دلالة اللقطة الأولي بين التكثيف والجمالية

هاني أبو الحسن سلام
hany_aboul_hassan@yahoo.com

2011 / 9 / 19

كثيراً ما تلعب اللقطة الأولى في الفيلم السينمائي دوراً رئيسياً في تكوين ما يعرف بأفق التوقعات لدى المتلقي ، حيث يعنى خيال المتفرج بتوقع ما يستقبل من أحداث. واللقطة الأولى لمخرج واعي – يعتمد التكثيف البليغ عنصراً أساسياً في عمله – تنبني عليها مقولة الفيلم ، كما تعكس خاصية حسن الاستهلال .
في فيلم حياة إيفان - إخراج أندريه تاركوفسكي - تشكل اللقطة الأولى التي تصور وجه الطفل إيفان من وراء نسيج العنكبوت عند قاعدة شجرة فارعة مورقة، تبني أفقاً دقيقاً لتوقع المتلقي ، حيث براءة هذا الطفل الصغير ووقوعه في مصيدة عنكبوتية ، التي هي رمز للبيئة جنباً إلى جنب مع الشجرة الفارعة المورقة رمز الحياة ونقاء الطبيعة .
ويتعمق الإحساس بمدى التباين من خيوط العنكبوت ونسيجه انطلاقاً إلى عنان السماء حيث يرتفع جذع الشجرة بلقطة تستغرق حوالي عشرة ثوان سينمائية من الزمن - وهو ليس بالقليل - لتنقلنا لقطة ثالثة إلى المستنقع الموحل الذي يسبح فيه ذلك الصبي ، لتبرز دلالة تتابع اللقطات الثلاث على شاشتنا الذهنية حيث سيتم أسره في نفس المستنقع ليعدم بعد ذلك بقطع النازية لرقبته في نهاية الفيلم . فاللقطات الثلاث الأولى تشكل تمهيداً مبكراً يلخص الحدث ويكثفه بما يشي بالنهاية دون أن يصرح بها وهذا هو أسلوب بلاغة الصورة من خلال عين الكاميرا وحساسيتها.
ثم ينطلق بنا تاركوفسكي بكاميرا متأرجحة بين أشجار المستنقع الطويلة الجرداء والباهتة ، بما يشي بالتيه والضياع وفقدان التوازن الذي يشكل خط حياة إيفان.
وفي سياحة علاماتية بنيوية حداثية للمشهد الأول من الفيلم تتكون لدينا الخلاصة حول ما ستؤول إليه الأحداث من تدمير الحياة المتسمة بالبراءة والنقاء .
فالمياه رمز جريان الحياة وهي من العلامات التي وظفها تاركوفسكي بكثرة في فيلمه (حياة إيفان ) حيث يسلط عين الكاميرا على البحر وعلى قدر الماء الذي يستحم فيه الطفل أو ذلك القدر الذي جلبته له أمه على شاطئ البحر في حلمه كي يضع فمه ليشرب مباشرة من ذلك الإناء وهذا الفعل يعبر عن الأمومة الملتزمة بتوفير حاجات الطفولة إلى الغذاء والحماية كما أن اللقطة تعطينا دلالة مزدوجة فهي علامة بصرية أخرى إذ تعكس رؤية الطفل لوجهه على سطح ماء القدر وما يتضمنه ذلك من جماليات .
كما كانت هناك علامة صوتية للماء حيث تكرر صوت قطرة الماء كمؤثر صوتي في مشاهد مختلفة من الفيلم بالإضافة إلى صوت المطر أو الحركة المتوجسة البطيئة لخوض إيفان في ماء المستنقع سواء كان منفرداً أو بصحبة الضابطين قرب نهاية الفيلم .

العلامة التراثية بين النفي والإثبات :
لعبت العلامة التراثية الدينية التي تمثلت في الصليب دوراً دلالياً مزدوجاً تأرجح بين الإيجابية والسلبية حيث كان الصليب قائماً في مواضع متعددة من الفيلم ليصنع في لقطة أولى جواً إيمانياً واضحاً يؤكد المعتقد الديني .
ثم هو ينتفي في موضع آخر لنراه مائلاً ليظهر الازدواج حيث صليب كبير مائل وفي داخله صليب آخر مفرغ الأفرع مع تركيز الكاميرا عليه ( close shot ) حيث يشكل علامة X بما ينفي الإيمان مرة ويؤكده في لقطة تبادلية .



ليعطينا بعدين دلاليين من خلال تبديل عنصر واحد وهو الصليب دلالة التأرجح بين الإيمان وانتفائه ودلالة فقدان الصليب لمصداقيته حيث نراه كما هو موضح في الرسم صغيراً تلغيه علامة إكس كبيرة .
ولأن الفن يوظف التأكيد عنصراً لتعميق الدلالة لذا نرى لقطة سريعة لصورة السيدة العذراء والسيد المسيح ملقاة وممزقة وسط الخراب داخل منزل أو كنيسة خشبية صغيرة ليجسد دلالة الفكر الإلحادي الذي فشى وبرز بعد الحروب العالمية نتيجة تزعزع الإيمان بالدين وقدرته على حماية البشر وتأمينهم بعدما رأت عيونهم من الدمار الذي محا ودمر الكثير .
وفي علامة ثبوتية أخرى للتراث الديني نجد الصبي يربط جرس الكنيسة في حبل ويعلقه في خطاف سقفي ليقوم بجذب الحبل فيرتفع الجرس عالياً ثم هو في موضع آخر يقوم بدق الجرس، وذلك كله يقارب صورة هذا الطفل من صورة المسيح المخلص في دعوة صريحة للتمسك بالإيمان والدفاع عن الوطن في إطار إيماني وديني .
وهناك تيمة أخرى تحيلنا إلى التراث الديني بجزء من قصة يوسف مجسدة في حلم لهذا الطفل حيث هو في أعماق جب مائي ومتطلعاً إلى أعلى أملاً في إنقاذ أحد المترددين على البئر وعينه على دلو الماء عسى أن ينتشله أحدهم ، وبدلاً من أن يتدلى الدلو ليمسك به فيصعد نجد الدلو يسقط من غارب البئر سقوطاً سريعاً مع ملاحظة إيفان لسقوطه فيبتعد إيفان عن موضع سقوطه قبل أن يحطم رأسه.
وفي لقطة أخيرة بعد مقتله يتجسد في لحاقه بأخته على شاطئ البحر وهي دلالة على سعيه نحو موته لحاقاً بأخته وأمه الميتين في إطار لعب طفولي بريء حيث رفض العودة للأكاديمية للدراسة وفضل البقاء في ميدان الحرب ليربط المخرج عبر اللقطات المتتابعة التي تجسد حلم إيفان يربط ربطاً رومنسياً شديد النعومة نهاية حياة بطله ببداية الفيلم حيث موت أمه وأخته ومن قبلهما والده بسبب الحرب ومن ثم فهو يموت أيضاً بسبب الحرب في نهاية الحدث .
وتظهر براعة التقنية في كتابة السيناريو وفي حساسية الكاميرا أسلوب التفكيك الذي استعمله المخرج في عرض الحدث وفق أسلوب التشظي بعيداً عن التسلسل الدرامي المنطقي أو التقليدي مع توظيف عنصر التداخل الزمني والمكاني والدلالي الذي يجسد في النهاية عبثية طلب المنطق في ظل حياة عبثية وعبثية طلب الأمن والسلامة في ظل حروب مدمرة تبيد البشر وهي من صنع البشر أيضاً وهو أمر أكدته اللقطة البديعة الرمزية المكثفة في بداية الفيلم لقطة العنكبوت الذي يسكن البراءة أو الحياة البشرية في كل حالة بشرية تتوالد فالإنسان منذ ميلاده يعيش في بيت العنكبوت وهو أوهن البيوت . كذلك يتجسد العبث الذي تعيشه الإنسانية منذ تشب وحتى الكهولة إذ يتداخل الإلحاد مع الإيمان وهو ما تعبر عنه العلامة الانعكاسية لأوضاع الصليب عبر لقطة تبادلية ويظهر أسلوب فن العبث وتأثيره حيث البداية تشبه النهاية ( دائرية الأسلوب ) كما استخدم تاركوفسكي وسيلة أخرى ليعبر عن توقف الزمن للحظات تلك التي اشتهر بها مسرح العبث عند بيكيت ويونسكو ، حيث الكاميرا في عدد من المواضع ثابتة من الفيلم على مناظر مختلفة لتوكيد دائرية الحياة الإنسانية زمنياً بما يرسخ عبثية مظاهر الوجود .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن