانيا وتلتحق هذه الدراسات والقراءات بالدراسات التنقيبية الأنتروبولوجية، مما يشكل الحاجز الأول للخروج من هذه الأزمة الثقافية.
إلا أن بعض الجهات الثقافية بالمغرب تعمل جادة على إحياء وتدوين الشعر الأمازيغي وتقريب البحث على الدارسين باعتبار أن الشاعر في عرف الحضارات منذ "هوميروس" هو لسان حال القبيلة وصانع مجدها التليذ وسنقول مع "هيكل" أن الشاعر لا يملك غير الكلمات لكنه يملك أن يغير العالم بهذه الكلمات، فسيطرة الواقع على الشعر الأمازيغي تنشحن بها القصيدة الأمازيغية "تمدياست" فالشعر كان وما يزال ديوان الثقافة الأمازيغية.
بذلك اقترح بعض الخطوات التي لابد منها للنهوض بالثقافة الأمازيغية على الوجه الصحيح وهي:
أ- جمع وتصنيف النصوص الأدبية الأمازيغية من: شعر، حكايات، ومطارحات شعرية الأمثال، الأحاجي، الأسطورة والخرافة... الخ.
ب- فك وإخراج الثقافة الأمازيغية: العادات والتقاليد، النقوش، الآثار.. من وجهة النظر المتحفية والفولكلورية التي تنعت بها.
ج- فلك سراح الدراسات والبحوث التي تملأ رفوف الجامعات والمعاهد وتبني طبعها ونشرها من قبل الجهات المسؤولة.
فبالإضافة إلى مشكل التراكم النصي الذي يعرقل البحث في هذا الميدان هناك مشكل آخر مطروح بإلحاح في وعي المثقف الأمازيغي.
هو إشكالية الشكل اللغوي من حيث الرسم التي سيعيد بها كتابة هذا الناتج الشعري وتلك الأدبيات هل سيعود إلى محبرة "تيفيناغ" أم الحرف اللاتيني أو الحرف العربي؟.
سأناقش على التوالي بموضوعة كبيرة هذه الإشكالية ولو أن خوض غمار هذا الموضوع يجرف البحث نحو فواصل بعيدة عن البحث العلمي خاصة إذا مورس تحويل النتائج العلمية لتهييج فئة الانتماء الثقافي.
أولا تيفينـاغ:
«على غرار الفنيقيين اخترعت الشعوب الليبيكية بالمغرب الكبير عددا من الرموز الهجائية لكتابة لغتهم الأم، إلا أن ذلك تم في تاريخ لم يتم بعد تحديده وهذه الكتابة تميل إلى الحروف الصوامت وتدعي بالليبيكية ولا تتعدى الأربعة والعشرين رمزا ويمكن قراءتها عموديا من أعلى إلى أسفل كما أنها تقرأ أفقيا من اليمين إلى الشمال وهي أصل الكتابة الحالية للغة الطوارق المسماة تيفيناغ TIFINAGH4، من هنا يتبين لنا أن تواجد هذه اللغة يدل عليه رسم الحروف بالإضافة إلى الصوت ويرتبط إحياء الثقافة الأمازيغية بمدى القدرة على رسم هذه الثقافة بالحرف المخلوق لها "تيفيناغ" فسوف لا يكون هناك استغراب إذا اقترحنا أن يواكب هذا الحماس حماسا آخر من نوع التضحية في هذا السبيل من طرف الغيورين على الثقافة الأمازيغية لفتح مدارس حرة لتعليم اللغة الأمازيغية بالمغرب، بذلك سيكون لتيفيناغ قوة تضفي على الشعر الجمال وبلاغة الرسم حتى يتسنى لدراسي الحضارات وضع النصوص في إطارها التاريخي، إذ أن أي باحث موضوعي لا يفكر في معالجته موضوع ما منفصلا عن الشكل المكتوب به يقول "جان فريفيل" في هذا الشأن "الجميل هو التظاهر المحسوس للفكرة التي تشع عبر الشكل5.
وقد أثبت البحث التاريخي أن ظهور "تيفيناغ" ينطلق من فجر التاريخ حتى أواخر القرن القرن التاسع عشر مع التوارك.
ثانيا: الحرف اللاتيني
أما بالنسبة للحرف اللاتيني فإنك تشم رائحة الكولونيالية تضع حدا لطموح كتابة الأدب الأمازيغي باللاتينية، فالتوجه الاستعماري انتهك حرمة الثقافة الأمازيعية وسلبها مقوماتها على الحضور بشكل مشرف، وخاصة عندما جعل من بعض الجوانب المشرقة من هذه الثقافة "فلكلورا" وهو مصطلح قدحي لا يرقى إلى المصطلحات العلمية التي ينبغي أن ينعت بها هذا اللون الشعبي، فوجهة النظر الاستشراقية تنظر للثقافة الأمازيغية كشكل من أشكال الكينونة السياحية لا الحضارية، وبذلك فلا نستغرب من سيادة موقف الاحتواء والتغريب الذي يفرضه الاتجاه القائل بكتابة الناتج الثقافي الأمازيغي بالحرف اللاتيني.
ثالثا: الحرف العربي
أن وجود لغة ما مقرون بشدة العصبية، وما يزكي ذلك أن قوة "البربر" جعلت حمايتهم للغتهم "تيفيناغ" تفرض احترامها على اللغات المتساكنة معها وخاصة اللغة العربية، فالخط العربي عند نقله للغة الأمازيغية كان مهتما بمخارج حروفها وبنسقها اللساني الشيء الذي يدل على أن اهتمام العربية باللغة الأمازيغية لم يقف عند حدود التدوين بل أكثر فقد تعداه إلى البحث فيها والعناية الدقيقة بمخارج الحروف، فحرف الكاف، مثلا له أربعة أشكال بالعربية توازي حروف تيفيناغ مما يدل على غنى اللغة الأمازيغية وقدرتها التعبيرية التوليدية.
يقول ابن خلدون ص 34 مثبتا لهذا التنوع اللغوي في مقدمته شاهدا على عظمة اللغة الأمازيغية وكثرة مخارج الحروف فيها يقول:
- كالكاف المتوسطة عند البربر بين الكاف الصريحة عندنا والجيم أو القاف مثل اسم بلكين فأضعها كافا وأنقطها الجيم واحدة من أسفل أو بنقطة القاف واحدة من فوق أو اثنتين فيدل ذلك على أنه متوسط بين الكاف والجيم أو القاف وهذا الحرف أكثر ما يجيئ في لغة البربر وما جاء من غيره فعلى هذا القياس أضع الحرف المتوسط بين حرفين من لغتنا بالحرفين معا كذلك فنكون قد دللنا عليه، ولو وضعناه برسم الحرف الواحد على جانبه لكنا قد صرفناه من مخرجه إلى مخرج الحرف الذي من لغتنا وغيرنا لغة القوم6.
إن وراء كل تحمس للكتابة بإحدى هذه الحلول الثلاثة ايديولوجية معينة ومعيقات عدة ولكن سنسجل مع كولن ولسن أن "الأدب الذي لا يتصل بتقاليده لا يستطيع أن يحقق أي تقدم هام7.
إلا أن اللحظة التاريخية الراهنة تضع الثقافة الأمازيغية أمام رهان تاريخي كن أو لا تكون، فالمهم هو تجاوز هذا الطرح اللساني والخروج بكل موضوعية من درجة الصفر هاته حتى يتقدم البحث العلمي إلى الأمام.
الهوامش
+- نشرت بجريدة التكتل الوطني و بجريدة بيان اليوم، عدد 767 بتاريخ 28-07-1993.
1- مقدمة ابن خلدون – الطبعة الأولى – دار القلم بيروت – لبنان، سنة 1987 ، ص :133.
2- نفس المرجع السابق ص 133.
3- عن مذكرات من التراث المغربي، المجلد الأول ص: 176 ،سنة 1984 Nord Organisation
4- مذكرات من التراث المغربي، نعيمة الخطيب بوجيبار، المجلد الأول، ص: 137
5- جورج بينيخانوف: الفن والتصور المادي للتاريخ، تأليف جان لريفيل، ترجمة جورج طرابيشي، الصفحة: 177-178.
6- مقدمة ابن خلدون، نفس المرجع، ص: 34
7- المعقول واللامعقول في الأدب الحديث، تأليف كولن ولسن – ترجمة أنيس زكي حسن – دار الآداب بيروت، الصفحة: 19.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
د.عبد النور ادريس
Abdennour.driss@gmai.com



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن