التعاقب الحكومي في المغرب وعجز عقل النخبة

محمد بوجنال

2012 / 2 / 8

في كل دول العالم الثالث، تمارس النخبتان السياسية والاقتصادية كل أشكال الاستبداد لحماية مصالحهما وقبل ذلك مصالح الرأسمالية معتزة بتفوقها الذي تعتبره منحة إلهية وطبيعية لا حق لأحد مناقشة مشروعيتها. والمغرب جزء من العالم الثالث الذي يعيش هذا الوضع. لذا، فقلما تفكر النخبتان في قضايا ومشاكل المجتمع المغربي اللهم فترات الأزمات التي تلزمها إصدار الإجابات العنيفة جسديا ومعنويا أو هما معا. ومن الواضح أن هاتان النخبتان تتميزان بأزمات فكرية وأخلاقية تتحدد مرجعيتها لا في الشروط الموضوعية بقدر ما أنها أساسا استجابة لعوامل ذاتية. لذلك لم يعد للمجتمع المغربي ثقة في نخبه التي تفتقد البوصلة وتخفي عجزها باعتماد سلوك ولغة الخشب؛ أو بلغة أخرى، نرى أنه بقدر ما يكشف الواقع عجزها بقدر ما يزداد تصلبها. وفي هذا الإطار، فكل نخب الحكومات التي تعاقبت منذ الاستقلال إلى اليوم على تدبير الشأن العام الوطني بررت وما زالت تبرر عدم مسئوليتها على تراكم المشاكل الناتجة على السواء بفعل نخب سابقة عنها ومجتمع جامد وراكد يفتقر إلى القدرات التنموية وهي تبريرات يرفضها ،بطبيعة الحال، الحقل السياسي.لذا، فالمنطق يقتضي محاسبة كل هذه الحكومات المتعاقبة التي طالما داست على حقوق المواطن الضحية بحجة أنها خارج دائرة الاتهام لأنها تمثل الله في الأرض؛ وهنا يمكننا استحضار قولة ألدنس هيكسلاي أ حد مفكري بريطانيا لحظة انحطاطها بأن هناك ثلاثة أنواع من الذكاء هم كالتالي تنازليا: ذكاء المجتمع المدني، ثم ذكاء الحيوان ثم الذكاء العسكري؛ وبصدد مجتمعنا المغربي يمكننا استبدال فقط الذكاء العسكري بذكاء النخبة السياسية مع استحضار الهرمية؛ إنها الفئة التي تحتل أدنى درجات الذكاء وهو مستوى يترجم بوضوح عجز عقل النخبة تلك وانفصالها عن واقعها المواطني؛ لذلك نجدهم، جهلا، يتدخلون في كل شيء وفي أية فترة نيابة عن المجتمع؛ هذا علما أن ثقل أجندتهم المصلحية لم تترك لهم فرصة ولحظة التفكير في الوطن اللهم ، كما سبق القول، الإجابات العنيفة جسديا ومعنويا كلما اشتدت الأزمة.
وأمام هذا الفشل في مواجهة مختلف أزمات المجتمع المغربي، يلاحظ تدخل الديماغوجيين الذين لا يقومون سوى بتعميق الأزمة. وفي هذا الإطار تسمع خطابات من قبيل: "هذا واقع موروث وعلينا تحسينه"؛ فمشكل البطالة مثلا موجود وما علينا سوى الحد منها على الأقل؛ في حين أن الحلول موجودة في نظرنا عندما نعيد النظر في الاستهلاك، وإعادة توزيع الموارد والثروات والحد من التجاوزات وإعادة النظر في الضرائب...الخ؛ كل النخب التي تعاقبت على تحمل مسئولية الشأن العام بالمغرب، الرجعيون منهم أوالمتياسرون على السواء، تقاطعت حول هذا التصور الذي هو أساسا حماية التوازن التقليدي الذي هو التهديد المتصاعد لتخريب ما تبقى من موارد هذا الوطن.
إن سلوك نخب هده الحكومات المتعاقبة على تدبير شؤون وقضايا المجتمع المغربي، لا يمكن رياضيا ومنطقيا خروج حكومة الملتحين عن دائرتها، فبالأحرى سياسيا واقتصاديا . فسلوك نخب هذه الحكومات، التي منها حكومة الملتحين، سلوك يتناقض والمتطلبات الجديدة للعصر الذي لا مفر من الانفتاح عليه. هذا التناقض يجعلنا أمام مستقبل مغربي مخيف أكثر فأكثر وسياسات شعبوية فاشلة وعدوانية تعبئ المواطن ديماغوجيا على أنها ناجعة. وعموما ، فمجمل النخب في المغرب سواء المتأسلمين أو الرجعيين أو المتياسرين يتقاطعون حول الفكرة الرجعية التقليدية التالية:" هذا ما ورثناه وما سنتجاوزه بالرفع من نسبة النمو بحول الله وقوته". لذا، فشلت كل برامجهم وتصوراتهم السياسية بفعل تفكير عقل منفصل عن مجتمع يعاني مختلف أشكال الظلم والفقر والاستغلال والدونية مبررين ذلك بما يسمونه بالتوازن الذي هو، في حقيقته، الحفاظ على المصالح الخاصة التي تعقد وضعية المجتمع المغربي أكثر فأكثر.لذا، قلنا سابقا أنها نخبة تحتل أدنى مراتب الذكاء ما دامت تفتقر إلى عملية التكيف مع حاجيات ومتطلبات المجتمع والواقع المغربيين أو قل أنها نخبة تتبنى سياسة غير صالحة وعدوانية أو قل استبدادية. وكمثال عرف المغرب مجموعة وزراء أوائل نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر : عصمان وكريم العمراني والمعطي بوعبيد ومحمد بوستة وعبد الرحمان اليوسفي وإدريس جطو وعباس الفاسي وعبدالاله بنكيران الذين يتموقع ذكاؤهم في أسفل أشكال الذكاء بفعل انفصالهم عن قضايا مجتمعهم. وعموما، نقول أن التخلف لم يكن مصدره المجتمع المغربي بقدر ما أن مصدره هو ضعف عقل النخب السياسية التي هي أساس عرقلة نمو الذكاء والإنتاج أو قل أساس عرقلة الإبداع المجتمعي المغربي.
لقد عانى المجتمع المغربي من أشكال عجز عقل النخب السابقة ليصوت اليوم لصالح نخبة لا تختلف جوهرا عن سابقاتها مما يوضح أن المجتمع المغربي أو قل الأجيال الراهنة ستكون من جديد أمام فشل تبرزه بجلاء مؤشرات التصور السياسي للنخبة تلك ما دام ذكاؤها، كما سبق القول،يوجد كسابقاتها في أدنى الهرم السابق الذكر؛ لذا، فهو ذكاء تقليدي كما تصرح في بياناتها بالمباشر والواضح. وبقوة المنطق ، فالتقليدي لا ينتمي إلى الحاضر؛ وبمعنى آخر، فنخبة الملتحين تفتقر الذكاء القادر على احترام المواطن، احترام يتجلى في إشراكه الفعلي في تدبير شؤون البلد لأنه الأكثر دراية بحاجياته وطموحاته وكذا الأساليب الأكثر نجاعة في تحقيق ذلك أو تأجيله.فلا شك أن مختلف النخب التي عرفها المجتمع المغربي مدربة على الكلام وأشكال المراوغات والكذب السياسي. وبلغة الفلسفة السياسية نقول أن الفكر، مهما كان نوعه، في غياب الإستراتيجية،، يبقى فكرا مشلولا وضعيف المردودية؛ ومعلوم أن فاعلية الإستراتيجية تعني الارتباط الأساس بالموارد البشرية. لكن ما معنى الإستراتيجية للتأكد من وجودها أو عدم وجودها؟ لاشك أن المستبد يفرض برضا ومباركة فريقه برنامجه السياسي الذي هو الرفض الشبه المطلق للبرامج النقيضة؛ في حين أن الفعل الاستراتيجي يقتضي استحضار باقي البرامج وبالتالي اختيار الأهداف بناء على الوسائل المتوفرة بمعنى أن التحديد ذاك يكون بناء على الموارد التي يتوفر عليها والإكراهات التي سيواجهها؛ ثم يشرع بشكل براغماتي بالتغلب التدريجي على الاكراهات بنهج الأسلوب ألتشاركي مع كل الموارد البشرية؛ وبشكل ملخص نقول أن المستبد لا يرى سوى برنامجه السياسي، في حين نجد اعتماد الفعل الاستراتيجي على الميدان. هذا التحديد يتطلب المعرفة الميدانية لقضايا ومشاكل وطموحات الشعب المغربي؛ وهذا غير متوفر منذ الاستقلال؛ فكل الحكومات المتعاقبة إلى اليوم هي وما زالت حكومات تجهل قضايا ومشاكل أو قل وضع المجتمع المغربي، حكومات استبدادية تعتبر الشعب مجرد رعاياها الأوفياء الذين يوجدون وفق التعاليم الإلهية في الدرجة الدنيا من هوية الوجود. فهل عقلا يمكن قبول تطبيق برنامج سياسي على مجتمع لا نملك عنه سوى الضبابية والغموض؟
إن الالتفاف على الواقع والقول الشكلي بالإستراتيجية يبقى فقط على مستوى الاستخدامات الموضوية وبالتالي الفارغة المعنى.إنها طرقة عقيمة في تفكير النخبة المغربية حيث أن الأساس الذي هو الشعب يبقى مجهولا لها.
إذن ، إذا لم يكن النظام السياسي المغربي يتوفر على إستراتيجية، فهذا راجع إلى اعتقاد النخبة بأنها تتوفر على القدرات العقلية القادرة على صياغة برنامجها السياسي معتمدة معطياتها الذاتية والاستبدادية والمحمية بقاعدة المشروعية وديمقراطية الانتخابات. لذا، فالمجتمع المغربي، منذ تعاقب مختلف الحكومات حتى الحالية المتأسلمة، يعالج، كل داخل عائلته، قضاياه ومشاكله باعتماد قدراته الذاتية الجد متواضعة وهو وضع تجهله النخبة نظرا لعجزها الفكري الذي هو بالكاد تفكير تقليدي ورجعي. لقد خسر المجتمع المغربي، بفعل تقليديتها، قدرات أجيال متتالية، منذ الاستقلال إلى اليوم، بقيت جامدة ومهمشة. وما على الباحث إلا أن يتساءل: ما الذي أنتجته النخب الحكومية المغربية؟ أو قل بأسلوب أبسط لحصول الفهم: ما الذي أنتجته الجماعات المحلية والمؤسسات التعليمية والمراكز التربوية والإدارية والمؤسسات المركزية واللامركزية وقبة البرلمان وغيرها؟
فالكر العقلي الغامض والتقليدي واللامسئول لم ينتج سوى الإتلاف المتصاعد لقدرات مختلف الموارد البشرية والطبيعية. وبذلك لا نندهش إذا وجدنا أن كل الحكومات المتعاقبة في المغرب كانت تحافظ على تبني أسلوب الغموض واللامسئولية.إن الذي ينقص المجتمع المغربي هو نخبة تتجلى سياستها في بناء قدرات التضامن وتشجيع العمل الجماعي والإشراك الفعلي في تدبير الشأن العام بشكل عقلاني. فلا أحد يشك في قدرات وإمكانات هدا المجتمع، كأي مجتمع في العالم،، ولكن المشكل هو عدم خلق شروط استثمارها وتفجير طاقاتها؛ وهذا ما تفتقر إليه البرامج السياسية لمختلف النخب التي تعاقبت بفعل عجز إدراكها العقلي.
ولا شك أن الدول والنخب الديمقراطية التي تحترم نفسها لا تعتمد في بياناتها وبرامجها السياسية أشباه الحلول والنسب العالية من الكذب السياسي، بقدر ما أنها تركز البحث عن المشاكل مصدر الأزمات. إنه الفعل والنهج اللذان تفتقر إليهما النخب السياسية المتعاقبة على الحكم في المغرب؛ بل نجزم القول أن الحلول المختلفة المقدمة من طرف الحكومات المتعاقبة تختلف حتى داخل الحكومة الواحدة وهو الوضع الذي يحمل دلالة أننا لسنا أمام واقع مغربي متمشكل يقتضي حلولا واقية، بقدر ما أننا أمام واقع ذاتي مختلق وبالتالي حلول فاشلة تصبح بسرعة بمثابة أزمات. فالحلول تقتضي تشخيص المشاكل التي لا يمكن تعويضها باستخدام واستثمار المفاهيم الموضوية من قبيل الحكامة، التدبير ، اللامركزية واللاتمركز، الجودة...الخ والتي تم ويتم اعتبارها الحلول الناجعة لمشاكل وقضايا المجتمع المغربي. فلا نخبة من نخب الحكومات ناقشت فشلها وأخذت العبر من الدروس السابقة عنها؛ فهي نخب كانت وما زالت تعتقد أن لها من الذكاء ما جعلها فوق الجميع وبالتالي الوحيدة التي لها صلاحيات النظر في القضايا والأزمات، بل والوحيدة المؤهلة للإجابات على كل القضايا المطروحة غير عابئة بمكونات وقدرات المجتمع المغربي وبالتالي رفضها المطلق لفعل "اسمع" الذي هو فعل الشعب أو قل هو الشعب.فالانتفاضات في المجتمع المغربي، كما في باقي المجتمعات العربية،والاحتجاجات علي الاستبداد لم تكن وليدة اليوم؛ بل منذ سنين والمغاربة، رغم الظروف الصعبة التي عاشوها وعايشوها من استبداد وحشي واختطاف وقتل وإعدام وسجن ونفي، يحتجون بالشوارع والمدن؛ لكن مختلف النخب، التي منها نخبة الحكومة المتأسلمة الحالية ما زالت ترفض الاستعمال الأنجع للعقل، مطلب الجماهير الذي تقوده حركة 20 فبراير والتي يمكن تلخيصها في كثافة دلالة فعل "اسمع" والتي مؤداها :لا تحتقرونا، لاتفهمون وضعيتنا،، ولا شروط عملنا، ولا مشاكلنا، ولا ظروف عيشنا، كفى من الاستغلال والفساد والاستهانة بالشعب؛ يجب أن "تسمعوا" مطالبنا. ولا شك أن فلسفة اللغة وسوسيولوجيتها يعتبران فعل "اسمع" كفعل يعني التواصل أولا، ثم الحوار والتفكير ثانيا وصولا إلى الحلول الناجعة ثالثا، إنه الأسلوب الحضاري بامتياز.لذا، نسجل أهمية"الاستماع" الذي وحده وبه وعن طريقه نتمكن من معرفة جزء هام من الواقع المغربي وكذا معرفة نشاط وحركية بنية المجتمع ككل.
لقد بقيت كل نخبنا المغربية بعيدة كل البعد عن هذا النهج العقلاني الحضاري. وفي هذا الإطار، ووفق الآليات الداخلية من جهة والخارجية من جهة ثانية، ناهيك عن طبيعة التكوين والتوجيه، نقول أن كل المؤشرات تبرز عدم اختلاف نخبة الحكومة المتأسلمة الحالية عن باقي نخب سابقاتها بفعل جهلها قضايا ومكونات المجتمع المغربين واستجابتها لمطالب اللوبيات الاقتصادية المحلية والدولية من جهة ثانية، ودفاعها عن مشروعية الملكية الخاصة وتبنيها قوانين النظام الرأسمالي على المستويين السياسي والاقتصادي من جهة ثالثة مع تبني الشعبوية لدر الرماد في الأعين من جهة رابعة. من هنا تكمن أهمية ومشروعية حراك الشباب المغربي كقوة متحضرة تعتبر نخبة الحكومة المتأسلمة نخبة فاشلة تعاني من القصور العقلي في إدراك المجتمع المغربي، فكيف بها بناء الآليات وإيجاد الحلول وحل مشاكل الفقر والبطالة وباقي المعضلات؟
محمد بوجنال
-المغرب-



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن