أزمة الديون الدولية أبعادها وآثارها على دول العالم

عبد الأمير رحيمة العبود
abood_937@yahoo.com

2011 / 9 / 3



مقدمة
تفاقمت أزمة الديون الدولية في الآونة الأخيرة، وأصبحت تعاني منها، بشكل ملفت للنظر، العديد من الدول المتطورة، وأصبحت تداعياتها تنذر بأزمات متعاقبة باتت تهدد الأنظمة الاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي، وقد تلقي بظلالها على مجمل الاقتصاد العالمي، كتحصيل حاصل، لما تحتله تلك الدول من موقع مؤثر على اقتصاديات دول العالم، ما لم تبادر دول العالم، بوقت مبكر، إلى معالجة أسباب تلك الأزمة وآثارها.
بدأت تلك الأزمة في اليونان منذ مطلع عام 2009، ثم تسربت إلى ايرلندا والبرتغال، وبعدها عمت تداعياتها كل من أسبانيا وايطاليا، ثم تحدثت الأخبار قبل فترة قصيرة عن صدور التقارير الدولية عن انخفاض مستوى التصنيف الائتماني للولايات المتحدة الأمريكية، الذي يعني احتمال تعرض هذه الدولة إلى العجز عن سداد ديونها التي تجاوزت 3ر14 ترليون دولار، وكان انعكاس ذلك واضحا على البورصات الدولية التي هوت أسعارها بمستويات عالية، منذ عدة أيام، نتيجة لارتفاع أسعار الفائدة على السندات الحكومية لتلك الدول، بسبب تخوف المستثمرين من عجز حكومات الدول المصدرة لتلك السندات عن الوفاء بقيمها عند الاستحقاق. (1)
ولعل أبرز مخاطر أزمة الديون الحكومية الدولية، في الوقت الحاضر، هو التناقض فيما بين ما تقتضيه مصلحة اقتصاديات تلك الدول من ضرورة زيادة الإنفاق الحكومي في سبيل إنعاش الاقتصاد الوطني، والإسراع بمعدلات النمو الاقتصادي، وتوفير فرص العمل للنسب المتزايدة من البطالة في تلك الدول، وبين ما تتطلبه معالجة أزمة الديون الحالية من ضرورة التوجه نحو تطبيق التقشف بالإنفاق وزيادة الضرائب التي سوف تنعكس لا محالة في اضطرار تلك الدول إلى تقليص الإنفاق على الجوانب الأساسية لحياة شعوبها، لا سيما أصحاب الدخول المتوسطة، والدخول القليلة، والفقراء، كتجميد الرواتب، وتقليص نفقات التعليم، والرعاية الاجتماعية، والحقوق التقاعدية، وغيرها من النفقات العامة ذات التأثير المباشر على رفاهية تلك الشعوب.
وقد تؤيد تلك المخاطر التي سوف تترتب على أزمة الديون الدولية الحالية ما ذهب إليه السيد روبرت زوليك، رئيس البنك الدولي، عند تقييمه لأبعاد تلك الأزمة ومخاطرها، بأن آثار _____________________________________________________________________
(1) اعتمد في جمع المعلومات واستعراض الأرقام والبيانات في هذا البحث على مجموعة كبيرة من المواقع الالكترونية أهمها موقع الاقتصاد والأعمال وموقع الشرق الأوسط ومدونة الياهو، والدويشه فيله الألمانية، وCNN العربية، وموقع فرنسا 24، ورويتر العربي وموقع صحيفة الشعب الصينية وموقع إيلاف.
تلك الأزمة "لا تقل بل تزيد على آثار الأزمة المالية الدولية التي عانى منها العالم في عام 2008".(1)
(1) تطور أزمة الديون وأبعادها في دول الاتحاد الأوروبي
تأثرت دول الاتحاد الأوروبي إلى حد بعيد بأزمة الديون الدولية، فمنها الدول الضعيفة اقتصاديا مثل اليونان وايرلندا والبرتغال، التي باتت مكبلة بالديون التي تفوق قابلياتها على الوفاء بالتزاماتها، وأصبحت معرضة للإفلاس والانهيار ما لم تساعدها الدول الأخرى، ومنها الدول ذات القوة الاقتصادية مثل ألمانيا وفرنسا التي أصبحت مضطرة إلى مساعدة تلك الدول الضعيفة وتحمل التضحية عن طريق تقديم القروض الضخمة إلى تلك الدول الضعيفة، في سبيل حماية اليورو من الانهيار ومن أجل الحفاظ على وحدة الاتحاد الأوروبي، على أن تلك القروض أصبحت عبئا ثقيلا عليها وهي لم تعد تستطيع الاستمرار في تحمل المزيد من التضحية.
أ – أزمة اليونان
لم تكن أزمة الديون السيادية حديثة بالنسبة للاقتصاد اليوناني ذلك أن الاقتصاد اليوناني ظل يعاني من آثار الأزمة المالية لعام 2008 التي تسببت في تعثر قطاع الخدمات الذي يشكل 75% من الناتج المحلي الإجمالي وبخاصة قطاع السياحة الذي تعرض إلى الشلل من جراء تلك الأزمة، هذا إلى جانب ظواهر الفوضى والفساد الاقتصادي التي توسعت في الاقتصاد اليوناني في السنوات الأخيرة، إضافة إلى عوامل كثيرة أخرى كانت وراء الأزمة اليونانية كالارتباط بسعر صرف اليورو الذي لم يكن ملائما للصادرات اليونانية، وقيام البنوك اليونانية بتقديم القروض الضخمة لدول البلقان، وغيرها من المشاكل الاقتصادية التي كانت دولة اليونان تعاني منها منذ أمد بعيد.
وقد كانت اليونان طيلة السنوات الأخيرة تتستر على حجم ديونها وما وصل إليه حجم العجز في موازناتها المالية لأمور تتعلق بشروط علاقتها بالاتحاد الأوروبي، لكنها اضطرت أخيرا إلى الكشف عما تعانيه من عجز في قدرتها على الوفاء بالتزاماتها حينما بلغ حجم تلك الديون 300 مليار يورو في عام 2000 متجاوزا حجم ناتجها المحلي الإجمالي الذي قدر في تلك السنة بـ 250 مليار دولار، وحينما بلغت نسبة العجز في موازنتها المالية 12% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين أن النسبة حسب قواعد الاتحاد الأوروبي ينبغي أن لا تتجاوز الـ 4%.

__________________________________________________________________________________
(1) تصريح روبرت زوليك، رئيس البنك الدولي، المنشور على موقع الياهو بتاريخ 15/8/2011.
وحينما أصبحت عاجزة عن الحصول على المزيد من الديون للوفاء بالتزاماتها المالية تجاه الآخرين وهو ما كان يهددها بالإفلاس، لجأت حكومة اليونان لمعالجة تلك المشكلة إلى خصخصة بعض الشركات الحكومية وبيع عدد من الجزر التي تمتلكها الدولة، إلا أن تلك الإجراءات لم تفلح في معالجة الأزمة، ولم يبق أمامها من وسيلة لإنقاذها من الإفلاس سوى اللجوء إلى دول الاتحاد الأوروبي لمساعدتها في تقديم القروض، وبعد أن أدركت دول الاتحاد الأوروبي تأثير ذلك على وضع اليورو وهو العملة الموحدة لدول الاتحاد الأوروبي، وتهديد وحدة الاتحاد الأوروبي بشكل عام، سارعت تلك الدول إلى تقديم قرض إلى اليونان في أيار 2010 بمبلغ (110) مليار يورو لمساعدتها في معالجة مشكلة الديون المتراكمة عليها وتجنب تعرضها للإفلاس، وقد اقترن هذا القرض بشروط قاسية في تطبيق التقشف كوسيلة للحد من عجز الموازنة المالية في السنوات القادمة.
وقد تطلب ذلك من دولة اليونان القيام بزيادة الضرائب على القيمة المضافة وعلى السلع الكمالية والسلع الغذائية، وإجراء التخفيض الحاد في مستويات الأجور، وتقليص الصرف على مجالات الضمان الاجتماعي والصحة والتعليم، وتجميد رواتب المتقاعدين، وكان رد الفعل على هذه الإجراءات هو ما نسمعه كل يوم من أخبار حول الإضرابات والمظاهرات والمصادمات في المدن اليونانية احتجاجا على إجراءات التقشف القاسية هذه. (1)
ب – أزمة الديون في ايرلندا
تكاد عوامل أزمة الديون في ايرلندا تختلف عما هي عليه في اليونان، ذلك لأن دولة ايرلندا كانت تتمتع بالازدهار الاقتصادي، وانتعاش النمو في القطاع الصناعي وقطاع الخدمات منذ سنين عديدة، بدليل أنها سجلت معدلا للنمو الاقتصادي قدره 6% خلال الفترة 1996 – 2007.
إلا أنها تعرضت للأزمة الاقتصادية من جراء تأثرها الشديد بالأزمة المالية الدولية عام 2008 نتيجة لإفراط البنوك الايرلندية في تقديم القروض العقارية الأمريكية، والذي أسفر عن تراكم ديون القطاع المصرفي الايرلندي حتى بلغت 45 مليار يورو في نهاية عام 2008، مما دفع الحكومة الايرلندية آنذاك إلى تقديم القروض بمبلغ 50 مليار يورو لإنقاذ بنوكها، وحينما لم تفلح تلك المحاولة في معالجة الأزمة، اضطرت الحكومة الايرلندية إلى شراء الأصول المالية المصرفية المعرضة للخطر، لغرض حماية الودائع في تلك البنوك، والحيلولة دون لجوء المستثمرين إلى سحب ودائعهم، وظهور حالة من الذعر

__________________________________________________________________________________
(1) موقع الحياة السعودي بتاريخ 14/ آب 2011 وموقع الشرق الأوسط بتاريخ 14 آب 2011 وموقع مركز الأبحاث والدراسات بتاريخ 18 حزيران 2011 والجزائر تايمس في 8/8/2011.

المالي التي يتعذر معالجتها عند حصولها، وبعد ذلك تهاوى بنك "انكلو آيرش" المشهور في ايرلندا، وهو ما اضطر الحكومة الايرلندية إلى تأميمه تلافيا لإفلاسه. (1)
وحينما بدأت وسائل الإعلام تتحدث عن انخفاض مستوى التصنيف الائتماني لدولة ايرلندا، الذي يشير إلى احتمال عجزها عن وفائها بديونها، اضطرت الحكومة الايرلندية إلى طلب المساعدة من الاتحاد الأوروبي لإنقاذ اقتصادها من الانهيار وقد استجاب الاتحاد الأوروبي لهذا الطلب فقدم قرضا إلى ايرلندا بمبلغ 90 مليار يورو على أن تلتزم بتطبيق الإجراءات التقشفية المعهودة في قطاعات الصحة والتعليم والإعالة الاجتماعية ورواتب المتقاعدين.
وفي أعقاب تلك الأزمة قرر الاتحاد الأوروبي بالاشتراك مع صندوق النقد الدولي إقرار حزمة من المساعدات لإنقاذ دول الاتحاد الأوروبي المتضررة من العجز الشديد في موازينها المالية وازدياد حجم ديونها الخارجية بمبلغ يصل إلى (750) مليار دولار.(2)
جـ - أزمة البرتغال
البرتغال من الدول الضعيفة اقتصاديا بالقياس إلى غالبية الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بدليل أن معدل النمو فيها كان لا يتجاوز 05ر% - 07ر0% منذ عقد من السنين، وقد ازدادت فيها مستويات البطالة حتى وصلت إلى 20% في عام 2010.
وحينما أصبحت البرتغال عضوا في الاتحاد الأوروبي راحت تتوسع في مجالات الإنفاق العام بخاصة الإنفاق على سبل الرعاية الاجتماعية بمستويات تفوق إمكانياتها الاقتصادية، في سبيل التناغم مع مستويات الرعاية الاجتماعية لدول الاتحاد الأوروبي، وكوسيلة لتحقيق المكاسب للأحزاب الحاكمة من خلال الادعاء بتحقيق الرفاهية الاجتماعية للفئات متوسطة الدخل والفقيرة، في حين كانت مستويات الضرائب وهي المعين الرئيس لتمويل الإنفاق منخفضة بالقياس إلى مستوياتها في الدول الأوروبية الأخرى، ولهذا كانت البرتغال تعتمد على الدين العام كوسيلة لتمويل ذلك الإنفاق، إضافة إلى ما كانت تعانيه البرتغال من تعثر قطاعها الصناعي نتيجة لمنافسة السلع الصينية لمنتجاته، وفشلها في كبح الزيادات في مستويات الأجور، وقد انعكست هذه الحالة من ازدياد مستويات الإنفاق على مستويات الإيراد في توسع مستوى العجز في الموازنة المالية لتلك الدولة، وكان لارتفاع أسعار النفط في السنوات الأخيرة، وتعرض صادرات البرتغال إلى المنافسة من قبل صادرات بقية الدول الأوروبية دور كبير في تفاقم ذلك العجز، حتى بلغت نسبة العجز في الموازنة 3ر9% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2009 وأصبحت الديون العامة تشكل 85% من
________________________________________________________________________________
(1) موقع إيلاف 24 نوفمبر 2010.
(2) موقع الاقتصاد والأعمال الالكتروني 24/2/2010.
الناتج المحلي الإجمالي، ولهذا تعرضت البرتغال اعتبارا من عام 2010 إلى حالة العجز عن الوفاء بديونها الحكومية واضطرت إلى تقديم الطلب إلى الاتحاد الأوروبي بغية الحصول على قرض بمقدار 90 مليار يورو. (1)
د – أزمة الديون في كل من إيطاليا وأسبانيا
لم يقتصر انفجار أزمة الديون الحكومية على دول اليونان وايرلندا والبرتغال بل إن مؤشراتها بدأت تلوح في أفق كل من إيطاليا وأسبانيا، وقد تتسرب مظاهر هذه الأزمة إلى غيرها من الدول الأوروبية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. وفعلا فقد بدأ الحديث عن تردي مؤشر التصنيف الائتماني بالنسبة لكل من فرنسا وبلجيكا الذي يعني احتمال تعرضها إلى العجز عن سداد ديونها العامة.
ومما يلفت النظر بالنسبة إلى هذه الدول، هو أنها من الدول الأوروبية الرأسمالية الكبرى، والدول ذات القوة الاقتصادية ضمن مجموعة الاتحاد الأوروبي، إلا أنها أصبحت في السنوات الأخيرة تعاني من تدني معدلات النمو الاقتصادي وارتفاع مستوى العجز في الموازنات المالية الحكومية، وازدياد نسب البطالة وازدياد نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، وهي مؤشرات تدل على تردي الأوضاع الاقتصادية في تلك الدول، وتعرضها إلى الأزمة الاقتصادية، وقد تكون تلك المؤشرات هي التي كانت تقف وراء ضعف الثقة لدى المستثمرين وعزوفهم عن شراء السندات الحكومية التي تصدرها تلك الدول كوسيلة للوفاء بديونها، وارتفاع مستويات أسعار الفائدة عليها، وصدور التقارير من قبل المؤسسات المتخصصة حول تردي مؤشرات التصنيف الائتماني لهذه الدول، واحتسابها من الدول التي تعاني من أزمة الديون الدولية. (2)
(2) أزمة الديون الحكومية في الولايات المتحدة الأمريكية
لم تطلع دول العالم على الأبعاد الخطيرة لأزمة الديون الأمريكية إلا حينما احتدم النقاش بين الجمهوريين والديمقراطيين من أعضاء الكونغرس الأمريكي حول زيادة سقف الديون للولايات المتحدة الأمريكية (3)، عندها اكتشف العالم بأن الولايات المتحدة الأمريكية مكبلة بديون للدول والشركات في العالم قدرت بـ 3ر14 ترليون دولار أمريكي. (4)
__________________________________________________________________________________
(1) موقع الشرق الأوسط بتاريخ 11/2/2010.
(2) موقع صحيفة الشعب الصينية اليومية 18/8/2011 وموقع العرب أونلاين بتاريخ 19/8/2011 وCNN العربية 5 آب 2011.
(3) سقف الديون يعني الحد الذي بموجبه يسمح للدولة أن تقترض من الآخرين، وعدم زيادته تعني أنها لن تستطيع أخذ المزيد من القروض للوفاء بالتزاماتها.
(4) حصل الاتفاق فيما بين أعضاء الكونغرس الأمريكي في 2/8/2011 على رفع سقف الدين الأمريكي بمقدار 2400 مليار دولار على مرحلتين لغاية عام 2012 على أن تقوم الحكومة الأمريكية بخفض النفقات بمقدار ألف مليار دولار خلال السنوات العشر القادمة على أن تشمل هذه تخفيض إنفاق وزارة الدفاع.
ويعود السبب في تلهف دول العالم، منذ سنين تمتد إلى عام 1944، على شراء الدولار الأمريكي والأدوات المالية المقومة به، واقتنائها والاحتفاظ بها، إلى أسس النظام النقدي الدولي الذي وضعه مؤتمر برتن وودز منذ عام 1944، والذي ما زال ساريا حتى الوقت الحاضر، ذلك لأن النظام النقدي الذي وضعت قواعده آنذاك، قد توج الدولار فوق عرش العملات الدولية. (1)
ولهذا فإن الذي حصل بعد انعقاد مؤتمر برتن وودز واستمر لغاية السبعينات من القرن الماضي، هو تدفق الدولارات الأمريكية على الأسواق العالمية، ومنه تشكلت نسب عالية من الاحتياطيات الدولية، وأصبح الدولار يلقى قبولا متزايدا من قبل كافة دول العالم كوسيلة لتسوية المعاملات الدولية بعد أن أصبح إنتاج الذهب لا يكفي لتلبية الطلب المتزايد على وسائل السيولة الدولية، بل إن نسبة عالية من الدولارات الأمريكية التي كانت تخرج من الولايات المتحدة الأمريكية ما كانت تعود إليها، وإنما راحت تستقر في الأسواق الدولية لغرض تسوية المدفوعات الدولية أو الاحتفاظ بها كأرصدة نقدية.
إلا أن هذا المشهد من النظام النقدي الدولي، "والذي تميز بالاستقرار النسبي للمعاملات الدولية، وتتويج الدولار على عرش العملات الدولية"، قد تغير بعد مطلع السبعينات من القرن الماضي، بسبب تفاقم إنفاق الولايات المتحدة الأمريكية على التسلح وإفراطها في مجالات الإنفاق العام بوتائر تفوق حجم إيراداتها، وتدفق رؤوس الأموال الأمريكية على دول العالم بقصد الاستثمار واستقرارها في تلك الدول، وبروز العجز في الميزان التجاري الأمريكي، وميزان المدفوعات الأمريكي، وانعكاس ذلك في التزايد المستمر في ديون الولايات المتحدة تجاه دول العالم وشركاتها.
وقد تفاقمت مشكلة ديون الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة حتى ازدادت ديونها خلال السنوات العشر الأخيرة من 950ر5 ترليون دولار في عام 2000 إلى 3ر14 ترليون دولار عام 2011 ويعزى هذا الازدياد السريع في حجم الديون الأمريكي خلال هذه الفترة أساسا إلى النفقات العسكرية في كل من أفغانستان والعراق وإنفاقها على قواعدها العسكرية المنتشرة في مختلف بقاع العالم، إضافة إلى اتساع إنفاقها الداخلي من جراء الأزمة المالية الدولية عام 2008 والذي اضطرها إلى ضخ الأموال الكثيرة في سبيل تجاوز آثار تلك الأزمة وتحقيق الانتعاش الاقتصادي. (2)

__________________________________________________________________________________
(1) للإطلاع بشكل مفصل على قرارات مؤتمر برتن وودز ودورها في وضع الأسس للنظام الاقتصادي العالمي، يراجع: د. عبدالأمير رحيمة العبود، دراسات في الاقتصاد الدولي: عمان 2011.
(2) موقع الدوتيشه فيله الألماني بتاريخ 28/7/2011.

ومن بين هذا الحجم الضخم من الديون الذي وصل إلى 3ر14 ترليون دولار تقدر الديون الأمريكية المستثمرة في سندات وأذونات دائرة الخزانة الأمريكية بـ 3ر4 ترليون دولار، ومن بين هذا الحجم الضخم من سندات وأذونات الخزانة الأمريكية تحتفظ الصين بما قيمته 2ر1 ترليون دولار واليابان 912 مليار دولار وإنكلترا 346 مليار دولار والدول العربية 220 مليار دولار والبرازيل 211 مليار دولار وتايوان 153 مليار دولار، ويتوزع الباقي على بقية دول العالم. (1)
وإزاء هذا الحجم من الديون الأمريكية تثار المخاوف من آثارها على الدول الدائنة، والجانب الأول الذي يطرح للنقاش من بين تلك المخاوف هو احتمال ضياع تلك الأموال في حالة عجز الولايات المتحدة عن الوفاء بديونها، والحقيقة فإن قوة الاقتصاد الأمريكي الذي يقدر حجم الناتج المحلي فيه قرابة 7ر14 ترليون دولار، وما تمتلكه الولايات المتحدة من مقومات اقتصادية متعددة، وكذلك امتلاكها لما يقارب الثمانية آلاف طن من الذهب وهو أكبر احتياطي من الذهب في العالم حاليا، إنما ينفي حصول مثل هذا الاحتمال في الأجل القريب أو المتوسط أو البعيد.
المشكلة الرئيسية، على ما نعتقد، هي مشكلة انخفاض قيمة الدولار، التي تعني خسارة الدول الدائنة المالية المقومة بالدولار ما يعادل ذلك الانخفاض في قيمة الدولار.
في كل الأحوال تعكس لنا أزمة الديون الأمريكية الأضرار التي تتعرض لها الدول الدائنة للولايات المتحدة، وما تعانيه دول العالم من جراء اعتمادها على الدولار وسيلة للسيولة الدولية، وأداة للاحتياطيات النقدية الدولية والاستثمار الدولي.
(3) آثار أزمة الديون الدولية
تشير العديد من الدراسات إلى أن آثار أزمة الديون الدولية الحالية سوف تكون وخيمة، بل إن البعض راح يتحدث عن احتمال ظهور أزمة دولية عارمة، وكذلك احتمال حصول تحولات جذرية في طبيعة النظام الرأسمالي الراهن في المستقبل من جراء استفحال تلك الأزمة.
ولعل في مقدمة تلك الآثار ما سوف تسفر عنه تلك الأزمة من تراجع في المكاسب التي حققتها مجتمعات الدول الرأسمالية المتطورة في مجال مستوياتها المعيشية، ذلك لأن معالجة آثار تلك الأزمة سوف تقتضي تطبيق إجراءات التقشف القاسية التي سوف تتضمن تقليص الإنفاق على الأجور والرعاية الاجتماعية والصحة والتعليم ورواتب المتقاعدين وغيرها من مجالات الإنفاق التي سوف تتضرر منها بشكل كبير الفئات المتوسطة والفقيرة في تلك الدول.
_________________________________________________________________________________
(1) تقرير مركز الأبحاث والدراسات العالمية في 18 حزيران 2011.
وفي حين تعتبر زيادة الضرائب هي المعين الأكبر لزيادة إيرادات الدولة مقابل نفقاتها. نرى أن بعض الدول التي تعاني من هذه الأزمة استبعدت التوسع في زيادة الضرائب على الشركات وأصحاب الدخول المرتفعة، وهو ما حصل في الولايات المتحدة الأمريكية في الآونة الأخيرة، وهذا يعني أن القاعدة العريضة من أصحاب الدخول المتوسطة والفقراء سوف يصبحون هم كبش الفداء لأزمة الديون الدولية الراهنة.
ولا شك في أن الأضرار التي سوف تتعرض لها هذه القاعدة العريضة من المجتمع سوف تنعكس في ازدياد الاضطرابات وتهديد الاستقرار الاجتماعي في تلك الدول، وهو ما نسمع أخباره حول تلك الدول يوميا، ولا يدري أحد حتى الآن كيف سوف تكون نتائجه في المستقبل، بعد أن أصبحت الجماهير هي صاحبة التأثير على الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية!
والجانب الآخر من آثار تلك الأزمة هو ما سوف يترتب على تطبيق إجراءات التقشف وزيادة الضرائب، من آثار على النشاطات الاقتصادية في الدول المدينة، ذلك أن تطبيقها سوف يقترن بالتأكيد في ظهور موجة من الركود الاقتصادي، وازدياد البطالة، ولا يعلم أحد عن مدى نجاح هذه الإجراءات في معالجة مظاهر تلك الأزمة في المستقبل القريب.
أما آثار تلك الأزمة على الدول الدائنة فمحورها، أنها بالتأكيد سوف تزيد من المصاعب والأعباء الاقتصادية لتلك الدول. فبالنسبة للدول الدائنة في الاتحاد الأوروبي، وبخاصة كل من ألمانيا وفرنسا، يظهر أن تخصيص المبالغ الضخمة من ميزانياتها لإسعاف الدول الأوروبية الضعيفة التي تعاني من الأزمة، سوف ينعكس، قليلا أو كثيرا، في تراجع معدلات نموها الاقتصادي وازدياد البطالة فيها، ولا يعلم أحد عن مدى قدرة هذه الدول على الاستمرار في تقديم القروض الضخمة إلى الدول الأوروبية التي تعاني من أزمة الديون، والتي يتزايد عددها وتتفاقم مشاكلها يوما بعد يوم، وهل أن هذه الوسيلة سوف تفلح في المحافظة على وحدة الاتحاد الأوروبي واستقرار أسعار صرف اليورو في المستقبل القريب؟
المشكلة الأكثر خطرا في هذا المجال هي ما سوف يحصل بالنسبة للدول الدائنة للولايات المتحدة الأمريكية، ومحور تلك المشكلة هو الانخفاض المستمر والمتزايد في قيمة الدولار الأمريكي، الذي يعني خسارة الدول الدائنة للولايات المتحدة الأمريكية من ديونها على الولايات المتحدة الأمريكية ما يعادل الانخفاض في قيمة الدولار الأمريكي. سيما وأن التقارير الدولية الأخيرة تشير إلى انخفاض قيمة الدولار بمعدل 50% خلال السنوات العشر الأخيرة، وهو ما يعني أن تلك الدول الدائنة سوف تخسر 50% من قيمة ديونها على الولايات المتحدة الأمريكية، وهذه الخسارة تتجاوز إلى حد بعيد ما تحصل عليه تلك الدول من فوائد عن استثماراتها في السندات الأمريكية والتي تتراوح حاليا بين 2% و3% سنويا. (1)
______________________________________________________________________________________________________________________
(1) موقع دويتشه فيله الألماني بتاريخ 28/7/2011.
وقد تبدو الخسارة أكثر من ذلك بكثير حينما نحتسب قيمة الدولار الأمريكي بما يعادله من أوزان ذهبية كما كان الحال منذ انعقاد مؤتمر برتن وودز عام 1944 ولغاية مطلع السبعينات من القرن الماضي، عندما كانت قيمة الأونصة الواحدة (31) غرام ذهب تعادل 35 دولار أمريكي.
فلو قارنا ذلك بما يعادله الدولار من الذهب هذه الأيام حينما أصبح سعر الأونصة الواحدة من الذهب يتجاوز 1800 دولار، عندئذ نكتشف بأن الدولار الأمريكي فقد من قيمته 98% بالمقارنة إلى قيمته في مرحلة السبعينات، ومنه تبدو الخسارة الفادحة التي تتعرض لها الدول التي تحتفظ بالأرصدة المقومة بالدولار الأمريكي منذ ذلك الحين.
وتعتبر دولة الصين هي أكثر الدول التي تتعرض للخسارة من جراء احتفاظها بما قيمته 1ر2 ترليون دولار من سندات الخزانة الأمريكية، وقد يصل ما تمتلكه الصين من أصول مالية مقومة بالدولار إلى مبالغ تزيد عن ذلك بكثير.
وقد عبرت الصين عن قلقها إزاء هذه المشكلة مرارا وراح خبرائها يتحدثون عن ضرورة تنويعها أرصدتها النقدية عن طريق تحويل بعض ما لديها من أرصدة بالدولار إلى سلة من العملات من ضمنها عملتها الوطنية "اليوان الصيني".
وفيما يتعلق بآثار تلك الأزمة على الدول العربية التي يقارب ما تحتفظ به بنوكها المركزية من سندات الخزانة الأمريكية بـ 400 مليار دولار، وما يستثمر بالدولار من قبل القطاع الخاص للدول العربية بالأسهم والسندات وغيرها من الأصول المالية الأمريكية بـ 630 مليار دولار (1) إضافة إلى أن ما تصدره هذه الدول من النفط يحتسب ويدفع بالدولار الأمريكي كما هو معروف.
هذه المجموعة من الدول، سوف تعاني، بطبيعة الحال، مثل غيرها من دول العالم من الخسائر من جراء انخفاض قيمة الدولار الأمريكي، هذا إلى جانب ما تعانيه هذه الدول من ازدياد وتيرة التضخم بسبب اعتمادها في تعاملاتها التجارية على الدولار الأمريكي.
وهذه الحالة من الأضرار تنطبق على العراق طالما أنه يستلم عائداته بالدولار الأمريكي ويحتفظ بما لديه من أرصدة نقدية بالدولار أيضا.
(4) الاستنتاجات
1 - لقد أتضح من استعراض أزمة الديون الدولية أن التوسع المفرط في إنفاق الدول الرأسمالية الكبرى، بخاصة على المجالات العسكرية والجوانب غير الضرورية لحياة شعوبها، كان هو السبب الرئيس لظهور هذه الأزمة، ذلك لأن هذا التوسع في الإنفاق الذي كان يتجاوز مستوى الإيراد عند تلك الدول، قد تسبب في ظهور العجز الواسع والمستديم في موازينها المالية، واضطرارها إلى الاستدانة من الآخرين، وعجزها بالأخير عن الوفاء بديونها.
___________________________________________________________________________
(1) موقع الاقتصادية الالكترونية بتاريخ 5/8/2011.

2 – عند تحليل عوامل هذه الأزمة وتطوراتها، يظهر جليا، فشل النظام الاقتصادي الرأسمالي الراهن، في أسلوبه الحديث في إدارة النشاط الاقتصادي، الذي تميز بالتوجه نحو تحرير النشاط الاقتصادي من قيود تدخل الدولة، ويظهر كذلك بأن اضمحلال دور مؤسسات الدولة في تنظيم الحياة الاقتصادية ومراقبتها، سوف يتسبب، لا محالة، في ظهور الفوضى في تنظيم الحياة الاقتصادية، وعجز الدولة عن الوفاء بالتزاماتها وظهور الأزمات الاقتصادية وازدياد البطالة، وتراجع الانتعاش الاقتصادي.
3 – وقد أتضح في الوقت ذاته، بأن لا بديل عن تدخل الدولة في تنظيم الحياة الاقتصادية عبر مؤسساتها، عن طريق تشريع القوانين والأنظمة التي تستهدف مراقبة الدولة للنشاط الاقتصادي، على الوجه الذي يضمن تحقيق التوازن بين إنفاق الدولة وإيراداتها، والحيلولة دون التوسع في عجز الموازين المالية واضطرار الدولة إلى الاقتراض من الغير بمستويات تفوق إمكانياتها على الوفاء بالتزاماتها، والحرص على تنفيذ تلك القوانين.
4 – إن انفجار الأزمة المالية الدولية يؤكد الخلل الكبير في أسس النظام الاقتصادي الدولي، وعجز المؤسسات الدولية عن مراقبة النشاطات الاقتصادية للدول الأعضاء في المنظمات الدولية، وتلافي تعرضها للأزمات الاقتصادية، وهو ما يقتضي إجراء الإصلاح في هيكل المنظمات الدولية ونشاطاتها، وبخاصة إجراء الإصلاح في هيكل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والبنك المركزي للاتحاد الأوروبي وسياساتها ونشاطاتها، سواء عن طريق زيادة رأسمال هذه المؤسسات إلى المستوى الذي يساعدها على توسيع دورها في إسعاف الدول التي تعاني من الأزمات الاقتصادية، وكذلك الحد من دور الولايات المتحدة وبقية الدول الرأسمالية الكبرى في التحكم في سياساتها ونشاطاتها وتوجيهها حسب مصالحها، وفي الوقت ذاته توسيع دور الدول الصاعدة وبقية الدول النامية في رسم سياسات تلك المنظمات ونشاطاتها.
5 – في سبيل معالجة هذه الأزمة والتقليل من آثارها الخطيرة، ينبغي أن تعتمد الدول المدينة على تطبيق السياسات الاقتصادية الحازمة فيما يتعلق بزيادة الضرائب التصاعدية على الشركات وأصحاب الدخول العالية، وتقليص الإنفاق العسكري وغيره من جوانب الإنفاق غير الضروري لمعيشة مواطنيها، والحد من عمليات المضاربة عن طريق فرض القيود والضرائب على المعاملات المالية.
6 – بالنظر للخسائر الفادحة التي تتعرض لها الدول التي تحتفظ بأرصدتها بالدولار الأمريكي، أو بالأصول المالية المقومة بالدولار الأمريكي، أو التي تستلم عائدات صادراتها بالدولار الأمريكي كالدول العربية على وجه التحديد، ينبغي على هذه الدول تنويع سلة أرصدتها باعتماد وسائل مالية أخرى إلى جانب الدولار الأمريكي، كالذهب واليورو، والين الياباني واليوان الصيني، كما ينبغي أن تلجأ هذه الدول إلى استثمار جزء من أرصدتها النقدية الفائضة في مجالات أخرى غير الأصول المالية المقومة بالدولار، كالاستثمار في الحقول الإنتاجية أو الخدمية سواء داخل دولها أو في الدول الأخرى ذات الحاجة إليها.
7 – عند تأمل التجربة الفريدة التي طبقتها الدول الصاعدة وهي بخاصة الصين والهند والبرازيل ودول جنوب شرق آسيا والعديد من الدول النامية، تلك التجربة التي تميزت بالجمع بين تدخل الدولة في تنظيم الحياة الاقتصادية وفتح المجال أمام القطاع الخاص والاستثمار الأجنبي لممارسة النشاط الاقتصادي ضمن الضوابط التي تحددها القوانين والأنظمة السارية، وما تمخضت عنه تلك التجربة من مكاسب اقتصادية هائلة في تلك الدول كالانتعاش الاقتصادي، وازدياد معدلات النمو الاقتصادي بوتائر سريعة واستيعاب التكنولوجيا الحديثة، والتقليل من معدلات البطالة، وازدياد الطلب على سلعها في الأسواق الدولية، وحصول الفائض في موازينها التجارية وموازين مدفوعاتها.
عندئذ يمكن الجزم بأن هذه الدول مرشحة لكسب الرهان حول اتساع موقعها في الاقتصاد الدولي، وازدياد دورها في التأثير على اتجاهات تطور الاقتصاد الدولي في المستقبل.
عمان-الأردن, أيلول 2011



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن