رسائل موسكو القوية

نضال نعيسة
nedalmhmd@yahoo.com

2012 / 2 / 8

في إطار لعبة التجاذب الدولي وكسر الإرادات وصراع القوى الكبرى واستعراض العضلات في الملف السوري، حطـّت طائرة سيرجي لافروف، وزير خارجية روسيا، ظـُهر أمس في مطار دمشق الدولي يرافقه ميخائيل فرادكوف رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية. وقد كان بانتظار لافروف والوفد الروسي حشد هائل وعفوي، وغير مسبوق على هذا النحو، من المواطنين السوريين، تجاوز المليون، خرجوا جميعاً لاستقبال ضيف سوريا الكبير.

وقد أتت هذه الزيارة عشية فيتو ورسي- صيني، غير مسبوق أيضاً، في مجلس الأمن ضد مشروع قرار عربي- أطلسي، يتكئ على المبادرة العربية المعروفة، مع تأكيدات روسية متتالية على التزامها بمنع استفراد الغربيين وحلفائهم العرب بالساحة السورية. ورمزية الحدث الأولى تتجلى في مرافقة ميخائيل فرادكوف، رئيس جهاز الاستخبارات الروسية الخارجية، فالحدث السوري، وبشق كبير منه، ذو جانب وبعد استخباراتي - أمني، هذا إذا علمنا مدى تورط أجهزة أمنية عربية، وإقليمية، وغربية بالساحة السورية، وقصة الأمنيين الأتراك البالغ عددهم 49 عنصرا لها دلالات بالغة في هذا السياق. وهنا يمكن القول أن أحد أدوات الرد السوري-الروسي ستكون، وعلى ما يبدو، أمنية استخباراتية بالمقام الأول مع هذا الإبراز للشخصية الأمنية الروسية الكبيرة التي تقبض على تفاصيل دقيقة أبعد بكثير مما يتخيلها اللاعبون الصغار سيضعها أمام السوريين. وليس من المستبعد، أيضاً، وبهذا الصدد، أن يـُوضع، بالمقابل، أمام المسؤول الأمني الروسي الكبير، خريطة أمنية مفصلة جداً، مع كل الخيوط والمعلومات التي تجمعت حولها، والشخصيات الوالغة في الدم السوري، والمعتقل بعض منها في سوريا، والتي قد تكون أحد عوامل وأدوات تفكيك اللعبة، تمهيداً لحسمها النهائي الوشيك. ولولا الثقة الروسية باقتراب وقدرة السوريين على الحسم الوشيك، لما غامر الرجلان بزيارة بمثل هذه السينمائية ةالبروتوكولية، ولبقيت طي الكتمان لو اعتراهما أي شك بقوة حليفهما السوري، فهي بشق كبير منها اعتراف قوي بشرعية النظام القائم ودعم لا محدود له.

وعلى هامش حدث بهذه الأهمية، انطلقت منابر الطرف الآخر بحملة هيستيرية إعلامية ودبلوماسية هائجة غير مسبوقة، تجلت بسحب جماعي للسفراء الرعب والغربيين، وهي تدل أول ما تدل، ومن مبدأ الفعل ورد الفعل، على عمق وهول الصدمة وحالة الإحباط واليأس المرير التي أصيبت بها نتيجة التقدم الروسي خطوات ثابتة وقوية نحو استعاد الدور الريادي الندي الذي تبوأته موسكو أيام الحرب الباردة على المسرح الدولي.

لقد ظهر جلياً، حتى الآن، ومن خلال الخطوات الروسية المتتابعة، أن هناك استراتيجيا روسية جديدة حقيقة وقطيعة نهائية مع السياسة المائعة والمهادنة والرخوة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي وميـّزت حقبة بوريس يلتسين "السكـّير" الضعيف التي أدت إلى حالة معكوسة ونقيضة تماماً، تجلت بصعود تيار القوميين الروس الجدد الذي يتزعمه الرئيس بوتين رجل روسيا القوي، الذي يطمح لإعادة أمجاد روسيا السوفيتية التي شغل فيها منصباً أمنياً رفيعاً ذات يوم، وذاق من خلاله حلاوة وعظمة الدولة الـSuper Power، التي انتهت مجرد تابع عاجز وضعيف ومنهك على يد يليتسين. وهذا الدور الروسي، لن يكون بالقطع على حساب السوريين، أو استغلال لأوضاع أمنية تمر بها سوريا، بقدر ما هو تحالف الأقوياء ذوي الأهداف المشتركة، الذي يكمل بعضهم الآخر، في مناوئة ومقاومة أحلام الهيمنة والسيطرة والتفوق التي تتزعمها الولايات المتحدة الأمريكية، وحلفاؤها الغربيين، وأجراؤها وأزلامها، في أماكن أخرى من العالم.

ما هي آفاق التحرك الروسي؟

تروّج كثير من الأصوات على الضفة المقابلة، المعنية بالملف السوري، كلاماً مفاده أن للتحرك الروسي آفاقاً محدودة، وقد يترك حليفه السوري لمصيره في مرحلة، ونقطة ما، ويسوقون أمثلة عما فعله مع حلفاء سابقين له في البلقان، والعراق، وليبيا.غير أن الخطوات الروسية الصاعقة عبر "فيتوين" مشتركين مع الصين، وخلال أربعة أشهر، تدحض مثل هذا الكلام، لا بل تزيدها بخطوات لوجيستية على الأرض كالعزم على استمرار إمداد سوريا بالسلاح، وزيارة حاملة الطائرات الروسية كوزنتسوف مع قطع وبوارج حربية استراتيجية إلى ميناء طرطوس، وكلها رسائل لا تخطئ، ويجب على المعسكر الآخر قراءتها بعناية مع علامات الترقيم وكل فاصلة ونقطة فيها، لأن لكل واحدة منها دلالاتها ومعانيها التي يجب أن تؤخذ بالحسبان. وتأتي الزيارة الأحدث للارفروف لتؤكد على الاستراتيجيا الروسية الجديدة في العالم كله وليس في سوريا وحسب. وأن روسيا مصممة، ومستعدة للذهاب إلى النهاية في خياراتها، ولا يلوح في الأفق، في اللحظة الراهنة من المواجهة على الأقل، أية إشارات على بداية تراجع محتمل أو انكفاء في مرحلة ما. لا بل قد يؤسس الحدث السوري، ويكون بداية ونقطة وشارة الانطلاق لهذه الاستراتيجيا التي قد لا تتوقف عند تخوم الحدث في سوريا.

عوامل القوة الروسية
السؤال الآن، إلام تستند روسيا في موقفها هذا؟ بداية روسيا دولة عظمى(1) ذات مصالح في العالم، وهذه المصالح لا ينبغي أن تكون حكراً لقوة عظمى دون غيرها، هكذا يقتضي مبدأ تقاسم النفوذ والمصالح المعروف، في العلاقات الدولية التقليدية عبر التاريخ. فقد كان هذا المبدأ توافقياً فيما بين كل الإمبراطوريات السالفة طالما أن عوامل القوة باقية وقائمة، ولكن بمجرد أن تهتز تلك القوة وتتداعى فيتم عندئذ افتراسها على الفور، ودون تردد، كما حدث مع امبراطوريات في التاريخ القريب والبعيد. ولا نعتقد أن الإمبراطورية الروسية الناشئة في مرحلة تداع وانهيار بقدر ما هي في مرحلة نشوء وارتقاء واندفاع والدلائل أثر من أن تعد وتحصى عسكرياً واقتصادياً في الوقت الذي ترتبك وتتخبط وتترنج فيه الولايات المتحدة والغرب، وهي اللحظة الاستراتيجية المناسبة التي انتظرها الروس طويلاً، على ما يبدو للتقدم والانقضاض مع أصدقائهم الصينيين، على الامبراطوريات التي تنهار وتأفل اليوم. والروس والصينيون ولاشك يدركون هذا الأمر، ويعونه تماماً، وها هي فرصتهم التاريخية تلوح للتقدم وافتراس القوى الغربية المتداعية والساقطة والمتساقطة والتي لم تعد تخبف أحداً وتبدو اليوم، كقطط، وليس نموراً من ورق، وكلينتون وأشتون تستجديان وتتسولان الدولارات والاقتراض من الصين ومشيخات الخليج الفارسي، ناهيك عن أن الحليف السوري، ذا العمق الإقليمي القوي، يشكل اليوم قوة(2) لا يمكن القفز فوقها، أو تجاهلها، بل ربما الاتكاء والاعتماد عليها، في عملية تشكل وبلورة القطبية الجديدة في العالم اليوم.

لم تبدٍ روسيا هذا العزم والإصرار والشجاعة والإقدام والعناد حتى في ذروة أزمة الصواريخ الكوبية الشهيرة. فهل تتجرأ واشنطن أو أي من حلفائها وأجرائها الصغار على المواجهة وتحدي المارد الروسي الصيني الجديد الصاعد بقوة على المسرح الدولي، بكل دلالاته البالغة وعضلاته الاقتصادية والعسكرية المفتولة وإشاراته ورسائله والتي تقول، كلها، وتذكر، وتعيد بأن القضية أبعد من مجرد الحدث و"الربيع" السوري العتيد؟

(1)- لا داعي للتذكير بالقوة العسكرية والاستخباراتية الروسية وجيشها من أوقى جيوش العالم، وهي بكل بساطة أول دولة غزت الفضاء، وقوة نووية من الطراز الأول مع آلاف الرؤوس النووية العابرة للقارات، وترسانة هائلة من الصورايخ البالستية ذاتية الدفع، وهي المصدر والمنتج الأول للعام بالطاقة الغازية والبترولية، وتمتلك أكبر احتياطي في العالم في الغاز والبترول وتمتد على مساحات جغرافية قارية، وأرصدتها من الذهب والماس هي الأولى في العالم، مع احتياطي نقدي زائد عن الميزانية صعب يفوق الـ600، مليار دولار.

(2)- اندهش كيسينجر، ما غيره، وفي أحدث تصريحاته، بالبنية التحتية السورية، وبقوة الجيش الذي لم ينشق منه أكثر من 1500 فرداً، وكله حسب كيسينجر، وكانت دهشته الأكبر حول تماسك وتلاحم الشعب السوري رغم أنه يتكون من أكثر من أربعين عرقاً وطائفة على حد قوله, هذا والله أعلم على أية حال.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن