لهذا يجب ان نقوي المواطنة في سوريا

محمد السينو

2011 / 9 / 2

حينما تكثر الفتن في الأمة والمتغيرات وتدلهم الخطوب والمحن في المجتمعات وتخيم على سمائها الصافية سحب المخالفات فيلتبس الحق بالباطل ويختلط الهدى بالضلال فإن الأمة لن تجد إلا في التمسك بالكتاب والسنة المستعصم لأن في الكتاب والسنة الفوز والنجاة من المحن والمخرج من الورطات والفتن.
إن معالجة مفهوم المواطنية في مجتمع طائفي تُعد من أعقد الأمور، لاسيما في الدول التي تشهد تنوعًا عرقيًّا ودينيًّا ومذهبيًّا كلبنان والعراق...، فالتصوّر السائد عن الطائفية فيها يُعد مكمن الفساد، لأنه يُكرس مفهوم أن الطائفية داخل الدولة هي انعكاس للطائفية داخل المجتمع، وعلى الأفراد القبول بالتعايش داخل الدولة مع ممارسات طائفية عديدة، الأمر الذي أدَّى، مع مرور الوقت، إلى شرعنة قيام الدولة الطائفية نفسها بوصفها حتميّة اجتماعية أو تعبيرًا عن خصوصية محلّية لا يمكن التجاوز عنها من دون ارتكاب مخاطر السير في اتجاه اقتسام غير عادل للسلطة والثروة المرتبطة بها.
هذه المعطيات أفرزت حكومات تخلَّت عن مسؤولياتها في بناء دولة حديثة حقيقية قوامها مفهوم الحق والقانون، وأصبح دورها محصورًا في تقاسم السلطة بين نخب الطوائف وأرباب الكراسي والعشائر القائمة، كما أدّى إلى رفع الممارسات الطائفية عن طاولة النقد، وأصبحت "الطائفية" ذلك "اللاهوت المحرم" الذي ينبغي ألا نقترب منه. هذا التصور وَحَّد تمامًا بين منطق عمل الدولة ومنطق عمل المجتمع الأهلي، ملغيًا بذلك أي إمكانية لبناء دولة سياسية ديموقراطية.
إضافة إلى أمر غاية في الأهمية، وربما يعد قضية محورية في الموضوع، وهو أن المواطنية هي جهاز مناعة الدول بالدرجة الأولى والطائفية السياسية هي الفيروس المدمر لها. فعندما يكون الولاء السياسي لرعايا دولة ما للطائفة على حساب الوطن فإن التدخلات الأجنبية في السياسة الخارجية ستأخذ مداها الدراماتيكي، وستؤدي إلى انفراط عقد الدولة نفسها التي تتحول إلى ممالك هشة تتلاعب بها القوى الاقليمية وتتحول إلى ساحة لتصارع النفوذ الدولي على ساحتها.
فالسلطة في مجتمعاتنا الطائفية العنصرية منبع قيم سلبي، والمواطن حاليًّا لا مكان له في السلطة التشريعية على الاطلاق، لأن هذا الأمر موكل لأفراد يعملون على تملق الزعيم ووضع القوانين التي تلاءمه وتشرع وجوده وتمنحه الاستمرارية. فالدساتير والقوانين مفصّلة على مقاس "المسؤول". لذلك فإن الاصلاحات الدستورية ووضع قانون انتخابات عادل يؤدي إلى ديموقراطية حقيقية تضمن التنوع الثقافي وأطياف الشعب كافة تعد من أولى الأولويات.
أما على صعيد العلاقة الحالية بين المواطن والسلطة فهي علاقة مأزومة تاريخيًا، ومفهوم المعارضة مرتبط في الأذهان بالطامعين، وهو مفهوم خاطئ. علمًا أن المعارضة في الدول العصرية لا علاقة لها بالطمع على السلطة، فالمعارضة في الدول الحديثة هي جزء من مكونات المنظومة الديموقراطية والعمل المؤسساتي الذي يضمن الحق القانوني للمواطن بالمسائلة والمحاسبة على المشاريع التي تتبناها الحكومة، ومعالجة قضايا الرشوة والهدر والفساد... فالمعارضة لا تعني الطمع بالسلطة لأن مفهوم الدولة مرتبط بالتداول أصلاً ولا وجود لسلطة أبدية.
فالتربية على المواطنة تبدأ من هذه النقطة، وتتأسس عليها. لا يمكن للعلاقات التربوية المدرسية التلقينية المنغلقة على نفسها، واللامبالاة بالآخر وبحقوقه وثقافته، أن تدّعي القدرة على التنشئة الحضارية والسياسية التي نسعى إليها.
إن إثارة الأمل والطموح لدى التلاميذ، المواطنين الصغار، يؤثر في تعزيز صورة الذات الوطنية لديهم، كما يؤثر في مستوى طموحاتهم المستقبلية، وذلك من خلال تنشئة تعتمد بث روح المسؤولية، وإحاطة الفرد بالمثل العليا والنماذج الوطنية المشرفة.
كما أن تعزيز الاحترام لاختيارات التلاميذ وأذواقهم، وقبول الاختلافات، يساهم في خلق أجواء التسامح في فصولنا الدراسية، فالتربية على التسامح لا تعني قبول أن يكون الفرد مختلف بل أن يقبل تفرد غيره واختلاف الآخرين معه، بحيث يكون منفتحًا عليهم ومدافعًا عن حقهم في الاختلاف.
فالوضع السياسي والثقافي، القائم حاليًّا، يساهم في اشاعة مناخات نفسية مشحونة بالبغضاء تجاه "عدو" أو أعداء قد يكونوا حقيقين أو مُتخيلين، وترويج أحكام مسبقة ضد أشخاص أو أفكار دون أن تقوم تلك الأحكام على حجة معقولة أو سند منطقي مقبول.
وكثيرًا ما يتعلم الأطفال التعصب من ذويهم والمجتمع المحيط فيهم، فالفضائيات تنقل خطابات الساسة المتشنجة. وحين لا نبدي احترامًا للأفراد ولاختيارات الآخرين ينتقل هذا الأمر إلى الأطفال فيشوّه براءتهم.
إن الصفح ليس فكرة طوباوية بقدر ما هو قوة روحية كامنة في شيفرة تراكم سيرورة الروح الإنسانية في رحلة حياتها، ويكمن دور الكائن الانساني في تحويل تلك القوة، الكامنة فيه أصلاً، من وجود كامن إلى وجود بالفعل، وترجمة قدرات الروح الصفحية والتسامحية إلى سلوك ظاهر يتجلى من خلال انفتاح حتى على من يُصنف أنه "عدّو"، وليس مصادفة أن تصل الثقافات العالمية الكبرى في مجرى تطورها إلى الانفتاح الداخلي والخارجي، لأنها تدرك بفعل منطق التطور الروحي ضرورة تجاوز الحدود التي تفرضها نفسية الغريزة، أو ما كانت بعض الفلسفات القديمة تطلق عليه اسم القوة الغضبية.
إن هذه الحالة لا تبلغها إلا الحضارات المزدهرة دون شك، لأنها تكون قد ارتقت في ذروة إدراكها الروحي حيث يصبح الصفح جزء من حقيقة منظومة تكامل الانسان.
بطبيعة الحال لا يمكن الارتقاء إلى هذا المستوى من التسامح بين ليلة وضحاها ما لم يتم تعزيز ذلك بالتربية ومؤسسات المجتمع المدني كافّة.
وترسيخ هذه الفلسفة يكون عبر تقوية النزعة الروحية لحقيقة تساوي الكائنات أمام المكون وأمام الكون، وذلك عبر ترسيخ الآداب الرفيعة والفنون الراقية، ولا يمكن أن نغفل دور الفن والتمثيل والمسرح ... الخ في تعزيز ثقافة التسامح والرقي بالكائن من طور الغريزة والأنانية والجشع إلى مصاف الإبداع الروحي والعطاء الوجداني.
بناء الهوية الوطنية: فالمواطنية هي في الواقع سؤال الهوية، والهوية هي في الحقيقية سؤال الثقافة والحضارة. لذلك لابد من الارتكاز على فلسفة إنسانية وجودية منفتحة قوامها المحبة والسلام والعدل والانفتاح وقبول التنوع واحترام الآخر، وعندها يكون الدين هو مجرد علاقة خاصة بين الإنسان وربه، أما علاقة المواطن بأخيه فيحددها الانتماء الوطني.
الانفتاح والتسامح هما الخصائص الأساسية للموقف الوطني الجامع، وذلك يُبنى من خلال حريّة الفكر، ويشتمل على الاعتراف بحق الآخر في تبني أفكار وحقائق قد تكون مخالفة لحقائقنا وأفكارنا. فالرؤية الوطنية للطوائف هي رؤية متسامحة بحيث إنها تتخطى مجال الخلافات، وتجعلها تتحاور وتتصالح، ليس فيما بين المذاهب والأديان وحسب بل حتى مع سائر التيارات العلمانية والفكرية.
ترتكز ثقافة المواطنية على مرتكز أساسي مفاده أنه لا يوجد فضاء ثقافي منزه يمكن من خلاله إطلاق الحكم على الآخرين ولا يجوز الحكم على ثقافة ما أو فئة ما، لذلك فإن ثقافة المواطنية تقف موقف منفتح إزاء الأديان جميعها وتحترمها.
المواطنية محورها الإنسان لذلك فهي تقتضي صياغة سياسة اقتصادية تكون في خدمة الكائن الإنساني لا العكس، فالاقتصاد ينبغي أن يكون لحماية البشر من خلال تبني فلسفة اقتصادية تحترم الفرد ومتطلبات الشعب.
فلسفة المواطنية تقوم على الاعتراف بوجود مستويات متعددة للحقائق وأبعاد متعددة للقيم وللواقع أيضًا، وأن كل مستوى قد تحكمه أشكال متنوعة من المنطق، وبناء عليه كل محاولة لاختزال الواقع إلى مستوى واحد ومصادرة الحقائق ببعد واحد من شأنها أن تقوض مفهوم المواطنية نفسه.
بناء الوسائل العمليّة لدعم المشاعر الوطنية المشتركة بين جميع الطوائف والأعراق والمذاهب والتيارات والأحزاب، تكون بمثابة الحصن الثقافي الحامي لمبدأ المواطنية، ووعاء قابل لاستيعاب التبعات القانونية والسياسية للمواطنة.
هذا الأمر يحتاج لآليات تترجم عمليًا من خلال إعداد قادة ونخب فكرية ومراكز بحوث ودراسات تساعد في ارساء المفهوم الكوني المنفتح للإنسان.
دعم الخطاب الإعلامي المنفتح، وتشجيع الكتّاب والمفكرين والأدباء الذين يتبنون أفكار تساهم في إرساء فلسفة التسامح والانفتاح.
استغلال المناسبات الوطنية العامة والأعياد لتعزيز الوحدة الوطنية: مثل عيد الاستقلال وعيد العلم وعيد الجيش...الخ كما يمكن استحداث مناسبات لها علاقة بالبيئة والأخوة والوحدة والمحبة.
دعم جمعيات المجتمع المدني التي هدفها التنوير، وتوفير الفرصة في الإعلام للمتنورين ودعاة التنوير والانفتاح.
في الختام نود الإشارة إلى أن كل الطروحات المذكورة هي طروحات انتقالية بهدف الوصول إلى مرتكزات دولة علمانية كاملة قوامها الديموقراطية وحرية الكائن الإنساني واحترام حرمته وحقوقه بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن