قراءة في أحداث الموصل: هكذا تحولت مدينة السلام إلى مدينة الرعب والاشباح

ميرزا حسن دنايي

2005 / 1 / 21

لم تمر سوى بضعة أيام على سقوط النظام العراقي حتى توجه أعيان الموصل والقوات المسلحة العراقية صوب دهوك لمفاتحة القوات الامريكية المتربعة على حدود المحافظة، من أجل تسليم المدينة بصورة سلمية دون قتال. وتم ذلك فعلاً، فقدمت القوات الامريكية والبيشمركه ومعهم مشعان الجبوري، ليصبح أول محافظ للموصل بعد السقوط. وبدأ الطور الاول من عمليات السلب والنهب، كما حصل لكل العراق، ولكن خصوصية ما حصل في الموصل هو ما تردد من دعايات مغرضة مفادها أن من قام بالسلب لم يكونوا من أهل الموصل بل من قوات البيشمركه القادمين من دهوك والذين كانوا حسب تلك الدعايات يرفعون الاعلام الصفراء. الامر الذي دعى الاستاذ مسعود البارزاني إلى توجيه رسالة إلى أهالي الموصل مؤكداً أنه ليس من أخلاق البيشمركه التعدي على أموال الغير، وهم الذين يناضلون من أجل حقوق أمة مهضومة. ولكن تلك كانت في حقيقتها بداية حرب غير معلنة بين القوى الكوردية والقوى التي تغذت على القومجية والشوفينية، وكانت أيضاً بداية تراكم الاسباب لانهيار الموصل.

مبنى المحافظة ساحة الصراع
لم يستطع السيد مشعان الجبوري أن ينعم بمنصبه طويلاً، فمع أول إنتخابات شكلية طار المحافظ، بعدما وجهت إليه عدة إتهامات لم يتم التحقيق فيها، منها سرقة وإختلاس أموال عامة، ويقال أنه فتح عدة بنوك آنذاك وإستولى عليها، ولكن لم يتم التحقيق في صحة هذه التهم. ولكنني أعتقد أن أهم سبب هو أن مشعان كان متعاطفاً مع رأي المسؤولين الاكراد في دهوك، أكثر مما كان يريده بعض أعيان الموصل، هذا من جهة ومن جهة أخرى لم يلق مشعان ترحيبا عربيا موصليا، لأنه ليس من أبناء الموصل الاصليين... وللذين يعرفون طبيعة تفكير أهالي الموصل الاصليين، يعرفون ماذا يعني ذلك. حيث تؤكد التجارب أن أحداً لم يتمكن من إدارة الموصل إن لم يكن من أبناءها الاقحاح، وبالذات أبناء المدينة نفسها، فحتى أبناء الضواحي لايعتبرون مصلاوية، حتى ولو كانوا مولودين في الموصل أباً عن جد.
وهكذا أختير غانم بسو محافظا جديداً، وهو من أبناء الموصل وكان بعثيا سابقاً، وللرجل ميول قومية ومصلاوية شديدة، فعلى سبيل المثال كان دوماً ينتقد مجلس الحكم، لأنه لم يكن يضم -حسب تعبيره- واحدا من أبناء الموصل... علما أن الشيخ غازي الياور هو من أبناء المحافظة ولكنه ليس من أبناء مركز المدينة، وبالتالي لم يحسبه بسو من المحافظة.
إلى جانب المحافظ كان هناك معاون المحافظ الكوردي ذو السلطة القوية وحق الفيتو، للحفاظ على مصالح النفوذ الكوردي في الموصل، خاصة وأن الكورد يشكلون أكثر من 40% من سكان محافظة نينوى. وطبعاً ظهرت في تشكيلة مجلس المحافظة بعض القوى الاسلامية السلفية التي تحالفت بسرعة مع القاعدة البعثية وجماعات ومؤيدي النظام السابق، الامر الذي منحها قوة وهيبة لم يستطع المحافظ تجاهلها.

الادارة المدنية الامريكية: المرأة والسلفية
لا أعرف إذا كان السيد بريمر قد طالع بعض الدراسات حول الاسلام السياسي السلفي، ولا أعرف إذا كان مستشاروه فكروا أساساً بوضع خطط قبل التنفيذ، كأن يقوموا بإجراء دراسات ميدانية حول المدن العراقية وسكانها وطبيعة وأخلاقيات كل منها، قبل إتخاذ أية خطوات سياسية تجاهها.
ولكن تجربة الموصل تؤكد عدم حنكة هذه القيادة والمستشارين. فقد إختار بريمر السيدة هيرو مصطفى مسؤولة عن الادارة الامريكية في محافظة الموصل، وهي سيدة أمريكية من أصل كوردي. ولو تمعننا في المسألة بموضوعية، نجد أن الموصل كانت ومنذ عام 1995 تحولت بفعل الدعم اللامحدود من النظام العراقي المقبور، إلى مدينة متدينة يمرح فيها التيار السلفي الوهابي ويسرح على هواه، حتى أصبح التيار السلفي الديني الاقوى في الموصل يهابه كافة المواطنين، فيتحاشاه الجميع.
وهذا يعني أن الادارة المدنية الامريكية قد إختارت ممثلاً مرفوضا من قبل العقلية المتخلفة في الموصل/ فالسيدة هيرو مصطفى هي إمراة، هذا المخلوق الذي يحتقره التيار السلفي أشد الاحتقار ويظن أنه هو القوام على أمرها، فكيف يقبل أنه تحكمه (ناقصة عقل ودين)، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أمرأة من أصل كوردي... وهو الامر المرفوض من قبل التيار البعثي القومجي الشوفيني. الامر الذي جعل الكثير من قرارات السلطة المدنية الامريكية في الموصل تستقبل بامتعاض ورفض ومراوغة مهما كانت نوعية تلك القرارات، إذ كانت القوى السلفية تكره أن تنجح إمراة في بسط نفوذها عليهم وتكره أن تنجح هذه المرأة في ضبط أوضاع الموصل.. وإلا كيف سيتم إقناع المؤمنين أنها ناقصة عقل ودين.

غانم بسو يذعن لتهديدات البعثيين
في خضم الصراع الذي كان يتوسع يوما بعد يوم داخل أروقة المحافظة بين الجهات الاربعة: المحافظ بنظرة كلاسيكية مصلاوية، معاون المحافظ والتيار الكوردي، القوى السلفية وهيئة علماء المسلمين، والادارة المدنية الامريكية. في خضم هذا الصراع، تحالفت قوى البعث الفاشي الخفية مع التيارات السلفية الوهابية في الشارع الموصلي. وكانت النتيجة أن أي قرار أو إجراء قد تتخذه الادارة أو سلطة المحافظة يمكن التصدي له من الشارع من خلال عمليات إرهابية منظمة كانت تستهدف الادارة المدنية. وفعلاً كانت هذه القوى الموجودة على أرض الواقع والتي تنطلق على الاغلب من الجوامع والمساجد مستغلين العاطفة الدينية والقومية لدى الناس، قوى ذات نفوذ حي وفعال. فحينما صدر قرار الاجتثاث، وطرد البعثيون من وظائفهم، قاموا بتهديد المحافظ، مما إضطر غانم بسو للإذعان لهم، بل وحصل ما لايمكن تصديقه وهو أن البعثيين إستطاعوا الحصول على مناصب أكثر من غيرهم، لدرجة أن أحد الأصدقاء سارحني قائلاً: (هنا في الموصل إذا لم يكن الموظف بعثياً يطرد من الوظيفة، وأفضل الوظائف محجوزة للبعثيين والوهابيين). لاننسى طبعاً أن البعثيين لبسوا قناع الدين، ولم يكن هناك شكل آخر سوى اللحى المتعفنة التي تصول وتجول في الشوارع. ولم تمر سوى فترة وجيزة حتى تسلم التحالف البعث-سلفي كافة المفاصل المهمة في الموصل، بدءاً من رئاسة جامعة الموصل، رئاسة صحة نينوى، مديرية تربية نينوى، دائرة الكهرباء، الماء والمجاري.... ويقال أن جهاز الشرطة كان أول إختراق بعثي في الموصل!
بل حتى الحركة التجارية في مدينة الموصل، إن لم تكن لتجار متعاطفين مع البعث-سلفي ما كان لهم أن يتاجروا. وكنا نسمع بين الفترة والاخرى هروب الكفاءات من أطباء وأساتذة ومهندسين، ممن لم يكونوا مع هذا التيار، ثم هرب أبناء المدينة من غير المسلمين، كالايزيدية والمسيحيين والشبك بسبب تعرضهم المستمر لعمليات التصفية.
وإستمر غانم بسو يعيش بين نارين، أن ينفذ مآرب القوى البعثسلفية وهو يعرف أنها لن تخدم المدينة ولن تخدم العراق، أو أن يرفض ضغوطهم فيتعرض للموت. ويبدو أنه إتجه منحاً آخر تماماً وهو تجاه مصالحه الشخصية للاستفادة من منصبه دون أن (يقتل الذئب أو يفني الغنم)، إلى أن إستقال من وظيفته. وقيل أنه خلال هذه الفترة قد جمع هو وأقاربه ملايين الدولارات من خلال المناقصات والمقاولات ومن صندوق الاعمار وغيره من مال وأموال لم يصل ابناء المدينة، مما زاد الطين بلة.
وأختير مكانه محافظ آخرمن بيت الكشمولة العريق، وهم من أقحاح الموصل. وكان أكثر جرأة من بسو وأكثر حزماً، لكنه قتل على أيدي الارهاب البعثسلفي بعد فترة وجيزة. وحينما طلب من أحد أقاربه وهو المحافظ الحالي دريد كشمولة إلى تسلم المنصب. قيل أنه توجه إلى السليمانية ليلتقي بمام جلال طالباني ليقول له، أن هذا المنصب أخطر من أن يتحمله إنسان، وهو لن يستطيع أن يقبله إلا إذا تعهدت القوى الكوردية بتقديم الدعم الكافي لحمايته من ذئاب الارهاب المسعورة في الشوارع. ولكن الاوان كان قد فات وكان الارهاب قد تجذر في المدينة مثلما يتجذر السرطان في الجسد.

الجسر البري لنقل الارهابيين من سوريا
تشترك محافظة الموصل بحدودها الغربية والشمالية مع سوريا، وكانت هذه الحدود ولاتزال من أهم المعابر العلنية لتنقل الارهابيين العرب والافغان والشيشان إلى العراق. فهذه الحدود وبشكل خاص في حدود ربيعة ومناطق ام ذبيان وبعاج التي يسيطر عليها بعض الاشخاص المتعاطفين مع التيار الوهابي، هي أهم خطوط أو جسور تنقل الارهابيين من وإلى سوريا وبدعم مباشر من السلطات الامنية والحزبية في الجانب السوري. بل وصل المشوار أن يتم نقل الارهابيين والمتفجرات والسيارات المفخخة من سوريا وبوضح النهار إلى العراق عبر معبر ربيعة الحدودي.
فكانت الموصل بالنسبة للارهابين المتربعين في فلوجة ووسط العراق هي الخلفيات المحصنة، حيث تتحصن قوى الارهاب وراء سور بشري من مليوني مواطن، وهي تعرف ان من الصعب ان تحدث حرب مباشرة في الموصل مثلما حدثت في الفلوجة. ومع هذا لم تحاول القوات الامريكية ولم يستطع الجيش العراقي الجديد أن يبسط سيطرته على حدود هذه المدينة لقطع خلفيات الارهاب في بؤرته.
والاسوأ من ذلك أنه لم تجد الحكومة وسيلة قوية لضبط الحدود مع سوريا. ولغة المخاطبة والنداء التي كانت توجه إلى السوريين لضبط حدودهم لم ولن تكون نافعة. وذلك لأن الدبلوماسية السورية بعيدة عن مركز القرار، وما يحدث على الحدود الشرقية من هذا البلد بعيد عن مركز سلطة دمشق.
حتى لغة التهديد التي كان الوزير الدفاع يستخدمها، ربما حرصا منه على مصلحة العراق، ولكن كان ذلك يفهم خطأ، لأن الوزير كان يدخل نفسه في مطبات مع قوى عراقية موجودة على الساحة. فكان الناس يخلطون تصريحاته ببعضها، فتظهر نتيجة في غير صالحه، وينسى الناس اللب الاساسي لتصريحاته والموضوع الاساسي.

إختراق ثم إنهيار جهاز الشرطة
كان فتح الباب بمصراعيه للانتماء إلى جهاز الشرطة دون غربلة المتقدمين، من ثم قبول كل من هب ودب دون التعرف على مستواهم وعزيمتهم في مواجهة المصاعب الامنية هي الاسباب الاساسية في دخول عناصر دخيلة إلى هذا الجهاز لتخلق منه عالة على الامن بدلا من أن يحافظ عليه.
فلوحظ أن جميع مراكز الشرطة قد سقطت مع أول هجوم تخريبي، بل يقال أن مدير الشرطة نفسه هرب. وبدل من ذلك أخذت قوات الحرس الوطني هي التي تقوم بحماية الشرطة ومراكزهم...
____________
* كاتب عراقي مقيم في المانيا



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن