الثروة والسلطة في مخيلة السياسي المغربي

إغرم رحال
ighramnikh@gmail.com

2011 / 11 / 13

الثروة والسلطة في مخيلة السياسي المغربي
يجمع أغلب الدارسين للشأن السياسي على اعتبار السياسة في مفهومها الشامل مجالا للصراع والتناحر حول السلطة والخيرات والرموز، وهي بذلك كما يقول محمد سبيلا: "تمتلك بدورها فنونها وأساليبها التضليلية الخاصة والمتجددة"(محمد سبيلا، للسياسة بالسياسة، ص5). الشيء الذي يمنحها، كممارسة إنسانية اجتماعية، تشابكا وتعقيدا في ميكانزمات وآليات اشتغالها، وتعددا وتنوعا في أبعادها والعناصر الفاعلة فيها كفن، كتجربة، كمهنة أو حرفة، كواجب، كرهان، كوجود، كمبدأ أو كنضال من أجل قضية.
إن الشأن السياسي عبارة عن حقل اجتماعي يقوم على قوانين ومعايير خاصة ،تؤطر التفاوض والصراع والتنافس المحتدم فيه بين قوى وفاعلين من جهات ومشارب مختلفة ومتعددة، تحت رهانات وأفق جد محددة تصب كلها في اتجاه الحصول على قيمة أو بضاعة (موقع الصراع) بهدف استثمارها واستغلالها وتوظيف نتائج حيازتها لكسب المزيد من السلطة والثروة.
في هذا السياق يمكن أن نمنح لأنفسنا مشروعية القول بوجود، بوجه عام، صنفين من الفاعلين "المناضلين" بالمجتمع المغربي، يختلفان في المسار والسبل المتبعة ويلتقيان بخصوص الهدف المنشود.
أما الأول فيتعلق الأمر بذلك الشخص الانتهازي الحربائي الذي لا يضع نصب عينيه أهدافا غير تلك التي تصب في مصالحه الخاصة. ولأجل ذلك يتمتع بقوة وقدرة سيكولوجية واجتماعية وحنكة سياسية دهائية وخداعية يتلون بفضلها حسب طبيعة الظروف والسياقات التي يتواجد بها.
وبصدده يقول محمد سبيلا: "يقدم المناضل نفسه على أنه كائن غيري بشكل مطلق، كائن تخلى نهائيا عن ذاته وتزوج نهائيا قضايا الآخرين"(محمد سبيلا،للسياسة بالسياسة، ص161).
إن الفكرة الأساسية التي تحتل ذهنية هذا الصنف من "المناضلين" هي نوع من الوهم-الدهائي-الاستراتيجي-العقلاني الذي بموجبه يقوم لصالحه بالتسويق الاجتماعي والسياسي لنفسه في صورة الشخصية الفريدة العارفة بخبايا وثنايا البلاد والعباد المتوارية وبتشعب مسالك وتراتبية مؤسساتها التقليدية والعصرية منها، والقادرة (أي الشخصية) على إنقاذ كل المتورطين والبؤساء والكادحين الغارقين في هموم الدنيا ومصائبها الشائكة؛ إنه غير الناس رسول طهراني، يتمتع بحكمة واتزان وعقلانية في آرائه وقراراته وتنبؤاته، مبعوث من السماء لغاية واحدة ووحيدة وهي نبذ الذات وتسخيرها لخدمة الآخرين وقضاء مصالحهم.
لا يتوانى لحظة في اقتناص الفرص واستغلالها بذكاء ودهاء شديدين، فهو يسعى للظهور أمام الملأ بمظهر الملك الطاهر والزاهد عن غرور الدنيا وشهواتها وبذخها وملذاتها الفانية والحارس كل الحرس على نقاء وصفاء أخلاقه وسلوكاته الذاتية والاجتماعية ، والمثقف الذي يتمتع بحذق ونبوغ فكره وذهنه المتقد لإيجاد الحلول لكل المشاكل المستعصية، والرجل الخطيب الفصيح اللسان الذي لا يترك موضوعا إلا ويثير جوانبه المظلمة ثم لا يدع أحدا إلا ويرشقه بألفاظ تدغدغ عواطفه وتخدعه بقرب الفرَج والخلاص، والمصلح المتواضع القادر على التزام الحياد والإنصات الجيد لأنين الآخرين.
يستثمر كل إمكانياته الدهائية والمكرية، ويعبئ كل استراتيجياته لاكتساح السوق وبسط النفوذ عليها، ومن ثم التحكم في قيمها ومسارها الاقتصادي لا غير. يستغل هنات الآخرين لينظم خطابات أخلاقية وعظية، ولا ينظر إلى العالم حوله إلا كمريض طريح الفراش، موحيا بذلك أن بيده، وليس لدى غيره، الدواء الكفيل بشفاء وخلاص المريض وانفراجه من الداء المزمن الجاثم عليه.
غير أن هذا الكائن الذي يحاول بكل قواه اصطياد الجمهور في واضحة النهار، غالبا ما يسعى بالليل إلى التسول والتزلف بهدف التقرب من مراكز السلطة ومنابع الخيرات التي لا حسيب ولا رقيب عليها. يعمل بكل الآليات المتاحة لإيجاد مكانا له في حلبة السوق السياسية؛ فالكذب والبهتان والخداع والدهاء والمكر والنهب والسرقة وكل ما شبه ذلك، يعتبر فضائلا حسنة ومستحبة ولا محيد عنها في ذهنية وسلوك هذا النموذج البشري، في أفق وصول وبلوغ أهدافه الكامنة والخفية.
أما النموذج الثاني، فيحدده محمد سبيلا، في كونه:" هو المناضل الدغمائي، المقنع، والذي لا يتغير سلوكه مهما كانت الظروف والملابسات"(محمد سبيلا، للسياسة بالسياسة، ص162).
هذا الصنف من هذه الكائنات يمتزج سيكولوجيا ووجدانيا مع فكرة ضبابية يستمد منها تصوراته وقيمه ومعايير سلوكه، ومن ثم تعد المرجع الأساسي لقياس وتحديد الصواب من الخطأ: فإذا كانت هناك قضية موضع التساؤل والاستفهام والنقاش، فإنه لا يتردد حتما في مقارنة أبعادها بما توحي لديه مخيلته، ومن ثم إذا كان هناك توافق كان هناك صواب، أما إذا كان العكس أي تعارض حسم الأمر بأنه خطأ، وبالتالي لا داعي لمزيد من النقاش أو البحث، فأفكاره مطلقة ولا شيء يعلو فوقها.
تستهويه هذه الفكرة إلى حد الهوس والانسياب الذاتي والاجتماعي تحت تسلطها الممزوج بعشق التسامي والنرجسية المفرطة؛ يحذو في التزام تام، وبثقة ذاتية أكبر، وبقناعة مرصوصة تبعد الشك والريب، نحو التماهي معها في صمت غريب، يوحي بالزهد والرشد الأخلاقي والاجتماعي والسياسي ونبل القيم المُعتنقة وسموها.
إلا أن كل ذلك لم يترك الباحثين والدارسين للشأن الاجتماعي مكتوفي الأيدي، أمام هذه الظاهرة. فقد توصل السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر إلى فكرة أساسية مفادها أن الزهد والصرامة والعقلانية التي تميز البروتستانت الكالفنيين كتصور وممارسة بهدف التقرب من الرَّب، وأداء الواجب الدنيوي، والعمل من أجل الآخرة، اللذين من أجلهما بعثوا كبشر، تشكل مصدر مدارات ومكاسب وثروات لا تحصى أفضت في النهاية إلى ظهور نمط إنتاجي(بورجوازي) جديد على أنقاض السابق عليه(الإقطاعي).
كما توصل السوسيولوجي الفرنسي بورديو إلى تعدد الرساميل التي يمكن الاستحواذ عليها من قبل الفاعلين: إلى جانب الرأسمال الاقتصادي، هناك رأسمال اجتماعي، ورأسمال رمزي.
فهذين الصنفين الأخيرين في تصور بورديو يتمتعان بوزن أكثر أهمية من الرأسمال الاقتصادي؛ ويشير ،كمثال على ذلك، إلى المكاسب المادية والرمزية التي يجنيها المثقفون والأكاديميون الذين يحاولون ويعمدون الظهور في صورة الزاهدين عن ملذات الدنيا، والتدثر بدثار مبشري وقديسي هذا العصر.
يضيف ميشيل كروزي في السياق ذاته أن الحقل الاجتماعي حقل تجاذبات وصراعات ومفاوضات بين فاعلين، يسعى كل منهم إلى السيطرة على هذه السوق وبسط النفوذ عليها وذلك عبر توظيف كل الاستراتيجيات والميكانزمات والآليات المتاحة التي تبدو مناسبة لتحقيق الهدف.
نخلص في النهاية، من خلال هذه الأدبيات، إلى أنه مهما تعددت المظاهر والدواعي والأسباب والأساليب والآليات والميكانيزمات والتقنيات والاستراتيجيات، اجتماعية كانت أم سياسية أم اقتصادية أم سيكولوجية أم ثقافية أم بيئية أم تنموية، التي يعتمدها أو يسوقها من يدعي النضال ومناصرة قضايا الكادحين والمغبونين ومهضوم الحقوق في هذه البلاد، فإن النتيجة والهدف واحد لا أقل ولا أكثر: إنه المصلحة الذاتية أي المنافع والمكاسب والمدارات التي يجنيها ويراكمها "المناضل" في الحين أو في المستقبل القريب أو المتوسط أو البعيد.
إنه الثروة والرموز التي يستثمر نتائج حيازتها للاستحواذ على السلطة ومن ثم التسلط والاستغلال وتوسيع قاعدته الاقتصادية والسياسية عبر الزمان والمكان.
يمكن إذن أن نشير إلى التواطؤ والمغازلة والعشق الممنون الذي تنطوي عليه العلاقة القائمة بين السلطة والسياسة من جهة والاقتصاد من جهة أخرى، فكلاهما يمثل بوابة ومطية العبور نحو الأخر كما يقول الباحث الفلسطيني غازي الصوراني :" في الغرب بنت الرأسمالية قوتها الاقتصادية أولا ثم استولت على السلطة السياسية، أما في العالم الثالث، فالاستيلاء على السلطة يتم أولا ثم يجري الحديث عن «بناء القوة الاقتصادية»، بما يعزز القاعدة المتداولة والمتبعة في العالم الثالث التي تقول أن السلطة مصدر الثروة" (غازي الصوراني، تطور مفهوم المجتمع المدني وأزمة المجتمع العربي، ص23).
وإذ يبدو أن الاقتصادي في موقع التبعية للسياسي في مجتمعات العالم الثالث، إلا أنه يجب أن ننتبه إلى مسألة أساسية مفادها أنه بمجرد مراكمة الرأسمال يصبح هذا الأخير موقع قوة في مجابهة وتحوير وتحديد مجاري الفعل السياسي، وبالتالي يمكن القول بأن هناك تفاعل ودينامية سياسية يتم من خلالها بناء ذوات اقتصادية للتحكم آخر المطاف بمقتضيات المشهد السياسي.
إذا كان الأمر كذلك، أي إذا كانت المصلحة العامة لا مكان لها في ذهنية الفاعلين والسياسيين منهم بالخصوص، فإنه من المشروع لنا أن نتساءل ونستفسر عن:
- أولا، جدوى الفعل السياسي؟
- ثانيا، الشخص الذي تتوفر فيها جل الشروط التي ستؤهله لاحتلال موقع المناضل الحقيقي محل ثقة الجميع والبعيد كل البعد عن النموذجين السابقين؟
- ثالثا، كيفية تحديد المعايير التي ينبغي مراعاتها لمعرفة المناضل من غيره؟
- رابعا، المؤهل لإصدار الأحكام الصائبة بخصوص هؤلاء، في مجتمع كالمجتمع المغربي؟
- خامسا، ما هي طبيعة القضايا التي ينبغي أن يتناولها المناضلون؟
- سادسا، هل الانتماء الاجتماعي محدد أساسي في البنية الفكرية والسلوكية للمناضل، (أي هل الانتماء الاجتماعي يحدد زاوية النضال)؟
- سابعا، إذا كنا نعتقد بأن ما يصطلح عليه بالفساد، بالعالم الثالث تحديدا، قد تمت استباحته وشرعنته من قبل مثقفين وأكاديميين ومشرعين من الغرب الرأسمالي وكل الموالين لهم بالعالم الثالث عامة وبالمغرب بالخصوص، فضد من سيتم النضال: ضد المجرم أم ضد الضحية؟
- ثامنا، يؤكد السوسيولوجي المغربي بول باسكون في معرض حديثه عن الاستعمار بالمغرب أنه لا ينبغي أن نبقى حبيسين ومقتصرين على لوم وتأنيب الآخر وإنما من الأجدر أكثر من ذلك أن نساءل "النحن" أنفسنا ماذا كنا نفعل ايام فجر الاستعمار وخلاله وعند عشيته ثم بعده. وبناء عليه، فإذا كان الجميع، بما فيهم أبناء الفقراء والكادحين، منخرطين في اللعبة ومتواطئين في تكريس وإعادة إنتاج وضعية الفقر هذه، فمن يتحمل المسؤولية إذن في كل ذلك؟
من الصعب حقيقة أن نتناول تناولا صحيحا وبيسر هذا النموذج من الأسئلة في مجتمع، كمجتمعنا المغربي، ذي طبيعة مركبة تتساند فيه أنماط اجتماعية متعددة ومتناقضة تحول دون وضوح الرؤيا والرؤية بخصوص تفكير وذهنية النماذج البشرية المؤثثة لهذا المشهد.
إن السمة الأساسية التي تميز المجتمع المغربي، هي كونه يعوم في فوضى سياسية واقتصادية، وتطغى عليه ثقافة التغاوي والتبعية والمكر وديمقراطية الخوف والإرهاب السياسي والاقتصادي والاجتماعي والنفسي، ويكُرس به سلوك الانطواء والصمت والركوع والخضوع كنماذج تربوية لا محيد عنها للمسودين والمسيطر عليهم في مختلف أطوار حيواتهم؛ ومن ثم شرعنة الاستغلال وتسييد فكرة قدر الفقر عند غالبية المجتمع وسيادة الرفاه والبذخ بالمقابل عند الأقلية.
إن تعقد وتشعب الموضوع يمنحاه ضمنيا دسامة وخصوبة تستهوي الباحثين، وفي الآن نفسه تبعث بداخله نوعا من عدم اليقين عند كل محاولة تروم ضبطه والإحاطة به؛ فتناوله قد يؤدي، في حالة التهور وغياب الانضباط العلمي وعدم التسلح جيدا بعتاد معرفي وترسانة منهجية علمية دقيقة وصارمة، إلى التيه والضياع ومن ثم الضلال واتخاذ أحكام فاسدة.
بطبيعة الحال، إننا لا نمتلك شيئا من هذه الذخيرة، التي تفوق حقيقة طاقتنا، التي بوسعها تمكيننا من الإحاطة الشاملة للموضوع وتدقيقه وتسليط الضوء على مختلف زواياه المظلمة؛ وبذلك فإن خطواتنا هذه، لا تعدو أن تكون مجرد بصيص شعاع ضوئي نسعى إلى تسليطه على ركام ضخم من أوهام وتحيزات في بحر من الظلمات، شكلت لأمد طويل ولازالت تمثل حتى في الوقت الراهن، مصدر السلوك والقيم التي تؤثث المشهد الاجتماعي المغربي على جميع المستويات.
وتماشيا مع قول الفيلسوف الانجليزي جون لوك:"حسبي من الطموح أن أشتغل عاملا تابعا يطهر الأرض قليلا، ويزيح بعض المهملات التي تعترض طريق المعرفة"(برتراند راسل، ترجمة:فؤاد زكرياء، حكمة الغرب، ج2، ص99)، فإن قصدي بدوري لا يتعدى عمل الزبال وكناس الأزقة الذي يحاول إثارة انتباه الجميع إلى الجبال المتراكمة من إفرازاتهم المسمومة والفضلات والمتلاشيات والمهملات التي تنتشر وتعج مشهدهم الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي؛ إن هذه المزبلة ليست جمادا يُفنى من تلقاء ذاته، وإنما على العكس عبارة عن عضوية تتمتع بكل مقومات الحياة، ما يجعلها قادرة على النمو والتكاثر والتوسع والانتشار.
إن السعي إلى تحقيق هذه المرامي الأخيرة سيكون، بدون أدنى شك، على حساب الغير وعبر مجاري مختلفة ووفق مسارات منحرفة عن المعتاد؛ لن يجدد هذا الركام ذاته بكل تفاصلها السابقة، ولكن ما يقع هو ميلاد الجديد على أنقاض القديم، وبالتالي:
- من ذاك المولود الجديد إذن؟
- هل هو شرعي أم غير شرعي، من منظور العقل الجمعي المحلي؟
- أي مصير ينتظر هذا المخلوق، وبقايا السابقين عليه؟



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن