عام انقضى منذ وفاة البوعزيزي - عام من الثورة العربية

بيان الدفاع عن الماركسية
contact@marxy.com

2012 / 1 / 15

السبت 17 ديسمبر مرت الذكرى السنوية الأولى للثورة العربية، في مثل هذا اليوم قبل عام واحد قام محمد البوعزيزي بائع الفاكهة التونسي الشاب باضرام النار في نفسه في مدينة سيدي بوزيد مدفوعا باليأس والفقر والغضب، نار الثورة، التي اشتعلت بعد وفاته - أولا في جنوب تونس ثم في البلد بأكمله، وأخيرا انفجرت في كامل العالم الناطق باللغة العربية - تمثل نقطة تحول في التاريخ البشري.
بعد عام كامل من الواضح أن الثورة بأي حال لم تنتهي، الظروف الموضوعية لم تكن ابدا مواتية لقيام الثورة كما هي اليوم ولكن مع ذلك الثورة ليست دراما من مشهد واحد، الأجواء الاحتفالية التي سادت الأيام الأولى من الثورة تستبدل الآن بالاعتراف الجدي بأن هناك حاجة إلى المزيد لحل التناقضات الرئيسية.
لقد تم اعتبار محمد البوعزيزي أول شهيد للثورة العربية، حياته القصيرة كانت قصة كفاح يومي ضد البطالة، الفقر، البؤس، وأجهزة الدولة القمعية الفاسدة، وهي الحياة التي يعيشها الملايين من الشباب العربي.
كونه المعيل الوحيد لعائلته المكونة من 9 أشخاص منذ سن 16 عاما، ناضل البوعزيزي لكسب العيش كبائع فاكهة بعد أن رفضت له جميع طلبات العمل، حتى أنه حاول أن يتطوع في الجيش، لكن دون جدوى، وفقا للأصدقاء والعائلة كان ضباط الشرطة المحلية لسنوات يستهدفون البوعزيزي ويسيئون معاملته - بما في ذلك مرحلة الطفولة - ويقومون بمصادرة عربته الصغيرة بشكل مستمر ولكن البوعزيزي لم يكن يملك أي وسيلة أخرى لكسب العيش لذلك استمر في العمل كبائع متجول، قبل ستة أشهر من محاولة انتحاره أرسلت له الشرطة غرامة بقيمة 400 دينار (280 دولارا) إلى بيته أي ما يعادل شهرين من الدخل.
في 17 دجنبر 2010 كان قد استدان حوالي 200 دولار أمريكي لشراء بعض المنتجات التي كان سيبيعها، تصدت له شرطية في الطريق الى السوق، بحجة أنه لا يتوفر على تصريح بائع متجول - وهي رخصة غير مطلوبة أصلا في القانون، ولكن لم يكن لدى البوعزيزي أي من المال لرشوة الشرطية فعادت لأخذ ميزانه منه، لكن البوعزيزي رفض تسليمه لها، قام الاثنان بشتم بعضهما فصفعته الشرطية وبصقت في وجهه، صادرت ميزانه الالكتروني وألقت جانبا عربته المليئة بالمنتجات ومن ثم بمساعدة من زملائها رموه على الأرض حيث قاموا بضربه.
بعد أن تعرض للإذلال في العلن ذهب البوعزيزي إلى البلدية المحلية وطلب لقاء أحد المسؤولين، فقيل له أن المسؤول في اجتماع، فما كان منه الى انه اشترى علبة من البنزين وعاد إلى مكتب البلدية، وقف في وسط حركة المرور وصرخ "كيف تتوقعون مني أن كسب لقمة العيش؟" من ثم اغرق نفسه بالوقود وأشعل نفسه بعود كبربت.
الحادثة والضرورة
لم يكن فعل اليأس هذا حادثة منفصلة ولكن واحدة من بين العديد من الحالات المشابهة في موجة حرق النفس التي اجتاحت المنطقة المغاربية في السنوات الأخيرة، وفاة البوعزيزي أشعلت الثورة العربية ليس بسبب أي صفة استثنائية في البوعزيزي نفسه، ولكن لأن الملايين من العمال والفقراء في جميع أنحاء العالم العربي، يعيشون في ظل ظروف مشابهة ولم يعودوا قادرين على تحمل محنتهم.
في الواقع، هم بشكل غير واعي يثورون ضد النظام الرأسمالي، الذي لم يعد قادرا على تقديم حتى أقل التنازلات للجماهير، الأنظمة الشمولية في المنطقة هي بحد ذاتها مجرد تعبير عن التناقض بين التطور الكبير للقوى المنتجة ومعها تطلعات الجماهير لاستفادة من ذلك التطور، ورفع مستوياتهم المعيشية من جهة والعجز العضوي للنظام في تنمية المجتمع وبلوغ تلك الإمكانيات الكامنة من جهة أخرى.

خلال سنوات الطفرة في نهاية التسعينات حتى عام 2008 قامت الأقليات الحاكمة، المتزايدة في الصغر باستمرار، جنبا إلى جنب مع أسيادهم في أوروبا والولايات المتحدة، بامتصاص المليارات من الدولارات من العالم العربي، بن علي والقذافي والأسد ومبارك - كلهم قادة الثورة المضادة ضد الثورات التحررية التي حصلت في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية - كانوا جميعا يشيدون بعجائب الرأسمالية ويعاملون بلدانهم مثل اقطاعيات خاصة بهم ويشرفون على عملية بيع شاملة للصناعات المملوكة للدولة والتي تشكل لغالبية هذه البلدان جوهرة الثورات الوطنية الديمقراطية.
كانت الرأسمالية في الواقع في طفرة خلال تلك الفترة ولكن بالنسبة للجماهير لم يكن لديها ما تقدمه سوى الزيادة في الاستغلال وفي أحسن الأحوال الزيادة في الديون، الدول العربية تتصدر أعلى معدلات البطالة في العالم، وحسب الأمم المتحدة فإن 40% من السكان يعيشون على أقل من دولارين في اليوم.
الشباب البطولي في العالم العربي وضع نفسه في طليعة الثورة وأظهر استعدادا هائلا للتضحية، ليس من الصعب أن نتصور السبب فالشباب العربي ليس لديه الكثير ليخسره، أكثر من 60% من السكان العرب الذين يصل تعدادهم الى 350 مليون في العالم هم تحت سن الثلاثين والغالبية العظمى منهم لديها احتمالات ضئيلة في الحصول على عمل أو بناء مستقبل مزدهر، البطالة بين الشباب العربي تقدر بحوالي 40% وفي بعض المناطق تصل إلى 80%، بعض التقارير لهيئة الاذاعة البريطانية تشير أنه في عام 2005 كان هناك 700.000 من الخريجين الجدد في مصر ولكن حوالي فقط 200.000 تمكنوا من إيجاد فرصة عمل لهم، بالإضافة إلى الصراع اليومي من أجل البقاء يوجد قمع واسع للحقوق الديمقراطية وحجم هائل من الفساد الذي يربض مثل جبل على جميع العلاقات الاجتماعية، قبل بدء الثورة العربية غطى ضباب كثيف من التشاؤم والكآبة واليأس شوارع العالم العربي.
هذه هي الأسباب الحقيقية لاندلاع الثورة العربية، ولكن كل هذا كان كتابا مغلقا للمحللين البرجوازيين العمليين حيث أن التاريخ بالنسبة لهم ليس سوى سلسلة من الأحداث العشوائية، نحن جنبا إلى جنب مع الملايين من العمال والشباب نكرم ذكرى محمد البوعزيزي، لكن من وجهة نظر موضوعية نفهم انه كان شخصية عرضية سبقها عدد لا يحصى من الرجال والنساء الذين بطريقة أو أخرى فقدوا حياتهم تحت نير الأنظمة الشمولية التي حكمت لفترة طويلة على مستوى العالم العربي، الظروف المؤاتية للثورة كانت قد نضجت قبل فترة، نتيجة لمرحلة كاملة من التطور الرأسمالي، في الوقت الذي انتحر البوعزيزي كان الوقود جاهزا واحتاج فقط الى شرارة ليشتعل.
ما الذي تم تحقيقة؟
منذ أن بدأت الثورة اصبح من غير الممكن إيقافها، ليست هناك حاجة للدخول في جميع التفاصيل التي تم تحليلها على نطاق واسع في أماكن أخرى ولكن من المهم أن نأخذ علما بانجازاتها الرئيسية، في البداية اجتاحت الثورة أنحاء العالم العربي في عرض ضخم للقوة وفي أقل من شهر اطيح بزين العابدين بن علي - دكتاتور تونس على مدى 24 عاما- من خلال انتفاضة الجماهير وتعبئة الطبقة العاملة، للمرة الأولى في التاريخ العربي الحديث يتم الاطاحة بدكتاتور من خلال ثورة شعبية، لقد أرسل هذا الحدث موجات من الصدمة في جميع أنحاء العالم العربي ورسم الطريق للجماهير في جميع البلدان.
لقد اختفى جو الاكتئاب من الشوارع والملايين من الشباب والنساء والعمال والفقراء قاموا بملئ الفراغ بثقة كاملة، خلال أقل من شهر واحد تمت الاطاحة بدكتاتور ثاني وهذه المرة في أكبر وأهم بلدان المنطقة، الوضع في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تغير بالكامل حيث أن الأجهزة القمعية الضخمة التي بدت قبل أسابيع فقط قوية جدا انهارت أو على أقل تقدير وقفت موقف المتفرج على الجماهير التي أثبتت قوتها في الشارع.
لقد فضحت تماما الأفكار التي طرحتها وسائل الاعلام الغربية على مدى عقود بأن الجماهير العربية متخلفة بطبيعتها وتسعى إلى العيش في ظل نوع من الديكتاتورية الدينية كما في القرون الوسطى، فعلى العكس من ذلك ما شهده العالم هو الطبيعة المؤسفة والمنافقة للرأسمالية الغربية، حيث اصطف فجأة أولئك الذين كانوا يتذمرون من الطبيعة غير الديمقراطية للعرب وراء الدكتاتوريات نفسها التي كانوا يدينونها علانية طوال سنوات، المثال الأكثر إثارة للشفقة، بين العديد ممن ظهروا على التلفاز، هو باراك أوباما الذي قال كل ما بوسعه أن يقوله، من أجل عدم الدعوة لسقوط نظام مبارك.
الثورة العربية حقا رسمت الحدود الطبقية في المجتمع ليس فقط في الشرق الأوسط بل في العالم أجمع، لقد ظهر معسكرين بشكل واضح، فمن ناحية كانت هناك الأنظمة الشمولية في العالم العربي ومعها الرأسمالية الغربية التي كانت تناور لوقف مد الحركة الجماهيرية، ومن ناحية أخرى كانت هنالك الجماهير المستغَلة والموحدة عبر جميع الحدود الدينية والقومية والعرقية والواقفة في وجه الظلم والبؤس.
في ضوء هذه الأحداث انكشفت نظرية ما يسمى ب"صراع الحضارات" بأنها كاذبة مئة في المئة، هذه الفكرة التي طرحها صموئيل هنتنغتون جادلت بأن زمن الصراع الطبقي قد انتهى وأن "صراع الثقافات" سيقرر مسار التاريخ في المستقبل، لقد كانت هذه الفكرة الغيرعلمية والرجعية واحدة من أعمدة الفكر البرجوازي في العقدين الماضيين.
الثورة رمت جانبا كل هذه الأفكار والتحيزات وهزت حكم البرجوازية حتى جذورها ولكن أهم إنجازاتها كان زرع فكرة العمل الثوري الشامل في عقول الملايين من العمال والفقراء في جميع أنحاء العالم، وأخيرا وجد التكتيك الذي نجح فعلا في اسقاط الدكتاتوريات المكروهة!
لقد حققت الثورة في غضون أسابيع قليلة أكثر مما تمكنت جميع المنظمات غير الحكومية والإصلاحيين أو نظرائهم الإرهابيين في الشرق الأوسط من تحقيقه على مدى الأربعين سنة الماضية، لعقود من الزمان دفع قادة الجماهير الفلسطينية اليائسة الكفاح من أجل الاستقلال في مسار الإرهاب الفردي دون تحقيق أي شيء ما عدا تقوية الدولة الصهيونية في إسرائيل، لكن كل هذه النزعات دمرت بين ليلة وضحاها من قبل الاجتياح الكبير للثورة، الاصلاحيون والمنظمات غير الحكومية الذين على مدى عقود قاموا بالتماس الفتات من على طاولة الحكام العرب انتهوا كصبية طوباويون عالقون في الماضي.
مباشرة بعد الانفجارات الجماهرية الأولى كل الدكتاتوريات الصلبة لانت فجأة، في الأردن وعد الملك عبد الله ببعض "الإصلاحات" في محاولة لإسترضاء الجماهير ولا سيما قانون الانتخابات المثير للجدل، رئيس الوزراء أيضا أعلن عن 550 مليون دولار إعانات جديدة للحصول على الوقود والمنتجات الأساسية مثل الأرز والسكر والثروة الحيوانية وغاز الطهي، كما أعلن أيضا عن رفع الأجور لموظفي الخدمة المدنية وأفراد الأمن.
في سوريا أعلنت الحكومة عن إعانات ومساعدات للفقراء، وقد تم منح المعلمين قروضا بدون فوائد لأجهزة الكمبيوتر المحمولة، في نفس الوقت حوكم بعض المسؤولين الحكوميين بالفساد في مدينة حلب، بالإضافة إلى ذلك منح مليونين من موظفي الحكومة زيادة بنسبة 17% في الأجور في محاولة يائسة لإبعاد المد المتصاعد من الاستياء.
امير الكويت - الشيخ صباح الأحمد الصباح- امر باعطاء 1.000 دينار (2260 £) بشكل منح وكوبونات طعام لكل الكويتيين، العاهل السعودي الملك عبد الله وعد بتقديم 93 بليون دولار (63 بليون يورو) لتوفير المزيد من الوظائف في القطاع الحكومي والخدمات، وأعلنت قطر رفع قيمة الأجور والتأمينات بنسبة 60% لموظفي القطاع العام وحتى 120% بالنسبة لبعض ضباط الجيش.
لكن الأهم من أي شيء أن الجماهير - خصوصا في مصر وتونس وليبيا - وصلت إلى الحقوق الديمقراطية التي لم تكن لتسمح بها الأنظمة القديمة أبدا، على الرغم من عدم وضعها رسميا كقوانين فإن حرية التعبير والتنظيم والتجمع اصبحت بحكم الأمر الواقع موجودة في هذه البلدان، محاولات المجلس العسكري المصري خلال فصل الربيع الإعلان عن عدم قانونية الإضرابات فشلت تماما لأن لا أحد كان يولي اهتماما للقوانين والمراسيم في هذا الصدد.
الديمقراطية
يمكن القول - على الرغم من انه لا يزال هناك طريق طويل يتعين قطعه - أنه تم تحقيق قدر من الديموقراطية في البلدان التي انتصرت فيها المراحل الأولى من الثورة، لكن الديمقراطية للجماهير ليست سوى وسيلة لتحقيق الغاية والحقوق الديمقراطية لا تساوي قيمة الورق الذي كتبت عليه إذا كانت لا تؤدي إلى تحسين نوعية الحياة، العامل الذي ناضل من اجل الصوت والمنظمة سوف يستخدام هذه الأدوات للتنظيم والمطالبة بأجر أعلى من رئيسه وهذه هي بالضبط العملية التي نشهدها.
على الرغم من أن كل شيء قد تغير على السطح ولكن من الصحيح أيضا أن نقول إنه من الناحية الموضوعية لم يتغير شيئ أساسي حتى الآن، جهاز الدولة القديم لا يزال متماسكا والاقتصاد لا يزال يهيمن عليه الحكام الذين اعتقدنا أنهم قد هزموا، ولكن هذا الوضع هو عبارة عن برميل من البارود ينتظر أن ينفجر مرة أخرى.
الوضع الاقتصادي لم يتحسن وعلى سبيل المثال في مصر، المتأثرة بالأزمة الاقتصادية العالمية وحالة عدم الاستقرار التي أعقبت الثورة، الاقتصاد في حالة تدهور، لقد انخفض الطلب على العمالة المصرية بنسبة 54% في أكتوبر/تشرين الأول بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي وفقا لمؤشر الطلب على العمل، ووفقا للبيانات الرسمية ارتفع معدل البطالة في مصر الى 11,9% في الربع الثالث من عام 2011 وهو أعلى مستوى له في عشر سنوات وهي زيادة بنسبة 8,9% عن العام السابق.
على أساس هذه الوقائع تحرك العمال والفقراء مرارا وتكرارا منذ بداية الثورة، في مصر في سبتمبر وحده أضرب ما بين 500.000 إلى 750.000 عامل، من بين هؤلاء كان المعلمون، الذين لعبوا دورا هاما، الذين طالبوا بإقالة وزير التعليم، الاستثمار في التعليم العمومي، حد أدنى من الأجور للمعلمين بما لا يقل عن 1200 جنيه مصري شهريا، خطة لبناء المدارس وعقود دائمة للمدرسيين الاحتياطيين وذوي العقود الفصلية.
في تونس أيضا الطبقة العاملة والشباب يشعرون بالثقة ويتنظمون من خلال العمل الثوري المباشر لتحقيق أهدفهم، عقد اتحاد الخريجين العاطلين عن العمل مؤخرا - والذي لعب دورا رئيسيا خلال الثورة - جلسة وطنية في سوسة بمشاركة 500 شخص يمثلون الآلاف من جميع انحاء البلاد، لقد نجحت تظاهرة مشتركة مع نشطاء نقابيين يساريين في جمع أكثر من 10.000 شخص في تونس يوم 15 غشت/اغسطس للمطالبة بالوظائف، العدالة الاجتماعية ومعاقبة المسؤولين في النظام القديم.
المستقبل لن يكون أكثر استقرارا حتى في البلدان التي تم فيها إسقاط الأنظمة الدكتاتورية بشكل واضح بل على العكس من ذلك بالضبط، بما أن الجماهير واثقة من قوتها في حين أن التناقضات الرئيسية لم تحل بعد فإن المستقبل سيجلب المزيد من الاضطرابات وكذلك المزيد من الثورات.
الدولة والثورة
لقد تطورت الحركات الثورية بشكل مختلف بعض الشيء بعد المراحل الأولى من الثورة التي سلكت خلالها جميع البلدان بشكل أو باخر نفس الطريق.
في مصر وتونس حققت الثورة انتصارات أولية ولكن غير مكتملة بشكل سريع نسبيا، مزاج من النشوة عم الجماهير التي بعد زمن طويل كسرت أغلال عقود من القمع، لقد اعتقدت الجماهير أن سقوط مبارك وزين العابدين بن علي كان كافيا لضمان تطور مستقر للمجتمع وهكذا تركت الثورة جهاز الدولة القديم على حاله.
اليوم هذا الجهاز ذاته يبرهن على أنه العقبة الأكبر في وجه الثورة في كلا هذين البلداين على حد سواء، في تونس هناك اشتباكات مستمرة بين الجماهير وأجهزة الدولة التي لا تزال في أيدي رجال النظام القديم.
في مصر الوضع مشابه للغاية، الجيش اختار الانقلاب على الرئيس مبارك ليس بسبب الروح الثورية للمجلس العسكري ولكن بسبب أنه لم يكن لديه اية خيار آخر، لو أن قيادة الجيش وقفت ضد الثورة بشكل علني لكان من المحتمل أن يفقدو السيطرة على الجيش أو، في أحسن الأحوال، كانوا سيواجهوا حربا أهلية غير مضمونة النصر، بدلا من ذلك اختاروا أن يضعوا أنفسهم على رأس الثورة من أجل إفشالها ومنع انهيار الدولة.
إن دور المجلس العسكري اليوم أصبح واضحا لمعظم المصريين، كبار الجنرالات قد يكون لهم أجندتهم المستقلة نوعا ما، إلا أن دورهم الرئيسي هو الدفاع عن مصالح النظام القديم والرأسمالية المصرية، منذ قيام الثورة تم سجن أكثر من 12.000 من الثوار في السجون العسكرية وذلك مصحوبا بالقمع الممنهج للاحتجاجات، خلال الأسبوع الأخير من شهر نوفمبر قتل أكثر من 40 وجرح عدة آلاف عندما حاول الجيش افراغ ميدان التحرير.
الدولة ليست كيان حيادي من الأفراد الذين يمثلون المجتمع كله، لقد أوضح ماركس وانجلز عدة مرات ان الدولة – في آخر التحليل - ليست سوى "مجموعة من الرجال المسلحين" للدفاع عن ملكية الطبقة الحاكمة، العمال المصريين والتونسيين يتعلمون هذا الدرس بالطريقة الصعبة، فعلى الرغم من رحيل الطغاة لا تزال الدولة القديمة في مكانها.
لا بد من استبدال الدولة البرجوازية التي تمثل الأقلية الرأسمالية بدولة العمال التي تمثل الأغلبية، سوف تستند هذه الدولة الى لجان تنتخب ديمقراطيا من العاملين في المصانع والأحياء الشعبية، قابلة للمسائلة والاستدعاء ويتم ربطها مع بعضها على كل المستويات في جميع أنحاء البلاد.
في السويس انهارت الدولة تماما لمدة أربعة أو خمسة أيام بعد سقوط مبارك وكما هو الحال في تونس في وقت سابق تشكلت اللجان الثورية ونقاط التفتيش المسلحة للدفاع عن الشعب، هذا يدل مرة أخرى على أن السوفيتات - أي مجالس العمال - ليست اختراعا عشوائيا من قبل الماركسيين ولكنها تظهر تلقائيا في أي ثورة حقيقية، في سوريا أيضا اللجان الثورية ظهرت في مختلف أنحاء البلاد وهي تقوم بتنظيم الاضرابات العامة والعصيان المسلح.
ما هي الدولة؟ هذا هو السؤال الأساسي الذي يطرح الآن، الثورة جعلت سلطة الدولة القديمة تركع على ركبتيها، لقد أصبح من الضروري استبدالها بسلطة جديدة، هناك قوة في المجتمع أقوى من أي دولة وهي الشعب الثائر ولكن لا بد من تنظيمها، في كل من مصر وتونس كانت هناك عناصر من ازدواجية السلطة تمثلت في اللجان الثورية التي سيطرت على مدن ومناطق بأكملها.
في تونس المنظمات الثورية الشعبية ذهبت الى أبعد مما ذهبت اليه في مصر، هذه الهيئات تنظمت - في حالات عديدة - حول الهياكل المحلية للاتحاد العام التونسي للشغل وتولت إدارة جميع جوانب المجتمع في العديد من البلدات والمدن وحتى في مناطق بأكملها، بعد طرد نظام التجمع الدستوري الديمقراطي والسلطات المحلية، على الرغم من كل الحديث عن "الفوضى" و"انعدام الأمن" من قبل الطبقة الحاكمة فإن الحقيقة هي أن الطبقات العاملة نظمت أنفسهما لضمان النظام والسلامة، ولكن هذا كان نوع مختلف من النظام - نظام ثوري.
في مصر في أعقاب انهيار الشرطة في 28 يناير تدخل الناس لحماية أحيائهم حيث أقاموا نقاط تفتيش مسلحين بالسكاكين، السواطير، السيوف والعصي لتفتيش السيارات الدخلة والخارجة، في بعض المناطق سيطرت اللجان الشعبية تماما على ادارة المدينة وحتى تنظيم حركة المرور، هنا كان لدينا جنين الميليشيات الشعبية أي سلطة الدولة البديلة.
كلما تطورت الثورة واحتدت في المستقبل، ستظهر هذه العناصر مرة أخرى، المهمة العاجلة يجب أن تكون ربطهم معا على المستوى الإقليمي والوطني ومن ثم الاستيلاء على السلطة، السماح لجهاز الدولة القديم - الذي هو وكر للثورة المضادة - بالاستمرار والوجود، يعني فقط السماح للنظام القديم بالمناورة واعادة تنظيم صفوفه من أجل مهاجمة الثورة.
ليبيا وسوريا
في حين أن الثورات في مصر وتونس نجحت بسرعة نسبيا في إسقاط الحكام المستبدين فإن العملية اتخذت طريقا آخر في ليبيا وسوريا، أحد أسباب هذا الاختلاف هو التدخل من جانب الطبقة العاملة في الحركة، لقد كتبنا التالي في مارس 2011:
«في تونس أجبرت المظاهرات الحاشدة زين العابدين بن علي الفرار الى المنفى وأطاحت بالحزب الحاكم مما أقنع العديد من المصريين بأن نظامهم قد يكون بنفس الهشاشة، ولكن المشكلة كانت أن الرئيس مبارك رفض أن يرحل، فعلى الرغم من كل الجهود الخارقة والشجاعة من المحتجين فشلت المظاهرات بالإطاحة بمبارك، المظاهرات الحاشدة مهمة لكونها وسيلة لجعل الجماهير الخاملة سابقا تقف على أقدامها وتمنحها الشعور بقوتها، ولكن لم يكن للحركة أن تنجح من دون أن يتم نقلها إلى مستوى جديد وأعلى، الشيء الذي يمكن للطبقة العاملة فقط القيام به.
«صحوة البروليتاريا هذه عبرت عن نفسها في موجة من الاضرابات والاحتجاجات خلال السنوات الأخيرة، كان هذا أحد العوامل الرئيسية التي أعدت للثورة وأيضا المفتاح لتحقيق نجاحها في المستقبل، الدخول الدراماتيكي للبروليتاريا المصرية على مسرح التاريخ شكل نقطة تحول في مصير الثورة، كان هذا ما أنقذ الثورة وأدى إلى الإطاحة بالرئيس مبارك، في مدينة تلو الأخرى نظم العمال المصريين الإضرابات واحتلوا المصانع وقاموا بطرد المدراء المكروهين والقادة النقابيين الفاسدين.
«لقد وصلت الثورة الى مستوى أعلى، لقد تحولت من مظاهرة إلى عصيان وطني، ما هي الخلاصات التي يمكن استنتاجها من كل هذا؟ التالي فقط: أن النضال من أجل الديمقراطية يمكن أن ينتصر فقط بحسب درجة القيادة من قبل البروليتاريا، الملايين من العمال الذين ينتجون الثروة في المجتمع ومن دون إذنهم الذي لا يضيء مصباح كهربائي، لا يرن هاتف ولا تدور عجلة.»
بينما يمكن الاطاحة ببعض الأنظمة بمجرد التظاهر في الشوارع لا يمكن القيام بذلك مع الآخرين، حتى في مصر وتونس الضربة القاضية جاءت من خلال التدخل المنظم للطبقة العاملة في شكل إضراب عام، عدم وجود مثل هذه المشاركة المباشرة من قبل الطبقة العاملة المنظمة يشكل نقطة الضعف الرئيسية في الثورتين السورية والليبية.
ينبغي أيضا أن نلاحظ أن كلا من هذين النظامين له طابع مختلف عن نظامي مبارك وبن علي، الشيء الأكثر أهمية أن لكل من النظامين قاعدة اجتماعية معينة بسبب تاريخهم المائل الى "اليسارية"، القذافي نتيجة لتصريحاته المناهضة للامبريالية وحقيقة أن النظام - الذي تظاهر بأنه "اشتراكي" لبعض الوقت - قام بتأميم معظم الاقتصاد وبما أنه يمتلك احتياطيات هائلة من النفط وعدد قليل من السكان كان قادرا على تقديم مستوى عال نسبيا من الصحة والتعليم والمعيشة لغالبية الناس.
في سورية أيضا نظام البعث قام ببناء قاعدة اجتماعية معينة، لقد استند النظام السوري في الماضي الى الاقتصاد المخطط على غرار ما قام به الاتحاد السوفياتي مما سمح بتنمية اقتصادية هامة في الستينات والسبعينات،هذا بالإضافة إلى أن العمال لم يظهروا كقوة منظمة في الثورتين الليبية والسورية يعني أن هذه الثورات تبدو في حالة من الركود لفترة طويلة.
في ليبيا اختطفت للثورة من قبل المجلس الوطني الانتقالي، والتدخل الامبريالي دفع طبقة كبيرة من الجماهير إلى أحضان القذافي، وبعد أشهر من الحرب الأهلية كانت انتفاضة الجماهير في طرابلس هي من تسبب بانهيار النظام، في سوريا لم نصل إلى نفس المرحلة بعد ولكن من الواضح أن حكم الاسد قد انتهى والسؤال هو مجرد متى وكيف، إذا هزمت الحركة الحالية قد يكون النظام قادرا على البقاء على قيد الحياة مؤقتا، ولكنه سوف يكون نظام في أزمة حادة.
المنظور الحالي ليس هزيمة الثورة، في الواقع في حين تتم كتابة هذه السطور يتطور اضراب عام في سوريا وينتشر إلى قلب نظام الحكم في حلب ودمشق، في الوقت نفسه تتواصل الانتفاضة في جميع أنحاء البلاد وعدد متزايد من الجنود يفرون من الجيش السوري، كان النظام يخطط لتركيز جميع قواته على حمص من أجل عزلها وكسر رقبة الثورة، ولكن بدلا من ذلك يتم الدوس عليه الأن من قبل من الجماهير التي نهضت بشكل صحيح للدفاع عن الثورة والتي أيضا ترى ضرورة توجيه الضربة القاضية للنظام، حتى الآن حركة الإضراب لم تلمس المنشآت الصناعية والمجمعات الرئيسية- التطور الذي هو أمر حيوي لنجاح الثورة.
لقد وجه نداء للجان الثورية للاستيلاء على كل الشوارع بدءا من الصغرى ووصولا إلى الطرق السريعة وذلك لمنع قوات النظام من التحرك، لو تحققت هذه الدعوة فأن السلطة ستكون معلقة في الهواء بانتظار أحد للإستيلاء عليها، في نهاية المطاف نظام الأسد سوف يسقط لكن السؤال هو: من الذي سوف يليه؟
مسألة القيادة
في حين أن الثورات السابقة الذكر قد اتخذت على ما يبدو مسارات مختلفة فإنهم جميعا يواجهون نفس السؤال: ماذا بعد؟
بعض ممن ما يسمون بالماركسيين - الذين في الواقع يرددون أفكار صديقنا القديم صموئيل هنتنغتون - مرعوبون من تهديد الثورة المضادة في العالم العربي، إنهم يشكون من سلطة المجلس العسكري والصعود الإنتخابي للإسلام السياسي في المنطقة بأسرها وقد ذهب البعض منهم - الذين هم في الواقع الأكثر تجانسا - إلى حد القول بأنه كان على الثورة أن لا تحدث أبدا!
هذا يدل على جهلهم التام بالقوانين التي تحكم حركة العمال، صعود قوى مثل جماعة الإخوان المسلمين والمجلس العسكري يعكس - قبل أي شيء آخر - نقطة الضعف الرئيسية للثورة ألا وهي غياب القيادة الثورية الواضحة.
العملية التي نراها اليوم في مصر هي نفسها التي نشهدها في جميع الثورات، في البداية السلطة تكون في متناول العمال أو في الواقع حتى في أيديهم لكنهم لا يعلمون ماذا يفعلون بها، يمكن أن نرى هذه العملية مرات عديدة في الثورتين الروسية والإسبانية، تروتسكي يفسر هذا في مقدمته لتاريخ الثورة الروسية:
«ولا تندفع الجماهير إلى الثورة وفق مخطط جاهز للتحويل الاجتماعي، ولكنها تندفع بسبب إحساسها المرير بعدم قدرتها على تحمل النظام القديم فترة أطول، وتملك الأوساط القيادية في الأحزاب الجماهيرية وحدها برنامجًا سياسيًّا، ويحتاج هذا البرنامج مع ذلك إلى تدقيقه خلال الأحداث، وموافقة الجماهير عليه، ويتمثل السير السياسي الأساسي لثورة ما في وعي الطبقة بالمعضلات التي تطرحها الأزمة الاجتماعية، وتوجه الجماهير بصورة فعَّالة وفق أسلوب التقريبات المتتالية».
كانت السلطة بين يدي العمال الروس - بعد الإطاحة بالقيصر في فبراير - لكنهم لم يعرفوا ما يفعلون بها ولذلك انزلقت من بين أيديهم وأخذتها الحكومة المؤقتة، بعد فقدان هذه الفرصة انتشر الإحباط بين الجماهير وفي شهري يوليو وأغسطس ساد القمع في روسيا مما اضطر قادة البلاشفة الى الإختباء.
ومع ذلك كانت تعد تحت السطح ثورة جديدة، الجماهير التي كان لديها في البداية أوهام كبيرة في الحكومة المؤقتة تعلمت من خلال تجربتها الخاصة أنها لا تستطيع تلبية حتى أبسط مطالبهم أو توفير أبسط أشكال الديمقراطية، وقد تمكن البلاشفة من خلال الشرح الصبور من ربط برنامجهم الاشتراكي الثوري مع حركة الجماهير حيث أوضحوا أن الجماهير الروسية يمكنها تحقيق مطالبها فقط في حال أخدت السلطة بين أيديها.
في الثورة الاسبانية رأينا الوضع نفسه ليس مرة واحدة ولكن مرات عديدة، العمال كانوا ينتفضون المرة تلو الاخرى من أجل هزيمة الثورة المضادة، في مناسبات كثيرة كانت السلطة في يد الطبقة العاملة ولكن مرارا وتكرارا قام قادة الثورة بخيانة الحركة وتسليم السلطة للبرجوازية، كان الفرق بين الثورتين الإسبانية والروسية أنه لم يوجد الحزب البلشفي في اسبانيا، الماركسيين في اسبانيا بسبب أخطائهم لم ينجحوا في بناء مثل هذه المنظمة في الوقت المناسب وفقدوا بذلك فرصة المساعدة في إظهار طريق النصر للجماهير.
عملية مشابهة تحدث في الثورة العربية، في ظل غياب قيادة ثورية بالمعنى الحقيقي فإن الحركة بالضرورة ستمر بعدد من الطرق الوعرة وتتعلم من التجارب المؤلمة عن طريق التجربة والخطأ، عدم وجود منظمات عمالية قوية يعني أن لدى العديد من العمال أوهام في الإسلاميين أو الليبراليين، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن الثورة المضادة ستنتصر، على العكس من ذلك فإن وجود السلطة في أيدي البرجوازية اليوم في مصر هو ضمان للإنتفاضات والثورات في المستقبل، لماذا؟ لأن البرجوازية لن تكون قادرة على تلبية تطلعات الجماهير.
أصدقائنا الصالحون يشيرون إلى الثورة الإيرانية عام 1979 التي خطفت وهزمت من قبل الخميني كمثال يبرهن لماذا لا ينبغي حتى أن نحاول القيام بالثورة، ولكن ما ينسون ذكره أن هزيمة الثورة الإيرانية جاءت بعد 4 سنوات في عام 1983، خلال تلك السنوات كان لدى العمال العديد من الفرص للإستيلاء على السلطة، ولكن العائق الرئيسي كان قيادة الثورة الستالينية وحقيقة أنه لم توجد قيادة بديلة لإيصال الحركة إلى نهايتها المنطقية.
الخلاصة في تونس ومصر اليوم هي على النحو التالي: الجماهير خرجت من ثورات الربيع الماضي بثقة كبيرة بقوتها الخاصة وانعدام ثقة عميق في جميع القوى السياسية الموجودة على الساحة، ولكن في الوقت نفسه غياب القيادة يعني أن بعض الارتباك يسود جنبا إلى جنب مع السؤال التالي: ما العمل الآن؟ في البلدان الأخرى الحكام نفسهم لا يزالون رسميا في السلطة لكنهم لم يعودوا يرتكزون إلا على قاعدة اجتماعية متناهية في الصغر، وعلى هذا النحو هم باقين تحت رحمة الثورة وأيا كانت المبادرات التي يحاولون تنفيذها فإنها تجابه بمقاومة شديدة من قبل الجماهير.
الإدعاء اليوم بأن الثورة قد هزمت في مصر وتونس أو حتى في ليبيا يعبر عن فهم مشوه تماما لواقع الثورة، الاعتقاد بأن الجماهير التي تذوقت طعم الحرية سوف تقوم بالانبطاح وقبول الثورة المضادة من دون كفاح هو الهذيان بعينه، على العكس من ذلك فمع التوازن الحالي للقوى، الثورة المضادة لديها فرص ضئيلة للغاية في النجاح في أي نوع من المواجهة المباشرة.
أصدقائنا الذين لا يرون شيئا سوى القوى الظلامية للإخوان المسلمين ينسون حقيقة أن أعضاء هذه المنظمة، في مناسبات خلال الثورة، وقفوا بزاوية معاكسة 180 درجة للقيادة، في الأسبوع الأخير من شهر نوفمبر ظهر هذا التناقض بأوضح أشكاله حيث قدم الآلاف من الأعضاء العاديين في جماعة الإخوان المسلمين الى التحرير في اشتباك فتاك مع الجيش الذي كانت هجماته على الشعب المحتشد في الساحة مدعومة من قيادة جماعة الاخوان المسلمين.
حتى في ليبيا حيث الثورة المضادة ربما الأقوى في الوقت الحاضر فإن أي قوة مضادة للثورة ستصل إلى السلطة سيكون عليها، في مرحلة ما، تصفية الحسابات مع الجماهير المعبئة والواثقة من نفسها.
من الخطأ أن نعزو قوى "خارقة" للإسلاميين والقوى الأخرى المعادية للثورة والتي بطريقة ما تسمح لهم بالوقوف فوق المجتمع والصراع الطبقي، النقطة الرئيسية التي يجب فهمها هي أن جميع هذه القوى هي ظلال مختلفة من الأحزاب البرجوازية التي تدافع عن سيادة رأس المال، ولكن طالما أنهم يدافعون عن سيادة رأس المال فيجب عليهم قبول منطق الرأسمالية، عليهم إذا أن يدافعوا عن أزمة الرأسمالية والتي، في الوقت الحاضر، لا تسمح بتقديم حتى أقل وأبسط التنازلات للجماهير.
لو كان كل هذا قد حدث قبل عشر سنوات كان من الوارد أن يتمكنوا من تحقيق شكل ما من أشكال الأنظمة الديمقراطية البرجوازية حيث كان من شأن الازدهار في الرأسمالية العالمية أن يعطي لهم بعض الهامش للمناورة، لكن الآن هنالك أزمة عميقة على نطاق عالمي، هذا هو سبب الغليان الثوري وهو سبب لا يمكن وضع حد له بسهولة، النظام الرأسمالي لا يستطيع أن يقدم أي شيء للجماهير، فهو غير قادر على توفير فرص العمل ومستوى معيشي لائق حتى في الولايات المتحدة وأوروبا، فكيف يمكن لهم أن يأملوا بتحقيق ذلك في مصر؟
ما الذي يجب القيام به؟
ما شهدناه في العام الماضي لم يكن سوى بداية فترة طويلة من الثورة والثورة المضادة، الضعف الشديد للبرجوازية من جهة، وعدم وجود قيادة ثورية لها قاعدة جماهيرية من جهة أخرى، سوف يمنع الثورة من الوصول الى نتيجة سريعة وبدلا من ذلك نحن مقدمون على رؤية سلسلة من الأنظمة غير المستقرة التي ستخلف بعضها البعض.
سوف نرى أنظمة بونابارتية ضعيفة مثل نظام المجلس العسكري في مصر لكنها لن تكون قادرة على توطيد حكمها، قبل أن يكتب الفصل الأخير من الثورة، سوف تخاض العديد من المعارك، وسوف تختبر العديد من الانتصارات والهزائم.
مفتاح العملية برمتها سيكون الطبقة العاملة، لقد أظهر العمال بالفعل لمحات من قوتهم فنظرا لعلاقتهم بوسائل الإنتاج يمكن للعمال شل أي نظام، لكن قوة العمال لها وجهان، العمال ليسوا فقط أقدر قوة على اسقاط النظام القديم ولكن أيضا من خلال انجذابهم الغريزي الى التعاون يشكلون العنصر الأكثر أهمية في بناء مجتمع المستقبل، لذلك فإن تعزيز المستوى التنظيمي والسياسي للطبقة العاملة يبقى المهمة الحاسمة للثورة.
في النهاية يعود الموضوع الى مسألة القيادة، نقطة الضعف الرئيسية للثورة هي عدم وجود تيار ماركسي ثوري جماهيري حقيقي متجذر في الطبقة العاملة والشباب، لو وجدت تلك القيادة لكان من الممكن الإستحواذ على السلطة عدة مرات حتى الآن، لا توجد قوانين تستبعد امكانية بناء مثل هذه القوة في خضم الثورة ولكن من الواضح أنه يجب أن يكون لدينا شعور بالإلحاح في ما يخص هذه المسألة.
لقد الهمت الثورة الملايين من الناس حول العالم، يكفي فقط أن تسأل أي شخص إذا كان يمكن له أن يتذكر كيف كان العالم قبل اثنى عشر شهرا فقط، في العام الماضي اندلعت حركات جماهيرية في عشرات البلدان وقد الهمت الثورة العربية الكثير منها، في ماديسون، ويسكنسن، خرج مئات الآلاف في الشوارع يحملون شعارات مثل "حارب مثل المصري!" في اسبانيا واليونان وكذلك في حركة احتلوا وول ستريت، في جميع أنحاء العالم، كان احتلال الساحات المركزية اشارة واضحة الى الثورة العربية، حتى في اسرائيل قدم مئات الآلاف الى الشوارع مع لافتات مثل "ثورة حتى النصر!" هذا يثبت مرة أخرى الطبيعة الطبقية والعامة لهذه العملية.
في جميع أنحاء العالم تحدث نفس العملية ألا وهي عملية الأزمة العالمية للرأسمالية، العمليات المتماثلة تؤدي إلى نتائج متشابهة، وهكذا فإن الثورة العربية ليس حدثا معزولا على الإطلاق بل بداية لثورة العالم ضد النظام الرأسمالي الذي لم يعد قادرا على توفير حتى الضروريات الأساسية لغالبية سكان الأرض.
في هذه المقالة أشرنا فقط الى الدول الرئيسية للثورة العربية، وفي الحقيقة أن جميع أنحاء العالم العربي - مع هذه الخصوصية أو تلك - نفس العملية الثورية تتطور، لقد تم تحقيق العديد من الإنتصارات ويجب أن نكون واعين لهذه الإنتصارات ولكن يجب علينا أيضا أن نفهم أن الثورة لم تنته بعد، لم يتم حل اي من التناقضات الرئيسية وطالما أن النظام الرأسمالي لا يزال موجودا فأن هذه التناقضات سوف تستمر.
كان محمد البوعزيزي أول شهيد للثورة ولكن عدد لا يحصى من الرجال والنساء منذ ذلك الحين ضحوا بحياتهم للدفاع عنها، السبيل الوحيد لتكريم ذكراهم وضمان أن موتهم لم يذهب سدى هو أن نذهب بالثورة حتى النهاية إلى نتيجتها المنطقية، أي حتى اقتلاع النظام الذي يكبل الإنسانية من تحقيق إمكانياتها واستبداله بالمجتمع الاشتراكي.
المستقبل بالطبع سيجلب الهزائم وسيكون هنالك هزائم كبيرة ولكن من خلال تلك الهزائم العمال والشباب سيتصلبون وعلى انقاض تلك الهزائم ستبنى انتصارات أكبر، جيش الثورة لم يكن أبدا أكبر، والثورة المضادة لم تكن أبدا أضعف والطبقة العاملة لم تكن يوما أقوى، ليس هناك لا الوقت ولا السبب للتشاؤم، يجب أن يكون شعارنا:
إلى الأمام - ثورة حتى النصر النهائي

حميد عليزاده
الجمعة: 16 ديسمبر 2011
marxy.com



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن