حكاية سَكَنْدَرِيَّة - ما شادو ده أسيس

خليل كلفت

2012 / 1 / 5

  
حكاية سَكَنْدَرِيَّة
 
وقصص أخرى
 
للكاتب البرازيلى: ما شادو ده أسيس
ترجمها عن الإنجليزية: خليل كلفت
 
 
 
تصدير
 
               هذه ترجمة لمجموعة مختارة من قصص الكاتب البرازيلى: ماشادو ده أسيس وهى مأخوذة عن:
 
The Devil’s Church and Other Stories
by Machado de Assis
Translated by Jack Schmitt  and Lorie Ichimatso
University of Texas Press, USA, 1977.
 
 
 
 
المحتـــويات
 
)الأرقام الواردة بين الأقواس هى سنوات نشر
كل قصة للمرة الأولى باللغة البرتغالية- المترجم(
 
مقدمة : ما شادو ده أسيس والقصة القصيرة البرازيلية
بقلم : چاك شميت و لورى إيشيماتسو .......................     
1: ســرّ البـونـزو  (1882)*……………………………........
2: حكـاية سكندريـة   (1883)  ………………….………............
3: كنيسة الشيطــان   (1883)   …………………………............
4: الفاصــل الأخيـر  (1883)  …….…………………...............
5: الحيــاة الثـانيـة  (1884)  …….…………………................
6: دونـــا پـاولا (1884)  …….…………………...............
7: الممــــــرِّض  (1884)  .........................................
      8: رجــل شهيــر   (1888)   …….…………………...............
9: أفكار عصفور كناريا  (1895)  …….…………………................
10: مـارش جنـائـزى  (1905)  …….…………………................
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
مقدمة
 
ماشادو ده أسيس
والقصة القصيرة البرازيلية
بقلم: چاك شميت
                  لورى إيشيماتسو
 
تبدأ القصة القصيرة البرازيلية الحديثة بالأعمال الناضجـة لچواكين ماريا ماشادو ده أسيس (1839-1908)، المحتفى به بالإجماع تقريبا على أنه أعظم كاتب فى البرازيل. وبين 1858 و 1906، كتب ماشادو أكثر من مائتى قصة، وما من كاتب آخر فى البرازيل وصل إلى مستوى تمكنه التكنيكى الفائق فى شكل القصة قبل ثلاثينات القرن العشرين.
 
وإلى سنوات قريبة، لم تكن شهرة ماشادو فى الخارج على مستوى جودة قصصه ورواياته الرائعة أو مكانته العالية فى الآداب الغربية. واعتبر الناقد البرازيلى أنطونيو كانديدو أن من المفارقات أن يبقى كاتب ذو قامة عالمية، يتسم أسلوبه وموضوعاته بالسمات المميزة للقرن العشرين، مجهولا نسبيا خارج البرازيل. ويرتبط عدم شهرة أعمال ماشادو فى الولايات المتحدة ارتباطا وثيقا بواقع أن اللغة البرتغالية لم تكن معروفة على نطاق واسع فى هذه البلاد، ولم تتوفر ترجمات لرواياته وقصصه إلى اللغة الإنجليزية إلا فى السنوات الأخيرة، بصفة خاصة بفضل الترجمات الممتازة لهيلين كالدويل وويليام ل. جروسمان.
      
ويمكن تقسيم قصص ماشادو على وجه التقريب إلى فترتين: تلك الأعمال المكتوبة قبل سنة 1880 وتلك المكتوبة بعدها. وماشادو السابق لتلك السنة رومانسى بصفة أساسية، فى حين أن أعماله اللاحقة مكتوبة بروح الواقعية السيكولوجية. ويؤيد الكاتب البرازيلى آوجوستو ميير هذا التقسيم، مشبها الانقطاع فى الاستمرار التطورى عند ماشادو بذلك الانقطاع بين أعمال هيرمان ميلڤيل المبكرة وموبى ديك. ولاشك فى أن تشبيه ميير سليم. ذلك أنه لايكاد يكون هناك فى روايات وقصص ماشادو المبكرة مايهيىء القارىء للتغيرات المفاجئة فى المحتوى والتكنيك الموجودين فى روايته العظيمة الأولى: مذكرات براس كوباس يكتبها بعد وفاته، 1880، و: أوراق متفرقة، أول مجلداته الخمسة التى تظهر فيها غالبية أفضل قصصه. والحقيقة أن الجودة العالية برسوخ للسرود القصصية الثلاثة والستين فى هذه المجلدات الخمسة تتحدى المقارنة مع أعمال كتاب القصة القصيرة البرازيليين الآخرين، السابقين أو الحاليين.
 
               وتشكل قصص ماشادو لوحة ساخرة رائعة لقيم الطبقة الوسطى والهياكل الاجتماعية فى البرازيل خلال عهد الإمبراطورية الثانية (1840-1890) والسنوات الأولى من الجمهورية. ولو استمر ماشادو فى نشر قصص الحب الأخلاقية الرقيقة ومكائد غرف الجلوس فى ستينات وسبعينات القرن التاسع عشر لتمثل التراث الذى يتركه للأجيال المقبلة فى لوحة تهكمية باعتدال ولكن ممتعة ومسلية للعهد الجميل فى صورة مصغرة فى بيئة برازيلية. غير أنه، فى أواخر السبعينات، يبدأ قصصه فى إظهارهجوم ساخر عميق النفاذ بصورة مدمرة على ذلك المجتمع بصفة خاصة وعلى البشرية بصفة عامة. وفى لحظة تخفيف من وطأة الحقيقة، قالت هيلين كالدويل إن ”المرء لايجد فى كتاباته قدرا كبيرا من الرضا المزهو بالقرن والبلد اللذين عاش فيهما“( 1).
 
       وهناك فيض من النقد الاجتماعى الضمنى فى وصف ماشادو لأساليب الحياة والهياكل الأسرية لشخصيات الطبقة الوسطى فى قصصه. ونحاط دوما علما بأن أسباب الراحة المادية التى تتمتع بها شخصياته إما أنها ثمار نظام طبقى مغلق تجرى مراعاته بدقة وعناية أو أنها متحققة على حساب الآخرين: الصـداقات والزيجـات قائمـة على المصلحة الشخصية، أو المركز المالى، أو الطبقة الاجتماعية؛ المناصب الحكومية والوظائف الحكومية الشكلية (ذات الرواتب بلا عمل تقريبا) يجرى ترتيبها من خلال روابط وثيقة ضمن الأسر الممتدة لأولئك المجبرين بالفعل على أن يعملوا من أجل كسب قوتهم؛ شخصيات الطبقة المتوسطة العليا تأتى بفراغها من خلال المواريث، أو الإيجارات، أو المخصصات، من الأملاك والعقارات الأسرية؛ خدم البيوت والأقارب المفقرون يقضون حياتهم كطفيليات أو كتابعين. ويغدو احتدام الغرائز السادية وتجنب العمل اليدوى نتيجتين ممكنتين للقوة المفسدة للعبودية. وتبدو شخصيات كثيرة لماشادو ذات موهبة فى تحاشى العمل النافع؛ إنها شخصيات كسولة، وضجرة، وسلبية، ولامبالية، وقليلة الحيلة، إلى حد أنها كثيرا ما تغدو مشلولة عندما تجد نفسها فى مواجهة صدمات الصراع الحقيقى. وتكون النساء فى قصصه عادة اجتماعيات أكثر منهن بيتيات؛ إنهن مزهوات، ومجردات من الغرائز الأمومية، وعقيمات جسمانيا، أو فكريا، أو عاطفيا.
 
               ويمكن أن نرى فى نقد ماشادو للمجتمع أنه يفضل أن يتناول بإسهاب الجوانب السلبية للسلوك البشرى: الغرور، والادعاء، والضحالة، والحسد والغيرة القارصين، والجبن، واللامبالاة الفكرية. أما الصفات المرغوب فيها أكثر، مثل التجرد والإيثار، فإنما تدفع إليها فى العادة تلك المرغوب فيها أقل.
 
               ومفعما بالشك فى أن نجاحات العلم فى القرن التاسع عشر يمكن أن تتكرر فى مجال قيم وسلوك البشر، يشك ماشادو أيضا فى أن المستقبل يدخر لنا أشياء أفضل من الماضى. وهو شديد القسوة فى نقده الساخر للمثقفين والعلماء الذين يقدمون بكل عقائدية أدوية محددة لكافة أدواء ونقائص البشرية.
 
               ونقد ماشادو للتقاليد الأدبية فى البرازيل قاطع أيضا. وفى مقالاته الأدبية المبكرة واسكتشاته الصحفية، يقدم نقدا بناءا، مجادلا بصورة مقنعة ضد الأهمية الزائدة التى يوليها الكتاب البرازيليون للطبيعة، والهنود [الحمر أو الأمريكيين]، والمغالاة المميزة للنزعة الإقليمية فى تصوير المشاهد البديعة والطرائف النادرة. وبعد منتصف السبعينات، يبدأ فى صب نقده للتقاليد الأدبية فى صميم نسيج قصصه، محقرا التوقعات القصصية التقليدية لقرائه، وساخرا من المعايير الأدبية الرومانسية، ومهاجما البلاغة الفارغة، والإطناب، والابتذال، من خلال اللغة المسطحة العديمة الخيال لشخصياته.
 
               ورغم أن أغلب نواحى الضعف البشرى التى يسخر منها ماشادو ليست مقتصرة على الزمان والمكان– وهى بالتالى عامة– فقد استاء كثير من البرازيليين من تعليقاته التهكمية اللاذعة، متهمين إياه بأنه رسم للمجتمع البرازيلى صورة متشائمة أكثر مما ينبغى، منكرين عليه حتى حق المواطنة الأدبية فى البرازيل.
 
               والحقيقة أن ماشادو يوحى بتعاطفه مع كثير من شخصياته، غير أنه تعاطف تهكمى. إنه ليس لا مباليا إزاء صراعات البشر، غير أنه يستخدم بالفعل الفكاهة والتهكم من أجل التشديد على عبث ولاجدوى تلك الصراعات عندما يجرى القيام بها على خلفية عالم ساكن. ذلك أن مثل هذا المشهد يخلق إحساسا بالعجز ولايمكن إلا أن يلهم بتسلية حزينة. والمجادلات والانقلابات المفعمة بالتهكم فى قصصه مقنعة عقليا ومسئولة تأمليا؛ وتدحض الأخلاقية الجمالية الصلبة التى تتجلى فى قصصه أولئك الذين ينظرون إلى شكه وتشاؤمه على أنهما عدميان أو عقيمان. فليس من المدمر تأكيد وجود الشر، أو الطابع الخادع للحقيقة والواقع، أو الأراضى السبخة التى يبنى عليها الناس أساسات قصورهم التأملية.
 
               وقد ألمح كثير من أفضل نقاد ماشادو إلى أن أعمق معانيه ماثلة فى تكنيكه. وزعم آوجوستو ميير أن تحليل الموضوعات نهج لاجدوى منه مع ماشادو وانتهى إلى أن الإبهام هو الموضوع المسيطر فى أعماله. وفى وقت مبكر، عام 1922، رأى الناقد الأمريكى إسحق جولدبيرج ” أننا لايجب أن نبحث بتلهف وتدقيق أكثر مما ينبغى عن الحدث فى قصص [ماشادو]“؛ إنه ”نسيج وحده، قانون أدبى قائم بذاته“، و”منهجه هو الأكثر ترويا فى عدم المباشرة “(2). وبعد ذلك بسنوات، فى 1948، اعترف صمويل پوتنام بالجاذبية والحداثة الشاملتين لماشادو وحدد قائمة أولويات للقراء والمترجمين المحتملين. كما عقد پوتنام بعض المقارنات الصحيحة بين ماشادو وهنرى جيمس: كلاهما ”يتناولان الأفكار“، وهما ”مهتمان بالتحليل السيكولوجى، بالحدث المبهم الذى يجرى خلف الوعى المحجوب للبشر“؛ وهما متشابهان فى ”الغياب النسبى للحبكة فى صفحاتهما“، كما نفهم هذه اللفظة عادة( 3). ومنذ وقت قريب، طرحت كالدويل مشكلة الإبهام فى أعمال ماشادو عندما قالت إن تركه إصدار الحكم للقارىء ”ماثل فى صميم المنهج الفنى لماشادو“( 4).
 
               ونتيجة لنفوره من سطحية تفسير معاصريه للواقع البرازيلى، يحاول ماشادو أن يقدّم تصورا أقل مثالية وأكثر تعقيدا للسلوك البشرى. ذلك أنه يجرّد شخصياته من سلوكها السطحى الخادع ويسبر أغوارها فيما وراء حياة الامتثال العام التى تعيشها. وبجعل هدفه الحقيقة السيكولوجية وتركيزه على اللحظات الحاسمة للتجربة فى حياة شخصياته، يقترب ماشادو من منهج أنصار الفن الحديث. إن إبهامه يُعَدّ جزئيا نتيجة لنظرته الذاتية النسبية إلى العالم، التى لايمكن فى إطارها إلا مقاربة الحقيقة والواقع، اللذين لايكونان مطلقلين أبدا؛ لاعلاقات لأىّ شخصية تظل مستقرة، ولا مسائل تكون قاطعة التحدد، وتغدو طبيعة كل شيء غامضة.
 
وباستكشاف التأملات الذاتية لشخصياته وكذلك أوهامها، لايترك لنا ماشادو أىّ معيار عقلانى يمكننا به تكوين حكمنا بشأن تدفق الزمن، وهو يمتد ويتقلص على هوى الوعى الفردى لشخصياته. ونحن نحاول أن نضفى معنى على تجربتنا، غير أن إحساسنا بالزمن يكون مرتبطا دوما بإدراكنا للزمن فى أية لحظة بالذات. وبكلمات أ. أ. مينديلو فإن الانفتاح والامتداد يتلقيان مزيدا من العون من واقع أن ” المشاعر والتداعيات لا تنتهى؛ إذ لا يجرى الإحساس بها مرة واحدة ثم يتم التخلى عنها، إنها ليست قابلة للترتيب فـى أشكال“(5)، وهذه ”المشاعر والتداعيات“ كثيرا ماتكون العناصر الأكثر واقعية فى أفضل قصص ماشادو.
 
               ويبدى باريتو فيليو ملاحظة حادة عندما يلاحظ أنه فى سرود ماشادو ”هناك حكم نهائى بالعجز، وهذا هو السبب وراء واقع أن استدعاء الماضى تهكمى“(6). وهذا الاستدعاء للماضى تهكمى عند ماشادو لأنه رغم ميلنا إلى أن نطمح إلى الأبدية، وأن نمارس خداع النفس، وأن نلعب ألعابا ذهنية مع الزمن لنجعله يخدم أوهامنا السريعة الزوال، إلا أن الزمن فى الحقيقة صليب علينا أن نحمله؛ إنه يمضى بعناد وقسوة، مدمرا كل شيء بعده، ماعدا الفن وأعمال الفكر. ويظل تجريب ماشادو مع عنصر الزمن مظهرا آخر لقصته التى تعطى قراءه انطباعا جليا بالحداثة.
 
               وبتوصيل معانيه عبر استخدام الإيحاء والتضمين، طوّر ماشادو أسلوبا مختصرا سمح له بأن ينقل بالتدريج معلومات أكثر فى مساحات أصغر. ويؤكد شون أوفولين أن الكاتب الحديث يرمى إلى ”البوح العام عن طريق الإيحاء“ و”جَعْل جزء ضئيل جدا يخدم الكل“(7). وماشادو، مثل كاتب القصة الحديثة، ”لم يستغن عن الحدث أو الحكاية أو الحبكة وكل مايلازمها جميعا، غير أنه غيّر طبيعتها. وما تزال هناك مغامرة، غير أنها تشويق عاطفى أو فكرى أكثر منها تشويقا عصبيا“(8).
 
               وفى تمكنه التكنيكى الفائق من القصة القصيرة، كان ماشادو متقدما عقودا على معاصريه ومايزال يمكن اعتباره أكثر حداثة من معظم الحداثيين أنفسهم. وهو أيضا نقطة تحول إلزامية لكل شخص مهتم بتطور الأدب البرازيلى الحديث. وواقع أن أعماله تثير ردود فعل ووجهات نظر واسعة ومتبانية إنما هو رمز لتقدير ثراء تلك الأعمال وتعقيدها وأهميتها.
 
إشارات
1- Helen Caldwell, The Brazilian Othello  of  Machado de Assis [Berkeley & Los Angeles: University of California Press, 1960]
2- Isaac Goldberg, Brazilian Literature [New york: Alfred A.knopf, 1922].
3- Samuel Putnam, Marvelous Journey [New york: Farrar, Straus & Giroux, 1971].
4- Caldwell, The Brazilian Othello.
5- A . A . Mendilow, Time and the Novel  [Devnter: Isel Press, 1952].
6- Barreto Filho, Introduçâo a Machado de Assis [ Rio: Livraria Agir Editôra , 1947].
7- Sean O’Faolain, The Short Story [New york: Devin– Adair, 1964].
8- Ibid
سرّ البونزو[i]
(فصل غير منشور بقلم فرنون مينديس پينتو)
رويتُ لك منذ قليل قصة ما حدث للأب الموقر جدا فرانسسكو فى مدينة فوشيو، عاصمة مملكة بونجو، وماذا جرى لملكنا الكاثوليكى فى المجابهة بين الأب فرانسسكو والفوكارا ندونو وبقية البونزوات الذين اعترضوا على تفوق ديننا الكاثوليكى الرومانى المقدس. وسأتحدث الآن عن مذهب ليس أقل غرابة منه نفعا للروح، وهو جدير بالتعريف به فى شتى أنحاء العالم المسيحى.
        ذات يوم فى سنة 1552 ميلادية، فيما كنتُ أنا ودييجو ميريليس نتمشى في شوارع مدينة فوشيو المذكورة آنفا، إذا بمجموعة أشخاص على ناصية شارع، وقد تحلقت حول أحد أبناء تلك البلاد فيما كان منهمكا فى حديث تقاطعه الإشارات والصيحات. كان الجمع يتكون من رجال فقط، مائة على الأقل، وقد وقفوا جميعا فاغرى الأفواه رهبة إزاء المتحدث. وكان دييجو ميريليس، الذى عرف تلك اللغة أفضل مما عرفت أنا لأنه كان قد قضى شهورا عديدة فى بونجو خلال مهمة تجارية (وفى وقت لاحق، بعد أن تلقى الدراسات اللازمة، تفوق فى ممارسة الطب)، كان يترجم كلمات المتحدث إلى لغتنا. وكانت فكرة المتحدث الرئيسية هى أن رسالته الوحيدة هى كشف أصل صرّار الليل، الذى كان يولد من الهواء أو من أوراق أشجار جوز الهند أثناء اقتران القمر الجديد، وأن عمله، هو مشروع مستحيل لمن لم يكن عالم رياضيات، وعالم طبيعة، وفيلسوفا مثله هـو، يمثل ثمرة سنين طويلة مــن المثابـرة على التجريب، والدرس، وحتى الخطر الذى ينذر بالهلاك. لكنه كان قد حقق أخيرا غايته، وجلبت ثمار جهوده المجد لمملكة بونجو، خاصة فى مدينة فوشيو، التى كانت مسقط رأسه، وكان على يقين من أن العلم أعظم قيمة من مباهج الحياة إلى حدّ أنه كان سيقبل الموت فى الحال إذا كانت مثل هذه التضحية ضرورية. وبمجرد أن ختم كلامه، أطلق الجمع المحتشد صيحة ابتهاج تصمّ الآذان وحملوا الرجل على الأكتاف، صائحين: ”پاتيماو، پاتيماو، عاش پاتيماو، الذى اكتشف أصل صرار الليل!“ وأخذوه إلى الشرفة المسقوفة لمحل تجارى، حيث قدموا له مشروبات وقاموا بتكريمه بأسلوب أولئك الوثنيين اللطفاء والمهذبين للغاية.
 
        كنا عائديْن من حيث أتينا، نتناقش حول الاكتشاف الفذ الخاص بأصل صرّار الليل، عندما فوجئنا على مسافة لاتزيد على ستة من الكريدوات من شرفة التاجر بجمع غفير آخر أيضا تجمّع على ناصية شارع، منصتا إلى رجل آخر. كنا مندهشيْن من تشابُه الموقفين، ولأن هذا الرجل بدوره كان يتكلم بسرعة أخذ دييجو ميريليس يردّد على مسامعى خلاصة حديثه، كما كان قد فعل من قبل. ومحاطا بالإعجاب والاستحسان الشديدين من جانب أولئك الذين أحاطوا به، قال هذا الرجل– وكان اسمه لانجورو– إنه اكتشف، من أجل أولئك المعنيين بالخلاص بعد الدمار الكامل للأرض، مبدأ الحياة الأخرى فى قطرة واحدة من دم البقرة. وقد فسرت نظريته كذلك التقدير العالى الذى اعتبرتْ به البقرة مثوى للأرواح البشرية والحماس الذى يبحث به الناس عن ذلك الحيوان المقدس فى ساعة موتهم. وكان على يقين تام من سلامة اكتشافه، الذى كان ثمرة التجريب المتواصل والتأمل العميق، وكان لايطلب ولايريد أىّ مكافأة على جهوده، إلا أن يجلب المجد لمملكة بونجو وأن يتلقى منها التقدير الذى كان يستحقه أبناؤها الجديرون بالتكريم. وأطلق الجمْع، الذى كان يصغى إلى خطبته ببالغ التبجيل، صيحة هائلة وأخذوه إلى نفس شرفة التاجر، مع الفارق المتمثل فى أنه تم نقله إليها فى محفة. وعندما وصل، انهال عليه سيل من الاهتمامات والتوددات مشابهة لتلك التى مُنحتْ لپاتيماو؛ وفى كل حالة، كان المقصد الأول للجمهور المضيف هو التعبير عن عرفانهم للضيف الجليل. ولأنه بدا من غير المرجح أن يكون التشابُه بين الحدثيْن عرضيا، لم نَدْر كيف نعلل حدوث ذلك، ولم نكن نعتقد أن أية نظرية من النظريتين – أصل صرّار الليل الذى اكتشفه پاتيماو أو مبدأ الحياة الأخرى الذى اكتشفه لانجورو– عقلانية أو قابلة للتصديق. وفى تلك اللحظة، تصادف أنْ كنا قريبيْن من بيت صانع صنادل اسمه تيتانيه، وقد اندفع خارجا للقاء دييجو ميريليس. وفيما كان الصديقان يتبادلان التحية، كان صانع الصنادل يخاطب دييجو ميريليس بأسمى العبارات، واصفا إياه بأشياء من قبيل ”صوت الحقيقة الذهبية“ و”المصباح المجيد للفكر“. ووصف دييجو ميريليس ماسبق أن شهدناه قبل ذلك بقليل، وأجاب تيتانيه بانفعال: ”ربما كانا يمارسان عقيدة جديدة يقال إنه أسسها بونزو ذو علم غزير يعيش على منحدرات جبال المرجان“. وحيث إننا عبّرنا عن رغبة حارقة فى معرفة المزيد عن هذه العقيدة، وافق تيتانيه على مصاحبتنا إلى منزل البونزو. وأخبرنا أن البونزو لم يفتح قلبه إلا لأولئك الذين رغبوا رغبة جارفة فى أن يصيروا من أشياع معتقداته – وهكذا كان علينا أن نتظاهر بأننا أنصار متحمسون لنحمله على أن يُطلعنا على عقيدته، فإن أعجبتنا أمكننا أن نضعها موضع التطبيق.
        كما اعتزمنا، ذهبنا فى اليوم التالى إلى بيت البونزو العجوز پومادا[ii]، الذى كان فى الثامنة بعد المائة من عمره. وكان البونزو پومادا ضليعا للغاية فى العلم الإلهى والبشرى، وحيث إنه حظى بمنتهى الإجلال والتبجيل من جانب شعوب تلك البلاد الوثنية فقد ارتاب فيه غاية الارتياب بقية البونزوات، الذين نهش الحسد قلوبهم. وبعد أن علم پومادا من خلال تيتانيه مَنْ كنا وماذا أردنا، أخذ يُهيئنا لتلقى عقيدته عن طريق إقامة طقوس وشعائر وثنية متباينة، ثم رفع صوته ليبوح بمعتقداته ويشرحها.
               ”يجب أن تفهموا“ هكذا بدأ، ”أن الفضيلة والمعرفة لهما حياتان متوازيتان: أولا، فـى الشخص الذى يملك هاتين السجيتين، وثانيـا، فــى الشخص الذى يلاحظه. وإذا وضعتم أسمى الفضائل وأعمق المعرفة فى فرد يحيا فى مكان ناءٍ، منعزلا عن كل اتصال بإخوته البشر ، فسوف يبدو وكأنه بلا أية فضائل أو معرفة. وإذا لم يذق أحد برتقالة لاتعود لها قيمة أكثر من نبات الخلنج أو الأعشاب الضارة. وإذا لم ير أحد البرتقالة فهى عديمة القيمة. وبعبارة أخرى، لامشهد بلا مُشاهد. وذات يوم، فيما كنتُ أمعن التفكير فى هذه الأمور، أدركتُ أننى قضيتُ حياتى أحاول أن يزداد علمى قليلا وبدون حضور أشخاص آخرين ليرونى ويبجّلونى فلن يكون لجهودى أىّ نفع دنيوى. ثم تساءلتُ عما إذا كانت هناك طريقة لتلقى نفس التبجيل والحفاوة بدون بذل الجهد. ويمكننى الآن أن أقول إن اليوم الذى اكتشفتُ فيه عقيدتى كان يوم تجدّد وخلاص للبشرية“.
 
        عند هذه النقطة كنا كلنا آذانا صاغية، وكانت عيوننا مركزة على البونزو، الذى أخذ يتحدث على مهل وبوضوح بحيث لم تفتنى كلمة، لأن دييجو ميريليس كان قد أحاطه علما بأننى لستُ بالغ الإلمام بلغة تلك البلاد. وقال إن الفكرة وراء عقيدته الجديدة، وهذا أمر لم يكن بوسعنا تخمينه وحدنا، جرى استلهامها من شيء لايقلّ عن حَجَر القمر الذائع الصيت، الذى كان يبهر العيون إلى حد أنه عندما يوضع على قمة جبل أو فى أعلى برج كان يُنير حتى أبعد الحقول المحيطة به. ولم يكن لحجر القمر المتلألئ وجود فى واقع الأمر، غير أن كثيرين كانوا يؤمنون بوجوده، وزعم أكثر من واحد أنه رآه بعينيه. ثم قال البونزو: ”فكرتُ فى المسألة وأدركتُ أنه إذا أمكن أن يوجد شيء فى الرأى دون وجود فى الواقع، أو أن يوجد فى الواقع دون وجود فى الرأى،  فالاستنتاج السليم هو أن ماهو ضرورىّ من بين الحياتين المتوازيتين هو الرأى وحده– وليس الواقع، فهو ليس سوى اعتبار ثانوى. وبمجرد أن قمتُ بهذا الاكتشاف التأملى، حمدتُ الله على هذا الفضل الخاص وقرّرتُ أن أفحص سلامة عقيدتى بتجارب أثبتت، فى أكثر من حالة، صوابها. لكننى لن أتناقش فى هذا الآن، لأننى لا أريد أن آخذ المزيد من وقتكم. ولكى أمنحكم فهما لعقيدتى، يكفى أن ألفت أنظاركم إلى واقع أنه، أولا، صرّار الليل لا يولد من الهواء أو من أوراق أشجار جوز الهند أثناء اقتران القمر الجديد، ثانيا، لايمكن أن يوجد مبدأ الحياة الأخرى فى قطرة واحدة من دم البقرة. لكن پاتيماو ولانجورو كانا فى غاية الدهاء ونجحا فى دسّ هاتين الفكرتين فى عقول الجماهير بمهارة بالغة إلى حدّ أنهما يتمتعان الآن بشهرة عالميْن طبيعيين عظيمين، وفيلسوفين أعظم، ولهما أتباع مستعدون للتضحية بحياتهم فى سبيلهما“.
        لم نعرف كيف نعبر للبونزو أفضل تعبير عن مشاعر منتهى الرضا والإعجاب لدينا. ولفترة بعد ذلك، راح يسألنا طويلا عن المبادىء الأساسية لعقيدته. وعندما اقتنع بأننا فهمناها، نبّهنا إلى أن نمارسها ونبوح بسرّها بحذر، ليس لأنها تنطوى على أىّ شيء يتعارض مع القوانين الإلهية أو البشرية بل لأن سوء تطبيقها من جانب معتنق جديد يمكن أن يلحق بها الضرر ويقوّض فرصها فى النجاح. وفى نهاية المطاف ودّعنا وقال إنه على يقين من أننا نغادر بيته ”بالأرواح المخلصة للپوماديين“ وهذه تسمية أسعدته للغاية، لأنها كانت مشتقة من اسمه شخصيا.
        والحقيقة أننا نحن الثلاثة اتفقنا قبل حلول المساء على أن نضع موضع التطبيق فكرة بدتْ لنا مريحة بالإضافة إلى كونها سديدة، حيث إن الربح لايوجد فى شكل العملة فحسب بل كذلك فى شكل التقدير والإطراء، اللذيْن يمثلان وسيلتين أخرييْن من وسائل التبادل– حتى وإنْ لم يكن بوسعنا استعمالهما فى شراء الأقمشة الدمقسية أو طقم المائدة المصنوع من الذهب الخالص. ثم قرّر كل منا، لكى يمتحن سلامة العقيدة، أن يغرس فى عقول مواطنى فوشيو اقتناعا من شأنه أن يسمح لنا بالتمتع بمنافع مشابهة لتك التى تمتع بها پاتيماو ولانجورو. وعلى رأى المثل فإن أفضل مصالح المرء تشغل عادة الجانب الأكبر من تفكيره، وقد صمم تيتانيه خطة لتلقى الأجر بكلتا العملتين– نقدا وبتقدير مواطنيه– باستخدام العقيدة كوسيلة لبيع الصنادل. ولم نعترض على فكرته حيث إنها لم تكن تتعارض مع جوهر عقيدتنا.
        لا أعرف تماما كيف أشرح تجربة تيتانيه أو أجعلها مفهومة. ذلك أنه فى مملكة بونجو، كما فى مناطق أخرى نائية فى هذا الجزء من الكرة الأرضية، يصنع السكان ورقا من نوع فاخر من لحاء القرفة المطحون والمصمغ، ويجرى تقطيعه قطعا القطعة منها بطول كفين وعرض نصف كفّ. وتطبع أنباء الأسبوع، بألوان زاهية، على هذا الورق بلغة تلك البلاد- وهم يكتبون عن السياسة، والدين، والتجارة، والقوانين الجديدة للمملكة، ووصول وإقلاع المراكب المجهزة بالأشرعة الضخمة الخفيفة، وزوارق اللانشارا، واليخوت ذات الأشرعة المثلثة الضخمة، وكافة الأنواع الأخرى من السفن التى تبحر فى تلك البحار، سواء لشنّ الحرب، وهى كثيرة الاندلاع، أو لممارسة تجارتها. وفى كل أسبوع تطبع وتوزع كميات ضخمة من مناشير الأنباء هذه على أبناء البلاد مقابل هبة يدفعها كل منهم عن طيب خاطر لعله يتلقى الجريدة قبل جاره. وجد تيتانيه بطاقة زيارته المثالية فى هذه الجريدة، التى يمكن ترجمة اسمها فى لغتنا إلى ”عماد ومنارة الشئون الدنيوية والسماوية“. ورغم أنه اسم مبهرج بعض الشيء فهو بالغ الإيحاء. جعلهم تيتانيه ينشرون فى هذه الجريدة أن صنادله، وفقا لأحدث الأنباء من سواحل مالابار [الهند] والصين، كانت حديث الساعة. وكانت تعتبر، من حيث مهارة الصنعة والموضة، أعظم الصنادل فى العالم. وكان اثنان وعشرون على الأقل من كبار موظفى الإمبراطورية الصينية يقدّمون التماسات إلى الإمبراطور السماوىّ لينعم عليهم بلقب ”صنادل الإمبراطور“ وكان المطلوب أن يمنحها الإمبراطور كمكافأة لأولئك الذين تفوقوا فى مساعيهم الفكرية. كان تيتانيه يبذل قصارى جهده لتلبية الطلب الدائم الازدياد على منتجه، ليس حبا فى الربح بقدر ما كان تشريفا لبلاده. لكنه، رغم الطلب على صنادله، كان قد أحاط الملك علما بأنه سيهب الفقراء خمسمائة زوج من الصنادل. وكانت حقيقة أن صنادله تعتبر الأفضل فى العالم لم تصبه بالغرور، ذلك أنه كان لايزال صانعا حرفيا متواضعا، يعمل فى سبيل مجد مملكة بونجو. وحتى ذلك الحين، كان الناس يعتبرون صنادله وافية بالغرض، لكنهم بعد قراءة الأخبار بدأوا يبحثون عنها بتلهف وحماس، ازدادا مع الوقت، فيما ظلّ تيتانيه يُغريهم بالكثير من القصص العجيبة عن بضاعته. ومتخذا سيماء المحترف، قال لنا: ”يمكنكما أن تريا أننى أمتثل لروح عقيدتنا، ذلك أننى لا أؤمن فى الواقع بتفوق صنادلى، فهى عادية فى الحقيقة. لكننى جعلتُ الجماهير تؤمن بها، وهم يدفعون فيها الآن السعر الذى أحدده“. ومتصديا لرأيه قلتُ: ”لا أعتقد أنك أدركت المعنى الحقيقى لعقيدتنا. فليس من المفترض فينا أن نغرس فى الآخرين رأيا لانراه، بل بالأحرى أن نجعلهم يؤمنون بأنه يمكننا أن نفعل شيئا لا يمكننا أن نفعله. هذا جوهر عقيدتنا“.
        عندئذ وافقا على أنه جاء دورى. وبدأتُ على الفور، لكننى سأكتفى بمجرد تلخيص تجربتى لأنتقل إلى رواية تجربة دييجو ميريليس، حيث إنها كانت أكثر التجارب الثلاث حسما وقدّمتْ خير برهان على فعالية الابتكار السارّ للبونزو. ولن أقول أكثر من أننى لما كنت أعرف القليل عن الموسيقى وعن آلة الشاؤم[iii]، التى لم أكن أعزف عليها جيدا، قرّرتُ دعوة أهم مواطنى فوشيو ليستمعوا إلى عزفى على تلك الآلة. جاءوا، واستمعوا، وانصرفوا قائلين إنهم لم يسمعوا أبدا من قبل أىّ شيء بهذه الروعة. وأعترف بأن نجاحى كان يرجع بالكامل إلى أسلوبى فى العرض: الانحناء الرشيق لذراعىَّ لالتقاط آلة الشاؤم، التى كانت قد حُملتْ إلىَّ فوق صينية من الفضة، ووقفتى المزهوّة والصارمة، والسلاسة التى رفعتُ بها عينىَّ صوب السماء، والكبرياء المزدرية التى خفضتهما بها من جديد لأتطلع إلى الجمع المحتشد. وعند هذه النقطة هبَّتْ عاصفة من الصيحات العالية الحماسية وهتافات الاستحسان إلى حدّ أننى كدتُ أقتنع بأننى كنتُ جديرا بتلك الاستجابة.
        لكنْ كما ذكرتُ منذ قليل، كانت تجربة دييجو ميريليس أبرع تجاربنا جميعا. وفى ذلك الحين، كان هناك مرض غريب ينتشر فى كل أنحاء المدينة وكان يجعل أنف الضحية يتضخم إلى أن يغطى نصف وجهه. فكان على المصاب، بالإضافة إلى كونه يبدو مريعا، أن يصبر على الإزعاج المتمثل فى حمل ذلك الوزن الإضافى وكان من رأى أطباء البلاد استئصال الأنوف المتضخمة لتسكين آلام المرضى ومداواتهم، لكنْ لم يكن هناك مَنْ يرغب فى تسليم نفسه لهذا العلاج، مفضلا الإفراط على الغياب ومعتبرا الاستئصال أسوأ حلّ ممكن. ومات الكثيرون عن طيب خاطر فى سياق هذا المأزق المفزع مفضلين ذلك على العلاج، وكان هناك حزن عظيم فى شتى أنحاء مدينة فوشيو. وكان دييجو ميريليس، كما سبق القول، يمارس الطب منذ فترة. وقد درس ذلك الداء وانتهى إلى أن خلع الأنف له ميزتان: يمكن إتمامه بلا خطر على المريض، وهو فى نهاية المطاف لايغدو أقبح مما كان من قبل، حيث إن عدم وجود أىّ أنف على الإطلاق ليس أسوأ من أنف مريض، ومشوَّه، وثقيل. لكنه كان عاجزا عن إقناع التعساء ذوى الحظ السىء بالإقدام على التضحية. وهذه هى اللحظة التى وقع فيها على ابتكاره البارع. وفى تجمّع للأطباء، والفلاسفة، والبونزوات، وبقية ثقاة وممثلى المجتمع، أبلغ المجلس أنه ابتكر طريقة سرية لحلّ المشكلة بأن يحل محل العضو المريض أنف ميتافيزيقى سليم، كان– رغم أنه لايمكن إدراكه من جانب الكائنات البشرية- واقعيا أو أكثر واقعية من الأنف الذى جرتْ إزالته. وكان قد مارس هذا العلاج فى مكان آخر، وتم التسليم بصحته كل التسليم من جانب أطباء مالابار [الهند]. أصيب أولئك المجتمعون بالذهول. وكان ردّ فعل الكثيرين هو عدم التصديق، غير أن الغالبية لم يعرفوا فيم يعتقدون. فرغم أنهم كانوا شديدى النفور من فكرة الأنوف الميتافيزيقية إلا أنهم أغرتهم مع ذلك اللهجة القوية لكلمات دييجو ميريليس السامية والاقتناع الذى عرض به علاجه وحدده. وأعلن عدد من الفلاسفة الحاضرين، مرتبكين إلى حدّ ما بالعرض العلمى الذى قدمه دييجو ميريليس وكارهين أن يعطوا انطباعا بأنهم يعرفون أقل مما يعرف، أن دعائم تجربته تقف على أرض صلبة فى ضوء حقيقة أن الإنسان كان النتاج الوحيد للمثالية الترنسندنتالية. ونتيجة لذلك زعموا أن هناك أكثر من سبب كاف للإيمان بالأنوف الميتافيزيقية وأقسموا على أنها لاتقلّ عن مستوى النوع الآخر.
        صفق المجلس لدييجو ميريليس. وتوافد عليه المرضى زرافات إلى حدّ أنه كان عليه أن يكرّس كل طاقاته لعلاجهم. وبعد استئصال أنف المريض بكل مهارة كان يدسّ أصابعه فى صندوق للأنوف الميتافيزيقية، ويُخرج واحدا منها، ويُدخله فى الموضع الفارغ. وكان المرضى، الذين عولجوا وجرى تعويضهم بهذه الطريقة عما فقدوه، ينظرون إلى بعضهم فلايرون شيئا فى مكان العضو الذى جرى قطعه. غير أنهم كانوا على يقين من أن العضو البديل موجود هناك- وحتى إنْ لم يكن بوسعهم أن يروه أو يلمسوه– إلى حدّ أنهم لم يعتبروا أنفسهم مخدوعين وراحوا يباشرون شئونهم.
        وكان أقوى برهان على عقيدة دييجو ميريليس ونجاح تجربته هو واقع أن أولئك الذين قطعتْ لهم أنوفهم ظلوا يستعملون مناديلهم ليتمخطوا. وقد رويتُ هذه الحكاية بكاملها راجيا تكريم البونزو وخدمة مصالح الجنس البشرى.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
حكاية سَكَنْدَرِيَّة
 
الفصل 1: فى عرض البحر
        ”عجبا ، يا عزيزى سترويبوس! لا، هذا مستحيل! لن يصدّق أحد أبدا أن دم فأر، يُعْطى لشخص ليشربه، يمكن أن يحوله إلى لص".
        "قبل كل شيء، يا فيثياس، أنت تغفل شرطا: الفأر ينبغى أن يلقى حتفه تحت مشرط الجراح إذا كان لنا أن نفوز بالخلاصة الرقيقة التى تؤدى إلى النتيجة المنشودة. ثانيا، مادمت تشير إلى مثال الفأر، أريدك أن تعلم أننى أجريت فعلا التجارب الخاصة بنظريتى ونجحتُ بالفعل فى إنتاج لص!“
  ”لص حقيقى؟"
        ”سرق عباءتى بعد التجربة بثلاثين يوما، لكنه ترك لى أعظم سعادة فى العالم: إثبات نظريتى. ماذا خسرتُ؟- قطعة بالية من قماش خشن. ماذا كسب الكون؟- الحقيقة الخالدة. نعم، ياعزيزى فيثياس، هذه هى الحقيقة السرمدية. فالعناصر المكونة للص متضمنة فى دم الفأر، وتلك الخاصة بالإنسان الصبور فى دم الثور، وتلك الخاصة بالإنسان الجسور فى دم النسر …“
        ”وتلك الخاصة بالإنسان الحكيم فى دم البوم“، قاطع فيثياس، مبتسما.
        ”لا، فالبوم مجرد رمز، غير أن دم العنكبوت، إذا استطعنا بطريقة ما أن ننقله إلى كائن بشرى، سيمنح ذلك الإنسان مبادىء الهندسة والحساسية الموسيقية. وبسرب من طيور اللقالق أو السنونو أو الكراكى سأصنع صعلوكا من شخص منزلىّ. ويحتوى دم اليمامة على العنصر الجوهرى للإخلاص الزوجى، ويحمل الطاووس العناصر الأساسية للصبابة…  باختصار، وضع الآلهة جوهر كافة القابليات البشرية فى حيوانات البر والماء والجو. والحيوانات هى حروف الهجاء، أما الإنسان فهو بناء الجملة. هذه فلسفتى الجديدة، وهذا ما سأكشفه فى بلاط پطلميوس العظيم“.
        هزّ فيثياس رأسه وأخذ يحدق فى البحر. كانت السفينة متجهة إلى الإسكندرية بحمولتها الثمينة المتمثلة فى هذين الفيلسوفين، اللذين كانا يحملان ثمار العقل المستنير إلى ذلك المستودع للمعرفة. كان الفيلسوفان صديقين قديمين، وكان كل منهما أرمل فى الخمسينات من عمره. وكان تخصصهما الميتافيزيقا، لكنهما كانا ملمّين أيضا بالفيزياء والكيمياء والطب والموسيقى. وقد صار أحدهما، سترويبوس، عالم تشريح ممتازا، بعد أن قرأ أبحاث هيروفيلوس مرارا. وكانت قبرص موطن كل من الرجلين، لكنْ لأن من الصحيح أنه لا كرامة لنبىّ فى وطنه فإن القبارصة لم يقدموا قط لهذين الفيلسوفين الاحترام الواجب. على العكس، كانا مكروهين– وكان أولاد الشوارع يفرطون فى الاستهزاء بهما. غير أن هذا لم يكن السبب الذى دفعهما إلى مغادرة وطنهما. فعندما عاد فيثياس من رحلة، ذات يوم، اقترح أن يذهبا هو وزميله إلى الإسكندرية، حيث تمتعت الفنون والعلوم بأعلى تقدير. وافق سترويبوس، ورحل الاثنان. وفى تلك اللحظة فقط، بعد إبحار السفينة، كشف مُنشئ المذهب الجديد عنه لرفيقه، مصحوبا بكافة تأملاته وتجاربه الأخيرة.
        ”وهو كذلك“، قال فيثياس، رافعا رأسه. ”لايمكننى تأكيد أو إنكار أى شيء. سأدرس نظريتك، فإذا وجدتها سليمة، سآخذ على عاتقى مهمة تطويرها وإعلان سرها للعالم“.
        ”عاش هيليوس!“ صاح سترويبوس.”يمكننى الاعتماد عليك كتلميذ لى“.
الفصل 2: تجارب
        لم ينظر الشبان السكندريون إلى العالميْن العلامتيْن بازدراء نظرائهم القبارصة. ذلك أن مصر كانت وقورة مثل أبو قردان الذى يقف على ساق واحدة، مستغرقة فى التأمل مثل أبو الهول، حكيمة مثل المومياوات، صارمة كالأهرامات– ولم يكن هناك لا وقت ولا ميل للضحك. والواقع أن أهالى المدينة والبلاط الملكى، الذين كانوا قد سمعوا بأخبار الصديقين منذ بعض الوقت، رحبوا بهما ترحيبا يليق بالملوك، وكشفوا عن معرفة بأعمالهما، وناقشوا أفكارهما، وأغدقوا عليهما العطايا– أوراق بردى، تماسيح، حمير الوحش، أردية أرجوانية. على أن كل شيء تم رفضه بتواضع مع إيضاح أن الفيلسوف لاحاجة به إلى أكثر من الفلسفة وأن ما زاد عن الحاجة لن يكون سوى عائق أمام مواصلة أبحاثهما العلمية. وقد ملأت هذه الإجابة النبيلة قلوب كافة السكندريين، من الحكماء والزعماء إلى عامة الناس، بالإعجاب. وعلق الأكثر حصافة: ”ماذا كان يمكننا أن نتوقع غير هذا من مثل هذين الرجلين الرفيعىْ الشأن، اللذيْن فى أبحاثهما الرائعة …“.
 
        ”لدينا الآن تحت أيدينا شيء أعظم حتى من تلك الأبحاث“، قاطع سترويبوس. ”جئتكم بنظرية سرعان ماستحكم الكون، ذلك أننى أعتزم أن أقوم ليس بأقل من إعادة تشكيل الناس والأمم عن طريق إعادة توزيع المواهب والفضائل“.
        ”لكن أليس هذا عمل الآلهة؟“ اعترض أحدهم. وتجاسر سترويبوس على القول: ”لقد اكتشفتُ سرّ الآلهة. الجنس البشرى هو بناء الجملة، وقد اكتشفتُ قواعد الأجرومية الإلهية…“
        ”أفصح عن رأيك بوضوح“.
”فيما بعد. دعونى أقوم بتجاربى أولا. وعندما يكتمل مذهبى، سأعلنه بوصفه أعظم هبة يمكن أن يتلقاها الجنس البشرى على الإطلاق من شخص واحد“.
        يمكننا أن نتصور توقعات الجمهور وفضول بقية الفلاسفة، رغم أن الجميع كانوا بمنأى عن تصديق أن الحقيقة الجديدة يمكن أن تحل فى نهاية المطاف محل تلك الحقائق التى كانوا يمتلكونها دائما. مع ذلك، انتظر الجميع على أحر من الجمر. كان الزائران يشار إليهما فى الشوارع حتى من جانب الأطفال الصغار. فقد حلم ابنُُ بتحويل شراهة أبيه، وأبُُ حماقة ابنه، وسيدة لامبالاة سيّد ما، وسيّد نزوات سيّدة ما، لأن مصر كلها، من الفراعنة إلى الپطالمة، كانت بلاد العزيز، وامرأة العزيز، وقميص يوسف الكثير الألوان، وكل الباقى. وصار سترويبوس الأمل العظيم للمدينة وللعالم.
        بعد أن قام بدراسة المذهب، عمد فيثياس إلى مواجهة سترويبوس وأنذره: ”من الناحية الميتافيزقية، تعَدّ نظريتك منافية للطبيعة، لكننى على استعداد للسماح لك بتجربة واحدة، بشرط أن تكون حاسمة. ليس هناك، ياعزيزى سترويبوس، سوى طريقة واحدة يمكن بها إجراء هذه التجربة، نظرا لتهذيب عقلنا وكذلك رسوخ خلقنا، نمثل أنت وأنا أقوى مقاومة ممكنة لرذيلة السرقة. ولهذا، إذا تمكنتَ من غرس هذه الرذيلة فينا بنجاح، فلن تكون هناك ضرورة لأىّ شيء آخر. أما إذا فشلت فى إحداث هذه النتيجة (وهذا الفشل أكثر من مرجح، حيث إن الفكرة بكاملها سخيفة تماما)، فسيكون عليك أن تتخلى عن كل تفكير متصل بمثل هذه النظرية وأن تــعود إلى تأملاتنا السابقة“.
        قبل سترويبوس الاقتراح. ”ستكون تضحيتى أشدّ تضحية إيلاما“، قال. ”حيث إننى أعرف محصلة كل هذا، لكن هل هناك أىّ شيء لاتستحقه الحقيقة؟ الحقيقة خالدة، أما الإنسان فليس سوى لحظة وجيزة… “
        لو علمتْ الفئران المصرية بأمر خطة سترويبوس لحذتْ حذو العبرانيين الأوائل، الذين فضّلوا الفرار إلى الصحراء على قبول المذهب الجديد. ويحق لنا أن نعتقد أن مثل هذا الفرار كان لابد وأن ينتهى إلى كارثة. ذلك أن العلم، شأنه فى ذلك شأن الحرب، له ضروراته الملحّة، وما دام جهل وضعف الفئران جنبا إلى جنب مع التفوق العقلى والبدنى للفيلسوفين، كانت تمثل مزايا كبيرة حقا لصالح التجربة، فقد كان من الملائم اغتنام هذه الفرصة الرائعة لمعرفة ما إذا كان من الممكن، فى الواقع، العثور على مصدر الأهواء والفضائل البشرية بين الأنواع الحيوانية وما إذا كان من الممكن نقلها إلى البشر.
        وضع سترويبوس الفئران فى أقفاص وأخضعها للعملية الجراحية فأرا فأرا. وبعد لفّ أشرطة من القماش حول أنف وأقدام كل ضحية، كان يربط رقبة الحيوان وأرجله بمنضدة التشريح. وبعد أن يتم هذا، كان يفتح أول فتحة فى الصدر، بكل بطء، مُدخلا المشرط بالتدريج إلى أن يلمس القلب، ذلك أنه كان من رأيه أن الموت الفورى من شأنه أن يلوث الدم، وأن يدمر الخلاصة المنشودة، وأن يجعله بذلك عديم الفائدة لأغراض التجربة. وكعالم تشريح قدير، كان يُجرى العمليات الجراحية بحزم يليق بغايته العلمية. وما كان لجراح أقلّ مهارة إلا أن يقطع سير إجراءات العملية بصفة متكررة لأن نوبات ألم وعذاب الضحايا جعلت استعمال المشرط من الصعوبة بمكان. لكن هذا على وجه التحديد كان يمثل تفوّق سترويبوس: كان يمتلك الثقة بالنفس، الوطيدة والراسخة، لجراح عظيم.
        إلى جوار سترويبوس، كان فيثياس يجمع الدم ويساعد فى إجراء العمليات، فيقيّد الحركات المتشنجة للمرضى ويلاحظ تطور العذاب فى عيون الحيوانات. وكانت الملاحظات التى يقوم بها كل عالم تسجَّل تسجيلا مستقلا على صُحُف ورق البردى، وعلى هذا النحو استفاد العلم من جهتين. فمن حين لآخر، كانا يضطران، بسبب اختلاف الملاحظات، إلى تشريح عدد من الفئران أكبر مما هو ضرورى، غير أن هذا بدوره لم يكن ينطوى على فاقد، حيث أن دم الفئران الإضافية كان يُوضع جانبا ليجرى تناوله فيما بعد. ويمكن لحادث واحد فقط من هذا القبيل أن يصور تصويرا وافيا الضمير الحى الذى كانا يؤديان به عملهما. كان فيثياس قد لاحظ أن شبكيات عيون الفئران المحتضرة يتغير لونها إلى أن تصير زرقاء فاتحة، فيما أشارت ملاحظات سترويبوس إلى لون القرفة على أنه درجة اللون الأخير عند الموت. كانا قد وصلا إلى آخر تشريح لذلك اليوم، غير أنهما، نظرا لأن هذه النقطة كانت جديرة حقا بالاستقصاء، قاما رغم تعبهما الشديد بإجراء تجارب تسع عشرة مرة أخرى بدون الحصول على نتائج حاسمة– فقد استمر فيثياس فى الإصرار على الأزرق، وسترويبوس على لون القرفة. وكاد الفأر العشرون يحقق الاتفاق بينهما، غير أن سترويبوس أدرك بحصافة بالغة أن وقفته أثناء التجارب كانت قد تغيرت. صحح وقفته، وقاما بتشريح خمسة وعشرين فأرا آخر. ومن هذه الفئران، تركهما الأول فى شك كما كانا من قبل، غير أن الأربعة والعشرين فأرا الباقية أثبتت أن اللون المتنازع عليه لم يكن لا لون القرفة ولا الأزرق، بل درجة فاتحة من اللون البنفسجى.
        أشاعت الروايات المبالغ فيها عن التجارب ردّ فعل شديدا ضمن نطاق العنصر العاطفى للمدينة ونشّطتْ ثرثرة بعض السفسطائيين، غير أن سترويبوس ردّ (برقة، بحيث لايجرح حتى المناطق الأكثر رقّة للروح البشرية) بأن الحقيقة تستحق كل الفئران التى فى الكون، وليس فقط كل الفئران، بل كل الطواويس، والمعيز، والكلاب، والعنادل، وهلمجرا. وفيما يتعلق بالفئران، فالمدينة وكذلك العلم سيربحان، لأن البلاء الذى يمثله حيوان مدمّر من هذا القبيل سيتضاءل. وعلاوة على هذا، وحتى إذا كان نفس الاعتبار لاينطبق على حيوانات أخرى– مثل اليمام والكلاب، والتى سيجرى تشريحها فى الوقت المناسب– فإن حقوق الحقيقة ثابتة رغم ذلك. وختم كلامه مؤكدا بالحكمة الموجزة أن الطبيعة لاينبغى أن تكون مائدة الطعام وحسب بل ينبغى أن تكون كذلك مائدة العلم.
        واستمرّا يستخلصان ويشربان الدم. لم يشرباه فى صورته النقية بل خففاه فى مزيج من القرفة، وعصارة السنط، ونبات البلسم، وهذا ما أخفى نكهته الأصلية تماما. وكانت الجرعات يومية ومتناقصة، ولهذا كان من الضرورى لهما أن ينتظرا وقتا طويلا قبل أن يحدث التأثير المرغوب. وسخر فيثياس، نافد الصبر ومتشككا، من زميله.
        ”لاشى بعد؟“
        ”كن صبورا“، كان سترويبوس يقول له. ”كن صبورا. المرء لايكتسب رذيلة بنفس الطريقة التى يخيط بها زوجا من الصنادل“.
الفصل 3: الانتصار
        أخيرا، انتصر سترويبوس! أثبتت التجربة نظريته. وكان فيثياس أول مَنْ ظهرت عليه الأعراض التى جرى انتظارها طويلا، حيث نسب إلى نفسه ثلاث أفكار كان قد سمعها من سترويبوس. وانتقاما منه، سرق سترويبوس أربع مقارنات من فيثياس، وكذلك نظرية عن الرياح. وماذا كان يمكن أن يكون أكثر علمية من هذه الإنجازات الأولى؟ الحقيقة أن أفكار الآخرين، بالتحديد لأنه لايمكن شراؤها من ناصية الشارع، لها طابع عمومى بعض الشيء، ومن الطبيعى جدا أن يبدأ المرء بها قبل أن ينتقل إلى الكتب المستعارة، والدجاج، والأوراق المزورة، وأقاليم بكاملها، وهلمجرا. إن تسمية الانتحال فى حدّ ذاتها دليل على أن البشر يفهمون الميل إلى الخلط بين ذلك الذى ليس إلاجنين سرقة والسرقة بمعنى الكلمة.
        من المؤلم أن نروى، غير أن الحقيقة هى أن كلا الفيلسوفين، سترويبوس وفيثياس، ألقيا بنظرياتهما الميتافيزيقية إلى نهر النيل وأصبحا لصّيْن كاملىْ النضج. كانا دائما يعدّان نفسهما فى المساء ويسعيان فى اليوم التالى وراء الحصول على أشياء مثل العباءات، والقطع البرونزية، وقوارير الخمر، والبضائع من أرصفة الميناء، والدراهم المضمونة. وكانا حذريْن فى سرقتهما إلى حدّ أنه لاأحد شك فيهما، لكن حتى بافتراض أن شخصا ما فعل: كيف كان يمكنه أن يجعل أىّ شخص آخر يصدّقه؟ فى تلك الفترة كان پطلميوس قد جمع الكثير من الكنوز والتحف النادرة لمكتبته، وحيث إنه ربما كان من المنصوح به فهرستها ، فقد عيّن لهذا العمل خمسة من علماء النحو وخمسة فلاسفة ، كان بينهم رفيقانا . وقاما بمهمتهما بتفان فريد، فكانا أول من يصل وآخر من يغادر، وكثيرا ما كانا يعملان على ضوء المصباح حتى ساعات الصباح المبكرة جدا، يفكان الطلاسم، ويرتبان، ويصنفان. وتنبأ پطلميوس المتحمس بمستقبل لامع لكل منهما.
        بعد مُضى بعض الوقت، بدأوا يلاحظون غياب أشياء هامة متباينة: نسخة من أعمال هوميروس، مخطوطات ثلاث منها فارسية واثنتان سامريتان، مجموعة رائعة من رسائل الإسكندر الأصلية، نسخ من قوانين أثينا، الكتابان الثانى والثالث من جمهورية أفلاطون، بين أشياء أخرى. تم تحذير السلطات، غير أن دهاء الفأر، منقولا إلى كائن حىّ أسمى، كان بطبيعة الحال أكثر حدّة من باب أولى، خدع اللصان اللامعان الجواسيس والحرّاس بسهولة. وفى نهاية المطاف أثبتا القاعدة الفلسفية الخاصة بألا يرحل المرء أبـدا صفر اليدين: نجحا دائما فى سرقة شيء ما، قصة خرافية إن لم يكن هناك غيرها. وأخيرا، عندما كانت هناك سفينة متأهبة للرحيل إلى قبرص، حصلا على إذن من پطلميوس بالسفر على وعد بالعودة، وقاما بخياطة الكتب المسروقة داخل جلود أفراس النهر، وألصقا عليها بيانات زائفة، وحاولا الهرب. غير أنه كان لم يعد من الممكن الاستمرار فى احتواء غيرة الفلاسفة الآخرين: جرى حثّ الحكام المتشككين إلى مدى أبعد، وجرى الكشف عن الفضيحة. واعتبر سترويبوس وفيثياس مغامريْن تنكرا تحت اسم ذلكما السيديْن الشهريْن، وقام پطلميوس بنفسه بوضعهما فى أيدى السلطات مع الأمر الحازم بإعدامهما فى الحال. وفى تلك اللحظة، تدخّل هيروفيلوس، أبو علم التشريح.
الفصل 4: المزيد والمزيد
        ”مولاى“، قال لپطلميوس، ”إلى الآن ظللتُ مقتصرا على تشريح الجثث الآدمية. غير أن الجثة تعطينى البنية وحسب، وليس الحياة– وهى تمدّنى بالأعضاء وحسب، وليس بالوظائف. وأنا بحاجة إلى الحياة ووظائفها“.
        ”ماذا تقول؟“ جأر پطلميوس. ”هل تريد أن تنزع أحشاء فئران سترويبوس؟“.
        ”لا، يامولاى، لا أرغب فى نزع أحشاء الفئران“.
        ”كلاب؟ وَزّ؟ أرانب برية؟“
        ”لا شيء من هذا القبيل. إننى أطلب بعض الرعايا من البشر الأحياء“.
        ”رعايا من البشر الأحياء؟ مستحيل، غير قابل للمناقشة ...“
        ”سأوضح لك أنه ليس ممكنا وحسب، بل حتى مشروع وضرورى. إن سجون مصر تكتظ بالمجرمين، الذين يحتلون دون شك أدنى مركز على السلّم البشرى. وهم لم يعودوا مواطنين، ولم يعد بوسعهم حتى أن يُسمّوا أنفسهم بشرا، لأنهم فقدوا السمتين البشرّيتيْن الرئيسيتيْن- العقل والفضيلة– بانتهاك القانون والأخلاق. وعلاوة على هذا، ما دام عليهم أن يكفروا عن جرائمهم بالموت، أليس من الإنصاف أن نجعلهم يخدمون الحقيقة والعلم فى أثناء ذلك؟ الحقيقة خالدة. إنها تستحق ليس كل الفئران وحسب بل كذلك كل المجرمين فى العالم“.
        وجد پطلميوس أن هذا التعليل لاتشوبه شائبة وأمر بتسليم كافة المجرمين إلى هيروفيلوس وأتباعه. وعبر عالم التشريح العظيم عن عرفانه على هذا الصنيع الخارق، وبدأ يشرّح المحكوم عليهم. واستجابت الجماهير بمنتهى الفزع. على أنه، باستثناء التماسات شفوية قليلة، لم تكن هناك أية انتفاضات مسلحة ضد هذا الإجراء. وأخذ هيروفيلوس يردّد الإيضاح الذى كان قد قدّمه لپطلميوس، مُضيفا أن إخضاع المجرمين لتجارب التشريح ليس سوى طريقة غير مباشرة للنهوض بالأخلاق، حيث أن الفزع من المشرط فى حد ذاته سيكون بمثابة رادع ضد جرائم كثيرة.
        وعند مغادرة السجن، لا أحد من المحكوم عليهم كان يرتاب فى المصير العلمى الذى كان ينتظرهم. كان يجرى إطلاق المساجين واحدا واحدا وأحيانا اثنينات أو ثلاثات. كثير منهم لم يداعبهم قط، فيما كان الواحد منهم يتمدد على منضدة العمليات أو يكون مربوطا عليها، أدنى شك فيما يتعلق بمصيرهم: لقد تصوّروا أن كل هذا ليس سوى طريقة جديدة للإعدام السريع. فقط عندما كان علماء التشريح يكشفون عن موضوع بحث يومهم، ويرفعون مشارطهم ويفتحون الفتحات الأولى، عند ذلك فقط كان الضحايا التعساء يدركون ورطتهم الحقيقية. أما أولئك الذين كان بوسعهم أن يتذكروا مشاهدتهم لتجارب الفئران فكانوا يعانون بصورة مزدوجة، لأن خيالاتهم كانت تربط بين معاناة الحاضر ومشهد الماضى.
        وللتوفيق بين مصالح العلم ودوافع الرحمة، كان يجرى تشريح المساجين على التعاقب وليس وأحدهم على مرأى من الآخر. وعندما كانوا يصلون بالاثنينات أو الثلاثات، لم يكن أولئك الذين ينتظرون دورهم يوضعون فى منطقة يمكنهم أن يسمعوا منها الصرخات الآتية من غرفة العمليات. ورغم أنه كثيرا ما كان يجرى التخفيف من صيحاتهم عن طريق بعض الوسائل، لم يكن يحدث كتمها تماما على الإطلاق، وفى بعض الحالات كان موضوع التجربة ذاته يتطلب عدم إعاقة انبعاث الصوت. وفى بعض الأحيان كان يتم إجراء العمليات فى آن واحد، لكنها كانت تُجرى عندئذ فى أماكن متباعدة.
        كان قد تم تشريح قرابة خمسين سجينا عندما جاء يوم تنفيذ حكم الإعدام فى سترويبوس وفيثياس. وعندما حان أخيرا وقت نقلهما بعيدا، كانا لا يزالان مطمئنيْن إلى أنه سيجرى الحكم عليهما بموت شرعى وعلى هذا عهدا بروحيهما إلى الآلهة. وفى طريقهما إلى الإعدام، سرقا قليلا من ثمار التين وفسّرا الحادث بعزوه إلى دافع جوع. غير أنهما سرقا بعد ذلك آلة ”فلوت“، وعجزا عن تفسير هذا التصرف تفسيرا مُرْضيا. على أن مكر اللص بلا حدود، وقد حاول سترويبوس، لكى يبرر تصرفه الأخير، أن يعزف قليلا من الأنغام على الآلة. وامتلأت قلوب السكندريين رحمة وشفقة، ذلك أنهم جميعا كانوا يدركون تماما المصير الذى سيحل باللصيْن. وأدهش هيروفيلوس كل تلاميذه بإعلان الجرائم الصغيرة الأخيرة.
        ”بكل جدية“، قال الجرّاح العظيم، ”إنها حالة ممتازة، حالة نموذجية. لكنْ قبل أن نبحث هدفنا الرئيسى، لنفحص أولا النقطة الأخرى …“
        كان هدفهم هو تحديد ما إذا كان العصب الرئيسى للسرقة موجودا فى راحة اليد أم فى أطراف الأصابع– هذه المسألة كان قد طرحها أحد الطلبة. وكان سترويبوس أول من تم إخضاعه للعملية. وقد فهم كل شيء قبل أن يدخل غرفة العمليات، وحيث إن للطبيعة البشرية جانبا هو الأكثر دناءة فقد طلب منهم بذلة الإبقاء على حياة فيلسوف. لكن هيروفيلوس، الجدلىّ العظيم، ردّ على النحو التالى: ”أنت إما مغامر أو سترويبوس الحقيقى. فى الحالة الأولى، لديك هنا الوسيلة الوحيدة لتخليص نفسك من جريمة خداع حاكم مستنير– فاذهبْ الآن واستسلمْ للمشرط. فى الحالة الثانية، لابدّ وأنك مدرك أن واجب الفيلسوف هو خدمة الفلسفة وأن الجسد لا قيمة له بالمقارنة مع المعرفة“.
        بعد أن قيل هذا، بدأت التجربة بيدىْ سترويبوس، اللتين قدّمتا أفضل النتائج التى تم تسجيلها فى مذكرات، فقدت فيما بعد مع تدهور الپطالمة. كما تم تشريح يدىْ فيثياس وفحصهما فحصا بالغ التدقيق. وكان الضحيتان المثيران للشفقة يصرخان، ويبكيان، وينزفان، غير أن هيروفيلوس ذكّرهما بكل هدوء بأن واجب الفيلسوف هو خدمة الفلسفة وبأنهما، فى علاقتهما بأهداف العلم، أعلى قيمة حتى من الفئران، مادام من الجلى أن من الأسلم بكثير أن نستمد الاستنتاجات عن الكائنات البشرية من البشر وليس من الفئران. وواصل تشريحه لهما، نسيجا بعد نسيج، على مدى ثمانية أيام. وفى اليوم الثالث، تم اقتلاع عيونهما لدحض نظرية بعينها عن البنية الداخلية للعين دحضا فعليا. أما استئصال معدتىْ الرجلين فلا يستحق النقاش، وإن كان قد تضمّن مشكلة ذات أهمية ثانوية كان قد تم، على أى حال، بحثها وحلها عند خمسة أو ستة أفراد تم تشريحهم من قبل.
        وقد روى السكندريون أن الفئران أحيتْ ذكرى هذا الحادث المحزن والباعث على الأسى بالرقصات والأعياد، التى دعتْ إليها عددا من الكلاب، واليمام، والطواويس، وبقية الحيوانات التى كانت مهددة بنفـس المصير. كما راجتْ شائعات تؤكد أنه لم تقْبَل ولا واحدة من تلك الدعوات، بوحى من كلب علّق قائلا باكتئاب: ”سيأتى زمن يمكن أن يحدث لنا فيه نفس الشيء“ وهو ما قيل أن أحد الفئران رد عليه قائلا: ”لكن إلى ذلك الحين، دعونا نضحك!“
 
 
 
 
                             
 
كنيسة الشيطان
 
الفصل 1: فكرة عجيبة
        تروى مخطوطة بنيديكتية قديمة أن الشيطان عقد العزم ذات يوم على تأسيس كنيسة. ذلك أنه رغم استمرار وضخامة مكاسبه، كان يشعر بالخزى بسبب الدور الشاذ الذى كان قد قام به على مدى قرون، ذلك الدور الذى كان يفتقر إلى التنظيم، القواعد، المبادىء، الطقوس. وهكذا كان يعيش، إن جاز القول، على الفضلات الإلهية، والأفضال البشرية، والزلات غير المقصودة. لاشيء محدّد، ولاشيء منتظم. فلماذا لاتكون له كنيسته الخاصة به؟ إن كنيسة الشيطان ستكون الوسيلة الفعالة لمكافحة الأديان الأخرى ولتحطيمها مرة وإلى الأبد.
        وانتهى إلى القول: ”حسنا، إذن، كنيسة. كتاب مقدس ضد كتاب مقدس، كتاب صلوات يومية ضد كتاب صلوات يومية، سيكون لى قداسى الخاص بى، بفيض من العشاء الربانى، ومواعظى، ومراسيمى البابوية، وتاسوعياتى، وكافة الزخارف الدينية الأخرى. ستكون عقيدتى محور النشاط الكونى للأرواح، وستكون كنيستى بيتا من بيوت إبراهيم. وعندئذ بينما الأديان الأخرى تتنازع وتنشق، ستكون كنيستى منقطعة النظير. ولن يتفوق علىَّ لا محمد ولا لوثر. فهناك طرق عديدة للإثبات، وليس هناك سوى طريقة واحدة لإنكار كل شيء“
        بعد أن قال هذا، هز الشيطان رأسه ومدّ ذراعيه بإيماءة رجولية رائعة. وذكر نفسه فى الحال بالذهاب إلى الرب ومواجتهه بفكرته، وتحدّيه. وعندئذ رفع الشيطان عينيه، مضطرمتين بالكراهية، قاسيتيْن بالانتقام، وقال لنفسه: ”لنذهبْ، لقد حان الوقت“. وبسرعة، ضاربا بجناحيه باهتياج هزّ كل أقاليم جهنم، صعد من العتمة إلى الزرقة اللانهائية.
الفصل 2: بين الرب والشيطان
        كان الرب يستقبل رجلا مسنا عندما وصل الشيطان إلى السماء. فى الحال توقف ملائكة الساروفيم، الذين كانوا يزينون القادم الجديد بالأكاليل عن عملهم، وبقى الشيطان فى المدخل وعيناه على الرب.
        ”ماذا تريد منى؟“ سأل الرب.
        ”لم آت نيابة عن عبدكم فاوست“، أجاب الشيطـان بضحكة مكتومة، ”بل نيابة عن كل فاوستات كل القرون“.
        ”اشرح غرضك بوضوح!“
        ”يا رب، الشرح سهل، لكن اسمحْ لى أولا بأن أقول لك هذا: استقبلْ هذا السيد المسنّ الطيب، امنحه أفضل مكان فى السماء، مُرْ آلات القانون والعود المدوزنة أروع دوزنة باستقباله بأروع الجوقات ...“.
        ”أتعلم ماذا فعل؟“ سأل الرب، وعيناه مفعمتان بالحنان.
        ”لا، لكن من المحتمل أن يكون واحدا من آخر من سيأتون إليك. لن يطول الوقت قبل أن تصبح السماء أشبه بفندق خال بسبب ارتفاع أسعاره. ذلك أننى سأبنى بنسيونا رخيصا، بمعنى أننى سأقوم بتأسس كنيستى الخاصة بى. لقد مللتُ سوء تنظيمى وكذلك حُكمى العشوائى والعرضى. لقد آن الأوان بالنسبة لى للفوز بانتصار نهائى وكامل. وقد أتيتُ لإبلاغك بهذا بدافع الولاء، ولهذا لا ينبغى أن تتهمنى بالخداع. فكرة جيدة، ألا ترى هذا؟“.
        ”أنت أتيت لإبلاغى بها، وليس لإضفاء الشرعية عليها“، أوضح الرب.
        ”عندك حق“، أجاب الشيطان، ”غير أن الغرور يلذه سماع الاستحسان من السادة. صحيح أنه سيكون فى حالتنا هذه استحسان سيد مهزوم، و… يا رب، سأهبط إلى الأرض وأضع حجر أساس كنيستى“.
        ”انطلقْ“.
        ”هل تريد منى أن أعود لإبلاغك بكيف يسير كل شيء؟“.
        ” لن يكون ذلك ضروريا. فقط قُلْ لى لماذا، بعد أن كنت مستاءً من سوء تنظيمك كل ذلك الوقت، لماذا لم يخطر ببالك سوى الآن أن تؤسس كنيستك الخاصة؟“.
        ابتسم الشيطان وقد بدت عليه سيماء الاستهزاء وزهو الانتصار. كانت لديه فى أعماق روحه فكرة قاسية، ملاحظة لاذعة فى خُرْج ذاكرته، الشيء الذى جعله يعتقد أنه أسمى من الرب ذاته فى تلك اللحظة الوجيزة من الأبدية. على أنه كبح ضحكه وقال:
        ”الآن فقط أكملتُ ملاحظة بدأتها منذ عدة قرون– لقد أدركتُ أن الفضائل، بنات السماء، أشبه إلى حد بعيد بملكات عباءاتهن المخملية مزركشة بفرنشات[iv] من القطن. وأنا أقترح الآن جَرَّهُنَّ بتلك الفرنشات والمجىء بهن جميعا إلى كنيستى. وستأتى وراءهن فرنشات الحرير الخالص …“
        ”بلاغة مبتذلة!“ غمغم الرب.
        ” لكنْ انظرْ. كثير من هؤلاء الأشخاص الذين يجثون عند قدميك فى معابد العالم يأتون منطلقين كالمكوك من غرفة الاستقبال والشارع، ووجوههم مصبوغة بنفس المسحوق، ومناديلهم جميعا بنفس الرائحة، وعيونهم تلمع بالفضول والتفانى بين الكتاب المقدس وشوارب الخطيئة. انظرْ إلى اللهفة– واللامبالاة، على الأقل– التى يعلن بها ذلك السيد عن الإعانات التى يوزعها بسخاء– ملابس، أو أحذية بوت، أو نقود معدنية، أو أىّ مواد أخرى ضرورية للحياة… لكننى لا أريد أن يبدو أننى أتصيد تفاصيل تافهة. وعلى سبيل المثال، أنا لا أتكلم عن الرضا عن النفس الذى يحمل به ذلك الراهب غير المرسوم بكل الورع محبتك ومدالية دينية على صدره فى المواكب الدينية … إننى أتكلم عن أشياء أكثر أهمية …“
        وهُنا رفرف السيرافيم بأجنحتهم، التى كانت ثقيلة بالضجر والتعب. وأطال ميكائيل وجبرائيل النظر إلى الرب بضراعة. وقاطع الرب الشيطان:
        ”أنت مبتذل وهذا أسوأ ما يمكن أن يحدث لروح من نوعك. فكل شيء تقوله الآن أو عسى أن تقوله سبق أن قاله وأعاد قوله أخلاقيو العالم. إنه موضوع مبتذل، فإذا لم يكن لديك ما يكفى من الدهاء والابتكار لإعادة تأكيده فى ضوء جديد، سيكون الأفضل لك أن تلزم الصمت وتنساه تماما. انظرْ، إن وجوه كافة جنودى تعلوها السمات الواضحة للضجر الذى تسببه لهم الآن. ويبدو ذلك الرجل المسنّ مصابا بالغثيان، أتعرف ماذا فعل؟“
        ”سبق أن قلت لك أننى لا أعرف“.
        ”بعد أن عاش حياة شريفة، مات موتا جليلا. ذلك أنه عندما فاجأه حادث غرق سفينة كان يحاول إنقاذ نفسه بالتشبّث بلوح خشبى، لكنه رأى عروسيْن، فى زهرة الشباب، كانا يصارعان الموت بالفعل. أعطاهما اللوح الخشبى الخاص بإنقاذ الغرقى وغاص منتقلا إلى الأبدية. لم يشهد أحد هذا الصنيع، لأنه لم يكن يحيط به سوى المياه والسماء من فوقها. أين ترى الفرنشات القطنية فى هذا؟“.
        ”يارب، كما تعلم، أنا الروح الذى ينكر“.
        ”هل تنكر إنكار الذات الذى ينطوى عليه هذا الموت؟“
        ”أنا أنكر كل شيء. إن بُغْض البشر يمكن أن يرتدى مظهر المحبة– فمن وجهة نظر مبغض البشر، يستوى ترك الحياة للآخرين مع إظهار الكراهية لهم …“.
        ”خبيث ومنمق الحديث!“ صاح الرب. ”اذهبْ، انطلقْ وقمْ بتأسيس كنيستك، استدع كافة الفضائل، اجمعْ كافة الفرنشات، ادْعُ كافة البشر … لكنْ اذهبْ، اخرجْ من هنا!“.
        عبثا حاول الشيطان أن يصيح بشيء آخر فقد فرض الله عليه الصمت. وبإشارة إلهية، ملأ السيرافيم السماوات بأنغام تسابيحهم. وفجأة أحسّ الشيطان بنفسه فى الفضاء– وطوى جناحيه وسقط على الأرض فى لمح البصر.
الفصل 3: أنباء سعيدة للجنس البشرى
                       بمجرد أن صار على الأرض، لم يضيّع الشيطان دقيقة واحدة. ففى غمضة عين سارع إلى ارتداء رداء بنيديكتىّ، حيث أنه كان رداء يحظى بسمعة طيبة، وبدأ فى نشر مذهب جديد وعجيب بصوت ظل يدوّى فى أعماق قرن من الزمان. ووعد مريديه والمؤمنين به بكافة المباهج الدنيوية، وكافة الأمجاد، وأكثر الملذات حميمية.  واعترف بأنه الشيطان، لكنه اعترف بذلك لكى يصحّح تصورات البشر عنه ويتنصل من الحكايات التى ترويها العجائز الورعات عنه.
                       ”نعم، أنا الشيطان“ أخذ يردّد، ”ليس شيطان الليالى الجهنمية والحكايات المنوّمة، أو مرعب الأطفال، بل الشيطان الحقيقى الوحيد، عبقرى الطبيعة الذى أطلق عليه ذلك الاسم لاستئصاله من قلوب البشر. انظروا كم أنا مهذب ودمث. أنا أبوكم الحقيقى. تعالوا، اتبعونى وتقبّلوا ذلك الاسم الذى جرى اختراعه لتلويث سمعتى، فاصنعوا منه رمزا وراية، وسأعطيكم كل شيء، كل شيء …“
        تكلم بهذه الطريقة لكى يثير الحماس وينفخ الحيوية فى روح اللامبالين، وبعبارة أخرى لكى يحشد الجماهير الغفيرة حوله. وقد أقبلوا بالفعل. وحالما أقبلوا، واصل الشيطان حديثه ليعرّف بمذهبه. كان من حيث جوهره هو ما يمكن توقعه من الروح الذى ينكر– أما من حيث شكله فكان رفيع التهذيب أحيانا وكان فى أحيان أخرى وقحا وقليل الحياء.
        أعلن أن الفضائل المسلم بها ينبغى أن تحل محلها أخرى هى تلك التى كانت طبيعية ومشروعة. وأعيد الاعتبار للغرور، والشبق، والكسل، كما حدث مع البخل، الذى أعلن أنه الأب الوحيد للاقتصاد، حيث يتمثل الفرق بين الاثنين فى أن الأب متين البنية والابن جلد على عظم. ووجد الغضب أفضل تبرير له فى وجود هوميروس– فبدون غيظ أخيل لما كانت هناك إلياذة: ”يا عروس الشعر، أنشدى غضبة أخيل، ابن پيليوس …“ وقال نفس الشيء عن الشراهة، التى أنتجت أجمل صفحات رابيليه وكثيرا من الأبيات الجيدة فـى [قصيدة] منضحة الماء المقدس لكروس إى سيلڤا[v] ... كانت فضيلة عليا حتى أنه لا أحد يتذكر معارك لوكولوس، بل ولائمه فقط: كانت الشراهة هى التى خلدتْ ذكره فى الحقيقة. لكن حتى إنْ تغاضينا عن هذه الحجج الأدبية والتاريخية واقتصرنا على بحث القيمة الفعلية للشراهة فى حدّ ذاتها، فمن ينكر أنه أفضل كثيرا أن نحسّ بوفرة الطعام الجيد فى الفم والبطن من أن نحسّ بلقيمات هزيلة أو بلعاب الصيام؟ ووعد الشيطان بأن يُحلّ محلّ بستان كروم الرب، وهو تعبير ميتافيزيقى، بستان كروم الشيطان، وهو تعبير أمين وواقعى، حيث أن الشيطان لن يُحجم أبدا عن إمداد رعيّة كنيسته بثمار أجمل كروم العالم. وفيما يتعلق بالحسد، وعظ الشيطان بوقار بأنه الفضيلة التى هى أمّ الفضائل، أصل الازدهارات التى لا نهاية لها، عاطفة سارّة عززتْ كافة الفضائل والمواهب الأخرى.
        وتبعته الحشود بحماس. وبدفقات رائعة من الفصاحة، غرس الشيطان النظام الجديد للأشياء فى نفوس أتباعه، فغير تصوراتهم عن العالم، وجعلهم يحبون ما هو منحرف ويمقتون ماهو صحى.
        على سبيل المثال، لم يكن هناك ما هو أكثر غرابة من تعريفه لعدم الأمانة. فقد وصفه بأنه الذراع الأيسر للإنسان، حيث كان الذراع الأيمن هو القوة، وكان استنتاجه بسهولة هو أن الكثير من البشر شُول[vi] الأيدى. ولم يكن بحاجة إلى أن يكون كافة البشر شُول الأيدى– ذلك أنه لم يكن من دعاة الحصر والاقتصار. وقد قبل فى كنيسته أولئك الذين كانوا يُمْن[vii] أو شُول الأيدى لكن ليس أولئك الذين لم يكونوا لا هذا ولا ذاك. وكان تفسيره الأكثر عُمقـا وصرامة هو ذلك الخاص بالارتشاء: بل اعترف مُفْتٍ من ذلك الزمان بأن هذا التفسير كان بمثابة صرح من صروح المنطق. الارتشاء، قال الشيطان، هو ممارسة حق هو أسمى الحقوق كافة. وإذا كـان يحقّ لك أن تبيــع منزلك، أوثورك، أو حذاءك، أو قبعتك– وهى أشياء تنتمى إليك شرعا وقانونا – فلماذا لايحقّ لك أن تبيع رأيك، أو عهدك، أو كلمتك، أو إيمانك– وهى أشياء أعلى قيمة من مجرد ممتلكات لأنها عناصر من ضميرك، أىْ نفسك ذاتها؟ إن إنكار هذا يعنى الوقوع فى السخف والتناقض. ألا تبيع بعض النساء شعْرهن؟ ألا يحق لشخص أن يبيع بعضا من دمه لنقله إلى شخص آخر مصاب بالأنيميا؟ هل الدم والشعر– وهما جزءان من البدن– أكثر امتيازا من الشخصية– الجزء المعنوى للإنسان؟ وبعد أن أثبت مبدأ الارتشاء على هذا النحو، لم يتوان الشيطان عن شرح منافعه الدنيوية والنقدية. ثم أوضح أنه فى ضوء التحامل الاجتماعى ضد الارتشاء، سيكون من الملائم تمويه ممارسة مثل هذا الحق المشروع. وبذلك يمكن للمرء أن يمارس الارتشاء والنفاق فى الوقت ذاته فيغدو بذلك فاضلا بصورة مضاعفة.
        كان فى كل مكان فى ذات الوقت، متفحصا ومصححا كل شيء. وقد كافح بطبيعة الحال مغفرة الذنوب ومبادئ أخرى تتصل بالرأفة والمودة. ورغم أنه لم يحرّم تحريما باتا القذف بدون مكافأة فقد شجع ممارسته دائما مع وضع شكل من أشكال التعويض فى الاعتبار، نقديا كان أو خلافه. على أنه حرّم تلقى أىّ راتب عندما يكون القذف مجرد اتساع غير محكوم للخيال لأن ذلك كان يعادل دفع أجر مقابل التنفس. وقد أدان استخدام كافة أشكال الاحترام، ونوّه بها كعناصر ممكنة للياقة الاجتماعية والشخصية، إلا عندما يكون من الضرورى القيام بتظاهر مداهن بالاحترام فى سبيل تحقيق مكسب شخصى. على أن هذا الاستثناء أزاله فى نهاية المطاف واقع أن الرغبة فى المكسب الشخصى حوّلتْ الاحترام إلى مجرد تملق– ومن هنا كان التملق، وليس الاحترام، هو العاطفة المستعملة من الناحية الفعلية فى مثل هذه الحالات.
        اعتقد الشيطان أنه سيكون من الملائم، لينجز عمله تماما، أن يدمر كل تضامن بشرى، مدركا أن مفهوم حب الإنسان لأخيه فى الإنسانية يمثل عقبة كأداء أمام مؤسسته الجديدة. وقد بيّن أن هذا المفهوم كان مجرد تلفيق من جانب الطفيليين ورجال الأعمال المفلسين، لأن المرء لا ينبغى أن يُبدى شيئا آخر سوى اللامبالاة– والكراهية أو الازدراء، فى بعض الحالات– إزاء أخيه فى الإنسانية. وقد مضى بعيدا إلى حد إثبات أن مفهـوم ”الأخ فى الإنسانية“ للمرء مفهوم خاطئ عن طريق الاستشهاد بهذه الأسطر من القسيس المثقف والمهذب، فرناندو جاليانى، من نابولى، والذى كتب إلى إحدى مركيزات النظام القديم: ”إلى الجحيم بالإخـوة فى الإنسانية! ليس هنـاك أىّ إخوة فى الإنسانية!“ وكان الموقف الوحيد الذى أجاز فيه الشيطان لامرئ أن يحب أخاه فى الإنسانية هو موقف حب زوجة رجل آخر، لأن هذا النوع من الحب له خصوصيته التى تتمثل فى أنه لا يزيد عن كونه حب المرء لنفسه. وربما لأن بعض مُريديه وجدوا أن مثل ذلك التفسير الميتافيزيقى قد غاب عن إدراك الجماهير، لجأ الشيطان إلى قصة رمزية أخلاقية: يشترك مائة شخص فى أسهم رصيد فى البنك، من أجل العمليات المشتركة، غير أن كل حامل أسهم لا يعنيه سوى فوائد أسهمه. هذا ما حدث مع الزناة. وقد تم تضمين هذه القصة الخرافية فى كتاب الحكمة الذى وضعه الشيطان.
الفصل 4: فرنشات ومزيد من الفرنشات
        صدقتْ نبوءة الشيطان. ذلك أن كافة الفضائل التى كانت عباءاتها المخملية تنتهى بالفرنشات القطنية تركتْ عباءاتها تموت بغيظها وجاءت لتنضمّ إلى الكنيسة الجديدة بعد أن تم جرّ فرنشاتها بعنف. وتبعتها فضائل أخرى، وأسبغ الزمن القداسة على هذه المؤسسة. تم تأسيس الكنيسة؛ وأخذ المذهب ينتشر– لم تكن هناك منطقة واحدة من مناطق الكرة الأرضية لا تعرفه، أو لغة واحدة لم يُترجم إليها، أو عرْق بشرى واحد لا يمحضه الحب. وأطلق الشيطان صيحات الانتصار.
        غير أنه، ذات يوم، بعد ذلك بسنين طويلة، لاحظ الشيطان أن كثيرا من المؤمنين به يمارسون الفضائل القديمة سرّا. لم يمارسوها كلها، كما أنهم لم يمارسوها كاملة، بل مارسوا بعضها جزئيا، وكما قيل منذ قليل: سرّا. كان بعض الشرهين ينسحبون ثلاث أو أربع مرات كل سنة ليأكلوا باقتصاد، وذلك بالضبط فى الأيام التى حددها النظام الكاثوليكى. وكان كثير من البخلاء يعطون الصدقات ليلا أو فى الشوارع القليلة السكان. وكان كثير من مختلسى الخزينة يُعيدون إليها مبالغ صغيرة من وقت لآخر. ومن حين لآخر كان بعض عديمى الأمانة يقولون الحقيقة الخالصة، غير أنهم كانوا يحتفظون على وجوههم بالتعبيرات الخادعة المعتادة لكى يعطوا الانطباع بالغشّ.
        أنذر هذا الاكتشاف الشيطان بالخطر. وبدأ يراقب هذا الشر عن كثب وأدرك أنه أخذ يتفاقم بشدة. كانت بعض الحالات تستعصى على الفهم، مثل حالة عطار مشرقى كان قد ظل منذ وقت طويل يسمم بعقاقيره جيلا بأسره من أسرة من الأسر غير أنه أنقذ أطفال الضحايا بالنواتج الثانوية لتلك العقاقير. وفى القاهرة، عثر الشيطان على لص جمال غير تائب كان يغطى وجهه حتى يكون بوسعه أن يدخل المساجد. واجهه الشيطان عند مدخل مسجد وعاتبه فى الحال على سلوكه، لكن اللص أنكر الاتهامات، قائلا إنه كان ذاهبا إلى المسجد ليسرق جملا من ترجمان. على أنه، بعد أن سرق الجمل فى حضور الشيطان، منحه كهدية لمؤذن دعا الله له. وأوردت المخطوطة البينديكتية اكتشافات كثيرة أخرى خارقة، من بينها الاكتشاف التالى، الذى حير الشيطان حيرة بالغة. كان أحد أفضل مريديه – وكان من كالابرى، وفى الخمسين من عمره– مزيفا شهيرا للوثائق وكان له منزل جميل فى ريف روما، بتصاوير وتماثيل ومكتبة. وكان هو الغش مجسَّدا– بل كان يلازم الفراش لكى يتجنب الاعتراف بأنه كان بصحة جيدة. غير أن الشيطان اكتشف أن هذا الرجل لم يكن يمتنع عن الغش أثناء لعب القمار وحسب، بل كان يعطى بقشيشا لخدمه. وبعد أن كسب هذا الرجل صداقة أحد القساوسة كان يذهب إليه كل أسبوع ليعترف فى كنيسة صغيرة منعزلة، ورغم أنه لم يبح لصديقه بأىّ نشاط من أنشطته السرية، كان يرسم إشارة الصليب تضرعا مرتين دائما، مرة عندما كان يجثو ومرة أخرى عندما كان ينهض واقفا. وكان من الصعوبة بمكان أن يصدّق الشيطان مثل هذه الخيانة، غير أنه لم يكن هناك أدنى شك فيها– كانت الحالة حقيقية.
        ولم يبدد لحظة واحدة. ذلك أن الصدمة لم تعطه أىّ وقت ليفكر أو يقارن أو يستنتج من المشهد الراهن أىّ شيء يتماثل مع الماضى. ومن جديد انطلق صاعدا إلى السماء، يرتجف من الغضب، ويتلهف على أن يكتشف السبب الخفى وراء مثل هذه الظاهرة الفريدة. أصغى إليه الرب برضى لا حدّ له غير أنه لم يقاطعه أو يُجب عليه بل إنه حتى لم يتشفَّ إزاء هذا العذاب الشيطانى. ونظر إلى الشيطان فى عينيه مباشرة وقال:
        ”ماذا كنت تتوقع، أيها الشيطان المسكين؟ العباءات القطنية لها الآن فرنشات من الحرير، تماما كما كان للعباءات المخملية فرنشات من القطن. ماذا كنت تتوقع؟ إنه التناقض البشرى الأبدى“.
 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 



الفاصل الأخير
 
        تسود بين المنتحرين عادة ممتازة تتمثل فى عدم الرحيل عن هذه الحياة بدون كشف الدوافع والظروف التى سلحتهم ضدها. أما أولئك الذين يغادرون فى صمت فنادرا ما يفعلون ذلك عن غرور. فهم، فى معظم الحالات، إما لا وقت لديهم لتقديم تفسير وإما يجهلون الكتابة. إنها فكرة ممتازة: هذا، فى المقام الأول، عمل يدلّ على اللياقة، حيث إن هذا العالم ليس صالة رقص يمكن للمرء أن ينسلّ خارجا منها قبل أن تبدأ الحفلة الراقصة الرسمية. وثانيا، تقوم الصحافة دائما بجمع وإفشاء أسرار الرسائل التى يتركها الموتى، فيواصل الميت حياته يوما أو اثنين، وأسبوعا فى بعض الأحيان.
        لكن رغم هذه العادة الممتازة، كانت نيتى الأصلية أن أرحل فى صمت. والسبب هو أننى بعد أن كنت سيء الحظ طوال حياتى، خشيتُ أن تؤدى أية كلمة أخيرة مهما كانت إلى تعقيد ما فى سبيلى إلى الأبدية. غير أن حادثا وقع مؤخرا غير خطتى، وسأغادر الدنيا تاركا ليس وثيقة واحدة فقط بل وثيقتيْن. الأولى وصيتى، التى فرغتُ لتوّى من كتابتها وتوقيعها. وها هي موضوعة فوق مكتبى، إلى جانب مسدسى المحشو. والوثيقة الثانية هى هذا الموجز لسيرتى الذاتية. ولاحظ أننى لا أترك الوثيقة الثانية إلا لأننى ينبغى أن أفسّر الأولى، التى ستبدو لا معقولة أو مستعصية على الفهم بدون شرح إضافى ما. ذلك أننى طلبت فى وصيتى القيام بعد بيع كتبى القليلة، وملابسى، وكوخ قديم فى كاتومبى أؤجره لنجار، بإنفاق الإيرادات على أحذية و ”بوتات“ لتوزيعها بطريقة ملائمة. وأعترف بأن كل هذا غريب جدا، وبدون تفسير لهذه التركة بوصية ستكون سلامة وصيتى موضع شك. وقد نشأ السبب وراء هذه التركة بوصية عن حادث جرى مؤخرا وله صلة بحياتى بأسرها.
        اسمى ماتياس ديوداتو ده كاسترو إه ميلو، ابن الشاويش سلڤادور ديوداتو ده كاسترو إه ميلو ودونا ماريا داسوليداده پيريرا، وكلاهما متوفيان. وأنا من مواليد كورومبا، فى ماتو جروسُّو، وتاريخ ميلادى 3 مارس 1820. وهكذا فأنا فى الحادية والخمسين من عمرى اليوم، 3 مارس 1871.
        وأكرر، أنا شخص سيء الحظ، الإنسان الأسوأ حظا فى العالم. وهناك قول لامعقول يجرى مجرى الأمثال سبق أن طبقته حرفيا فى كورومبا عندما كنتُ فى حوالى السابعة أو الثامنة من عمرى. كنتُ أهتزّ داخل أرجوحة نومى فى وقت القيلولة، فى حجرة صغيرة بسقف من القرميد. وإما لأن طرفىْ الأرجوحة لم يكونا مشدوديْن بإحكام أو بسبب حركة أعنف مما ينبغى من جانبى، أفلتتْ الأرجوحة من أحد الحائطيْن فألقتْ بى أرضا. سقطتُ على ظهرى، لكنْ رغم أننى كنتُ على ظهرى انكسر أنفى، لأن قرميدة كانت فى مكانها بالكاد وكانت فى انتظار فرصة للسقوط انتهزتْ فرصة الاضطراب الحادث وسقطتْ بدورها. ولم يكن جرحى خطيرا ولا طويل الأمد وداعبنى أبى كثيرا ساخرا بخصوصه. وفيما كان يشرب معنا الجارانا ذات أصيل، وقف الأب بريتو على حقيقة ما حدث واستشهد بالمثل، قائلا إننى كنت أول شخص يطبق حرفيا لامعقولية السقوط على ظهرى وكسر أنفى. ولم يتصور لا القسيس ولا أبى أن هذا الحادث كان مجرد البداية لأشياء آتية.
        لن أتناول بإسهاب مصائب أخرى فى طفولتى وشبابى. ذلك أننى أريد أن أموت فى الظهيرة، وقد تجاوزتْ الساعة الآن الحادية عشرة. بالإضافة إلى ذلك، رغم أننى أرسلت خادمى فى مشوار، فقد يعود أبكر من المتوقع فيعوق تنفيذ مشروعى الحاسم. ولو كان عندى الوقت لرويتُ بتفصيل شديد مجموعة بأكملها من الأحداث الأليمة، من بينها علقة تلقيتها عن طريق الخطأ. كان الحادث يتصل بغريم لصديـق لى، غريم فى الحب، غريم مهزوم بطبيعـة الحال. عندما علم صديقى والسيدة بالضربات التى تلقيتها، أغضبهما غدر الغريم، لكنهما استحسنا فى سرهما واقع أننى، وليس صديقى، تعرضتُ للضرب. ولن أتكلم عن أمراض أصابتنى. بل سأسرع إلى المرحلة التى انتهى فيها أبى، الذى كان فقيرا طوال حياته، إلى الموت فقيرا شديد الفقر. ولم تعش أمى بعده حتى شهريْن. وعرض الأب بريتو، الذى كان قد انتخب قبل ذلك بقليل عضوا فى مجلس النواب، أن يأخذنى إلى ريو دى چانيرو معتزما جعلى قسيسا، غير أنه مات بعد وصولنا بخمسة أيام. وهكذا يمكنك أن تلاحظ الفعل المتواصل لسوء الحظ.
        كنت متروكا بمفردى فى السادسة عشرة بلا أصدقاء أو موارد. واعتقد قسيس من كنيسة القصر الإمبراطورى أنه يمكننى أن أصبح قيم كنيسة هناك، ولكنهم لم يقبلونى نظرا لعدم وجود وظائف خالية، رغم أننى كنتُ قد ساعدتُ الكاهن فى إقامة القداس مرات عديدة فى ماتوجروسّو وكنتُ أعرف شيئا من اللاتينية. وأقنعنى أشخاص آخرون بأن أدرس القانون، وأعترف بأننى قبلت بحزم. وفى البداية، تلقيتُ حتى بعض العون فى دراستى. وفيما بعد، عندما فقدتهُ كان علىّ أن أعول نفسى بنفسى لكننى نجحتُ فى نهاية المطاف فى أن أنال شهادتى فى الحقوق. لا تقولوا لى أن هذا كان استثناءً على حياة المصائب التى عشتها، ذلك أن شهادتى بالذات هى التى قادتنى إلى بعض المواقف الأليمة للغاية، لكن حيث أن القدر كان متربصا ليجلدنى بسياطه مهما كانت مهنتى فأنا لا أعزو أىّ فوران خاص لسوء الحظ إلى شهادتى. والحقيقة أننى تلقّيتها ببالغ السرور– لقد أحال شبابى وأمل خرافى ما فى تحسن الحال ورقة الشهادة الجامعية تلك إلى مفتاح من الماس كان بسبيله إلى أن يفتح كل بواابات الحظ أمامى.
        أولا، لم تكن الرسالة التى عززتْ شهادة الحقوق التى نلتها الرسالة الوحيدة التى ملأتْ جيوبى. لا، كانت هناك رسائل أخرى إلى جانبها، عشر رسائل أو خمس عشرة رسالة، كانت ثمار علاقة غرامية معقودة فى ريو فى أسبوع عيد الفصح فى 1842، مع أرملة تكبرنى بسبع أو ثمانى سنوات، لكنْ مشبوبة العاطفة، وتفيض بالحيوية، وغنية. كانت تعيش فى شارع كونده مع أخ أعمى– ولا يمكننى أن أكشف مزيدا من المعلومات. ولم يكن أىّ من أصدقائى يجهل هذه العلاقة. بل قرأ اثنان منهم رسائلها، التى أطلعتهما عليها حتى يمكنهما فيما زعمتُ الإعجاب بالأسلوب اللبق للأرملة فى الكتابة لكنْ فى الحقيقة حتى يمكنهما بالفعل قراءة الأشياء الرائعة التى قالتها لى. وفى رأى الجميع، كان زواجنا أمرا أكيدا: كانت الأرملة تنتظرنى فقط لأكمل دراستى. وعندما تخرجتُ، هنأنى واحد من أصدقائى، مؤكدا اقتناعه بهذه العبارة القاطعة: ”زواجكما عقيدة“.
        وضاحكا، سألنى ما إذا كان يمكننى، لأجل العقيدة، أن أقرضه خمسمائة دولار مطلوبة بصفة عاجلة. وكانت العقيدة لا تزال تدوى عذبة فى رأسى إلى حد أننى كنت عاجزا عن أن أستريح إلى أن حصلتُ له على النقود. أحضرتها له بحماس بالغ، وتلقّاها، مفعما بالامتنان. وبعد ذلك بستة أشهر، تزوّج من الأرملة.
        لن أقول لكم كل ما عانيته آنذاك، سأقول فقط أن أول دافع عندى كان أن أطلق الرصاص عليهما كليهما. ذهنيا، هيأتُ نفسى لعمل ذلك. ورأيتهما يحتضران، يلهثان، يلتمسان صفحى. لكنه لم يكن سوى انتقام افتراضى– فى الواقع، لم أفعل شيئا. ومكثتُ فى ريو أقرأ رسائل الأرملة. قالت إحداها: ”فليشهد الرب علىّ عندما أقول أن حبى أبدىّ وأننى لك، لك إلى الأبد …“ وفى ذهولى، كنت أستنزل اللعنات فى سرّى: ”الرب غيور. لقد قلب الأرملة ضدى لأنه لن يسمح بأىّ أبدية أخرى إلى جانب ذاته. وقلب صديقى ضدى لأنه لن يسمح بأىّ عقيدة أخرى إلى جانب العقيدة الكاثوليكية“. تلك هى الطريقة التى فسرتُ بها فقدان محبوبتى والخمسمائة دولار.
        غادرتُ العاصمة وخرجت راحلا إلى الريف لأمارس القانون، لكنْ ليس لوقت طويل. ذلك أن سوء الحظ ركب خلفى فى مؤخرة الحمار، وكلما ترجّلتُ، كان يفعل ذلك. رأيتُ ختمه فى كل شيء– فى القضايا التى لم أتلقها، وفى القضايا التافهة التى تلقيتها بالفعل، وفى القضايا العارضة المربحة التى خسرتها دائما. وبالإضافة إلى واقع أن الزبائن الذين خسروا هم عادة أقل امتنانا من الآخرين، صرف تعاقب إخفاقاتى الزبائن بعيدا عنى. وبعد سنة ونصف سنة، عُدْتُ إلى ريو وقمت بممارسة المهنة مع زميل دراسة قديم، جونسالڤيس.
        لم أعرف أبدا أىّ شخص أقلّ ميلا إلى القانون وأقلّ نزوعا إلى مجابهة الأمور القانونية من جونسالڤيس. والواقع أنه كان وغدا. فلنشبِّهْ النشاط الذهنى بمنزل فخم: لم يكن بمستطاع جونسالڤس حتى أن يطيق عشر دقائق من المحادثة فى حجرة الجلوس– كان ينسلّ، ويهبط إلى حجرة الخزين، ويدردش مع الخدم. على أن هذه الصفة المتدنية كانت تعوّض عنها شفافية ما وسرعة فى فهم الأمور الأقل مشقة أو الأقل تعقيدا، وكذلك مقدرة على الشرح ومَدَد لانهاية له تقريبا من الابتهاج، وهذا ما كان نعمة كبيرة بالنسبة لى، أنا الغلبان المحاصر بسوء الحظ. وفى الأيام الأولى، حيث لم نتلقّ سوى قضايا قليلة، كنا نقتل الوقت بالتحادث الممتاز الملىء بالحيوية، وكان أغلبه له، سواء دردشنا حول السياسة أو النساء، وكان هذا الأخير موضوعا لتخصصه.
        على أننا فى نهاية المطاف بدأنا نتلقى بعض الدعاوى القانونية، من بينها نزاع حول رهن عقارى. وكان الرهن يتعلق بمنزل موظف جمارك، تيميستوكليس ده سا بوتيليو، لم تكن له أية ممتلكات أخرى وأراد أن ينقذ ملكه وتوليتُ القيام بالقضية. كان تيميستوكليس مسرورا بى، وبعد ذلك بأسبوعين، وكنتُ قد قلتُ له إننى غير متزوج، أعلن بضحكة أنه لا يريد التعامل مع عزّاب. وقال لى أشياء أخرى ودعانى إلى العشاء معه يوم الأحد التالى. ووقعتُ فى حبّ ابنته روفينا، وكانت فتاة فى التاسعة عشرة، رائعة الجمال، لكنْ خجولة قليلا ومنقادة. ربما كان ذلك بحكم تربيتها، فيما فكرت. تزوجنا بعد ذلك بأشهر قليلة. لم أوجّه الدعوة إلى سوء الحظ، هذا صحيح، لكننى داخل الكنيسة وسط اللحى الأنيقة الناعمة التشذيب والشوارب اللامعة الممتلئة، ظننتُ أننى رأيتُ الوجه الساخر والنظرة المنحرقة لخصمى العديم الرأفة. وعندما جاء الوقت لأقطع عهود الزواج المقدسة والحاسمة، كان هو السبب فى أننى ارتجفت وترددت قبل أن أتمتم بالكلمات التى أملاها الكاهن علىّ …
        هكذا تزوجت. صحيح أن روفينا لم تكن تتمتع بصفات لامعة أو ممتازة– على سبيل المثال، لم يكن بوسعها أبدا أن تكون مضيفة محنكة. غير أنها كانت تملك صفات بيتية تفى بالغرض، ولم أكن أطلب غير ذلك. كانت الحياة الخاملة الذكر كافية لى، وطالما ملأتْ حياتى، كان كل شيء يسير على ما يرام. لكن هذا بالذات كان الجانب المزعج فى الأمر. واسمحوا لى بهذه الصورة اللونية لروفينا: لم تكن لها الروح السوداء لكليوپاترا، أو الروح الزرقاء لچولييت، أو الروح البيضاء لبياتريس، بل كانت لها روح رمادية معتمة كتلك التى لأغلب الكائنات البشرية العادية. كانت عطوفة عن بلادة إحساس، مخلصة بلا فضيلة، ودودة بلا حنان. وكان يمكن لملاك أن يأخذها إلى السماء، ولشيطان إلى الجحيم، بلا مشقة فى كلٍّ من الحالتيْن، لأنها لم تكن لتستحقّ أىّ مجد خاص فى الحالة الأولى أو لتشوبها أية شائبة فى الحالة الثانية. كانت منقاده انقياد مَنْ يسير نائما. ولم تكن مغرورة. ولم يتم زواجنا نتيجة إلحاح من جانبها– كان أبوها قد رتبه بحيث يكون له زوج ابنة ”دكتور“[viii]. وقبلت الزواج منى كما كان يمكنها أن تقبل قيم كنيسة، أو قاضيا، أو جنرالا، أو موظفا حكوميا، أو نائب حاكم، ولم تقبل هذا تلهفا على أن تتزوج بل طاعة للعائلة، وإلى حد ما لتكون مثل كل شخص آخر. كل النساء الأخريات كان لهن أزواج، ولهذا أرادت أن يكون لها أيضا زوج. ولم يكن هناك ما هو أكثر من ذلك تعارضا مع طبيعتى، لكننى مع ذلك تزوجت.
        لحسن الحظ– آه الحقيقة أن عبارة ”لحسن الحظ“ فى هذا الفاصل الأخير فى حياة شخص سيء الحظ تمثل خروجا شاذا على القياس، لكنْ واصلوا القراءة وسترون أن هذه العبارة الظرفية تنتمى إلى الأسلوب الأدبى، لا إلى الحياة؛ إنها صيغة أسلوبية للانتقال إلى نقطة أخرى، لا أكثر. ولن يغيّر ما سأرويه فى الحال ما سبق أن قيل. سأقول إن الصفات البيتية لروفينا كانت مزايا ضخمة. كانت متواضعة. فكانت لا تعير اهتماما للحفلات الراقصة، أو النزهات، أو واجهات المحلات. وكانت تعتزل الناس. ولم تكن تجدّ فى القيام بالأعمال المنزلية، ولا كان ذلك ضروريا: كنت أعمل لأمنحها كل شيء، وكانت فساتينها، وقبعاتها، وكل أشيائها الأخرى، من صُنْع ”السيدات الفرنسيات“، كما كانت تسمَّى الخياطات فى تلك الأيام. وأثناء الاستراحات بين إعطاء الأوامر، كانت روفينا تجلس ساعات متواصلة، تاركة روحها تتثاءب، تحاول أن تقتل الوقت، هذا الأفعوان ذا الألف رأس الذى رفض أن يموت. لكنها، أكرر، كانت رغم نواقصها ربة بيت جيدة.
        فيما يخصنى، لعبتُ دور الضفادع التى أرادت ملكا. والاختلاف هو أنه عندما أرسل إلىّ چوپيتر قرمة خشب لم أطلب منه ملكا آخر يحل محلها، لأننى كنت أعلم أنه، إنْ أنا طلبت، كان سيرسل إلىّ ثعبانا كان سيأتى ويبلعنى. ”أهتفُ ثلاثا لقرمة الخشب!“ هكذا قلت لنفسى. وأنا لا أقول لكم هذه الأشياء إلا ليكون بوسعكم أن تلاحظوا منطق قدرى وثباته.
        عبارة ”لحسن الحظ“ أخرى– وهذه ليست مجرد تعبير للانتقال. فبعد سنة ونصف، بزغ أمل فى الأفق، وقياسا على الإثارة التى بعثها النبأ فى نفسى، كان أملا ساميا فريدا. كان مُنْيَة القلب فى سبيله إلى الوصول. وما مُنْيَة القلب؟ طفل. تبدلتْ حياتى على الفور. ابتسم لى كل شيء وكأنه يوم زفاف. وأعددتُ استقبالا ملكيا لابنى. اشتريت له مهدا غالى الثمن من العاج والرخام– قطعة أثاث رائعة الصنع. ثم اشتريت، قطعة قطعة، ملابسه ولوازمه: أمرتُ بخياطة أرقّ الأنسجة القطنية، وأدفأ الفانيلات، وقلنسوة جميلة بشريط. واشتريتُ له عربة لعبة وانتظرتُ متلهفا، مستعدا للرقص أمامه كما رقص داود أمام تابوت العهد. آه يا لسوء الحظ! وصل التابوت إلى أورشليم خاليا- وُلد الطفل ميتا.
        كان مَنْ واسانى وأنا أنوء بخيبة أملى هو جونسالڤيس، الذى كان من المقدّر أن يكون أبا فى العماد للطفل– كان صديقنا، وضيفنا الدائم، والمؤتمن على خصوصياتنا. لقد واسانى وحدثنى عن أشياء أخرى بحنان صديق. وتكفل الزمن بالباقى. وقال لى جونسالڤيس نفسه فيما بعد أنه إذا كان لابد للطفل من أن يولد منحوسا مثل أبيه، فمن الأفضل أنه ولد ميتا.
        ”وتعتقد أنه كان سيكون كذلك؟“ سألت بسرعة.
 ابتسم جونسالڤيس– لم يكن يؤمن بأننى مصاب بسوء حظ مزمن. والحقيقة أنه لم يكن لديه الوقت ليؤمن بأىّ شيء، ذلك أنه كرّس كل وقته وطاقته لأن يكون سعيدا. لكنه كان قد بدأ أخيرا فى تكريس نفسه لمهنته القانونية. وكان آنذاك يدافع عن الزبائن، ويعدّ العرائض، ويحضر المرافعات، كل هذا لأنه كان عليه أن يعيش، كما قال. وكان سعيدا دائما. وكانت زوجتى تعتقد أنه ظريف وكانت تضحك من قلبها من أقواله وقصصه، التى كانت فاضحة أكثر مما ينبغى أحيانا. وفى البداية وجهتُ إليه اللوم فيما بيننا بسبب حكاياته، لكننى مع مرور الوقت اعتدتُ عليها. وبالإضافة إلى ذلك، هل هناك أىّ شخص لايمكنه أن يغفر رعونة صديق خفيف الروح؟ وينبغى أن أقول إن جونسالڤيس نفسه بدأ عند مرحلة معينة يخفف من سلوكه، ومنذ ذلك الحين فصاعدا بدأت ألاحظ فيه جدية بالغة. ”أنت تحب“، قلت له ذات يوم، وأجاب، ممتقع الوجه، بأن نعم وأضاف بابتسامة، وإن كانت ابتسامة واهنة، أن الزواج لامناص منه. وعلى مائدة العشاء تكلمت أنا فى الموضوع.
”روفينا، هل تعلمين أن جونسالڤيس يوشك على الزواج؟“
”إنها نكتة من نكاته“، قاطع جونسالڤيس بسرعة.
طلبتُ من طيشى أن يذهب إلى الشيطان ولم أشرْ إلى هذا الموضوع مرة أخرى– ولا هو فعل. وبعد ذلك بخمسة أشهر…  الانتقال سريع جدا، لكن ما من طريقة لإطالته: سقطتْ روفينا مريضة، مريضة مرضا خطيرا، ولم تصمد حتى أسبوعا. ماتت بحمى خبيثة.
شيء غريب: فى الحياة، الاختلافات فى طبعيْنا أضعفتْ الروابط بيننا، هذه الروابط التى جرى الحفاظ عليها على أىّ حال بحكم الضرورة والعادة فى المقام الأول. أما الموت، بقوته الروحية الهائلة، فقد غير كل شيء– بدتْ لى روفينا وكأنها الزوجة التى هبطتْ من لبنان، وحل محل الاختلافات بيننا اندماج كامل بين كيانيْنا. تشبّثتُ بهذه الصورة، التى ملأت كامل روحى، ومعها ملأت كامل حياتى، التى لم تكن تشغل فيها من قبل سوى حيز ضئيل للغاية خلال مثل تلك الفترة القصيرة. كنت أقوم بعمل من أعمال التحدى ضدّ نجمة نحسى عن طريق تشييد صرح للحظ الحسن من صخر صلب لاسبيل إلى تدميره. افهمْنى جيدا. إلى ذلك الحين كان كل شيء يتوقف على العالم الخارجى وكان بالتالى رهنا بالظروف بطبيعة الحال: كان القرميد يسقط مع اهتزاز الأراجيح، وكانت الأردية الكهنوتية تثور على قيِّمى الكنائس، وكانت عهود الأرامل تتلاشى مع عقائد الأصدقاء، وكانت الدعاوى القضائية تأتى عن طريق الخطأ أو تختفى على الفور، وأخيرا كان الأطفال يولدون ميتين. لكن صورة المرأة الميتة كانت أزلية، وكان يمكننى أن أتحدّى بها النظرة المنحرفة للقدر المشئوم. لقد وقعتْ السعادة أسيرة فى يدى ومثل نسر ضخم كانت تضرب بجناحيْها الضخمين فى الهواء فيما رفرف سوء الحظ بجناحيْه، مثل بومة، وانطلق صوب الليل والصمت …
لكننى ذات يوم، وأنا أتماثل للشفاء من حُمّى، قررتُ عمل جرد لبعض ممتلكات زوجتى وبدأت بعلبة صغيرة، كانت لم تفتح منذ موتها، قبل ذلك بخمسة أشهر. وجدتُ وفرة من الأشياء الصغيرة جدا: إبر خياطة، خيط، قطع حشو للتطريز، كستبان، مقصّ، لفة قماش، وأشياء صغيرة متنوعة، وحزمة رسائل ملفوفة بشريط أزرق. حللتُ الشريط وفتحتُ الرسائـل: كانت من جونسالڤيس…  منتصف النهار تماما الآن! يجب أن أنتهى من هذا. الخادم على وشك العودة، وهكذا ستتحطم خططى. ولا يمكن لأحد أن يتخيل كيف يمرّ الوقت وينسلّ فى مثل هذه الظروف: الدقائق تفرّ وتزول كالإمبراطوريات، والأكثر أهمية أن صفحات الورق تغطيها الكلمات بنفس السرعة تماما.
ولن أتوقف عند كل أوراق اليانصيب العديمة القيمة، أو الصفقات التجارية الفاشلة، أو الاتصالات المقطوعة، أو أعمال القدر الحقودة الأخرى. ذلك أننى، منهمكا ومتضايقا، أدركت أنه لا يمكننى أن أجد السعادة فى أىّ مكان. بل ذهبت إلى أبعد من ذلك: انتهيتُ إلى الإيمان بأنها لا توجد فى أىّ مكان على الأرض، وبالتالى ظللت أعدّ نفسى منذ أمس لاقتحامى العظيم للأبدية. واليوم تناولتُ الإفطار، ودخنتُ سيجارًا، وأخذتُ أطلّ من النافذة. وبعد مرور عشر دقائق، رأيت شخصا حسن الملبس كان يحملق بصورة متكررة فى قدميه فيما كان يسير. وكنت أعرفه بالشكل– كان ضحية من ضحايا انقلابات الحظ الهائلة، لكنه مع ذلك كان ينطلق فى سيره بسعادة متأملا فى قدميْه وبالأحرى فى حذاءيْه. كان حذاءاه جديديْن، من الجلد اللميع، وكان تفصيلهما جيدا جدا، وربما تمت خياطتهما بعناية بالغة. وكان يتطلع إلى أعلى نحو النوافذ ونحو الناس لكنه كان يعود دائما بعينيه إلى حذاءيه، وكأنما بفعل قانون جاذبية يسبق الإرادة ويتفوق عليها. كان سعيدا– وبوسع المرء أن يرى سيماء البهجة على وجهه. كان من الجلى أنه سعيد، رغم أنه ربما كان لم يأكل أىّ إفطار وربما كان لا يوجد فى جيوبه سنتاڤو واحد. لكنه كان سعيدا وكان يتأمل فى ”بوته“.
هل السعادة ياترى زوج من ”البوت“؟ هذا الرجل، الذى لطمته الحياة إلى هذا الحدّ، تلقى فى نهاية المطاف ابتسامة من الحظ. وهذا الرجل ذاهل عن كل شيء باستثناء حذاءيْه. لا همّ من هموم هذا القرن، لا مشكلة اجتماعية أو أخلاقية، لا شيء من مباهج الجيل الجديد أو أحزان الجيل السابق، لا شكل من أشكال البؤس، أو الحرب الطبقية، أو الأزمة السياسية أو الفنية– لا شيء من هذه الأشياء يساوى زوجا من ”البوت“. هو يحملق فيهما، يتنفسهما، يلمع معهما جنبا إلى جنب، يطأ معهما أرض كوكب يخصّه وينتمى إليه. ومن هنا، الخيلاء فى وقفته، والحزم فى خُطاه، ونوع من سيماء الهدوء الأوليمپى … أجل، السعادة زوج من ”البوت“.
ليس هناك أىّ تفسير آخر لوصيتى. وسيقول القراء السطحيون إننى مجنون، وإن هذيانى واضح فى كل بند من بنود الوصية، لكننى أتحدث مع العقلاء والمحظوظين. وليس من الصواب أن يعترض أحد بأنه سيكون من الأفضل أن أنفق على نفسى المال الذى أعتزم إنفاقه على ”البوت“، لأننى فى تلك الحالة سأكون المستفيد الوحيد. لكن، عن طريق توزيع ”البوت“، سأجعل عددا من الناس سعداء. لاتحزنوا، يا أصحاب الحظ السىء فى العالم! عسى أن تلبَّى أمنيتى الأخيرة! تصبحون على خير، والبسوا أحذيتكم!
 
 
الحياة الثانية
 
        قاطع المونسنيور كالداس رواية الغريب: ”هل تسمح لى؟ سأعود فى غضون لحظة“.
        نهض واقفا وذهب إلى داخل البيت ونادى على خادمه الزنجى العجوز وقال له بصوت خفيض: ”چوان، اذهبْ إلى مركز البوليس، وتحدث مع الضابط بالنيابة عنى، واطلبْ منه أن يأتى إلى هنا ومعه رجل أو رجلان لإبعاد أحد المجانين عن بيتى. اذهبْ، أسرع“. وعاد إلى الحجرة وقال: ”مستعدّ، يمكننا أن نستمر“.
        ”كما كنتُ أقول، كانت وفاتى فى 20 مارس 1860، الساعة الخامسة و43 دقيقة صباحا. كنتُ فى ذلك الوقت فى الثامنة والستين من عمرى. صعدت روحى إلى الفضاء إلى أن اختفت الأرض عن أنظارها، تاركة القمر، والشمس، والنجوم تحتها بكثير. وأخيرا نَفَذَتْ إلى فضاء فارغ كان مُضاءً إضاءة خافتة ليس إلا. وواصلت الصعود وبدأت أرى نقطة ضئيلة للغاية ذات بريق ساطع، على مسافة بعيدة للغاية. أخذتْ النقطة تكبر واستحالتْ إلى شمس. ودخلتُ أنا فيها دون أن أحترق، لأن الأرواح غير قابلة للاحتراق. هل اشتعلت النار فى يوم من الأيام فى روحك؟ “.
        ”لا، ياسيدى“
        ”إنها غير قابلة للاحتراق. وظللتُ أصعد. وعند نقطة ما سمعتُ موسيقى عذبة آتية من مسافة تصل إلى حوالى 40000 فرسخ، وعندما صرتُ على مسافة 5000 فرسخ منها، هبطت جماعة حاشدة من الأرواح وحملتنى بعيدا على محفة من الأثير والرِّيش. وبعد ذلك بقليل، دخلتُ فى الشمس الجديدة، التى هى كوكب الأرواح الفاضلة على الأرض. وأنا لستُ شاعرا، يا مونسنيور، ولهذا لا أجرؤ على أن أصف لك روعة تلك الدار الإلهية. وحتى لو كنتُ شاعرا لما كان بوسعى أن أنقل إليك بلغة بشرية إحساس العظمة والروعة والسعادة والنشوة أو تآلف الأنغام وسطوع الضوء والألوان، وكلها فوق كل تحديد وفوق كل إدراك. لابدّ لك من أن تراها لتصدّقها. وبمجرد أن صرتُ بداخلها أدركتُ أن وصولى تميز بأنه يُكمل جماعة جديدة من ألف من الأرواح– كان ذلك هو السبب فى الاحتفالات الرائعة التى أقاموها على شرفى، والتى دامتْ قرنيْن أو، بمقاييسنا، ثمانى وأربعين ساعة. وأخيرا، بعد أن انتهت الاحتفالات، دُعيتُ إلى العودة إلى الأرض لأعيش حياة جديدة – كانت هذه هى الميزة التى تمنح لكل روح ترتيبها الألف فى كل جماعة. أجبتُ بامتنان ورفضتُ، غير أنه لم يكن مسموحا بالرفض. كان ذلك قانونا أبديًّا. الحرية الوحيدة التى منحوها كانت اختيار الوعاء: كان بوسعى أن أولد أميرا أو حوذيا. ماذا كان علىّ أن أفعل ؟ ماذا كنت ستفعل لو كنت مكانى؟“
        ”لا أدرى، هذا يتوقف.“
        ”عندك حق، هذا يتوقف على الظروف. لكنْ تصوَّرْ أن ظروفى كانت بحيث لايسرّنى أن أعود إلى هنا. كنتُ ضحية قلة الخبرة، يا مونسنيور، ولهذا كنتُ تعيسا فى شيخوختى. وكنت أتذكر دوما أننى كنت أسمع أبى وأشخاصا آخرين أكبر سنا يقولون كلما رأوا صبيا صغيرا: "كم أتمنى أن أعود ذلك الصغير من جديد، عارفا ما أعرفه الآن!" وبعد أن تذكرتُ هذا، أعلنت أنه سيكون سيان عندى أن أولد شحاذا أو سلطانا، طالما كان بوسعى أن أولد محنكا بالخبرات. لايمكنك أن تتصور الضحك الكونى الذى سمعونى به. وقال لى أيوب، الذى يشرف على دائرة الصابرين، إن مثل هذه الأمنية سخيفة، لكننى ألححتُ وفُزْتُ بما تمنّيت. بعد ذلك بقليل، كنتُ أنسابُ عبر الفضاء. واستغرق منى الوصول إلى هنا تسعة أشهر، وعندئذ سقطتُ بين ذراعىْ مُرضعة وسميتُ نفسى چوزيه ماريا. اسمك روموالدو، أليس كذلك؟“
        ”نعم، ياسيدى– روموالدو ده سوزا كالداس“.
        ”لعلك تنتمى إلى أسرة الأب سوزا كالداس“.
        ”لا، ياسيدى“.
        ”شاعر عظيم، هو الأب كالداس. الشعر موهبة، ولم يكن بوسعى ذات يوم حتى أن أنظم عشرة أبيات. لكن لندخل فى صميم الموضوع سأخبرك أولا بما حدث لى، ثم أخبرك بما أنا بحاجة إلى سؤالك عنه، يا مونسنيور. وفى نفس الوقت، إذا كنت ستسمح لى بأن أدخن …“
        أومأ المونسنيور كالداس إيماءة موافقة دون أن يرفع عينيه عن العصا التى استلقتْ على حِجْر چوزيه ماريا. ولفّ چوزيه ماريا سيجارة على مهل. كان فوق الثلاثين من عمره بقليل، شاحبا، بنظرة كانت أحيانا ساكنة وعابسة، وأحيانا أخرى مستثارة ومتفجرة. وكان قد ظهر بعد أن انتهى القسيس من تناول غدائه وطلب مقابلة بخصوص مسألة خطيرة وملحة. وسمح له المونسنيور كالداس بالدخول والجلوس. وبعد عشر دقائق، أدرك أن الرجل مجنون. غضّ الطرف عن عدم تماسك أفكاره وعن الجوانب المدهشة لحكاياته الملفقة، لأنه ربما كان بوسعه أن يستخدمها كمادة لدراسة. غير أن الغريب أصيب بنوبة غضب أفزعتْ رجل الدين المسالم. كيف كان يمكنه هو وخادمه، هما العجوزان، كلاهما، أن يدافعا عن نفسهما ضد أىّ اعتداء من جانب شخص مجنون قوىّ للغاية ؟ وفيما كان ينتظر العون من البوليس، كان المونسنيور كالداس يفيض بالابتسامات وإيماءات الرأس، وكان يفزع معه ويسعد معه– هذه السياسة الناجعة مع المجانين، والنساء، والسلاطين. وأخيرا أشعل چوزيه ماريا سيجارته وواصل قصته:
        ”وُلدتُ من جديد فى 5 يناير 1861. ولايمكننى أن أخبرك بأىّ شيء عن طفولتى الثانية، لأن الخبرة لا يكون لها خلال هذه الفترة سوى شكل غريزى. كنتُ أرضع قليلا جدا وأبكى بأقل قدر ممكن تفاديا للعقاب. وخوفا من الوقوع، بدأتُ المشى متأخرا– وبالتالى، ساقاى ضعيفتان قليلا. وخوفا من الكدمات والدم، لم أقم فى يوم من الأيام بأىٍّ من الأشياء المفيدة من قبيل الجرى، والشقلبة، وتسلق الأشجار، والقفز على الحواجز، وتبادل اللكمات. وبصراحة، كانت طفولتى رتيبة، ولم تكن المدارس استثناءً. ووصفنى الجميع بأننى عبيط وبأننى جبان. والحقيقة أننى عشتُ بالهروب من كل شيء. ولا أعتقد أننى انزلقت فى يوم من الأيام خلال طفولتى، لكننى لا أعتقد كذلك أننى جريتُ فى يوم من الأيام. وكلمة شرف: كان زمنا بالغ الصعوبة، وعندما أقارن خبطات وكدمات تلك الأيام برتابة هذه الأيام فأنا أفضل الخبطات والكدمات. كبرتُ، صرتُ شابا، دخلتُ مرحلة رومانسية … لا تَخَفْ. سأكون عفيفا، كما كنتُ فى عشائى الأول. هل تعرف كيف يكون عشاء بين شبّان ونساء غير شريفات؟“
        ”كيف تتوقع منى أن أعرف؟“
        ”كنتُ فى العشرين“ واصل چوزيه ماريا. ”ولا يمكنك أن تتصور مدى دهشة أصدقائى عندما أعلنتُ أننى مستعد للذهاب إلى عشاء من هذا النوع…  لم يتوقع أحد شيئا كهذا من شاب حذر كهذا كان يهرب من كل شيء- من النوم غير الكافى، من النوم الزائد عن الحد، من السير بمفرده فى ساعات الصباح الأولى– وكان يعيش متحسسا طريقه فى الظلام إن جاز القول. ذهبتُ إلى العشاء، فى حدائق النباتات، وكانت خلفية رائعة. طعام، خمر، أضواء، زهور، شباب مرحون، نساء ذوات عيون ساحرة، وقبل كل شيء: شهية سن العشرين. هل تصدق أننى لم آكل أىّ شيء؟ إن ذكرى ثلاث حالات من عُسْر الهضم أصابتنى فى حياتى الأولى، قبل ذلك بأريعين سنة، جعلتنى أمتنع. استلقيتُ، قائلا إننى لستُ على ما يرام. وأتتْ إحدى النساء وجلستْ إلى يمينى، لتعالجنى، وأتتْ أخرى وجلستْ إلى يسارى، بنفس النية. "أنت تعالجين ناحية وأنا أعالج الناحية الأخرى"، قالتْ كل منهما للأخرى. كانتا مرحتيْن، ووقحتيْن، وماكرتيْن، وكانتا مشهورتيْن بالتهام قلوب الشباب وحياتهم. وأعترف بأننى غدوتُ خائفا ومنزويا. وقد قامتا بكل ما هو ممكن للترفيه عنى، لكن كافة جهودهما كانت بلاجدوى. وانصرفتُ فى الصباح، مفتونا بهما كلتيهما، لكن دون أن أفوز بأى منهما، وكنتُ خائر القوى من فرط الجوع. ما رأيك؟“ سأل چوزيه ماريا، واضعا يديْه على ركبتيْه ومُديرا كوعيْه إلى الخارج.
        ”فى الحقيقة… “
        ”لن أقول لك أىّ شيء آخر، يمكنك أن تخمّن الباقى. إن حياتى الثانية أشبه بشباب منطلق ومندفع، تكبته خبرة تقليدية فى المقام الأول. أنا أشبه ما أكون ﺒ "أوريكو"، مربوطا بجثتى أنا[ix] ... لا، هذه ليست مقارنة جيدة. ما رأيك فى حياتى؟“
        ”أنا لستُ واسع الخيال للغاية. وأفترض أنك تعيش مثل طائر عظيم ضخم مكتوف الرِّجْلين يرفرف بجناحيه هكذا… “
        نهض چوزيه ماريا واقفا ورفرف بذراعيه وكأنهما جناحان. وفيما كان واقفا، سقطت عصاه على الأرض، لكنه لم يحاول أن يستردّها. واستمرّ يرفرف بذراعيه حوله فيما وقف فى مواجهة القسيس وقال إنه هكذا بالضبط، طائر بالغ الضخامة… وكلما ضرب بذراعيه على فخذيه كان يقف على أصابع قدميه، محركا جسمه بخطوات إيقاعية، وكان يضمّ قدميه ليبين أنهما مربوطتان. وأومأ المونسنيور بموافقته، لكنه فى نفس الوقت ضبط أذنيْه بحيث يكون قادرا على سماع أىّ وقع أقدام على السلالم. كـان كل شـيء ساكنـا.
وكان كل ما سمعه الضوضاء الآتية من الخارج: المركبات وعربات البضائع التى تذهب وتجيء فى الشارع، باعة الشارع الذين يصيحون مُنادين على سلعهم، شخص ما فى الحىّ يعزف على الپيانو. وبعد أن التقط عصاه، جلس چوزيه ماريا أخيرا واستمرّ يحكى قصته:
        ”طائر، طائر عظيم ضخم. لترى كم أن مقارنتك فى مكانها، ستكون المغامرة التى أتت بى إلى هنا كافية– مسألة ضمير، عاطفة، امرأة، أرملة، دونا كليمنسيا. وهى فى السادسة والعشرين، لها عينان لانهائيتان، ليس فى الحجم، بل فى التعبير، وفوقهما لمستان خفيفتان من الزَّغَب تصلان بملامح وجهها إلى حدّ الكمال. وهى ابنة پروفيسور متقاعد. والفساتين السوداء لائقة عليها إلى حدّ أننى أقول لها أحيانا إنها لم تترمل إلا ليكون بوسعها أن تلبس ملابس الحداد. هذه مجرد نكتة! وقد التقينا منذ سنة، فى بيت صاحب مزرعة من كانتاجالو. وقد غادرنا المكان متحابّيْن. وأنا أعرف بالفعل عمّ ستسألنى: لماذا لم نتزوج، مادمنا كلانا حرّيْن بلا قيد يمنعنا عن فعل ذلك؟“
        ”نعم، لماذا لم تتزوجا؟“
        ”لكن، يا رجل الله! هذا بالتحديد موضوع مغامرتى. لقد كنا حريْن، وكان كل منا مهتما بالآخر، ومع ذلك لم نكن نزمع على الزواج– هذه هى الورطة التى جئت لأعرضها عليك، والتى ربما قدّم لها الحل لاهوتك، أو أيا ما كان. عُدنا إلى ريو حبيبيْن. كانت كليمنسيا تعيش مع أبيها المسنّ وأخ موظف فى مجال التجارة. وقدّمت نفسى للاثنين وبدأتُ أعرّج عليهم فى بيتهم فى ماتاكاڤايوس. نظرات مختلسة، إمساك الأيدى، بعض الكلمات غير المترابطة، كلمات أخرى مترابطة، جملة هنا، جملتان هناك، وعندئذ اعترفنا بحبنا كلّ للآخر. وذات ليلة، على بسطة السلم، قبّلنا كل منا الآخر لأول مرة … معذرة للتفاصيل، يا مونسنيور، ينبغى ألا تنسى أنك تسمع اعترافى. وأنا لاأروى لك هذه القصة إلا لأحيطك علما بما جعلنى أولى الأدبار مذهولا، فاقدا رشدى، بصورة كليمنسيا فى رأسى ومذاق قبلتها فى فمى. وطفتُ هائما على وجهى على مدى ساعتين تقريبا أخطط لمستقبل ساحر. وقرّرتُ أن أطلب يدها فى نهاية الأسبوع وأتزوجها بعد ذلك بشهر. بل تخيّلتُ التفاصيل النهائية، مؤلفا ومزخرفا دعوات الزفاف فى رأسى، وعُدتُ إلى البيت بعد منتصف الليل، وعندئذ تلاشت الصورة التى تخيلتها لحياتنا معا مثل تغيير منظر فى مسرحية قديمة. هل يمكنك تخمين كيف حدث هذا؟“
        ”لا يمكننى أن أتخيل …“
        ”خطر ببالى وأنا أخلع الصديرى أن حبنا ربما انتهــى فى القريب العاجل … هذا يحدث حقا أحيانا. وفيما كنتُ أخلع حذائى البوت، فكرت فى شيء أسوأ– ربما أصابنا الملل من بعضنا الآخر. وانتهيتُ من تواليت المساء، وأشعلتُ سيجارة، وفيما استلقيتُ على الأريكة، فكرتُ فى أن الروتين والألفة يمكن أن ينقذا كل شيء. لكننى سرعان ما أدركتُ بعد ذلك أن طبعيْنا ربما كانا متنافريْن، وما العمل مع طبعيْن متنافريْن لكن متلازميْن؟ لكننى أخيرا، حيث أن عاطفتنا كانت قوية للغاية وعنيفة للغاية، طرحتُ كافة هذه الشكوك جانبا وتخيلتُ نفسى متزوجا، وأبا لطفل جميل…  واحد فقط؟ يمكن أن يصل اثنان، ثلاثة، ثمانية، وحتى عشرة، وبعضهم مقعدون. أو يمكن أن تنشأ أزمة أو أزمتان– الافتقار إلى المال، أو العوز، أو المرض، أو واحدة مـن تلك المغازلات غير المشروعة التى تخلّ بالوئام العائلى … وبحثتُ كل شيء وانتهيتُ إلى أن الأفضل سيكون ألا نتزوج. وما يمكننى أن أصفه لك هو يأسى– وما من كلمات لأصف ما عانيتُ فى تلك الليلة … هل يضايقك أن أدخن سيجارة أخرى؟“
        لم ينتظر ردا، بل أسرع ولفّ سيجارة، ثم أشعلها. ولم يكن بمستطاع المونسنيور كلداس إلا أن يعجب من عقله البارع، هذا التناقض الصارخ مع حالته العقلية المختلة. وفى نفس الوقت، لاحظ أن الغريب كان يتكلم بعبارات مصقولة وأنه دمث الأخلاق رغم انفجاراته المرضية. مَنْ يا ترى يكون هذا الرجل؟ واصل چوزيه ماريا رواية قصته، فقال إنه بقى بعيدا عن بيت كليمنسيا ستة أيام، لكنه لم يستطع أن يقاوم رسائلها أو دموعها, وبعد أسبوع أسرع إليها واعترف لها بكل شيء. أصغت إليه باهتمام شديد، وتمنّتْ أن تعرف كيف يمكنها أن تضع حدا لكل تلك الشكوك وما دليل الحب الذى يريدها أن تمنحه إياه. كان ردّ چوزيه ماريا سؤالا.
        ”"هل أنت مستعدة للإقدام على تضحية كبيرة من أجلى؟" سألتها. وأقسمتْ كليمنسيا على أنها ستفعل. "حسنا، إذن، اهجرى كل شيء، الأسرة والمجتمع، وتعالى وعيشى معى. سنتزوج بعد مدة الاختبار هذه". يمكننى أن أرى عينيك تتسعان. كانت عيناها مليئتين بالدموع، لكنها رغم إذلالها، وافقت على كل شيء. هيا ، صفنى بأننى مسخ بشع“.
        ”لا، ياسيدى …“
        ”لم لا؟ أنا مسخ بشع. جاءتْ كليمنسيا إلى بيتى ولا يمكنك أن تتخيل كم كنتُ سعيدا برؤيتها. "إننى أهجر كل شـيء، أنتَ الكون بالنسبة لى"، قالت. قبّلتُ قدميها، قبّلتُ كعب حذائها. لايمكنك أن تتخيل كم كنتُ راضيا. فى اليوم التالى تلقيتُ رسالة يحفّ بها السواد، بخبر موت عمٍّ لى فى سانتا آنا دو ليڤرامنتو، تاركا لى 20000 كروزيرو. ذهلتُ. "فهمتُ"، قلت لكليمنسيا، "ضحيتِ بكل شيء لأنك سمعتِ عن التركة". وفى هذه المرة لم تبك كليمنسيا، بل هبّت واقفة ورحلتْ. جريتُ وراءها، خجلان، ملتمسا مغفرتها، لكنها رفضت. مرّ يوم، ويومان، وثلاثة، لكن كل محاولاتى كانت بلا جدوى. رفضت كليمنسيا أن تستجيب؛ لم تكن حتى لتتكلم. عندئذ أعلنتُ أننى سأقتل نفسى. واشتريت مسدسا، وذهبت إليها، وأظهرته لها– ها هو“.
        امتقع وجه المونسنيور كالداس. أظهر له چوزيه ماريا المسدس ثوانى قليلة، ثم أعاده إلى جيبه وواصل حديثه.
        ”أطلقتُ طلقة. ومن فزعها، انتزعتْ منى المسدس وغفرتْ لى. وقررنا الزواج بأسرع ما يمكن، لكننى فرضتُ شرطا: سأتبرع باﻠ 20000 كروزيرو للمكتبة القومية. ألقتْ كليمنسيا بنفسها بين ذراعىّ وأبدتْ موافقتها بقبلة. تبرعتُ باﻠ 20000 كروزيرو– لابد أنك قرأت عن هذا فى الصحف … وبعد ذلك بثلاثة أسابيع تزوجنا. أنت تتنهد، وكأنك تعتقد أننى وصلت إلى النهاية. هراء! نحن نصل الآن إلى الجزء المأسوى من القصة. يمكننى أن أختصر بعض التفاصيل وأحذف تفاصيل أخرى، لكننى سأحصر حديثى فى كليمنسيا ولن أحدثك عن بقية عواطفى المبتورة، ومسراتى المجهضة، ومشاريعى التى تداعتْ وصارت معلقة فى الهواء، وأوهامى المحطمة، كما أننى لن أتحدث عن ذلك الطائر “… رفرف … رفرف … رفرف …
        وبقفزة واحدة كان چوزيه ماريا مرة أخرى على قدميْه، ضاربا بذراعيه حوله، ومحركا جسمه بإيقاعات متناغمة. وسال عرق المونسنيور كالداس رعبا. وبعد عدة ثوان، توقف چوزيه ماريا، وجلس، واستأنف روايته، التى غدتْ فى تلك اللحظة أقل تماسكا، وأكثر هياجا، وبكل وضوح أكثر هذيانا. روى عما عاش فيه من خوف، وبؤس، وريبة. ولم يعد بوسعه أن يقضم تينة، كما كان الحال من قبل: إن خوفه من أن يجد حشرة بالداخل جرّدها من مذاقها. وكان يرتاب فى التعابير السعيدة على وجوه الناس فى الشوارع لأن الشواغل، والرغبات، والكراهية، والحزن، وبقية الأشياء كانت متنكرة فى ثلاثة أرباع هذه التعابير وعاش فى خوف من أن يصير أبا لطفل أعمى، أو أصمّ أبكم، أو مسلول أو سفّاح محتمل. ولم يكن بوسعه أن يقيم مأدبة ليس من شأنها أن تغدو كئيبة بمجرد الانتهاء من تناول الشوربة، بسبب فكرة أن شيئا ما قد يقوله أو يفعله، هو أو زوجته، أو أىّ شيء ناقص فى طقم أدوات المائدة، قد يؤدى بضيوفه إلى أن ينشروا إشاعات عنه هناك فى الشارع تحت عمود نور. لقد أصابته الخبرة بالفزع من أن يكون موضوعا للسخرية. واعترف للمونسنيور بأنه فى الحقيقة لم يكسب شيئا على الإطلاق طوال حياته. على العكس، خسر، ذلك أنه تم دفعه إلى سفك الدماء… وكان يوشك أن يروى للمونسنيور عن سفك الدماء. فى الليلة السابقة كان قد ذهب إلى الفراش مبكرا وحلم… مَنْ يظنّ المونسنيور أنه حلم به؟.
        ”لا يمكننى أن أتخيل …؟“
        ”حلمتُ بأن الشيطان كان يقرأ الإنجيل علىّ. وعندما اقترب من الموضع الذى يتكلم فيه المسيح عن زنابق الحقل، قطف الشيطان بعضها وقدّمها إلىّ. "خُذها"، قال، "إنها زنابق الكتاب المقدس. وكما تعلم فإن سليمان بكل مجده لم يكن فى مثل تنسيق واحدة منها. سليمان هو الحكمة. أتدرى ماذا تكون هذه الزنابق، يا چوزيه ماريا؟ إنها أعوامك العشرون". أخذتُ أحدّق فيها، مفتونا– كانت أجمل مما كان بوسع المرء أن يتخيلها فى يوم من الأيام. قبض الشيطان على الزنابق، وتشممها، وطلب منى أن أتشممها أيضا. لن تصدّق ما حدث بعد ذلك: بمجرد أن رفعتها إلى أنفى، رأيت أحد الزواحف، وكان كريه الرائحة مثيرا للاشمئزاز، يلوح من داخلها– صرختُ وألقيتُ بالزنابق بعيدا عنى. عندئذ قال الشيطان، منفجرا فى ضحكة هائلة: "چوزيه ماريا، إنها أعوامك العشرون". كانت ضحكة من الأعماق مثل هذه: ها، ها، ها، ها، ها …“
        ضحك چوزيه ماريا بلا تحفظ، بطريقة حادة شيطانية. وفجأة، توقف. نهض واقفا وقال إنه ما إن فتح عينيه حتى رأى زوجته واقفة أمامه، معذبة وغير مهندمة. كانت عيون كليمنسيا حلوة، لكنه قال لها إن العيون اللطيفة يمكنها أيضا أن تلحق الأذى. وألقتْ بنفسها عند قدميه … وعند هذه النقطة كانت سحنة چوزيه ماريا بالغة الاهتياج حتى أن القسيس، الذى هبّ واقفا بدوره، بدأ يتراجع إلى الخلف مبتعـدا عنه، ممتقعا ومرتجفا. ”لا، أيها الوغد! لا! لن تفلت منى!“ جأر چوزيه ماريا وهو يتقدم نحوه. كانت عيناه تجحظان بارزتين من محجريْهما، وكان صدغاه يرتجفان، وكان القسيس يتقهقر … ويتقهقر … وسُمعتْ جرجرة سيوف وأقدام صاعدة على السلالم .
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
دونا پاولا
 
 
 
        ما كان بوسعها أن تصل فى وقت أنسب. دخلت دونا پاولا حجرة الجلوس فى نفس اللحظة التى كانت تجفف فيها ابنة أختها عينيها المتورمتين من الدمـوع. اندهشت، كما اندهشت ابنة أختها ڤينانسينيا، التى كانت تعرف أن خالتها نادرا ما كانت تنزل من حىّ تيچوكا، حيث كانت تعيش. كان ذلك فى مايو 1882، وكانت ڤينانسينيا لم تر خالتها منذ الكريسماس. كانت دونا پاولا قد نزلت فى اليوم السابق لتقضى الليل مع أختها فى شارع لاڤراديو. واليوم، كانت قد ارتدت ملابسها وأسرعت لتزور ابنة أختها بعد الغداء مباشرة. أرادت جارية رأتها أن تعلن وصولها، غير أن دونا پاولا طلبت منها ألا تفعل– ولكى تتجنبب حفيف جونلتها، سارت على أطراف أصابع قدميها ببطء بالغ إلى باب حجرة الجلوس، وفتحته، ودخلت.
 
”لماذا كل هذا؟“ صرخت متسائلة.
 
ألقت ڤينانسينيا بنفسها بين ذراعىْ دونا پاولا، وانفجرت باكية. باستها خالتها، وضمتها إلى صدرها، وهدّأتها، وأصرت على أن تقول لها ما الأمر. هل هى مريضة، أمْ…    
 
”أتمنى من الله أن أكون مريضة! ويكون الموت أفضل!“ قاطعت السيدة الشابة.
 
        ”لا تقولى هذا الكلام الفارغ! ماذا جرى؟ هوّنى عليك، قولى لى“.
 
        جففت ڤينانسينيا عينيها وحاولت أن تتكلم. وبعد خمس أو ست كلمات، تدفقت الدموع من جديد، بغزارة وقوة جعلتا دونا پاولا تفكر فى أن من الأفضل أن تنتظر حتى تهدأ الدموع. وفى نفس الوقت، خلعت عباءتها الصغيرة السوداء وقفازيها. كانت امرأة أنيقة مدهشة ذات عينين واسعتين جذابتين من المؤكد أنهما كانت لا تقاومان عندما كانت أصغر سنا. وفيما كانت ابنة أختها تبكى، اتجهت هى بهدوء لتغلق باب حجرة الجلوس، ثم عادت إلى الأريكة. وبعد دقائق قليلة، توقفت ڤينانسينيا عن البكاء وأخبرت خالتها بما حدث.
 
        ولم يكن ما حدث أقلّ من مشاجرة مع زوجها، وكانت من العنف إلى حد أنهما تحدثا حتى عن الانفصال. وكانت الغيرة هى السبب. فمنذ فترة كان زوجها تساوره الشكوك بشأن رجل بعينه، غير أنه فى المساء السابق، بعد أن رأى زوجته ترقص مع ذلك الرجل مرتين وتتحدث معه لعدة دقائق، استنتج أنهما مرتبطـان بعلاقة حب. وعندما عادا إلى بيتهما كان متجهما. وفى الصباح التالى بعد الإفطار، انفجر وقال أشياء عنيفة وقاسية، ردّت عليها هى بالمثل.
 
        ”أين زوجك الآن؟“ استفسرت خالتها.
 
        ”لقد انصرف. أعتقد أنه ذهب إلى المكتب“.
 
        سألتها دونا پاولا عما إذا كان مكتبه ما يزال فى نفس المبنى وطلبت منها ألا تقلق؛ فليست هناك مشكلة خطيرة. وفى غضون ساعتين ستتم تسوية كل شيء. ولبست قفازيها بسرعة.
 
        ”هل أنت ذاهبة إلى هناك، يا خالتى؟“
 
        ”ذاهبة إلى هناك؟ بالطبع ذاهبة، زوجك رجل طيب– كانت فقط مشاجرة عاشق. رقم 104؟ أنا فى طريقى، ولا تدعى الجوارى يَرَيْنَكِ بهذا المظهر!“
 
        تكلمت دونا پاولا بطلاقة لسان، وبثقة بالنفس، وبلطف. لبست قفازيها، وأقسمت ڤينانسينيا، وهى تساعد خالتها فى ارتداء العباءة الصغيرة، على أنها تحب كونراد حب عبادة رغم مشاجرتهما. وكان كونراد، زوجها، يمارس المحاماة منذ 1874. وعندما غـادرت دونا پاولا، أمطرتها ابنة أختها بوابل من قبلات العرفان. والحقيقة أنه ما كان بوسعها أن تصل فى وقت أنسب. وفى طريقها لزيارة كونراد، فكرت دونا پاولا فى الحادث مليا بفضول، إن لم يكن بارتياب، قلقة قليلا بشأن ماذا يمكن أن تكون الحقيقة الكاملة للمسألة. وعلى كل حال، كانت قد عقدت عزمها على استعادة السلام العائلى.
 
        عندما وصلت إلى مكتب زوج ابنة أختها، لم يكن هناك، لكنه وصل بعد ذلك بقليل. وبعد دهشته الأولى عند رؤيتها هناك، خمّن موضوع زيارتها. وقد اعترف بأنه بالغ فى رد فعله مع زوجته وقال إنه لم يكن يتهمها بالخروج على الأخلاق أو بانحراف النوايا. غير أنها كانت تتصرف بنزق: كانت ودودة أكثر مما ينبغى مع الرجال الآخرين وكانت مغرمة بالنظرات العابثة والكلمات المعسولة فى حضورهم. ولاشك فى أن عدم الاحتراس من البوابات المؤدية إلى سوء السلوك. وعلاوة على هذا، لم يكن لديه أدنى شك فى أن زوجته والرجل موضوع الحديث كانت تربط بينهما علاقة حب. وكانت ڤينانسينيا لم تحدثها إلا عن المساء السابق– فلم تذكر أربع أو خمس وقائع أخرى، جرت إحداها فى المسرح وتطورت إلى فضيحة شائنة. ولم يكن ليقبل المسئولية عن السلوك المستهتر الطائش لزوجته. وإذا كانت تريد أن تطوف هنا وهناك لتقع فى الحب، فسوف يكون عليها أن تدفع ثمن ذلك.
 
        استمعت إليه دونا پاولا حتى انتهى من كلامه. ثم جاء دورها لتتكلم. وافقت على أن ابنة أختها هوائية غير أنها أرجعت هذا إلى شبابها. فالفتاة الجميلة لا تملك إلا أن تجذب الاهتمام، وكان من الطبيعى لڤينانسينيا أن تتملقها النظرات المعجبة لرجال آخرين. كما أن من المفهوم أن يفسر الرجال الآخرون وكذلك زوجها استجابتها لمثل هذا التملق على أنه علامة على الحب– وكان هيامهم وغيرته سبب المشاجرة. أما هى، من جانبها، فقد رأت ابنة أختها تبكى بحرقة منذ قليل. وعندما غادرت، كانت ڤينانسينيا تنفطر حزنا وكانت محطمة القلب بل حتى تحدثت عن رغبتها فى أن تموت بسبب ما قاله لها. فإذا كان يعزو تصرفاتها حقا إلى الحماقة فقط، فلماذا لا يستمر بحصافة وتفهُّم؟ إنه ينبغى أن يستخدم النصح والتعقل– ويمكنه أن يساعدها على تجنب مواقف مماثلة فى المستقبل وأن يوضح لها حتى كيف أن مظهر الصداقة والود إزاء الرجال الآخرين يمكن أن يساء تفسيره وأن يسيء إلى سمعتها.
 
        تحدثت السيدة الطيبة ما لا يقل عن عشرين دقيقة، وعبرت عن نفسها بفصاحة ودبلوماسية جعلتا زوج ابنة أختها يحسّ بأن قلبه يلين. وقد قاوم، بالطبع– ولكى يتجنب أن يبدو متساهلا أكثر مما ينبغى، أعلن، مرتين أو ثلاث مرات، أن كل شيء بينهما قد انتهى. ولتبرير نفسه، استدعى ذهنيا حججه ضد الصلح. غير أن دونا پاولا ظلت تنظر إلى الأرض إلى أن مرت موجة سخطه وعندئذ نظرت إليه بعينين واسعتين، حصيفتين، متوسلتين.
 
        أدركت دونا پاولا أن كـونراد لن يستسلم بسهولة فاقترحت حـلا وسطا: ”اصفحْ عنها، وتصـالحا، وعنـدئذ سـآخذها إلى تيچـوكا لتقضـى شهرا أو شهرين معى. سيكون نوعا من النفى المؤقت بالنسبة لها. وفى الوقت نفسه، سأتكفل أنا بتقويمها. موافق؟“
 
        قبل كونراد. وبمجرد أن حصلت دونا پاولا على كلمته، استعدت للمغادرة لتنقل إلى ابنة أختها الخبر المشجّع. ورافقها كونراد إلى السلم، حيث تصافحا. ولم تترك دونا پاولا يده إلا بعد أن كررت توصيتها بأن يمضى فى حياته بحنان وحصافة. ثم، وكأن فكرة عنت لها بعد تفكير، أضافت: ”وسوف ترى أن الرجل موضوع الحديث لا يستحق حتى دقيقة واحدة من الوقت الذى قضيناه مشغولين به“.
 
        ”اسمه ڤاسكو ماريا پورتيلا“.
 
        شحب وجه دونا پاولا. أىّ ڤاسكو ماريا پورتيلا؟ ذلك السيد المسن، الدبلوماسى السابق الذى…  لا، كان قد أحيل إلى المعاش، وكان فى أوروبا لعدة سنوات، وحصل مؤخرا على لقب بارون. إنه ابنه، وغْد تافه كان قد عاد إلى ريو من أوروبا قبل ذلك بوقت قصير. واعتصرت دونا پاولا يد كونراد وأسرعت نازلة السلم. ومرتبكة ومستثارة، قضت دقائق عديدة عند بسطة السلم تراجع حركات ضبط عباءتها الصغيرة. وكانت تحملق فى الأرضية وهى تمعن التفكير فى الموقف. ثم انصرفت لتلتقى بابنة أختها، حاملة معها اقتراحها الخاص بالصلح مع كونراد وبشروط تحقيقه. وقبلت ڤيناسينيا كل شيء.
 
        بعد هذا بيومين، ذهبا إلى بيت دونا پاولا فى حىّ تيچوكا. وإذا كان قد بدا أن ڤيناسينيا قد فقدت شيئا من حماسها الأول للرحلة، فمن المحتمل أن يكون هذا الفقدان راجعا إلى فكرة النفى أو إلى الحنين إلى ما كانت قد تركته وراءها. وعلى كل حال، صعد اسم ڤاسكو إلى حىّ تيچوكا. وإذا لم يكن فى كلا الرأسين فقد كان على الأقل فى رأس دونا پاولا، حيث كان نوعا من الصدى، صوتا بعيدا أو سارّا، شيئا بدا أنه يُسْمَع من زمن مغنى الأوبرا شتولتس ومركيز پارانا. وكانت تلك الأصداء البعيدة هشة هشاشة الشباب ذاته، وأين كان أولئك الخالدون الثلاثة الآن؟ كانوا مبعثرين وسط الخرائب البعيدة للسنوات الثلاثين الماضية. والحقيقة أن دونا پاولا، التى لم يكن لديها أىّ شيء آخر تتطلع إليه، عاشت بذكريات الماضى تلك.
 
        على أن ڤاسكو الكبير كان أيضا شابا ذات يوم وأحبّ. ودون أن يدرى شريكاهما فى الزواج كانا، هو ودونا پاولا، يترعان كأسيهما ولأعوام عديدة كان كل منهما يروى ظمأ الآخر. وحيث أن الرياح العابرة تعجز عن تسجيل كلام البشر فلا سبيل إلى الكشف هنا عما قيل فى ذلك الحين عن مغامرتهما التى انتهت فى نهاية المطاف. كانت سلسلة من الساعات الحلوة والمرة التى امتزجت بالمتع والدموع، بالابتهاج والغضب، وبمختلف المسكرات الأخرى التى استخدمتها السيدة عندما ملأت كأس حبها حتى طفحت. وقد أفرغت الكأس إلى أن جفت ولم تلمسها مرة أخرى قط. فالتخمة أعقبها الزهد، والرأى العام قام بتكوينه هذا الطور الأخير. ومات زوجها وتتابعت السنوات. ودونا پاولا الآن سيدة زاهدة وورعة، مهيبة ويحترمها الجميع.
 
        عادت ابنة أختها بتفكير دونا پاولا إلى الماضى. فقد أيقظ الموقفان المتماثلان، اللذان اختلطا بنفس الاسم ونفس الدم، بعض الذكريات القديمة. وكانتا ستعيشان معا فى تيچوكا لمدة أسابيع قليلة، وكان على ڤينانسينيا أن تتبع توجيهات خالتها. وكان على دونا پاولا أن تحاول أن تتحدى ذاكرتها- فإلى أىّ مدى كان بوسعها أن تعيش من جديد تلك الأحاسيس من الماضى؟
 
        ”ألن نذهب مطلقا إلى المدينة؟ ولا حتى لزيارة قصيرة؟“– سألت ڤينانسينيا، ضاحكة، فى الصباح التالى.
 
        ”هل أصابك الملل هكذا بسرعة؟“
 
        ”لن يصيبنى الملل هنا أبدا، إنما كنت أسأل ما إذا… “
 
        هزت دونا پاولا، ضاحكة أيضا، إصبعها بالنفى. ثم سألت ابنة أختها ما إذا كانت قد أوحشتها المدينة. نفت ڤينانسينيا هذا وأعطت مزيدا من الوزن لردّها بالسماح لزاويتى فمها بأن تتدليا، لكى تعكسا ازدراءها أو عدم اكتراثها. لقد بدا وكأنها كتبت خطابا قالت فيه أكثر مما قصدت أن تقول. وتفاديا للاستهتار الطائش لشخص يندفع لينقذ أباه من حبل المشنقة، كانت لدى دونا پاولا العادة الطيبة المتمثلة فى القراءة ببطء. وقد ركزت اهتمامها على ما بين الحـروف و ما بين السطور، وفهمت كل شيء، ووجدت ردّ ابنة أختها مبالغا فيه.
 
        ”بينهما علاقة حب“، هكذا فكرت.
 
        وأيقظ هذا الاكتشاف ذكريات ماضيها النائمة، غير أن هذه الذكريات عادت وكأنها مجموعة من بنات الكورس: بعضهن ببطء وبصورة موحية وبعضهن الآخر بحركات سريعة ومفعمة بالحيوية– غنّيْن، وضحكن، وقلبن الدنيا. عادت ذاكرة دونا پاولا إلى حفلات رقص الأيام الخوالى. فتذكرت الڤالسات الأبدية التى جعلت الجميع يحملقون فيها بدهشة وتباهت على ابنة أختها برقصات المازوركا، الرقصة الأكثر رشاقة فى العالم، والمسرح، وألعاب الورق،  وبصورة غير مباشرة: القبلات. غير أن كل شيء– وكان هذا هو الشيء الغريب فى الذكريات– كل شيء كان موصوفا بالحبر البارد والباهت لسجلّ قديم، هيكل عظمى فارغ للتاريخ كان يفتقر إلى روح حىّ. كل شيء حدث فى رأسها. وحاولت دونا پاولا أن تخلق تزامُنا بين قلبها ورأسها لترى ما إذا كان بوسعها أن تشعر بشيء يتجاوز مجرّد النسخ الذهنى لماضيها، غير أنه رغم كل المحاولات لاستدعاء المشاعر القديمة، لم تعد أية مشاعر منها. لقد ابتلعها الزمن.
 
        ولو كان بمستطاعها أن تنفذ إلى قلب ابنة أختها فربما استطاعت أن ترى صورتها هى منعكسة هناك، وعندئذ … وبعد أن سيطرت هذه الفكرة على دونا پاولا، صار من الأصعب عليها أن تركز على إصلاح حال ابنة أختها، مع أنها كانت مشغولة بإخلاص بسعادتها وكانت ترغب فى أن ترى جمع شملها مع كونراد. والحقيقة أن الخطاة المعتادين على الخطيئة قد يرغبون بإخلاص، لكى يضمنوا لأنفسهم الصحبة فى المطهر، فى أن يروا الآخرين يقترفون الخطايا أيضا، غير أن اقتراف الخطايا لم يكن هو المسألة هنا. وشددت دونا پاولا على فضائل كونراد وسُمُوِّه وقالت لابنة أختها أيضا إن الأهواء المنفلتة يمكن أن تحطم زواجها كما يمكن، وهذا هو الأكثر مأسوية، أن يؤدى إلى أن ينبذها زوجها.
 
        وعزز كونراد صحة تحذيرات دونا پاولا عندما قام بزيارته الأولى بعد ذلك بتسعة أيام: كان باردا عندما دخل وعندما غادر. وفزعت ڤينانسينيا. كانت تأمل فى أن يؤدى انفصالهما تسعة أيام إلى إلانة زوجها، وقد ألانه فى الواقع. غير أنه، لكى يتفادى مظهر الاستسلام السهل، أخفى مشاعره الحقيقية وكبح جماح عواطفه. وكان لهذا تأثير أكبر من أىّ شيء آخر. وكان خوف ڤينانسينيا المفزع من أن تفقد زوجها هو العامل الرئيسى فى إصلاح حالها. ولم يكن بوسع المنفى وحده أن يحقق كل ذلك.
 
        وبعد زيارة كونراد بيومين فقط، وفيما كانت كـلتا السيدتين تقتربان من بوابة الڤيلا ليشرعا فى مشيهما اليومى، رأتا رجلا على ظهر حصان آتيا فى اتجاههما. ركـزت ڤينانسينيا عينيها عليه، وأطلقت صرخة قصيرة، وجرت لتختبئ وراء السور. فهمت دونا پاولا وانتظرت. كانت ترغب فى أن ترى الرجل عن قرب. وبعد دقيقتين أو ثلاث دقائق كان قد اقترب. وكان يجلس على سرجه منتصب القامة، وكان شابا وسيما، بادى الكبرياء، أنيقا يلبس حذاءين لامعين فاخرين. كان يبدو شبيها تماما بڤاسكو الآخر– نفس العينين الواسعتين الغائرتين، نفس إمالة الرأس، نفس الكتفين العريضين.
 
        بعد أن انتزعت دونا پاولا من ابنة أختها الكلمة الأولى، روت عليها ڤينانسينيا كل شيء فى تلك الليلة نفسها. كانا قد رأيا بعضهما البعض فى البداية فى سباقات الخيل، بعد عودته من أوروبا مباشرة. وبعد ذلك بأسبوعين، تم تقديمها إليه فى حفلة رقص. وقد بدا لافتا للنظر وپاريسيا إلى حد أنها تحدثت مع زوجها عنه فى الصباح التالى. تجهّم وجه كونراد باستياء، وألهمها ردّ فعله هذا فكرة لم تخطر لها من قبل على بال. وبدأت تراه بابتهاج، ثم بدأت تشتاق إلى رؤيته. تكلم معها باحترام وقال لها أشياء لطيفة: إنها الشابة الأكثر جمالا وأناقة فى ريو، إنه سمع مؤخرا فى پاريس بعض السيدات من عائلة ألفارينجا يُثنون على مزاياها العظيمة. وكان ظريفا عندما كان ينتقد أشخاصا آخـرين وكان يعبر عن نفسه بحساسية أكثر من أىّ شخص التقت به فى يوم من الأيام. لم يتحدث عن الحب، غير أنه كان يطاردها بعينيه– ومهما حاولت بكل قوة أن تشيح بوجهها عنه لم يكن بوسعها إلا أن تراه. وبدأت تفكر فيه، كثيرا وباهتمام، وخفق قلبها كلما قابلته. ومن المحتمل أنه كان من السهل عليه أن يستبين فى وجهها الانطباع الذى أحدثه.
 
        ومنحنية إلى الأمام، أصغت دونا پاولا إلى قصة ڤينانسينيا وكل ماضيها مركز فى عينيها. وفاغرة الفم، بدت متلهفة على أن تشرب كلمات ابنة أختها، وكأنها مشروب منعش. وطلبت المزيد، طالبة من ڤينانسينيا ألا تُغفل أىّ شيء مهما كان. وبدت دونا پاولا شابة للغاية وكان رجاؤها رقيقا ومليئا بالصفح المحتمل إلى حد أنها بدت أشبه بمؤتمنة على الأسرار وصديقة، رغم عدة كلمات خشنة تناثرت بين الملاحظات اللطيفة من خلال نوع من النفاق اللاشعورى. غير أن هذا لم يكن مقصودا: بل لقد خدعت دونا پاولا نفسها. فكانت أشبه بجنرال متقاعد يجاهد لاستعادة شيء من الحماس القديم عن طريق الاستماع إلى قصص حملات جنرال آخر.
 
        ”يمكنكِ أن تَرَىْ أن زوجـك كان محقا“، قالت دونا پاولا. ”كنتِ حمقاء، حمقاء للغاية“.
 
        وافقت ڤينانسينيا على رأى خالتها وأقسمت أن الأمر قد انتهى تماما.
 
        ”أخشى أن الأمر لم ينته. وهل وصلتِ حقا إلى حد أن تحبيه؟“
 
        ”خالتى الصغيرة …“
 
        ”أنتِ لا تزالين تحبينه!“
 
        ”أقسم أننى لم أعد أحبه، لكننى … نعم، أنا أعترف بأننى أحببته. اصفحى عنى، وأرجوك لا تقولى شيئا لكونراد. وكم أود لو أن شيئا من هذا لم يحدث. نعم، أقرّ بأننى كنت أعانى من لواعج الغرام فى البداية … لكن ماذا كنت تتوقعين؟“
 
        ”هل باح لكِ بمشاعره؟“
 
        ”نعم ، فعل. حدث هذا فى المسرح الغنائى ذات مساء، وكنا نوشك على مغادرته. كان يأتى عادة إلى مقصورتى بالمسرح ليرافقنى إلى العربة، وعند خروجنا نطق … بثلاث كلمات“.
 
        ومراعاة للموقف، لم تسأل دونا پاولا عن كلمات الرجل، غير أنها تخيلت الظروف: الشرفات العليا للمسرح، الأزواج والزوجات وهم يغادرون، الأضواء، الجمهور، وقْع الأصوات، وسمح لها المشهد الذى تصورته بأن تقوم بجمع ولصق بعض الأحاسيس التى استشعرتها ابنة أختها. وبقدر كبير من الاهتمام والدبلوماسية، طلبت منها أن تصف مشاعرها بتفصيل أكبر.
        ”لا أعرف بالضبط بم شعرتُ“، أجابت ڤينانسينيا، وانحلت عقدة لسانها بالتدريج مع ازدياد انفعالها. ”لا أتذكر الخمس دقائق الأولى. أعتقد أننى احتفظت بوقارى– وعلى كل حال، لم أجب عليه. شعرتُ بأن الجميع يحملقون فينا، وبأنهم ربما سمعوا كلامه بالصدفة، وعندما كان يحيينى الناس بابتسامة كان يبدو لى وكأنهم يسخرون منى. وبطريقة ما نجحت فى النزول على السلالم ودون أن أعرف حقا ماذا كنتُ أفعل، دخلتُ العربة. وسمحت لأصابعى بأن تتراخى عندما تصافحنا لنفترق. وأستطيع أن أؤكد لكِ أننى أتمنى لو أننى لم أسمع أىّ شيء قاله. وعندما أصبحنا داخل العربة، قال لى كونراد إنه مُتعَب وارتمـى مستندا إلى الجـانب البعيـد من المقعد. وكـان هذا أفضـل، لأننى لا أعرف ماذا كان بوسعى أن أقول إذا تحادثنا فى طريق عودتنا إلى البيت. وارتميت بدورى مستندة إلى المقعد، لكن ليس طويلا– لم أكن قادرة على أن أجلس ساكنة. نظرتُ من خلال النوافذ الزجاجية، ومن وقت لآخر لم يكن بوسعى أن أرى سوى وهج مصابيح الشارع، ثم لم يعد بوسعى حتى أن أرى ذلك. وبدلا من ذلك رأيت الشرفات العليا للمسرح، والسلالم، وجماعات الناس، ورأيته بجوارى يهمس فى أذنى بتلك الكلمات، ثلاث كلمات لا غير، وأنا الآن عاجزة عن أن أعرف فيم فكرتُ فى تلك اللحظة– كانت أفكارى مهوّشة مشوّشة، وأحسستُ باضطراب شديد بداخلى“.
 
        ”لكنْ بعد أن عُدْتِ إلى البيت؟“
 
        ”فى البيت، بعد أن أرتديتُ ملابس البيت استطعتُ أخيرا أن أتأمل قليلا، لكن قليلا جدا. ونمتُ نوما قلقا ومتأخرا. وفى الصباح التالى كنتُ مشوّشة الفكر. لا أدرى ما إذا كنت سعيدة أم حزينة. وأتذكر أننى فكرت فيه كثيرا، وفى سبيل إخراجه من عقلى، عاهدتُ نفسى على أن أبوح بكل شيء لكونراد، غير أن الأفكار عادت من جديد. ومن وقت لآخر كان بدنى يقشعرّ، إذ أتخيل أننى سمعت صوته. ثم تذكرتُ أننى عندما أعطيته يدى كانت أصابعى تتراخى، وأحسستُ– ولا أدرى كيف أعبر عن هذا بالضبط– بنوع من الندم، بخوف من أن أكون أسأتُ إليه. ثم رغبت فى أن أراه ثانية … سامحينى، يا خالتى الصغيرة، لكنكِ طلبتِ منى أن أروى كل شيء“.
 
        كانت إجابة دونا پاولا ضغطة محكمة لليد وإيماءة تفهُّم. فقد وجدتْ على الأقل، من خلال هذه الأحاسيس المسرودة ببراعة، شيئا من ماضيها هى. وفى بعض الأحيان، وفى شرود حالم من استعادة ذكريات الماضى، كانت جفونها نصف مغمضة؛ وفى أحيان أخرى كانت عيناها تلمعان بالدفء والفضول. سمعتْ كل شيء: يوما يوما ولقاءً لقاءً، بما فى ذلك تفاصيل المشهد الذى وقع فى المسرح، والذى كانت ابنة أختها قد أخفته عنها فى البداية. وأعقب الباقى ذلك: ساعات القلق، والاشتياق، والخوف، والأمل، والإحباط، والرياء، وكل الانفعالات التى تشعر بها فى أعماقها شابة فى هذا الموقف. ولإشباع فضولها الذى لا يشبع، أصرّت دونا پاولا على أن تعرف كل تفاصيل قصة ابنة أختها، التى لم تكن كتابا ولا حتى فصلا فى الزنا، بل مقدمة مثيرة وعنيفة.
 
        أنهت ڤينانسينيا حديثها. أما خالتها، التى كانت فى حالة من النشوة، فلم تقل شيئا. ثم أتت، وأمسكت بيد ابنة أختها، وأدنتها منها. لم تتكلم فى الحال. وفى البداية حملقت باهتمام شديد فى عينىْ ابنة أختها الغائرتين، وفمها النضر، وشبابها النابض الذى لا يهدأ. ولم يتم انتزاعها تماما من شرودها إلى أن توسلت إليها ڤينانسينيا مرة أخرى طالبة الصفح. وقالت دونا پاولا كل شيء بحنان الأم وصرامتها. وتكلمت ببالغ الفصاحة عن العفة، والرأى العام، وحب الزوجة لزوجها، إلى حد أن ڤينانسينيا بكت، عاجزة عن أن تسيطر على نفسها.
 
        وتم تقديم الشاى، غير أنه كان حقا وقتا غير ملائم للشاى. إذ أن ڤينانسينيا أوت إلى فراشها فى الحال– ولأن الضوء كان ما يزال قويا، غادرت الحجرة خافضة عينيها حتى لا تراها الخادمة فى تلك الحالة من الانفعال. وظلت دونا پاولا جالسة إلى المنضدة، فى حضور الخادمة. وقضت حوالى عشرين دقيقة فى شرب شـايها وفى قرقشة قطعة بسكويت. وبمجرد أن صارت وحدها، ذهبت لتتكئ على النافذة التى كانت تطل على الخلف من ظهر الڤيلا.
 
        هبت الريح رقيقة، وكان حفيف أوراق الشجر بصوت هامس. ورغم أنها لم تكـن أوراق شجـر شبابها فإنـها مع ذلك وجهت إليها هذا السـؤال: ”پاولا، هل تتذكرين أوراق شجر الأيام الخوالى؟“ ذلك أن هذا هو الشيء الغريب عند أوراق الشجر: الأجيال التى تمرّ تروى للقادمين الجدد ما رأته، وهذا هو السبب فى أن كل أوراق الشجر تعرف كل شيء وتسأل عن كل شيء. ”هل تتذكرين أوراق شجر الأيام الخوالى؟“
 
        كانت تتذكر بالفعل، بطبيعة الحال، غير أن ذلك الإحساس الذى شعرت به قبل ذلك بقليل، والذى كان بالكاد رجْع صدًى، كان قد انتهى. وعبثا ردّدت كلمات ابنة أختها فيما كانت تتنفس هواء المساء اللاذع، غير أنها، بدلا من استعادة أحاسيس من الماضى، استطاعت فقط أن تستدعى الذكريات الميتة المبعثرة فى رأسها. وأبطأ خفقان قلبها، وجرى دمها بسرعته المعتادة من جديد. وعندما كانت ابنة أختها غائبة، لم تشعر بشيء. ومع ذلك، مكثت هناك، تحملق إلى الخارج فى الليل، الذى لم يكن يجمعه شيء بليالى شتولتس ومركيز پارانا. غير أنها حملقت إلى الخارج على كل حال، وفى المطبخ كانت الجوارى يقاومن نعاسهن برواية القصص. ومن وقت لآخر كنَّ يُعلقنَ بنفاد صبر: ”يبدو أن السيدة العجوز لن تأوى مطلقا إلى الفراش الليلة!“
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
المُمَرِّض
 
       
أنت تعتقد إذن أن ما حدث لى فى سنة 1860 يمكن وضعه فى كتاب؟ عظيم جدا، ولكنْ بشرط وحيد هو أن لا تنشر شيئا إلا بعد موتى. ولن يكون عليك أن تنتظر طويلا– أسبوع على الأكثر. فأنا رجل مقضى علىّ بالهلاك.
 
        انظر، يمكننى حتى أن أروى لك قصة حياتى بالكامل– وفيها نقاط أخرى مهمة– غير أن هذا يحتاج إلى وقت، وروح معنوية، وورق. وهناك كثير من الورق، ولكن روحى المعنوية منخفضة، ووقتى يمكن تشبيهه بحياة لهب مصباح ليلى. وشمس الغد فى طريقها– شمس قاسية، محيرة كالحياة. الوداع إذن، يا صديقى العزيز، اقرأ هذا وتمنَّ لى الخير. اغفر لى أىّ شيء قد يبدو لك شرّا، ولا تندهش إذا انبعثت مما سأقوله رائحة مختلفة تماما عن رائحة وردة. لقد طلبتَ منى وثيقة بشرية، وإليك ما طلبت. لا تطلب منى إمبراطورية المغل الأكبر أو صورا فوتوغرافية للمكابيِّين، أما إذا طلبتَ أحذية الرجل الميت الذى سأكونه، فسأكتب بها وصية لك وحدك.
 
        وأنت تعرف الآن أن هذا حدث فى سنة 1860. ففى أغسطس تقريبا من السنة السابقة لها، عندما كنتُ فى الثانية والأربعين من عمرى، صرتُ لاهوتيا، أعنى أننى كنت أنسخ نبذا لاهوتية لقسيس من نيتيروى، وكان زميل دراسة سابق أمدنى بهذه الطريقة اللبقة بالمسكن والطعام. وفى ذلك الشهر نفسه، أغسطس 1859، تلقى خطابا من خورى أبرشية فى قرية فى المناطق الداخلية من البلاد يسأله عما إذا كان يعرف شخصا ما ذكيا، وحصيفا، وصبورا، ويكون مستعدا للذهاب إلى هناك لرعاية شخص اسمه الكولونيل فيليسبيرتو مقابل مرتب جيد. وعندما حدثنى القسيس عن الوظيفة، سارعتُ بانتهاز الفرصة، لأننى كنت قد تعبتُ من نسخ الاستشهادات اللاتينية والصيغ الكنسية. وفى طريقى إلى عملى الجديد، توقفتُ فى ريودى چانيرو لتوديع أخى.
 
        وعندما وصلت إلى القرية، سمعتُ أكثر عن الكولونيل. كان شخصا لا يطاق، وغريبا، وملحاحا، وحتى أصدقاؤه وجدوا أن من الصعب تماما التسامح مع سلوكه طويلا. وكان يستهلك ممرّضين أكثر من الأدوية. وقد حطم وجهىْ اثنين منهم. وأجبتُ بأننى لا أخاف من الأصحاء، وناهيك برجل مريض. وبعد الحديث مع خورى الأبرشية، الذى أكد ما قيل لى وأوصانى باللطف وحب الخير، تابعتُ طريقى إلى محل إقامة الكولونيل.
 
        وجدته متمددا على كرسى فى الڤراندة، يتنفس تنفسا ثقيلا. ولم يستقبلنى استقبالا سيئا. فى البداية لم يقل شيئا. ثم، عندما ثبّت علىّ عينيه اليقظتين كعينىْ قط، أضاءت ابتسامة حقودة من نوع ما ملامحه القاسية. وأخيرا، قال إن كل ممرّضيه كانوا أشخاصا وقحين لا خير فيهم، ينامون أثناء العمل أو يتشممون الخادمات فى كل مكان. بل كان اثنان منهم لصّيْن!
 
                       ”هل أنت لصّ؟“
 
                       ”لا، يا سيدى“.
 
        ثم سألنى عن اسمى. أخبرته فبدا مذهولا. ”كولومبو؟“ ”لا، يا سيدى– پروكوپيو چوزيه جوميس ڤالونجو“. ورأى أن ڤالونجو اسم غريب واقترح أن يدعونى پروكوپيو فقط. فأجبتُ بأن أىّ اسم يناسبه سيكون جميلا بالنسبة لى. وأنا أذكر هذا الحادث ليس فقط لأننى أعتقد أنه يعطى صورة واضحة عنه بل أيضا لأن إجابتى تركت انطباعا ممتازا لديه. وفى اليوم التالى قال هذا بنفسه لخورى الأبرشية، وأضاف أنه لم يكن لديه مطلقا ممرض ألطف منى فى يوم من الأيام. والحقيقة أننا تمتعنا بشهر عسل متواصل استغرق أسبوعا واحدا.
 
        وفى اليوم الثامن بدأتُ حياة من سبقونى فى هذه الوظيفة– حياة شقاء وبؤس. لم أعد أنام. ولم يكن من المفترض أن أفكر فى أىّ شيء إلا احتياجاته. وكان علىّ أن أبتلع الإهانات وأضحك منها من وقت لآخر بمظهر رضوخ وانقياد، لأننى كنت علمت أن هذه كانت طريقة لإرضائه. ومن المحتمل أن وقاحته كانت ناشئة عن أمراضه بقدر ما كنت ناشئة عن طبعه، إذ أنه كان يعانى من جملة من الشكاوى المتكررة من الأمراض– اتساع الأوعية الدموية والروماتيزم بالإضافة إلى ثلاث أو أربع مضاعفات ثانوية. كان يناهز الستين وكان قد اعتاد على أن يفعل ما يريد منذ أن كان فى الخامسة من عمره. ولو أنه كان مشاكسا فقط فربما كنت نجحت فى مسايرته، ولكنه كان خبيثا أيضا وكان يلذ له إيلام وإذلال الآخرين. وفى نهاية ثلاثة أشهر، تعبتُ منه وقررتُ الرحيل. وكان كل ما أحتاج إليه مبرر ما.
 
        لم يكن علىّ أن أنتظر طويلا. فذات يوم عندما فاتنى أن أقوم بتدليكه فى الموعد المحدد، استطاع الوصول إلى عكازه وسدد إلىّ ضربتين أو ثلاث ضربات. كانت تلك هى القشة الأخيرة. استقلتُ على الفور وذهبتُ لتوضيب صندوق ملابسى. جاء إلى غرفتى وطلب منى أن أبقى، قائلا لى إننى ينبغى أن أصفح عن فظاظة رجل مُسنّ. وظل يترجانى إلى أن استسلمتُ فى النهاية.
 
        وقال ذات ليلة: ”أنا فى مأزق شديد. لا أستطيع أن أعيش وقتا أطول. ها أنا ذا، بقدم فى القبر. وعليك أن تذهب إلى جنازتى، يا پروكوپيو. لن أتخلى عنك تحت أية ظروف. عليك أن تذهب وتصلى فوق قبرى“. وأضاف ضاحكا: ”إذا لم تفعل، سيعود شبحى فى الليل ويطاردك. هل تؤمن بوجود أرواح من العالم الآخر، يا پروكوپيو؟“
        ”بالطبع لا“.
 
        ”ولماذا لا تؤمن بوجودها، يا غبى؟“، أجاب باهتياج، وعيناه جاحظتان.
 
        هكذا كانت هُدناته– تخيّلْ الحروب! لم يكن هناك مزيد من الضربات بالعكاز، غير أن الشتائم ظلت كما هى، إن لم تكن أسوأ. ومع الوقت صرتُ معتادا على التحمل ولم أعد أعير اهتماما لأىٍّ منها. كنتُ حمارا، أبله، معتوها، جلفا كسولا– كنتُ كل شئ! ولم يكن هناك أىّ شخص آخر ليكون هدفا لإهاناته. إذ لم يكن له نسيب أو قريب. كان له ابن أخ أو أخت من ميناس چيرايس وكان قد مات بالسل قرب نهاية مايو أو بداية يونيو. وكان أصدقاؤه يأتون من وقت لآخر ليتملقوه أو ليشبعوا نزواته، غير أن زياراتهم كانت قصيرة، عشر دقائق على الأكثر. كنت وحدى هناك لأتلقى قاموسه المليء بالسباب والشتائم. وقررت الرحيل أكثر من مرة، غير أننى كنت أبقى بعد إلحاح خورى الأبرشية. ولم يكن كل ما هناك أن علاقتى مع الكولونيل تغدو غير محتملة بصورة متزايدة، بل كنت متلهفا على العودة إلى ريو. ففى الثانية والأربعين من عمرى، لم أكن أنوى بحال من الأحوال أن أكون مشدود الوثاق إلى حياة العزلة فى المناطق الداخلية من البلاد مع مريض مُسنّ جلف بذيء. ولأعطيك فكرة عن عزلتى، يكفى أن أقول إننى لم أكن حتى أقرأ الصحف. وباستثناء نتف عرضية من الأنباء الأكثر أهمية، انتقلتْ إلى الكولونيل عن طريق زواره، لم أعرف شيئا عن العالم خارج ذلك المكان. ولهذا اعتزمت العودة إلى ريو فى أول فرصة، حتى إنْ كان هذا يعنى الشجار مع خورى الأبرشية. ولأننى أقدم اعترافا كاملا، ينبغى أن أذكر أننى بعد أن ادخرت كل الأجور التى حصلت عليها كنتُ أتحرق شوقا إلى العودة إلى ريو لتبديدها.
 
        وكان من المرجح تماما أن فرصة الرحيل قد تسنح فى أقرب وقت. فقد ازدادت حالة الكولونيل سوءًا، وكان قد حرر وصيته بمساعدة موثق، تلقى من الإهانات قدر ما تلقيتُ تقريبا. فقد كان أقسى من أن يسايره أحد وصارت فترات عودته القصيرة إلى السلوك الهادئ والمهذب أشد ندرة. ولأننى كنت قد فقدت القدر الضئيل من التعاطف الذى جعلنى أتغاضى عن تجاوزات ذلك العاجز المسنّ فقد كنت أغلى كراهية ونفورا. وفى أوائل أغسطس، اتخذت قرارا حازما بالرحيل. وقبل خورى الأبرشية والطبيب أسبابى للرحيل ولكنهما طلبا منى أن أبقى فترة أخرى قصيرة إلى أن يتم العثور على بديل يحل محلى. وأعطيتهما شهرا قلت لهما إنى راحل بعده مهما كان الموقف.
 
        وسترى الآن ما حدث. ففى ليلة الرابع والعشرين من أغسطس، اجتاحت الكولونيل نوبة من الهياج، وأوقعنى على الأرض بضربة قوية، ووجَّه إلىّ كل أنواع الشتائم البذيئة، وهدد بأن يطلق الرصاص علىّ، وأخيرا قذفنى بسلطانية عصيدة قال إنها باردة. واصطدمت السلطانية بالحائط وتحطمت إلى ألف شظية.
 
        ”ستدفع ثمن هذا أيها اللصّ!“، بهذا صرخ.
 
        وظل يدمدم بعض الوقت. وفى حوالى الحادية عشرة سقط نائما. وفيما كان يغط فى نومه، أخرجتُ من جيبى ترجمة قديمة لقصة لآرلينكورت كنت قد عثرتُ عليها ملقاة هنا وأخذتُ أقرأ فى نفس الغرفة، على مسافة قصيرة من فراشه. وإما لأننى مرهق أو لأن الكتاب ممل، غلبنى النعاس قبل أن أصل إلى نهاية الصفحة الثانية. استيقظتُ فجأة على صوت الكولونيل يصرخ ونهضتُ واقفا، نصف نائم. وبدا أنه فى حالة هذيان. استمر الصراخ، وأخيرا أمسك بدورق الماء وقذفنى به. وقبل أن أتمكن من تجنبه، خبطنى الدورق على خدى الأيسر، وكان الألم شديدا إلى حد أننى لم أعد قادرا على أن أسيطر على نفسى. انقضضتُ على المريض المسنّ ووضعتُ يدىّ حول حلقه. تصارعنا، وخنقته. وعندما أدركتُ أنه كان لم يعد يتنفس، خطوتُ إلى الوراء وصرخت، ولكنْ لم يسمعنى أحد. عدتُ إلى الفراش وهززتُ الكولونيل وحاولتُ أن أعيده إلى الحياة، غير أنه كان قد فات الأوان. كانت الأوعية الدموية قد انفجرت وكان الكولونيل قد مات. ذهبتُ إلى حجرة الجلوس المجاورة وبقيت هناك ساعتين، لأننى لم أجرؤ على العودة إلى الغرفة. سيكون من المستحيل أن أروى لك كل شيء خطر ببالى خلال ذلك الوقت. فقد كنت فى حالة من الهذيان الأبله المذهول. كان يبدو وكأن الجدران لها وجوه، واعتقدتُ أننى سمعت أصواتا خفيضة. واستمرت الصرخات التى أطلقها الضحية قبل وبعد الصراع تدوى بداخلى وأينما استدرتُ بدا وكأن الجو يهتز بارتعاش شديد. أرجو ألا تظن للحظة أننى لا أقوم إلا بصياغة صور بلاغية لطيفة أو بالسعى إلى إحداث تأثيرات أسلوبية. إننى أقسم أننى سمعت بوضوح أصواتا تصرخ ”القاتل! القاتل!“ غير أن كل شيء كان هادئا. وكانت التكات المنتظمة البطيئة لساعة الحائط تكثف الصمت والعزلة. لصقتُ أذنى بالباب على أمل أن أسمع أنينا، كلمة، شتيمة، أية علامة على الحياة من شأنها أن تعيد الراحة والطمأنينة إلى ضميرى. بل كنتُ مستعدا حتى لأن أدع الكولونيل يضربنى كما يحلو له. غير أننى لم أسمع شيئا، وكان كل شيء غارقا فى الصمت. وجعلتُ أذهب وأجيء فى الغرفة بلا هدف. ثم جلستُ، ورأسى بين كفىّ، وندمت على أننى جئت أصلا إلى هذا المكان.
 
        ”ملعـونة الساعة التى قبلتُ فيها مثل هذه الوظيفة!“ صرختُ. وأمطرتُ بالسباب قسيس نيتيروى، الذى حصل لى على الوظيفة، وكذلك الطبيب، وخورى الأبرشية، اللذين أقنعانى بالبقاء وقتا أطول قليلا. وأقنعت نفسى بأنهم كانوا شركاء فى جريمتى.
 
        ولأن الصمت أصابنى فى النهاية بالفزع، فتحتُ النافذة على أمل أن أجد راحة فى صوت الرياح. غير أن الهواء كان ساكنا. وكانت الليلة هادئة، وكانت النجوم تتلألأ بلا مبالاة أولئك الذين يرفعون قبعاتهم لحظة لتحية مرور موكب جنازة فى الوقت الذى يواصلون فيه الحديث عن أشياء أخرى. وقفتُ عند النافذة بعض الوقت، أحدّق فى الليل بالخارج وأصنع تلخيصا ذهنيا لحياتى علنى أجد فترة راحة من عنائى. وعندئذ خطرت ببالى للمرة الأولى فكرة العقاب. كنتُ قد ارتكبتُ جريمة وشعرتُ أنه لا مفر من العقاب. وفى تلك اللحظة أضيف الخوف إلى إحساسى بالندم. وأحسستُ بشعرى يقف من الرعب. وبعد ذلك بدقائق اعتقدت أننى رأيت أشباحا آدمية عديدة تتجسس علىّ من الأراضى المحيطة بالبيت، حيث بدا أنها كانت تتربص بى. وعندما تراجعتُ خطوة إلى الوراء اختفت الأشباح الآدمية بلا أثر– كنت أعانى من حالة هلوسة.
 
        وقبل طلوع النهار عالجتُ الجروح التى كانت على وجهى. وعندئذ فقط كنتُ قادرا على أن استجمع شجاعتى للعودة إلى غرفة الرجل الميت. تردّدتُ مرتين، غير أنه كان لابد من عمل هذا، ولهذا دخلت. لم أقترب من الفراش على الفور. كانت ساقاى ترتجفان، وكان قلبى يدق بعنف، بل حتى فكرت فى الهرب. غير أن هذا كان سيصبح بمثابة اعتراف بجريمة القتل. ولهذا كان من الملحّ العاجل أن أمحو بسرعة كل آثار الجريمة. وصعدتُ إلى الفراش ورأيتُ الجثـة بعينيـها تحملقـان وبفمها مفتوحا، وكأنها تلقى سؤال القرون: ”قابيل، ماذا فعلتَ بأخيك؟“ ورأيت علامات أظافرى على رقبته، ولهذا قمت بتزرير قميصه حتى أعلى زرّ وسحبت الطرف الأعلى للملاءة إلى أعلى حتى ذقنه. ثم ناديت على أحد العبيد، وأخبرته بأن الكولونيل قد مات أثناء نومه، وأرسلته لإبلاغ خورى الأبرشية والطبيب. وكان أول دافع اجتاحنى هو أن أرحل فى الحال بحجة أن أخى مريض. والحقيقة أننى كنت قد تلقيت خطابا منه قبل ذلك بعدة أيام، وكان يقول فيه إنه على ما يرام. غير أننى أدركت أن أىّ رحيل مفاجئ قد يثير الشك، ولهذا بقيت. وقمتُ بتغسيل وتكفين الجثة بنفسى بمساعدة زنجى مسنّ ضعيف البصر. ولم أغادر أبدا الغرفة التى رقدت فيها الجثة جاهزة للدفن، لأننى كنت خائفا من أن يلاحظ أحد شيئا. أردتُ أن أكون هناك لأكتشف إذا شكّ أحد فىَّ، لكننى كنت خائفا من النظر إلى عينىْ أىّ شخص. وضايقنى كل شيء: الخطوات المختلسة التى دخل بها الزائرون الغرفة، همساتهم، طقوس القسيس وصلواته. وعندما حان الوقت لإغلاق التابوت، قمت بذلك بيدين مرتجفتين إلى حد أن أحدهم علق على ذلك بإشفاق.
 
        ”پروكوپيو المسكين! رغم ما عاناه فإنه حزين بعمق“.
 
        فكرتُ فى أن ذلك الشخص إنما يتهكم. وكنت أتعجل الانتهاء من كل ذلك. وقد ارتعشت بشدة عندما انتقلنا من شبه ظلام المنزل إلى الشارع، لأننى كنت أخشى من أن يكون من المستحيل إخفاء الجريمة فى وضح النهار. وأخذت أحدّق فى الأرض وظللت أسير. وعندما انتهى كل شيء، تنهدت بارتياح. كنتُ فى سلام مع البشر، لكن ليس مع ضميرى. وبطبيعة الحال، كانت الليالى القليلة الأولى مليئة بالقلق والضيق. ولستُ بحاجة إلى أن أخبرك بأننى رحلت فى الحال إلى ريو. لكننى عشت حتى هناك فى فزع، مع أننى كنت بعيدا عن مسرح الجريمة. لم أضحك مطلقا، ونادرا ما تكلمت، وأكلت قليلا جدا، وعانيت من الهلاوس والكوابيس.
 
        ”اِنْسَهُ، لقد مات وانتهى“، هكذا قال لى الناس. ”ليس هناك أىّ سبب لأن تكون حزينا“.
 
        واستغللتُ هذا الوهم، ممتدحا الرجل المتوفى امتداحا بالغا، واصفا إياه بأنه شخص عطوف، صعب المراس دون شك، غير أن له قلبا من ذهب. ومتغنيا بمحاسنه على هذا النحو، أقنعت حتى نفسى بلطفه ورأفته، وإنْ بصفة وقتية ليس إلا. وهناك شيء آخر قد يتضح أنه مفيد لك وهو أننى، أنا غير المتدين على الإطلاق، أقمت قداسا فى كنيسة سرّ القربان المقدس من أجل الراحة الأبدية لروح الكولونيل. ولم أرسل أية دعوات، ولم أقل شيئا لأحد. لقد حضرت القداس فى الكنيسة بمفردى وظللت جاثيا على ركبتىَّ طول الوقت، وأنا أرسم علامة الصليب على نفسى مرارا وتكرارا. ودفعت للقسيس الضعف ووزعت الصدقات على الباب، وكان كل شيء باسم الراحل. وواقع أننى ذهبت إلى الكنيسة بمفردى يثبت بالتأكيد أننى لم أكن أحاول أن أخدع أحدا. ولعلنى أضيف أننى لم أشر إلى الكولونيل مطلقا دون أن أقول: ”أنزل الله السكينة على روحه!“ ورويت بعض القصص الرائعة عنه الأمر الذى أكد الجوانب المبهجة والفكهة لشخصيته. وبعد وصولى إلى ريو بأسبوع، تلقيت خطابا من خورى الأبرشية، يخبرنى فيه بأنه تم العثور على وصية الكولونيل وبأننى وارثه الوحيد فتصوَّرْ ذهولى! ظننت أننى أخطئ قراءة الخطاب فأَطلعت عليه أخى وأصدقائى– وأكدوا جميعا ما قرأته بنفسى. كان ذلك مذكورا فى الخطاب بكل وضوح. وبدأت أفكر حتى فى أنه مصيدة، غير أننى أدركت عندئذ أنه كانت هناك وسائل أخرى لإيقاعى لو أنه كان قد تم اكتشاف الجريمة. وإلى جانب هذا، كنت أعرف أن خورى الأبرشية رجل أمين لم يكن ليسمح لنفسه بأن يستخدمه أحد بهذه الطريقة. وأعدت قراءة الخطاب عددا لا يحصى ولا يعد من المرات– ولم يكن هناك أدنى شك فى أننى وارث الكولونيل.
 
        ”بكم كانت تقدر ثروته؟“ سأل أخى.
 
        ”لا أعرف على وجه اليقين، لكنه كان غنيا“.
 
        ”عظيم، لا شك فى أنه أثبت أنه كان صديقك“.
 
        ”نعم، كان حقا صديقى“.
 
        وهكذا، عن طريق إحدى سخريات القدر، وجدتْ أملاك الكولونيل طريقها إلى يدىّ. فكرتُ فى رفض الميراث. فقد بدا من المرعب أن أقبل حتى سنتاڤو واحدا من تلك الضيعة – كان من شأن ذلك أن يجعلنى أسوأ من قاتل مأجور. فكرت فى هذا طـوال ثلاثة أيام غير أنه كانت تخطر ببالى بحدة فكرة أن رفضى قد يثير الشكوك. عندئذ عقدتُ العزم على حل وسط: سأقبل الميراث ثم أوزعه كله سرّا، قليلا فى كل مرة. ولم تكن هذه الفكرة نتيجة لوساوسى ليس إلا، بل كانت أيضا طريقة للتكفير عن جريمتى عن طريق عمل من أعمال الفضيلة. لقد أحسست بأن هذا سيوازن الحساب.
 
        استعددت وبدأت الرحلة إلى القرية. وكلما كنت أقترب منها أكثر كنت أفكر أكثر فى الحادث الكريه. حملتْ مشارف القرية جوّ مأساة، وبدا وكأن شبح الكولونيل يلوح مفزعا عند كل منعطف فى الطريق. وظل خيالى يستدعى كلماته، صراعه، مظهره فى الليلة المرعبة لجريمة القتل …
 
        لكنْ هل كانت حقا جريمة قتل؟ كان ما حدث بالفعل صراعا تعرضت فيه للهجوم فدافعت عن نفسى، وفى سياق دفاعى … كان دفاعا مأسويا، ضربة قدر تعيسة. تشبثتُ بهذه الفكرة، وعندما وازنتُ بين التعديات، رجّحتْ ضربات الكولونيل وشتائمه الكفة لصالحى. غير أنه ما كان ينبغى أن يُلام على سلوكه، كما عرفت جيدا: كانت حالته قد جعلته شرسا وحتى شريرا … ولهذا غفرتُ له كل شيء، كل شيء … وكان أسوأ ما فى الأمر هو ذلك الحادث الفاجع فى تلك الليلة. وفكرتُ مليا فى أنه لم يكن ليعيش وقتا أطول كثيرا. وحتى هو كان يحس بأن أيامه صارت معدودة وقال هذا بنفسه. كم كان بوسعه أن يعيش؟ أسبوعين؟ أسبوعا؟ وربما حتى أقلّ. ولم تكن المعاناة المتواصلة للرجل المسكين حياة، بل كانت حتى صورة كاريكاتورية للحياة. ومن يدرى … فربما حدث الصراع وموته الطبيعى فى الوقت نفسه. ولم يكن ذلك ممكنا وحسب، بل كان حتى محتملا تماما. وتشبثتُ بشدة بهذه الفكرة أيضا.
 
        بالقرب من القرية، أصابنى الذعر وأردت أن أعود، غير أننى استعدتُ السيطرة على نفسى وواصلت. وهنأنى الجميع. وشرح لى خورى الأبرشية شروط وصية الكولونيل، وأبلغنى بهباته للمؤسسات الخيرية، وظل يُثنى على الصبر والولاء المسيحيين اللذين خدمتُ بهما الكولونيل، الذى– رغم كل قسوته ووحشيته– أظهر عرفانه فى نهاية الأمر.
 
        ”هكذا بالضبط“، قلتُ، ناظرا بعيدا. وأصابنى الذهول. كان الجميع يُثنون على إخلاصى وصبرى. وأبقتنى الشكليات المباشرة لحصر التركة بعض الوقت فى القرية. واتفقتُ مع أحد المحامين ومضى كل شيء بسلاسة. وخلال هذه الفترة سمعتُ الكثير عن الكولونيل: أتى أهل القرية وحكـوا لى عنه، ولكن بدون اعتدال خورى الأبرشية وتحفظه. ودافعتُ عنه، وأوضحتُ بعض فضائله، وقلتُ إنه كان صعبا بعض الشيء.
 
        ”صعب، إلى الجحيم! لقد مات وانتهى الآن، غير أنه كان الشيطان ذاته!“
 
        وأخذوا يصفون حالات منحرفة من القسوة والوحشية، وبعضها فى غاية الغرابة. وفى البداية كنتُ فضوليا لا غير بشأن هذه الحالات، ثم بدأتُ أحسّ بابتهاج فريد حاولتُ مخلصا أن أنتزعه من قلبى. وقدَّمتُ أعذارا للكولونيل وأرجعتُ جانبا من كثرة انتقاداتهم له إلى خصوصات محلية. واعترفتُ بأنه كان عنيفا قليلا.
 
        ”قليلا؟ لقد كان أفعى سامة هائجة!“ قاطع الحلاق. ووافقه عل هذا جابى الضرائب، والصيدلى، وموثق العقود، وكل شخص آخر.
 
        ثم تلاحقت قصص أخرى، وأعيد النظرُ فى كامل حياة الرجل الميت. فقد تذكر الناس المسنون قسوته عندما كان طفلا. وظلّ سرورى– الخفى، الصامت، الخبيث– ينمو بداخلى مثل دودة شريطية أخلاقية، مهما كثرت القطع التى تزيلها منها أصلحتْ فى الحال ما تلف وبقيتْ متحصنة أكثر من أىّ وقت مضى.
        جعلتنى مهامى المتصلة بحصر التركة منشغلا، وإلى جانب ذلك كان الرأى العام فى القرية معاديا للكولونيل إلى حد أن المحيطين بى بدأوا يفقدون المظهر المتوجس شرّا والذى أبدوه لى فى البداية. وعندما انتقل الميراث أخيرا إلى يدى، قمت بتحويله إلى سندات ونقود سائلة. وفى ذلك الحين كانت قد مرت أشهر عديدة، وكانت فكرة توزيعه كله كصدقات وهبات خيرية لم تعد تستحوذ علىّ بنفس القوة– بل حتى بدأت أفكر فى أن هذا سيكون تظاهرا بحتا. وقدمتُ بعض التبرعات للفقراء، ووهبتُ بعض الأردية الكهنوتية الجديدة للكنيسة الرئيسية فى القرية، وقدمتُ صدقات للدار المقدسة للرحمة، وهكذا. وعلى وجه الإجمال قمت بتوزيع هبات تصل قيمتها إلى اثنين وثلاثين ألف كروزيرو، واحتفظت بالباقى. أيضا أقمت للكولونيل نصبا تذكاريا من الرخام على يد نحات من ناپولى كان فى ريو حتى 1866 ثم رحل ليموت فى مكان ما فى پاراجواى، إن لم أكن مخطئا. فقد دارت الأعوام وصارت ذاكرتى ضعيفة ولا يُعتمد عليها. وفى بعض الأحيان أفكر فى الكولونيل، لكن لم يعد ذلك بفزع تلك الأيام الأولى. وقد رويت لعدة أطباء عن الأمراض التى ابتلى بها. واتفق الجميع على أن موته كان أكيدا وأدهشهم أنه عاش كل هذه الفترة الطويلة التى عاشها. وربما كنتُ قد بالغت قليلا فى وصف وضعى. غير أن الحقيقة هى أنه كان سيموت على كل حال حتى وإن لم يكن هناك أىّ … حادث …
 
        وداعـا، يا صديقى العزيز. وإذا كان من رأيك أن هذه الملاحظات لها أية قيمة، كافئنى بنصب تذكارىّ من الرخام، واستخدم ككتابة على قبرى هذه الآية المعدلة قليـلا من الموعظة على الجبـل: ”طوبى لأصحاب الأملاك لأنهم يتعزون“.
 
 
 
 
 
رجل شهير
 
        ”ياه، أنتَ پيستانا إذن؟“ سألتْ الآنسة مُوتَا، بإيماءة إعجاب واسعة. وصحّحتْ فى الحال أسلوبها الذى تخطى الرسميات قائلة: ”معدزة على سلوكى، لكنْ … هل أنتَ هو حقا؟“
 
منزعجا ومُحبطا، أجاب پيستانا بأنْ نعم، بأنه هو. كان قد أتى لتوّه من عند الپيانو، وهو يمسح جبينه بمنديل، وكان يقترب من النافذة عندما أوقفته السيدة الشابة. لم تكن حفلة راقصة، بل مجرد حفلة مسائية ضيقة حضرها نحو عشرين شخصا أتوا ليتناولوا العشاء مع الأرملة كامارجو فى شارع الپلاج بمناسبة عيد ميلادها، الخامس من نوڤمبر 1875. يا للأرملة اللطيفة والمرحة! كانت تحبّ الضحك والفرفشة، رغم سنواتها الستين، وكانت هذه هى المرة الأخيرة التى ضحكت فيها وفرفشتْ، ذلك أنها قضتْ نحبها فى الأيام الأولى من 1876. يا للأرملة اللطيفة والمرحة! بأىّ قلب وروح نظمتْ حفلة راقصة بعد العشاء مباشرة، طـالبة من پيستانا أن يعزف موسيقى لرقصة كادريل! ولم يكن عليها حتى أن تُكمل رجاءها– لقد انحنى پيستانا بأدب وأسرع إلى الپيانو. وما كادوا يستريحون عشر دقائق، بعد رقصة الكادريل، حتى اندفعت الأرملة متوجهة إلى پيستانا من جديد لتطلب منه معروفا خاصا جدا.
 
        ”أىّ شيء تقولينه ، يا مدام“.
 
        ”هل يمكنك أن تعزف لنا الآن موسيقى الپولكا التى من تأليفك "لا تضحكى علىّ يا حبيبتى"؟“
 
        ارتسم الضيق على وجه پيستانا، لكنه سرعان ما أخفاه، وانحنى فى صمت بدون أدبه المألوف، وذهب إلى الپيانو بلا حماس. بعد سماع المقاطع الموسيقية الأولى عمتْ الحجرة سعادة مستجدة. أسرع السادة إلى السيدات، وبدأوا يتحركون زوجا زوجا على أنغام الپولكا الأخيرة. الأخيرة تماما– فهى لم تُنشر إلا قبل ذلك بثلاثة أسابيع، وكان لم يعد هناك ركن أو شقّ فى المدينة، مهما كان نائيا، لم تعرف فيه هذه الپولكا. كانت النغمة على شفاه الجميع.
 
        كانت الآنسة موتا آخر من يشك فى أن پيستانا الذى كانت رأته على مائدة العشاء ثم وهو يعزف على الپيانو، الرجل الذى كان يلبس سترة فراك ذات لون منطفئ، وكان له شعر أسود طويل مجعد، وعينان حذرتان، وذقن بلا لحية، هو پيستانا، مؤلف الپولكا الشهير– وقد أخبرتها صديقتها بذلك عندما رأته قادما من عند الپيانو، بعد رقصة الپولكا. ومن هنا، السؤال بإعجاب. وقد رأينا أنه ردّ عليها بطريقة تنمّ عن الانزعاج والإحباط. ومع ذلك، كانت السيدتان الشابتان لا تألوان جهدا فى إفراطهما فى إبداء ملاحظات متملقة إلى حد أن الشخص الأشد تواضعا فى غروره كان سيسعده أن يسمع تلك الملاحظات. أما پيستانا فقد تلقاها باستياء متزايد إلى أن أعلن أنه مصاب بصداع، وأخيرا استأذن للانصراف. ولا أحد، ولا حتى سيدة البيت، نجح فى إقناعه بالبقاء. عرضوا عليه وصفات علاج محلية، وشيئا من الراحة، لكنه لم يقبل شيئا، وأصر على الانصراف، وانصرف.
 
        بمجرد أن صار فى الشارع سار بسرعة، خشية أن يكون لا يزال واردا أن يُرجعوه. ولم يُهدّئ خُطاه إلى أن انعطف عند ناصية شارع فورموزا. لكنْ حتى هناك، فى تلك البقعة ذاتها، كانت تنتظره تلك الپولكا الشهيرة والتى تفيض بالحيوية. كانت أنغام من أحدث أعماله الموسيقية الرائجة، معزوفة على كلارينيتّ، ترفرف خارجة من بيت متواضع على الجانب الأيمن، على مسافة ياردات قليلة وحسب. وكان هناك أشخاص يرقصون. توقف پيستانا للحظة، وفكر فى أن يعود من حيث أتى، لكنه قرّر المضىّ قدما. وحث خطاه وعبر إلى الجانب الآخر من الشارع. وأخيرا تلاشت الأنغام بعيدا، ودخل پيستانا شارع أترّادو، حيث كان يُقيم. وعندما كان يوشك على دخول البيت، رأى شخصيْن يقتربان منه. بدأ أحدهما، أثناء مروره، فى تصفير نفس الپولكا بحماس وحيوية. والتقط الآخر إيقاع الموسيقى، وسار الاثنان كلاهما فى الشارع، صاخبين ومبتهجين، فيما أسرع المؤلف الموسيقى، يائسا، إلى دخول منزله.
 
        فى البيت، تنهّد بارتياح. البيت القديم، والسلم القديم، وخادمه الزنجى العجوز، الذى أتى ليرى ما إذا كان يريد أن يتناول العشاء.
 
        ”أنا لا أريد شيئا“، صاح پيستانا. ”اصنعْ لى بعض القهوة واذهبْ إلى فراشك“.
 
        خلع ملابسه، ولبس قميص نوم، وذهب إلى حجرة واسعة فى القسم الخلفى من المنزل. وعندما أشعل الزنجى لمبة الجاز، ابتسم پيستانا وفى صمت قدّم تحياته للپورتريهات العشرة المعلقة على الحائط. كان پورتريه واحد منها صورة زيتية للكاهن الذى كان قد قام بتربيته، وعلمه اللاتينية والموسيقى، والذى كان، وفقا لأقاويل لا طائل من تحتها، والد پيستانا ذاته. وإنها لحقيقة واقعة أنه ورّثه المنزل القديم، بالإضافة إلى الأثاث، الذى يعود تاريخه إلى زمن پيدرو الأول. وكان الكاهن قد ألف بعض قطع موسيقى التراتيل وكان مجنونا بالموسيقى، المقدسة أو الدنيوية. وغُرستْ هذه الأذواق فى الشاب، أو أنها نُقلتْ إليه عبر روابط الدم، إذا كان لنا أن نصدّق بعض التصديق الألسنة التى تلوك. لكن هذا أمر لا شأن له بموضوع قصتى كما سترون.
 
        كانت الپورتريهات الأخرى للمؤلفين الموسيقيين الكلاسيكيين: سيماروزا، موتسارت، بيتهوڤن، جلوك، باخ، شومان، وثلاثة آخرون. وكانت پورتريهات منها محفورة على الخشب، وأخرى مطبوعة على الحجر. كانت من أحجام مختلفة، وكانت ذات براويز بائسة، لكنها كانت تحتل مكانها اللائق كالقديسين فى كنيسة. كان الپيانو هو المذبح، وكانت تسبيحة المساء مفتوحة هناك: كانت سوناتا لبيتهوڤن.
 
        وصلتْ القهوة، عبّ پيستانا الفنجان الأول عبا وجلس إلى الپيانو. نظر إلى پورتريه بيتهوڤن، وفاقدا وعيه بنفسه، أخذ يعزف السوناتا ذاهلا أو مستغرقا، لكنْ بإتقان كبير. كرر القطعة. ثم توقف لحظات قليلة، ونهض، وذهب إلى إحدى النوافذ. وعاد إلى الپيانو. وجاء دور موتسارت، وهكذا التقط نوتة موسيقية مطبوعة وقام بأدائها بنفس الطريقة، وقلبه فى مكان آخر. ثم شغله هايدن حتى منتصف الليل وفنجان القهوة الثانى.
 
        بين منتصف الليل والواحدة صباحا، لم يفعل پيستانا أكثر من النظر إلى الپورتريهات والوقوف عند النافذة يحملق فى النجوم. ومن حين لآخر كان يذهب إلى الپيانو ويعزف، واقفا، قليلا من الأنغام غير المترابطة على لوحة المفاتيح، وكأنه يبحث عن فكرة ما، لكن الفكرة لم تأت، فاستأنف وقفته عند النافذة. بدتْ له النجوم أشبه بنوتات موسيقية كثيرة جدا مثبتة فى السماء، تنتظر فقط شخصا ما يأتى ليفكها. وذات يوم ستغدو السماء خالية، لكنْ عندئذ ستغدو الأرض كوكبة من كراسات النوتات الموسيقية. ما من صورة، أو فكرة، أو لحظة تأمل، حملتْ أىّ تذكر للآنسة مُوتا التى كانت فى تلك الأثناء، فى تلك اللحظة ذاتها، تنام حالمة به، هو المؤلف المشهور لپولكات محبوبة كثيرة جدا. وجعلتْ فكرة الزواج السيدة الشابة تخسر دقائق قليلة من النوم. ولم لا ؟ كانت فى حوالى العشرين من عمرها، وكان هو فى الثلاثين على الأكثر. ونامتْ على لحن الپولكا، التى كانت تحفظها عن ظهر قلب، بينما كان مؤلفها لا يفكر لا فى الپولكا ولا فى الفتاة بل فى الأعمال الكلاسيكية القديمة. واستجوب السماء والليل، متوسلا إلى الملائكة وحتى الشيطان. لماذا يعجز عن تأليف صفحة خالدة واحدة ليس إلا من هذا القبيل؟
 
        من حين لآخر كان يبدو وكأن بذرة فكرة كانت تنبت خارجة من أعماق لاوعيه. فكان يُسرع إلى الپيانو لكى يمنحها الحياة، ليترجمها إلى أصوات، لكنْ بلا طائل: تلاشتْ الفكرة. وفى أحيان أخرى كان يدع أصابعه، وهو جالس إلى الپيانو، تتجول كيفما اتفق، ليرى ما إذا كانت ستسيل من بينها فانتازيات، كما سالتْ من بين أصابع موتسارت، لكنْ لا شيء، لاشيء مطلقا، لم يأت الإلهام، وبقى خياله خامدا. فإذا ظهرت بالصدفة فكرة، واضحة كل الوضوح وجميلة، اكتشف أنها ليست سوى صدى من قطعة لمؤلف آخر، يتردد فى ذاكرته. عندئذ كان ينهض، متضايقا، وهو يحلف أنه سيهجر الموسيقى ويذهب ليزرع البن أو ليعمل بائعا متجولا بعربة، لكنه بعد عشر دقائق كان يعود، وعيناه على پورتريه موتسارت، يقلده على الپيانو.
 
        الساعة الثانية، الثالثة، الرابعة. بعد الرابعة ذهب إلى الفراش– كان متعبا، ومحبطا، ومستنفدا انفعاليا، و كان عليه أن يُدرّس فى اليوم التالى. نام قليلا، وتم إيقاظه فى السابعة، ولبس، وأفطر.
 
        ”هل تودّ أن تأخذ العصا أو الشمسية؟“
 
سأل الزنجى، متبعا توجيهات سيده، الذى كثيرا جدا ما كان ذاهلا عن نفسه.
 
        ”العصا“.
 
        ”لكنْ يبدو أنها ستمطر اليوم“.
 
        ”ستمطر“، ردد پيستانا بطريقة آلية.
 
        ”يبدو فعلا أنها ستفعل، يا سيدى، السماء مظلمة تماما“.
 
        حملـق پيستانا فى الزنجى بشك وقلق. وفجـأة أفلتت منه هذه العبارة: ”انتظرْ حيث أنت!“
 
        أسرع إلى حجرة الپورتريهات، وفتح الپيانو، وجلس، ومدّ أصابعه فوق لوحة المفاتيح. بدأ يعزف شيئا كان يخصه للغاية، بإلهام أصيل: پولكا، پولكا مرحة، بلغة لوحات الإعلانات. لا مقاومة من جانب المؤلف الموسيقى. كانت أصابعه تستخلص الأنغام بسهولة، وتصلها ببعضها، وتتقاذفها– وكان يمكن القول أن ربّة فنه كانت تؤلف الموسيقى وترقص فى آن معا. نسى پيستانا تلامذته، ونسى الزنجى الذى ينتظره بعصاه وشمسيته، بل نسى حتى الپورتريهات التى كانت معلقة بوقار على الحائط. فقط كان يؤلف، داقا على المفاتيح ومدوّنا، بدون المحاولات العقيمة للمساء السابق، بدون انزعاج، بدون التماس أفضال السماء، بدون استنطاق عينىْ موتسارت. لا تعب. وتدفقتْ الحياة، والسِّحْر، والجدّة، من قلبه، وكأنما من ينبوع لا ينضب.
 
        واكتملتْ الپولكا بعد قليل. حقا لقد صحح عددا من المقاطع الثانوية، لكنه كان يدندن بها بالفعل فى الشوارع، وهو فى طريق عودته إلى البيت. لقد أحبها. كان دم أبوّته وموهبته الحقيقة يجرى فى عروق ذلك العمل الموسيقى الأخير، غير المنشور. وبعد ذلك بيومين، حمل الپولكا الجديدة إلى ناشر مؤلفاته الأخرى من موسيقى الپولكا، التى وصل عددها آنذاك إلى حوالى ثلاثين قطعة. وكان من رأى ناشره أنها ”جذابة“.
 
        ”ستحقق نجاحا كبيرا“.
 
        وطُرح موضوع تحديد عنوان. وفى 1871، عندما ألف پيستانا الپولكا الأولى، كان قد رغب فى أن يعطيها عنوانا شاعريا فاختار عنوان ”لآلئ الشمس“. هَزّ الناشر رأسه، قائلا له إن العناوين ينبغى تصميمها مع وضع رواجها المستقبلى فى الاعتبار كما ينبغى اختيارها لتلميحها إلى حدث ما هام أو للأثر الآسر لكلماتها. وكان عنده اقتراحان: قانون 28 سبتمبر  و الحبيبات لسن للتدليل.
 
        ”لكن ما معنى الحبيبات لسن للتدليل؟“ سأل المؤلف.
 
        ”إنه لا يعنى شيئا، لكنه سيغدو عنوانا رائجا فى الحال“.
 
        پيستانا، الذى كان لا يزال ساذجا وغير منشور، رفض كلا الاسميْن واحتفظ بالپولكا، لكن لم يمض طويل وقت قبل أن يؤلف پولكا أخرى، وأدى به تحرقه إلى الشهرة إلى نشرهما كليهما، بأىّ عنوانيْن بدا للناشر أنهما الأكثر جاذبية أو ملاءمة. ومنذ ذلك الحين كان هذا هو الإجراء المتبع.
 
        والآن، عندما سلم پيستانا الپولكا الأخيرة وانتهيا إلى موضوع العنوان، قال ناشره إن فى رأسه عنوانا منذ أيـام وإنه احتفظ به لأول عمل يستلمه منه. كان العنوان صارخا، وطويلا، وملتويا: من فضلك اِستبْقى سلتك لنفسك يا سيدتى.
 
        ”ومن أجل المرة التالية“، أضاف، ”فى رأسى عنوان آخر منذ الآن“.
 
        بيعتْ الطبعة الأولى بكاملها بمجرد عرضها للبيع. وكفلت شهرة المؤلف الموسيقى رواجها، لكن العمل ذاته كان أصيلا ومواكبا لقطع موسيقية معدة بذلك الأسلوب: كان دعوة للرقص، وكان من السهل حفظه عن ظهر قلب. وفى غضون أسبوع حقق نجاحا باهرا. ولفترة من الزمن كان پيستانا واقعا حقيقة فى حب تلك القطعة الموسيقية وكان يحب أن يدندن بها بصوت خافت. وكان يتريث فى الشارع عندما يسمعها تعزَف فى بيت شخص ما وكان يغضب عندما كانت لا تعزَف جيدا. وسرعان ما عزفتها الفرق الموسيقية فى المسارح، وذهب پيستانا إلى أحدها ليسمعها. كما أنه لم يتبرم عندما سمع شبحا غير واضح المعالم يصفرها وهو يسير فى شارع أترّادو ذات مساء.
 
        لم يدم شهر العسل هذا سوى أسبوع. فمثل كل المرات الأخرى، وحتى أكثر فى هذه المناسبة، جعله مرأى الفنانين الكبار القدامى فى الپورتريهات ينزف من الندم. وغاضبا ومغتاظا، انقلب پيستانا ضد تلك التى كانت قد أتتْ لتواسيه مرارا وتكرارا، ربة الفن ذات العينيْن الشرّيرتيْن والهيئة المستديرة، تلك المستهترة والسهلة. وعند تلك المرحلة عاوده اشمئزازه من نفسه وكراهيته لكل من يسأله عن الپولكا الأخيرة التى ألّفها واستأنف محاولاته لتأليف شيء ما ذى مذاق كلاسيكى، حتى وإن لم يكن ذلك سوى صفحة واحدة، صفحة واحدة ليس إلا، لكنْ ذات جودة تسمح لها بالوقوف إلى جانب أعمال باخ وشومان. دراسة بلا طائل، جهد بلا فائدة. ألقى بنفسه فى نهر الأردن ذاك وخرج بلا عماد. هكذا قضى النهار والليل، واثقا وعنيدا، متيقنا من أن رغبته ستجلب النجاح ومن أنه طالما تخلى عن الموسيقى الخفيفة …
 
        ”لتذهبْ قِطع الپولكا إلى الجحيم– ليرقص الشيطان عليها!“ قال ذات صباح عند انبلاج النهار، عندما ذهب إلى فراشه. غير أن قطع الپولكا رفضتْ أن تذهب بعيدا إلى هذا الحد. لقد ذهبتْ إلى منزل پيستانا، إلى حجرة الپورتريهات، وتدفقتْ بوفرة لم يكد يكون لديه معها الوقت ليؤلفها، ثم ليطبعها، وليستمتع بها أياما قليلة، وليمقتها، وليعود إلى المصادر الكلاسيكية، التى لم تنتج شيئا. وعاش ممزقا بين هذين البديليْن، حتى زواجه وبعده.
 
        ”ممن سيتزوج؟“ سألتْ الآنسة مُوتَا عمها، كاتب المحكمة الذى كان قد زف إليها النبأ.
 
        ”يتزوج من أرملة“.
 
        ”هل هى كبيرة؟“
 
        ”فى السابعة والعشرين“.
 
        ”جميلة؟“
 
        ”لا، لكنها ليست عديمة الجمال أيضا– بين بين. سمعتُ أنه وقع فى حبها لأنه سمعها تغنى فى العيد الأخير للقديس فرنسيس فى پاولا. لكننى سمعتُ أيضا أنها تملك موهبة أخرى، لا هى بالنادرة أو الثمينة: إنها مصابة بالسل“.
       
ليس من المفترض فى كتبة المحاكم أن يكونوا موفورى الحماس– إنهم فاترون، إن جاز القول. وفى النهاية أحسّتْ ابنة أخيه بقطرة بلسم، الأمر الذى داوى لدغتها الصغيرة من الحسد. وكان كل ما قاله صحيحا. فبعد ذلك بأيام قليلة، تزوج پيستانا من أرملة فى السابعة والعشرين من عمرها، كانت مغنية جيدة وكانت مصابة بالسل. وستكون الزوجة الروحية لعبقريته المبدعة. وقد قال لنفسه إن العزوبة هى بلا شك السبب وراء عقمه وصعوبة مراسه. ومن الناحية الفنية اعتبر نفسه الساهر المستهتر لساعات الصباح الأولى– ولم تكن مؤلفاته من الپولكا سوى مغامرات شخص كسول. نعم، يمكنه الآن أن يُنجب عائلة من الأعمال الجادة، العميقة، والملهمة، والمعدّة بعناية.
       
تبرعم ذلك الأمل فى ساعات حبّه الأولى وأزهر فى عشية زفافه. وتلعثم قلبه بقوله: ”ماريا، امنحينى ما لم يكن بوسعى أن أجده فى وحدة ليالىَّ وهرج ومرج أيامى“.
       
وتخليدا لذكرى زواجهما، سرعان ما اعتزم تأليف قطعة موسيقية حالمة. وسوف يسميها ”أڤيه ماريا“ [السلام لك يا مريم]. كان الأمر يبدو وكأن حظه السعيد قد حمل إليه بزوغ فجر. وغير راغب فى أن يقول أىّ شيء لزوجته قبل أن تكون القطعة الموسيقية جاهزة، عمل فى السرّ. وكان هذا من الصعوبة بمكـان لأن ماريا، التى أحبّتْ الموسيقى مثله تماما، كانت تأتى لتعزف معه، أو لمجرد الاستماع إليه يعزف، فى حجرة الپورتريهات على مدى ساعات بلا انقطاع. بل كانا يعقدان بعض اللقاءات المشتركة مع ثلاثة موسيقيين كانوا من أصدقاء پيستانا. غير أنه فى يوم من أيام الأحد لم يعد بوسعه أن يكبح جماح نفسه، فدعا زوجته لتسمعه يعزف مقطعا من قطعة من الموسيقى الحالمة. ولم يقل لها ما هى أو من ألفها. وتوقف فجأة ونظر إليها مستفسرا.
 
        ”لا تتوقف“، قالت ماريا، ”إنه شوپان، أليس كذلك؟“
 
        امتقع وجه پيستانا، وحملق فى الفضاء طويلا، وكرر مقطعا أو مقطعيْن، ونهض واقفا. جلستْ ماريا إلى الپيانو وبعد أن بذلتْ جهدا لاستدعاء قطعة شوپان إلى ذاكرتها، قامت بأدائها. كانت الفكرة والموتيفة هما نفس الشيء: لقد عثر عليهما پيستانا فى أحد تلك الأزقة المعتمة فى ذاكرته، تلك المدينة العتيقة للخيانات. ومحزونا ويائسا، غادر البيت وذهب فى اتجاه الجسر، فى الطريق إلى سان كريستوف.
       
”لماذا أقاومها؟“ قال. ”سأتمسك بقطع موسيقى الپولكا … أهتفُ ثلاثا للپولكا!“
       
الأشخاص الذين مروا به وسمعوا هذا تفرسوا فيه وكأنه مجنون. وسار فى طريقه، هاذيا، مُهانا، يتقاذفه فى إقباله وإدباره التأرجح بين طموحه وموهبته، مثل كرة فلين [فى لعبة بادمنتون] تدور بلا نهاية. مر بالسلخانة القديمة. وعندما وصل إلى باب مزلقان السكة الحديد، فكر فى السير على القضبان إلى أن يأتى أول قطار ويهرسه. أرجعه الحارس. واستردّ رشده وعاد إلى البيت.
       
بعد ذلك بأيام قليلة– ذات صباح صافٍ وصحو فى مايو 1876، أحسّ پيستانا بوخز خفيف مألوف فى أصابع يديه. نهض ببطء بالغ، حتى لا يوقظ ماريا، التى كانت قد ظلتْ تسعل طوال الليل وكانت تنام بعمق فى تلك اللحظة. ذهب إلى حجرة الپورتريهات، وفتح الپيانو، وفيما كان يعزف بأهدأ ما كان بوسعه خرج بپولكا. وجعلهم ينشرونها له باسم مستعار. وفى غضون الشهريْن التالييْن ألف ونشر اثنتيْن أخرييْن. ولم تكن ماريا تدرك أىّ شيء: فقط كانت تغدو وتروح وهى تسعل وتحتضر إلى أن لفظتْ أنفاسها الأخيرة، ذات صباح، بين ذراعىْ زوجها المرتعـب واليائس.
       
كانت عشية عيد الميلاد المجيد. وتضاعف حزن پيستانا، لأنه كانت هناك فى الحىّ حفلة راقصة يُعزف فيها عدد من أفضل قطع الپولكا التى ألفها. وعند هذه النقطة كان من الصعوبة بمكان أن يتسامح مع الحفلة الراقصة: أعطته ألحـانه إحساسا بالمفارقة والشذوذ. وأحس بإيقاع خُطى الرقص، وخمّن الحركات الشهوانية الممكنة التى حفز إليها توزيع أو آخر من توزيعاته الموسيقية، وكل هذا فيما كان واقفا بجوار جثة زوجته، وكانت حزمة من العظام تتمدد على الفراش. هكذا انقضتْ ساعات الليل كلها، البطيئة منها والسريعة، مضمخة بالدموع، والعرق، والكولونيا، راقصة بلا انقطاع، وكأنما على أنغام موسيقى پولكا من تأليف پيستانا ما خفىّ هائل.
       
بعد دفن زوجته، لم يكن فى رأس الأرمل سوى غاية موسيقية وحيدة أخيرة: أن يؤلف موسيقى قداس، سيكون عليه أن يعزفها فى الذكرى السنوية الأولى لوفاة ماريا، على أن يعتزل الموسيقى بعد ذلك. عندئذ سيختار خطا آخر للعمل: موظف كتابى، ساعى بريد، بائع متجول، أىّ شيء يجعله ينسى الفن بقلبه الدامى وأذنه الصماء.
       
وبدأ يعمل فى تأليفه الموسيقى، مستخدما كل شيء فى متناوله: الجسارة، الصبر، الوساطة، وحتى نزوات صاحب السعادة الحظ، الذى استخدمه من قبل فى مناسبة أخرى عندما كان يقلد موتسارت. أعاد قراءة قداس هذا المؤلف الموسيقى ودرسه. ومرّتْ أسابيع وشهور. والعمل، الذى بدأ بانطلاقة سريعة، أخذ يُهدّئ خُطاه. وعرف پيستانا السعود والنحوس. ففى بعض الأحيان كان عاجزا عن إضفاء أىّ جوهر مقدس على عمله الموسيقى، واكتشف أنه يفتقر إلى الأفكار وإلى الإلهام؛ وفى أحيان أخرى كانت معنوياته ترتفع إلى مستوى المناسبة فكان يعمل بهمّة. ثمانية شهور، تسعة، عشرة، أحد عشر شهرا، ولم يكتمل القداس. وضاعف جهوده، ناسيا فصوله الدراسية وأصدقاءه. وقام بمراجعات لا نهاية لها للقطعة الموسيقية، لكنه اعتزم فى تلك اللحظة أن يكملها بطريقة أو بأخرى. خمسة عشر يوما، ثمانية أيام، خمسة أيام … وأتى صباح يوم الذكرى السنوية فوجده لا يزال يعمل.
       
واضطر إلى أن يقنع بقداس متواضع بسيط، شهده على انفراد. ومن الصعوبة بمكان أن نعرف ما إذا كانت كل الدموع التى تسللتْ خلسة إلى عينيه دموع الزوج، أو ما إذا كان بعضها دموع المؤلف الموسيقى. والحقيقة أنه لم يمس القداس بعد ذلك مطلقا.
 
”ما الفائدة؟“ قال لنفسه.
 
مرت سنة أخرى أيضا. وفى الأيام الأولى من 1879، ظهر الناشر.
 
”منذ سنتين لم نسمع منك شيئا“، قال. ”الجميع يسألون عما إذا كنتَ فقدت موهبتك. ماذا كنت تفعل بنفسك؟“
 
”لا شيء“.
 
”يمكننى أن أفهم أية ضربة كان ما حدث بالنسبة لك، لكن سنتيْن مرتا الآن. لقد جئت لأعرض عليك عقدا: عشرون قطعة پولكا فى الاثنى عشر شهرا التالية بالسعر القديم، بنسبة مئوية أعلى على المبيعات. بالإضافة إلى أنه يمكننا أن نجدد بعد نهاية السنة“.
       
أومأ پيستانا إيماءة إذعان. ذلك أنه كان لم يعد لديه سوى طلبة قليلين كما كان قد باع منزله ليسدد ديونه– وأتتْ الضرورات اليومية على ميزانيته التى كانت قد انخفضتْ إلى لا شيء تقريبا. وقبل العقد.
       
”لكنْ ينبغى إعداد الپولكا الأولى على الفور“، أوضح الناشر. ”إنها ملحّة. هل رأيت رسالة الإمبراطور إلى كاشياس؟ الليبراليون تم استدعاؤهم إلى الحكم، وهم يعتزمون إجراء إصـلاح انتخابى. وسيكون اسـم الپولكا مرحى للانتخابات فى وقتها! هذا ليس عنوانا سياسيا، إنه مجرد عنوان ملائم للمناسبة“.
       
ألّف پيستانا العمل الموسيقى الأول الوارد فى العقد. ورغم فترة صمته الطويلة، كان لم يفقد لا أصالته ولا إلهامه. وكان هذا العمل يحمل البصمة المألوفة لعبقريته. وظهرت بقية قِطع الپولكا بانتظام. وكان قد احتفظ بپورتريهات المؤلفين الموسيقيين وبمجموعاته من أعمالهم، غير أنه تجنب قضاء كل ليلة جالسا إلى الپيانو، هربا من إغراء التجربة. ونظرا لمكانته البارزة، كان بوسعه أن يطلب تذكرة مجانية كلما كانت هناك أوبرا أو حفلة موسيقية جيدة. كان يذهب، ويدس نفسه بعيدا فى ركن متوار عن الأنظار، ويستمتع بذلك العالم من الأشياء التى لن يتأتىّ أبدا أن تزهر فى رأسه. وعلى فترات متباعدة، عندما كان يعود إلى البيت ممتلئا بالموسيقى، كان المايسترو المجهول بداخله يُستثار– عندئذ كان يجلس إلى الپيانو ويعزف، بدون أى شيء محدد فى رأسه، إلى أن يذهب إلى الفراش، بعد ذلك بعشرين أو ثلاثين دقيقة.
       
هكذا مرتْ السنوات، حتى 1885. وكان نجاح پيستانا قد جلب له الشهرة، وأخيرا تم تصنيفه المؤلف الرئيسى لموسيقى رقصات الپولكا فى ريو، غير أن المرتبة الأولى فى المدينة لم تقنع هذا القيصر، الذى كان سيفضل حتى المرتبة المائة فى روما. وكانت لديه نفس المشاعر التى كانت لديه من قبل بشأن مؤلفاته الموسيقية، مع فارق أنها كانت قد غدتْ آنذاك أقلّ عنفا. ولم يكن متحمسا بعد الساعات الأولى ولا كان مرتاعا بعد الأسبوع الأول: كان يحس بشيء من السرور وبنوع من السأم.
 
        كانت تلك هى السنة التى أصيب فيها بحمّى خفيفة، ارتفعتْ بعد أيام قليلة وأخيرا صـارت مسألة خطيرة. وكـانت حياته فى خطر بالفعل عندما ظهر ناشره، الذى لم يكن يعرف شيئا عن مرضه – كان قد أتى ليخبر پيستانا بصعود المحافظين إلى الحكم وليطلب منه پولكا جديدة من أجل هذه المناسبة. وأخبره مرافق الرجل المريض، وكان عازف كلارينيت بالمسارح وكان فقيرا معدما، بحـالة پيستانا. وقرر الناشر ألا يُشير إلى الپولكا الجديدة، غير أن پيستانا أصر على أن يعرف لماذا أتى. ورضخ ناشره.
 
        ”لكن فقط بعد أن تكون قد شفيت“، بهذا ختم كلامه.
 
        ”بمجرد أن تهبط حرارتى قليلا“، قال پيستانا.
 
        أعقبتْ ذلك وقفة قصيرة. وخرج عازف الكلارينيت على أطراف أصابعه لإعداد دواء. ووقف الناشر وتهيأ للانصراف.
 
        ”مع السلامة“.
 
        ”انظر“، قال پيستانا، ”حيث أن من المتوقع تماما أن أموت فى أىّ يوم فى هذه الفترة، سأعدّ لك قطعتين من الپولكا على الفور– يمكن استخدام الأخرى عندما يأتى الليبراليون إلى الحكم مرة أخرى“.
 
        كانت تلك هى النكتة الوحيدة التى أطلقها طوال حياته، وكانت تلك هى الفرصة الأخيرة، لأنه مات فى الساعة الرابعة وخمس دقائق صباحا، فى سلام مع الجنس البشرى وفى حرب مع نفسه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
أفكار عصفور كناريا
 
        روى رجل اسمه ماسيدو، وكان له ولع بعلم الطيور، لبعض أصدقائه، حادثا خارقا للعادة إلى حد أنه لم يأخذه أحد مأخذ الجد. ووصل بعضهم إلى حد الاعتقاد أنه فقد عقله. وإليك ملخصا لروايته:
 
        فى بداية الشهر الماضى، بينما كنت أسير فى الشارع، مرقتْ بمحاذاتى عربة وكادت توقعنى على الأرض. وتفاديتُ ذلك بأن خطوتُ بسرعة جانبا إلى داخل محل سلع مستعملة. ولم يحرك لا صخب الحصان والعربة ولا دخولى صاحب المحل، الذى كان يغفو جالسا على كرسى ”تطبيق“ فى القسم الخلفى من المحل. كان رجلا ذا مظهر رث: كانت لحيته بلون القشّ القذر، وكان رأسه مغطى بكاب مهلهل من المحتمل أنه لم يجد من قبل شاريا. ولم يكن من الممكن تخمين أن هناك أىّ قصة وراءه، كما كان من الممكن أن تكون هناك قصة وراء بعض الأشياء التى كان يبيعها، كما لم يكن من الممكن أن يحس المرء فيه بذلك الحزن الصادم المتحرر من الأوهام والماثل فى الأشياء التى كانت بقايا حيوات سابقة.
 
        كان المحل معتما ومزدحما بكل أصناف السلع القديمة، المعوجّة، المحطمة، المنطفئة، الصدئة، التى يمكن العثور عليها عادة فى محلات السلع المستعملة، وكان كل شيء فى تلك الحالة من نصف الفوضى التى تليق بمثل هذه المنشأة. كانت هذه التشكيلة من السلع شائقة رغم تفاهتها. قدور بلا أغطية، أغطية بلا قدور، أزرار، أحذية، أقفال، جونلة سوداء، قبعات قش، قبعات فرو، براويز صور، بينوكلات (مناظير مزدوجة)، سترات رسمية، سيف للعبة الشيش، كلب محنَّط، زوج شبشب، قفازات، ڤازات صعبة التصنيف، أشرطة ”إسپلايت“ للسترات العسكرية، حقيبة كتف من القطيفة، شماعتان للقبعات، مقلاع، ترمومتر، كراسىّ، پورتريه مطبوع على الحجر للفنان الراحل سيسون، رقعة طاولة، قناعان من السلك من أجل كرنڤالات عيد من أعياد المرافع فى المستقبل– كل هذه الأشياء وأكثر مما لم أره أو لا أتذكره، كانت تملأ المحل فى المساحة التى حول الباب، مسنودة، أو معلقة، أو معروضة داخل صناديق زجاجية قديمة مثل الأشياء التى بداخلها. وفى مكان أبعد داخل المحل كانت هناك أشياء كثيرة لها نفس المظهر. وكانت الأشياء الضخمة هى الغالبة– دواليب صغيرة للملابس، وكراسىّ، وأَسرّة- وكانت مكومة بعضها فوق بعضها الآخر متوارية فى الظلام.
 
        وكنت على وشك الانصراف عندما رأيتُ قفصا يتدلى عند المدخل. وكان قديما مثل كل شيء آخر فى المحل، وتوقعت أن يكون خاليا بحيث ينسجم مع المظهر العام لذلك المكان الموحش. غير أنه لم يكن خاليا. كان بداخله عصفور كناريا يحجل. أضاف لون الطائر، وحيويته، وسحره، سمة حياة لتلك الكومة من الحطام. كان هو الراكـب الأخير فى سفينة ما محطمة، والذى كان قد وصل إلى المحل سليما وسعيدا مثلما كان فى الأصل. وبمجرد أن نظرتُ إلى الطائر، بدأ يحجل صاعدا هابطا، من مجثم إلى مجثم، وكأنه قصد إلى أن يخبرنى أن شعاعا من أشعة الشمس بدأ يمرح فى قلب تلك المقبرة. وأنا لا أستخدم هذه الصورة فى وصف عصفور الكناريا إلا لأننى أخاطب أشخاصا مغرمين بالتعابير الطنانة، لكن الحقيقة هى أن عصفور الكناريا لم يفكر لا فى المقبرة، ولا فى الشمس، حسبما قال لى فيما بعد. وجنبا إلى جنب مع السرور الذى جلبه لى مرأى الطائر، أحسستُ باستياء بسبب مصيره وغمغمت بصوت خافت بهذه الكلمات المريرة:
 
        ”أىّ مالك كريه هذا الذى كانت لديه الجرأة ليتخلص من هذا الطائر مقابل قليـل من السنتاڤووات؟ أو أىّ امـرئ لا مبـالٍ، غيـر راغب فى الاحتفـاظ ﺒ "دلوعة" سيده الراحل، هذا الذى منحه لطفل ما، باعه ليكون بوسعه أن يراهن على مباراة كرة قدم؟“
 
        غرد عصفور الكناريا، جالسا فى أعلى مجثمه، بهذه الإجابة:
 
        ”مهما كان شخصك، لا شك فى أنك فقدت صوابك. لم يكن لى مالك كريه، ولا منحنى أحد لطفل ليبيعنى. تلك أوهام شخص مريض. اذهبْ وعالجْ نفسك، يا صديقى …“
 
        ”ماذا؟“ قاطعته، دون أن أجد وقتا لكى يصيبنى الذهول. ”إذن لم يبعك صاحبك لهذا المحل؟ لم يكن البؤس أو الكسل ما أتى بك ، مثل شعاع من أشعة الشمس، إلى هذه المقبرة؟“
 
        ”لا أدرى ماذا تعنى ﺒ "أشعة الشمس" أو "المقبرة". وإذا كانت عصافير الكناريا التى رأيتها أنت تستخدم أول هذين الاسمين، فنعْم ما فعلتْ، لأن وقعه لطيف، لكننى فى الواقع على يقين من أنك مضطرب الذهن“.
 
        ”معذرة، لكنك لا يمكن أن تكون أتيت إلى هنا بالمصادفة، وحدك دون عون. هل كان صاحبك دائما ذلك الرجل الجالس هناك؟“
 
        ”أىّ صاحب؟ ذلك الرجل الذى هناك هو خادمى. وهو يقدّم إلىّ الطعام والماء كل يوم، بصفة بالغة الانتظام بحيث إنه لو كان علىّ أن أدفع له مقابل هذه الخدمات، لكان المبلغ كبيرا جدا، لكن عصافير الكناريا لا تدفع لخدمها. والحقيقة أنه مادام العالم ملكا لعصافير الكناريا فسيكون من الإسراف من جانبها أن تدفع مقابل ما هو موجود فى العالم أصلا“.
 
        مذهولا بهذه الإجابات، لم أَدْر ممّ أعجب أكثر– اللغة أم الأفكار. والحقيقة أن اللغة، وإنْ كانت دخلت أذنى ككلام بشرى، لفظها الطائر فى هيئة تغريد ساحر. نظرتُ حولى فى كل اتجاه حتى يكون بوسعى أن أحسم ما إذا كنتُ مستيقظا فـوجدتُ الشارع نفس الشارع، والمحـل نفس المكان المظلم، الحزين، العفن. وكان عصفور الكناريا، متنقلا من جانب إلى جانب، فى انتظار أن أتكلم. وعندئذ سألته ما إذا كان يحس بالوحشة إزاء الفضاء الأزرق اللانهائى.
 
”لكنْ، عزيـزى الإنسان“، غرّد عصفـور الكنـاريا. ”مـاذا يعنى "الفضاء الأزرق اللانهائى"؟“
 
”لكنْ، وأرجوك المعذرة، ما رأيك فى هذا العالم؟ ما العالم فى نظرك؟“
 
”العالم“، سـارع عصفـور الكناريا بالرد، بشيء من مظهر المحترف. ”العالم محل سلع مستعملة به قفص قائم الزوايا من الخيزران يتدلى من مسمار. وعصفور الكناريا هو سيد القفص الذى يعيش فيه والمحل الذى يحيط به. وفيما وراء ذلك، كل شيء وَهْم وخداع“.
       
عندئذ، استيقظ الرجل العجوز واقترب منى، مجرجرا قدميه. سألنى ما إذا كنت أريد أن أشترى عصفور الكناريا. وسألته ما إذا كان قد حصل عليه بنفس الطريقة التى حصل بها على بقية الأشياء التى يبيعها وعلمت منه أنه كان قد اشتراه من حلاق، مع طقم من الأمواس.
 
”الأمواس بحالة جيدة جدا“، قال.
 
”أنا لا أريد سوى عصفور الكناريا“.
 
        دفعتُ ثمنه، وطلبتُ قفصا مستديرا ضخما من الخشب والسلك، وجعلتهم يضعونه فى ڤراندة منزلى بحيث يمكن للطائر أن يرى الحديقة، والفسقية، وقطعة صغيرة من السماء الزرقاء.
 
        كان هدفى من وراء ذلك هو أن أقوم بدراسة مطولة لهذه الظاهرة، دون أن أقول أىّ شيء لأىّ شخص إلى أن يكون بمستطاعى أن أذهل العالم باكتشافى الخارق. وبدأتُ بعمل ألفباء للغة عصفور الكناريا توطئة لدراسة بنيتها، علاقتها بالموسيقى، إدراك هذا الطائر لفلسفة الجمال، أفكاره وذكرياته. وعندما انتهى عمل هذا التحليل الفلسفى والسيكولوجى، دخلتُ بصورة محددة فى دراسة عصافير الكناريا: أصلها، تاريخها الأقدم عهدا، چيولوچيا جُزُر الكنارى وحياتها النباتية، معرفة الطائر بالملاحة، إلى آخره. وكنا نتحادث لساعات فيما كنت أدوّن ملاحظات، وكان ينتظر، ويحجل، ويغرّد.
 
        ولما كنت بلا أسرة سوى خادمين فقد أمرتهما بعدم مقاطعتى، حتى لتسليم رسالة أو برقية عاجلة أو لإبلاغى بقدوم زائر مهم. ولأنهما كانا يعرفان كلاهما اهتماماتى العلمية فقد وجدا أوامرى طبيعية تماما ولم يرتابا فى أننا، عصفور الكناريا وأنا، يفهم كل منا الآخر.
 
        ولا حاجة بى إلى القول إننى كنت أنام قليلا، وأستيقظ مرتين أو ثلاث مرات كل ليلة، وأهيم على وجهى بلا هدف، وأحس بأننى محموم. وأخيرا عدتُ إلى عملى لكى أعيد القراءة، وأضيف، وأعدّل. وصححتُ أكثر من ملاحظة، إما لأننى أسأت فهم شيء ما وإما لأن الطائر لم يكن عبر عنه بوضوح. وكان تعريف العالم أحد هذه التصحيحات. فبعد ثلاثة أسابيع من دخول عصفور الكناريا فى بيتى، طلبت منه أن يكرر لى تعريفه للعالم.
 
        ”العالم“، أجاب، ”العالم حديقة واسعة للغاية به فسقية فى الوسط، وزهور، وشجيرات، وبعض الحشائش، وجو صحو، وقطعة صغيرة من الزرقة من فوق. ويعيش عصفور الكناريا، سيد العالم، فى قفص متسع، أبيض ومستدير، يطلّ منه على بقية العالم. وكل شيء آخر وَهْم وخداع“.
 
        كذلك تعرضت لغة رسالتى العلمية لبعض التعديلات، ووجدتُ أن استنتاجات بعينها بدتْ بسيطة من قـبل كانت بالغة الجرأة فى واقـع الأمر. وما أزال غير قادر على كتابة الرسالة التى كان علىّ أن أرسلها إلى المتحف القومى، والمعهد التاريخى، والجامعات الألمانية، ليس لافتقار إلى المادة العلمية بل لأنه كان علىّ أولا أن أجمع كل ملاحظاتى وأفحص مدى سلامتها. وخلال الأيام القليلة الماضية، لا غادرتُ المنزل، ولا رددتُ على رسائل، ولا رغبتُ فى الاتصال بأصدقاء أو أقارب. كان عصفور الكناريا كل شيء بالنسبة لى. وكان أحد الخادمين من واجبه تنظيف قفص الطائر وتقديم الطعام والماء له كل صباح. ولم يقل له الطائر شيئا، وكأنه علم أن الرجل كانت تنقصه الخلفية العلمية تماما. وبالإضافة إلى هذا، لم تكن الخدمة أكثر من خدمة سطحية، نظرا لأن الخادم لم يكن من هواة الطيور.
 
        وفى يوم سبت استيقظت مريضا، وكان يؤلمنى رأسى وظهرى. أمر الدكتور بالراحة التامة. وكنت أعانى من إفراط فى الدراسة وكان علىّ ألا أقرأ وحتى ألا أفكر، كما لم يكن مسموحا لى حتى بأن أعرف ما يجرى فى المدينة أو بقية العالم الخارجى. بقيت فى هذه الحالة خمسة أيام. وفى اليوم السادس نهضت من فراشى، وعندئذ فقط اكتشفت أن عصفور الكناريا كان قد طار خارجا من قفصه، حينما كان تحت رعاية الخادم. وكان أول دافع أحسست به هو أن أخنق الخادم – كنت أختنق من الغيظ وتهاويت على مقعدى، أبكم وذاهلا. ودافع الرجل المذنب عن نفسه، وأقسم أنه كان بالغ العناية، لكن الطائر المكار نجح فى الإفلات رغم ذلك.
 
        ”لكن ألم تبحث عنه؟“
 
        ”بل بحثت، يا سيدى. فى البداية طار إلى السطح، وتبعته. وطار إلى شجرة، ومن يدرى إذن أين أخفى نفسه؟ وقد ظللت أسأل حولنا هنا منذ أمس. سألت الجيران وكذلك المزارعين المجاورين، لكنْ لا أحد رأى الطائر“.
 
        عانيت للغاية. ولحسن الحـظ، زايلنى الإعيـاء فى غضون ساعات قليلة، وسرعان ما كنت قادرا على الخروج إلى الڤراندة و الحديقة. ولم يكن هناك أى أثر لعصفور الكناريا. ركضتُ فى كل اتجاه، فأجريتُ تحريات، وعلقتُ إعـلانات، وكل ذلك سدىً. وكنت قد جمعت بالفعل ملاحظاتى لأكتب بحثى، حتى وإنْ كان سيصبح غير مترابط وغير مكتمل، عندما تصادف قيامى بزيارة صديق كان يملك مزرعة من أضخم وأجمل المزارع فى ضواحى المدينة. وكنا نقوم بجولة قبل الغداء عندما تم تغريد هذا السؤال لى:
 
        ”تحياتى ، يا سنيور ماسيدو، أين كنتَ منذ اختفائك؟“
 
        كان ذلك عصفور الكناريا، وقد حط على غصن شجرة. ويمكنك أن تتخيل ماذا كان رد فعلى وماذا قلتُ للطائر. افترض صديقى أننى مجنون، غير أن آراء الأصدقاء لا أهمية لها عندى. تكلمتُ بحنان مع عصفور الكناريا وطلبتُ منه أن يعود إلى البيت فنُواصل أحاديثنا فى عالمنا ذلك، المؤلف من حديقة، وفسقية، وڤراندة، وقفص أبيض مستدير.
 
        ”أىّ حديقة ؟ أىّ فسقية؟“
 
        ”العالم، يا عزيزى الطائر“.
 
        ”أىّ عـالم؟ أرى أنك لم تفقد أىّ عادة من عاداتك المهنية المزعجة. ”العالم“، انتهى الطائر إلى القول برصانة، ”العالم فضاء أزرق لا نهائى، والشمس من فوق“.
 
        أجبت بغيظ بأننى لو صدقت ما قاله لأمكن أن يكون العالم أىّ شيء– فقد سبق له أن كان حتى محل سلع مستعملة.
 
        ”محل سلع مستعملة؟“ غرد ما شاء له قلبه أن يغرد. ”لكنْ هل هناك فى واقع الأمر شيء من قبيل محل سلع مستعملة؟“
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
مارش جنائزى
 
        فى تلك الليلة من أغسطس 1867 ما كان بوسع النائب كوردوڤيل أن يغمض له جفن. كان قد غادر كازينو فلومينينسه مبكرا، بعد انصراف الإمبراطور، ولم يكن أحس أثناء الرقص بأدنى توعك، بدنى أو معنوى. على العكس، كانت سهرة رائعة، رائعة إلى حد أن أحد أعدائه، وكان يعانى من مرض فى القلب، توفى قبل الساعة العاشرة، ووصل الخبر إلى الكازينو بعد الحادية عشرة بقليل.
 
        ستستنتج بطبيعة الحال أن كوردوڤيل كان مسرورا بموت الرجل، وأن سروره كان من ذلك النوع الذى تستمده النفوس الضعيفة والحقودة من الانتقام لانعدام مصدر أفضل. أنت مخطئ: بدلا من السرور، أحس بشعور بالارتياح. فالموت، الذى كان متوقعا منذ شهور كان موتا من ذلك النوع الذى يعض ويمضغ ويحطم ويطحن ضحيته بلا انقطاع. وكان كوردوڤيل على علم بمعاناة الرجل. ذلك أن بعض أصدقائه، رغبة منهم فى مواساته على المظالم التى كان قد صبر عليها فى الماضى، كانوا يأتون ليخبروه بما علموا عن حالة خصمه، الذى كان ملازما لكرسى مريح، حيث عاش ليالى مريعة، وصباحات بلا بصيص أمل، وأصائل بلا بادرة تبشّر بالخلاص. وكان كوردوڤيل يجيب على أنباء الساعين بها بكلمات شفقة كانوا يتبنونها ويرددونها فى كل مكان آخر. لقد انتهت إذن معاناة الرجل فى نهاية المطاف– ومن هنا شعور كوردوڤيل بالارتياح.
 
        كان هذا الشعور منسجما مع إحساس كوردوڤيل بالشفقة. وباستثناء السياسة، لم يتمنّ على الإطلاق مصيبة لآخر. وعندما كان يخرج من فراشه ويصلى: ”أبانا الذى فى السموات، ليتقدس اسمك. ليأت ملكوتك. لتكن مشيئتك، كما فى السماء، كذلك على الأرض. خبزنا كفافنا، اعطنا اليوم. واغفر لنا ذنوبنا، كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا“، فإنه لم يكن يقلد صديقا له، كان يتشدق بنفس الصلاة فيما كان يواصل اعتبار المذنبين إليه مطالبين بالمحاسبة عن ذنوبهم. وقد ذهب هذا الصديق إلى حد المطالبة بأداء أكثر مما كان مستحقا، أىْ أنه عندما كان يسمع الناس يفترون على آخر، كان يحفظ ما سمع عن ظهر قلب، ويضيف إليه، ثم يردده. ومع ذلك فإنه، فى اليوم التالى، كان يردد صلاة اليسوع البديعة بنفس تلكما الشفتين بمحبتهما المسيحية المعتادة.
 
        لم يحذ كوردوڤيل حذو صديقه– بل غفر بصدق. ويمكننا أن نتصور أن مسحة من الخمول أفسدت عليه غفرانه، لكنها لم تكن جلية على أى حال فى الحقيقة. والواقع أن الخمول يغذى فضيلة بالغة الأهمية. ذلك أن أىّ تضاؤل فى قـوة الشر أمر لا يُستهان به. ولا تنس أن النائب لم يكن يتمنى مصيبة لآخر إلا فى السياسة، وأن عدوه المتوفى كان عدوا شخصيا. ولا يمكننى أن أدّعى أننى أعرف السبب وراء عداوتهما، وقد نسى الناس اسم الرجل بعد وفاته.
 
”استراح المسكين أخيرا!“ قال كوردوڤيل.
 
وفى الكازينو كانوا يتجاذبون أطراف الحديث حول المرض الطويل للراحل. كما تكلموا عن مختلف أنواع الموت فى هذا العالم. وقال كوردوڤيل إنه يفضل عليها جميعا ميتة قيصر، ليس من ناحية الأداة المستخدمة بل لأنها كانت غير متوقعة وسريعة.
 
”حتى أنت [يا بروتس]؟“ سأل زميل، ضاحكا.
 
وهو ما أجـاب عليه كوردوڤيل، متلقطا الإشارة: ”لو كان لى ابن لوددت أن أموت بيده. كان من شأن قتل الأب، لأنه نادر للغاية، أن يجعل الموت أكثر مأسوية“.
 
وهكذا تواصل الحديث، تسوده روح المزاح. وكان كوردوڤيل نعسان عندما غادر الحفل الراقص، ورغم الشوارع الرديئة الرصف غلبه النعاس فى عربته. وعلى مقربة من البيت، أحس بالعربة تقف وسمع ضجيج الأصوات. وكان شرطيان يرفعان جثة رجل ميت.
 
”مقتول؟“ سأل خادمه، الذى كان قد هبط من مقعده ليعرف ماذا جرى.
 
”لا أعرف، يا سيدى“.
 
”اسأل“.
 
”ذلك الشاب يعرف ماذا حدث“، قال الخادم، مشيرا إلى غريب يتحادث مع جمع من الناس.
 
اقترب الشاب من باب العربة الصغيرة قبل أن يكون بوسع كوردوڤيل أن يرفض الاستماع إلى شرحه، ثم لخّص الحادث الذى شهده.
 
”كنا نسير فى الشارع، هو فى المقدمة و أنا خلفه. أعتقد أنه كان يصفر لحنا من ألحان الپولكا. وفيما كان على وشك عبور الشارع متجها إلى حىّ مانجه، رأيته يتوقف فجأة. لا أعرف بالضبط ماذا حدث، لكن جسمه تقلص إلى حد ما، وسقط فاقد الوعى. وصل طبيب فى الحال، قادما من مبنى صغير ذى طابقيْن، وفحص الرجل، وقال إنه مات فجأة. وأخذ الناس يتجمعون حوله، واحتاجت الشرطة إلى وقت طويل لتصل إلى هنا. وقد رفعوا الآن جثته. أتريد أن ترى الجثة؟“
 
”لا، شكرا. هل يمكننا الآن أن نمر؟“
 
”نعم“.
 
”أشكرك مرة أخرى. هيا بنا، يا دومنجوس“.
 
صعد دومنجوس إلى مقعده، وأرخى الحوذى العنان للحصانين لينطلقا، وواصلت العربة سيرها إلى شارع سان كريستوف، حيث كان يقيم كوردوڤيل. وفيما كان راكبا عربته، أخذ كوردوڤيل يفكر فى موت ذلك الغريب. وبأخذ كل شيء فى الاعتبار، كان موتا طيبا. وبالمقارنة مع موت عدوه الشخصى، كان ممتازا. كان الرجل قد أخذ يصفر، متفكرا فيما لا يعلم إلا الله من بهجة فى الماضى أو أمل فى المستقبل. كان يعيش من جديد ما سبق أن عاشه بالفعل، أو يستشرف ما كان لا يزال بوسعه أن يعيشه، عندما وضع الموت يده فجأة على البهجة أو الأمل، ورحل الرجل إلى مثواه الأبدى. لقد مات بلا ألم، أو إذا كان هناك شيء منه فربما كان قصير الأمد للغاية، أشبه بومضة البرق التى تترك الليل أكثر ظلاما.
 
ثم وضع نفسه فى مكان الآخر. ماذا لو أنه مات ميتة الغريب فى الكازينو؟ لم يكن ليرقص– فى الأربعين، كان لم يعد يرقص. ويمكن القول فى الحقيقة إنه كان قد انقطع فعلا عن الرقص عندما بلغ العشرين من عمره. ولم يكن زير نساء، ولم يُقم سوى علاقة واحدة ذات شأن طوال حياته. وكان قد تزوج عندما بلغ الخامسة والعشرين، فقط ليغدو أرمل بعد ذلك بخمسة أسابيع. ولم يتزوج مرة أخرى قط. ولم يكن ذلك لانعدام ما يبشر بمستقبل زاهر، خاصة بعد أن فقد جدّه، الذى ترك له عزبتين فى الريف. وقد باعهما كلتيهما وبدأ يعيش بمفرده، وقام برحلتين إلى أوروبا، وانخرط فى حياة سياسية واجتماعية نشيطة. ومنذ عهد قريب، بدا أنه يضيق ذرعا بالسياسة والمجتمع على السواء، غير أنه لم ينقطع عنهما لانعدام طريقة أخرى لقضاء وقته. بل أصبح ذات يوم وزيرا للبحرية، غير أن ذلك لم يدم أكثر من سبعة أشهر. ولم يخب أمله بإقالته: لم يكن طموحا وكان يميل إلى حياة آمنة وهادئة أكثر منها نشطة.
 
لكن ماذا لو أنه كان قد مات فجأة فى الكازينو، أثناء رقصة ڤالس أو كوادريل، وسط حلبة الرقص تماما؟ كان من الممكن حقا أن يحدث الأمر على هذا النحو. وتخيّل كوردوڤيل  المشهد: وجهه إلى الأسفل أو وهو على ظهره، تعكير بهجة الجمهور، قطع سير الحفل الراقص … ربما لم يكن ليحدث على هذا النحو تماما. ربما كان سيندهش بعضهم، ويفزع آخرون قليلا، ويحاول الرجال تهدئة روع النساء. وكان العازفون سيواصلون العزف وسط تلك الفوضى، إلى أن يدركوا حقيقة ما حدث. ولن يكون هناك افتقار إلى أشخاص أقوياء الأجسام يحملونه إلى حجرة جانبية، ميتا بالفعل، ميتا تماما.
 
”تماما مثل ميتة قيصر“، فكر كوردوڤيل.
 
ثم صحح نفسه: ”لا، بل أفضل منها، لا تهديدات، لا أسلحة أو دم، بل مجرد سقطة ومعها النهاية. لم أكن لأشعر بأىّ شيء“.
 
ضحك كوردوڤيل، وابتسم، وفعل كل ما كان بوسعه أن يفعل ليخلص نفسه من الإحساس بالخوف. وبكل صدق، كان من الأفضل أن يموت على ذلك النحو من أن يموت بعد ساعات طويلة أو شهور أو سنين من المعاناة، مثل ذلك الخصم الذى كان قد فقده قبل ذلك بساعات قليلة. بل إن ذلك لم يكن موتا أصلا: كان أشبه بلمسة للقبعة على سبيل التحية، ضائعة فى الهواء جنبا إلى جنب مع ذات اليد والحياة التى بادرت بالإيماءة. إيماءة سريعة بالرأس يعقبها النوم الأبدى. ولم يجد فى هذه الميتة سوى عيب واحد: كل هذا التكلف المفرط. فذلك الموت وسط حفل راقص، فى حضور الإمبراطور، على موسيقى شتراوس، وبعد وصفه ومناقشته والمبالغة فيه فى الصحف، ذلك الموت كان سيبدو مصنوعا حسب الطلب. حسنا، كان عليه أن يكون صبورا ليس إلا، ما دام قد حدث فجأة.
 
فكر كبديل فى أنه كان يمكن أن يحدث فى مجلس النواب فى اليوم التالى، فى بداية المناقشة حول الميزانية. وقف لإلقاء كلمته، والآن كان يسرد الوقائع والأرقام. وأبى أن يفكر فى الأمر، لم يكن يستحق أن يبدد فيه وقته– لكن أفكاره ألحّت عليه وظهرت من تلقاء نفسها. قاعة الاجتماعات بمجلس النواب بدلا من الكازينو، بلا سيدات، أو فقط بقلائل منهن فى الشرفات العليا. صمت رهيب. واقفا، سيبدأ كوردوڤيل كلمته، بعد إلقاء نظرة على أرجاء القاعة والتعبير عن تحيته وتقديره لرئيس المجلس ورئيس الحكومة: ”أناشد المجلس أن يستمع إلىَّ للنهاية، سأتكلم بإيجاز، وسأحاول أن أكون منصفا …“ وعند هذه النقطة ستغطى سحابة عينيه، وسيتوقف لسانه، وكذلك قلبه. وسيسقط فجأة على الأرض. سيُصاب الناس فى المجلس والشرفات بالدهشة. وسيسرع كثير من النواب لمساعدته. وسيؤكد أحدهم، وهو طبيب، وفاته. وبدلا من القول إنه حدث فجأة، كما سبق أن قال الطبيب الذى أتى من بيته المكون من طابقين فى شارع أترّادو، سيستخدم كلمة أكثر فنية. وبعد كلمات قليلة من رئيس الحكومة واختيار لجنة لترافق الراحل إلى الجبانة، ستتوقف جلسات المجلس.
 
أراد كوردوڤيل أن يضحك على تخيله للظروف والملابسات التفصيلية فى أعقاب وفاته: حشود من الناس تشرع فى التحرك، الجنازة، بل حتى أعمدة النعى، التى قرأها بسرعة وحفظها عن ظهر قلب. أىْ أنه فكر فى أنه أراد أن يضحك لكنه فضل فى الواقع أن يأخذ غفوة. وفيما كان يقترب من البيت والفراش، أبتْ عيناه أن تشغلا نفسهما بالنوم وظلتا مفتوحتين على اتساعهما.
 
ثم إن الموت، الذى كان قد حدث فى خياله قبل ذلك الحين فى الكازينو، وخلال الجلسة الكاملة لمجلس النواب فى اليوم التالى، ظهر داخل عربته. استحوذ على فكره أنهم سيعثرون على جثته عندما يأتون ليفتحوا الباب. وهكذا سيرحل من ليلة صاخبة و بلا أى نوع من الصراع أو المقاومة، فيدخل فى ليلة أخرى هادئة بلا أحاديث، أو حفلات راقصة، أو اجتماعات. وجعلته القشعريرة التى أصابته يدرك أنه لا شيء من هذا حدث فى واقع الأمر. وصلتْ عربته إلى الڤيلا التى يقيم فيها بالضاحية وتوقفت. وقفز دومنجوس هابطا من مقعده لفتح الباب. وهبط كوردوڤيل حيّا بساقيه وقلبه ودخل من الباب الجانبى، حيث كان عبده فلورندو ينتظره بشمعة موقدة. صعد السلالم، وأحست قدماه أن خطاه إنما كانت تدب هنا فى هذه الحياة الدنيا– لو أنها كانت فى العالم الآخر فلابد أنها كانت ستهبط، بطبيعة الحال. وعند دخول حجرته نظر إلى فراشه، الذى كثيرا ما استمتع فيه بنوم عميق وهادئ.
 
”هل زارنا أحد؟“
 
”لا، يا سيدى“، ردّ العبد شارد الذهـن لكنه صحح نفسه على الفور: ”نعم، أتى شخص بالفعل، يا سيدى، ذلك الطبيب الذى تغدّى معك يوم الأحد الماضى“.
 
”ماذا كان يريد؟“
 
”قال لى إنه جاء ليزف إليك نبأ سارا، وترك لك رسالة– وقد وضعتها عند قاعدة سريرك“.
 
كانت الرسالة تخطره بموت عدوه– وكان الطبيب واحدا من أولئك الأصدقاء الذين اعتادوا إخطاره بمدى تقدم مرض الرجل المحتضر. لقد أراد هذا الشخص السعيد، الذى كان يعانق كوردوڤيل كلما التقى به عناقا حارّا، أن يكون أول من يعلن النتيجة. أخيرا مات الوغد. لم يقل ذلك بتلك الكلمات بالضبط، لكن الكلمات التى استخدمها كانت بمثابة نفس الشيء. وأضاف أن تسليم هذه الرسالة لم تكن هدف زيارته. كان قد أتى لقضاء الأمسية معه، ولم يعلم إلا بعد وصوله أن كوردوڤيل ذهب إلى الكازينو. وعندما كان يهم بالانصراف، تصادف أن تذكر موت الآخر فطلب من فلورندو أن يسمح له بكتابة سطور قليلة. مرة أخرى تذكـر كوردوڤيل معاناة عدوه، وبإيماءة حـزينة ويائسة همس متعجبا: ”يا للمسكين! بارك الله فى الميتات الفجائية!“
 
لو أدرك فلورندو صلة انزعاج كوردوڤيل بالرسالة من قبل فلعله كان سيعتذر عن السماح للطبيب بتركها. لكنه لم يكن يفكر فى ذلك فى تلك اللحظة. ساعد سيده فى الاستعداد للنوم، وتلقى أوامره الأخيرة، وانصرف. واستلقى كوردوڤيل على الفراش.
 
”آه!“ تنهد، ممددا بدنه المنهك.
 
وعندئذ خطرت بباله فكرة أنه قد يموت أثناء نومه. هذا الاحتمال، وهو أفضل الاحتمالات جميعا لأنه سيفاجئه وهو نصف ميت أصلا، جلب معه رؤى لا آخر لها أطارت النوم من عينيه. وكانت، فى جانب منها، تكرارا للرؤى الأخرى: كلمته فى مجلس النواب، وكلمات رئيس الحكومة، واختيار لجنة لموكب الجنازة، والباقى. سمع أصدقاءه وخدمه يعبرون عن حسراتهم، وقرأ أعمدة النعى، وكانت جميعا حارة ومخلصة. ثم بدأ يرتاب فى أن هذا كله ليس سوى حلم. ولم يكن كذلك. كان مستيقظا. وعندئذ استعاد نفسه إلى الحجرة وإلى الفراش.
 
       كانت اللمبة السهّارى تكسو الواقع بهيئة أكثر يقينية. قاوم أفكاره المروعة وداعبه الأمل فى أن تحل محلها أفكار مرحة فترقص أمام عينيه إلى أن يصيبه الإنهاك. حاول أن يقهر رؤية برؤية أخرى. واستثار ببراعة حواسّه الخمس، التى كانت حادة وفعالة، لكى يستدعى أشخاصا وأحداثا من الماضى. ومن خلال عدسة زمن مختلف وبعيد، استرجع أشياء كثيرة كان قد رآها وفعلها. ومرة أخرى ذاق طعم الأطعمة الشهية التى لم يأكلها طوال سنوات. والتقطت أذناه أصوات وقع الأقدام الخفيفة والثقيلة، والأغانى المرحة والحزينة، وكل قول يمكن تصوره. وظلت كافة حواسه تعمل لفترة من الزمن كان عاجزا عن قياسها.
 
ثم حـاول أن ينام وأغمض عينيه بإحكام. غير أن النوم لم يكن ليأتى، لا وهو على ظهره أو بطنه، ولا وهو على جنبه الأيسر أو الأيمن. ونهض لينظر إلى الساعة: كانت الساعة الثالثة صباحا. وبشكل لا إرادى رفعها إلى أذنه ليرى ما إذا كانت توقفت. كانت تدور، وملأها. نعم، كان لا يزال هناك وقت لنوم عميق. وعاد إلى الفراش، وغطى رأسه حتى لا يرى الضوء.
 
عندئذ حاول النوم أن يدخل– صامتا ومتسللا، كما يمكن للموت أن يدخل إن أراد أن يخطفه فجأة، إلى أبد الآبدين. أغمض كوردوڤيل عينيه قسرا، وكان هذا خطأ، لأن هذا الجهد أكد رغبته فى النوم. حاول أن يجعلهما تسترخيان، وكان هذا هو الشيء الصحيح الذى ينبغى أن يفعله. استدار النوم، الذى كان يوشك على الانسحاب، وأتى ليتمدد إلى جانبه، وطوّقه بذراعيه ذلكما الخفيفين والثقيلين فى آن معا واللذيْن يقيدان تماما حركات المرء. أحس كوردوڤيل بهما وحاول حتى أن يضمهما أكثر بذراعيه هو. والحقيقة أن هذه الصورة ليست دقيقة، لكننى لا أملك صورة أخرى جاهزة أو وقتا للبحث عن صورة أخرى. وهكذا سأكتفى بأن أكشف نتيجة بادرته، التى تمثلت فى طرد النوم عن طريق إزعاج ذلك الملاذ للمتعبين.
 
”ماذا عسى أن يكون لديه ضدى الليلة؟“ هكذا سيسأل النوم، إن كان بمقدوره أن ينطق. لكن الصمت هو الجوهر الحقيقى للنوم. وعندما يبدو أن النوم يتكلم، فلن يكون هناك سوى حلم يتكلم– وليس النوم، الذى هو حجر، وحتى الحجر ينطق إذا وجّه إليه المرء ضربة، كما يفعل الآن العمال المنهمكون فى رصف شارعى. فكل ضربة على الحجر تحدث صوتا، ويجعل انتظام هذا الفعل الصوت بالغ الانتظام إلى حد أنه يبدو وكأنه يعمل كالساعة. الناس الذين يتكلمون فى الشوارع، صيحات الباعة، عجلات العربات، صوت وقع الأقدام، لا شيء من هذه الأشياء التى أسمعها الآن أضفى حياة على شارع كوردوڤيل وليلته. وبدا أن كل شيء يساعد على النوم.
 
عندما كان كوردوڤيل على وشك أن يغفو أخيرا، عاودته فكرة أنه قد يموت أثناء النوم. وتراجع النوم وهرب. ودامت هذه الحالة من عدم اليقين طويلا. وكلما كان النوم على وشك أن يغمض عينيه، فتحتهما فكرة الموت، إلى أن ألقى بالملاءة بعيدا وخرج من الفراش. فتح نافذة واتكأ على قاعدتها. كانت السماء آخذة فى الإشراق، وكانت الأشباح غير الواضحة للعمال والتجار وهم فى طريقهم إلى المدينة تمر فى الشوارع فى الأسفل. وأحس كوردوڤيل بقشعريرة. ودون أن يعرف ما إذا كان ذلك من البرد أو من الخوف، ذهب ليلبس قميص نوم من الشيت ثم عاد إلى النافذة. ولابد أن الجو كان باردا، لأنه وقف يرتجف.
 
واصل الناس المرور، وأشرقت السماء، ودلت صفارة المحطة على رحيل قطار. وخرج البشر والأشياء كل من مثواه. وأخذت السماء تقتصد، طاردةً النجوم فيما ارتفعت الشمس لتمارس حرفتها. كان كل شيء يوحى بالحياة. وبطبيعة الحال انسحبت فكرة الموت وتلاشت تماما، فى حين أن كوردوڤيل، الذى كان قد تاق إليه فى الكازينو، وتمناه فى اليوم التالى فى مجلس النواب، وواجهه فى عربته، أدار له ظهره عندما رآه داخلا مع النوم، أخيه الأكبر أو الأصغر– فأنا لا أعرف أيهما هو.
 
بعد ذلك بسنين طويلة طلب كوردوڤيل الموت وتلقاه، ليس الموت الفجائى الذى تمناه بل موتا طويلا متريثا– موت خمرة تصَبّ ببطء من قنينة إلى أخرى لتصفو من الشوائب. قطرة فقطرة ستنتقل الخمرة من القنينة الأولى إلى الثانية، إلى أن تتم تصفية الشوائب تماما. عندئذ أدرك الفلسفة التى ينطوى عليها ذلك: الرواسب وحدها ستذهب إلى القبر. ولم يقدّر له أبدا أن يفهم معنى الموت الفجائى.

 
 

 


المؤلف فى سطور
 
 
ماشادو ده أسيس
 
1839- 1908
 
-   روائى وقـاص برازيلـى هو الأب الحقيقى للآداب البرازيلية و الأمريكية اللاتينية الراهنة، وهو مؤسس الأكاديمية البرازيلية للآداب ورئيسها حتى وفاته.
-   ورغم مجلداته التى تربو على الواحد والثلاثين، تقوم شهرته العالمية على إنتاجه الروائى والقصصى والشعرى منذ 1880 وحتى وفاته، وبوجه خاص رواياته الثلاث: مذكـرات براس كوباس يكتبها بعد وفاته 1880، كينكاس بوربا (الفيلسوف أم الكلب؟) 1891، دون كازمورّو 1900، والروايتان الأخيرتان مترجمتان إلى العربية:
كينكاس بوربا: ترجمة: الدكتور سامى الدروبى (دمشق 1961).
دون كازمورّو: ترجمة: خليل كلفت (القاهرة 1991).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
المترجم فى سطور
خليل كلفت
 
 
كاتب ومترجم مصرى. ترجم عن الإنجليزية والفرنسية العديد من الكتب فى مجالات الأدب، والنقد الأدبى، والفكر، والسياسة، والاقتصاد، ومن ترجماته:* دون كازمورّو (رواية) للكاتب البرازيلى: ماشادو ده أسيس * السراية الخضراء (روايـة قصيرة) للكاتب البرازيلى: ماشادو ده أسيس * الأسطورة والحداثة: حول رواية دون كازمورّو (نقد أدبى) تأليف: پول ب. ديكسون * دستويڤسكى: إعادة قراءة (نقد أدبى) تأليف: يورى كارياكين * عوالم بورخيس الخيالية (نقد أدبى) لمجموعة من الكتاب * قصص برازيلية (بالاشتراك مع سحر توفيق) * مختارات الميتافيزيقا والفانتازيا (قصص، مقالات، أشعار، حكاية رمزية) للكاتب الأرچنتينى خ. ل. بورخيس: * آدم وحواء وقصص أخرى من أمريكا اللاتينية لمجموعة من الكتاب * بورخيس: كاتب على الحافة (نقد أدبى) تأليف: بياتريث سارلو * تحولات عالمية عند منعطف القرن (سياسة واقتصاد) لمجموعة من الكتاب * يصدر له قريبا: تجارة عادلة للجميع (اقتصاد) تأليف: چوزيف ستيجليتز * صدر من تأليفه مؤخرا: من أجل نحو عربى جديد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
كلمة الغلاف الخلفى
حكاية سكندرية وقصص أخرى
 
        فى هذه المجموعة المختارة من القصص القصيرة، يواصل ماشادو ألعابه الخيالية السحرية التى جعلت منه، بحكم طبيعة الموضوعات وأساليب المعالجة الفنية، رائدا مباشرا للحداثة: من الهند الصينية فى القرن السادس عشر حيث نشهد ظهور كثرة من الفرق الدينية البوذية ”سرّ البونزو“؛ إلى الإسكندرية الپطلمية حيث يطبق فيلسوفان قبرصيان نظرية عن تحويل صفات الإنسان بمواد مستخلصة من حيوانات وطيور لتنتهى الأحداث إلى جريمة نظرية يكون ضحيتها الإنسان ”حكاية سكندرية“؛ إلى إصرار الشيطان على تأسيس كنيسة للشر يناطح بها كنيسة الرب بدلا من مجرد تضليل المؤمنين ”كنيسة الشيطان“؛ إلى ”الفاصل الأخير“ لمنتحر؛ إلى ”الحياة الثانية“ التى يعيشها مجنون بها ؛ إلى ”دونا پاولا“ التى تثير نزوة ابنة أختها ذكرى أيامها الخوالى؛ إلى ”الممرض“ الذى يقتل رغم أنفه مريضه؛ إلى نجم موسيقى الپولكا الذى يدمره طموح مستحيل إلى تأليف الموسيقى الكلاسيكية ”رجل شهير“؛ إلى مُولع بعلم الطيور يعيش جنونه مع نظريات و ”أفكار عصفور كناريا“؛ إلى ليلة يقضيها نائب برلمانى متمنيا موتا فجائيا ينقذه من موت يعض ويمضغ ويحطم ويطحن ضحيته مات به ليلتها أحد أعدائه ولكنه يموت بعد سنين طويلة حيث يطلب وينال موتا طويلا متريثا تسربت خلاله عصارة حياته قطرة قطرة من قنينة إلى أخرى فلم يبق سوى الشوائب وعندئذ أدرك الفلسفة الكامنة وراء الموت الطويل المتريث: الرواسب وحدها ستذهب إلى القبر ”مارش جنائزى“.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
إشارات



[i]   البونزو ("الكاهن البوذى") يعنى أيضا فى البرتغالية: "المنافق" و"الوقور". وقصة "سرّ البونز" يقدمها ماشادو فى شكل فصل غير منشور من كتاب شهير للرحالة البرتغالى فرنون مينديس پينتو (حوالى 1510- 1583) هو كتاب "الحج" الذى وصف فيه التوسع فى آسيا (بعد ارتياده لبلاد الهند الصينية) وصفا غنيا بالمعلومات ولابطوليا ساخرا – ملاحظة الطبعة الإنجليزية بتصرف– المترجم.
[ii]   لفظة پومادا تعنى الدجال- ملاحظة الطبعةةة الإنجليزية.
[iii]  الشاؤم: آلة نفخ موسيقية قديمة أشبه بالناى – المترجم.
[iv]   الفرنشات : أهداب طرف الثوب – المترجم.
[v]   كروس إى سيلڤا: شاعر برتغالى 1731- 1799- المترجم.
[vi]     شُول: جمع أشول؛ مستعمل اليد اليسرى- المترجم.
[vii]    يُمْن: جمع أيمن؛ مستعمل اليد اليمنى- المترجم.
[viii]   دكتور : لقب المحامى فى البرازيل – المترجم .
[ix] أوريكو هو الشخصية الرئيسية فى رواية "أوريكو، الكاهن" للروائى والشاعر والمؤرخ البرتغالى إسكندر هيركولانو 1810-1877. عند اجتماع شمل أوريكو مع محبوبته بعد فراق دام عشر سنوات، يقول لها إنه قضى العشر سنوات الأخيرة "مربوطا بجثته هو"– ملاحظة الطبعة الإنجليزية.
 



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن