أزمة اقتصادية عميقة تهدد العالم

منير الحمارنة
jcp@nets.com.jo

2011 / 8 / 29

تؤكد مختلف المؤشرات أن العالم الرأسمالي، وخاصة المراكز الرأسمالية الرئيسية لم تبرأ من الأزمة المالية العالمية التي انفجرت عام 2008، حيث بقي النظام الرأسمالي يتخبط في متاهات الأزمة، ولكنه دخل في هذا العام أزمة جديدة حادة من خلال أزمة الديون الأمريكية بالدرجة الأولى ثم الديون الأوروبية في الدرجة الثانية. وتكشف الأزمة الجديدة بوضوح، أنه ليس بمقدور الرأسمالية العالمية القضاء على أزماتها الكثيرة والمتتالية، ولكنها تدير هذه الأزمات بوسائل مختلفة، تؤدي في المحصلة الى تصديرها لمختلف دول العالم، وخاصة الدول النامية والتابعة من جهة والى تحميل الطبقة العاملة والفئات الفقيرة والمتوسطة أعباء جديدة، وذلك من خلال تقليص الانفاق العام وتقليص فرص العمل في الدول الرأسمالية ذاتها من جهة ثانية.
كيف نشات هذه الأزمة؟
لمعرفة اسباب نشوء الأزمة لا بد من القاء نظرة سريعة على الاقتصاد الامريكي وتطوراته حتى ايامنا هذه.
يعتبر الاقتصاد الامريكي أكبر اقتصاد في العالم ويشكل الناتج المحلي الاجمالي الامريكي 21.21بالمئة من الناتج العالمي عام 2010 أي حوالي 14.634 تريليون دولار وكان الاقتصاد الامريكي في مقدمة الاقتصاد العالمي على مدى ما يقرب من المائة عام الماضية. وخرجت الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية أقوى اقتصادياً وأكثر ازدهاراً، وساهمت في اعادة بناء ما دمرته الحرب في العديد من دول العالم مما عمق امكاناتها المادية وسيطرتها الصناعية ونفوذها التجاري وعزّز مكانتها في قيادة العالم الرأسمالي.
ولكن الولايات المتحدة تواجه حالياً أكبر تحد منذ الحرب العالمية الثانية وذلك لأسباب محلية وأخرى دولية.
فعلى الصعيد المحلي فشل الاقتصاد الامريكي في الخروج من الأزمة المالية العالمية التي انفجرت عام 2008 والتي تعتبر الاسوأ من أزمة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، وعالمياً تفقد الولايات المتحدة مكانتها العالمية الاقتصادية بالدرجة الأولى أمام نهوض وتعمق دور الدول الناشئة. ويتوقع صندوق النقد الدولي ان الصين ستلحق بالولايات المتحدة عام 2016 بدلاً من تقديرات سابقة كانت تقدر ذلك حوالي عام 2025.
ويعاني الاقتصاد الامريكي حالياً من المشاكل التالية :-
1- سقف المديونية العامة المرتفع
2- تباطؤ النمو
3- ارتفاع معدل البطالة
4- ارتفاع عجز الموازنة.
وتفجرت الأزمة عندما واجهت الادارة الامريكية مشاكل وصعوبات بعضها اقتصادي ولكن بعضها الآخر سياسي يتعلق بالتناقض بين الحزبين، عندما حاولت رفع سقف الدين العام. فمن المعروف ان سقف الدين العام الامريكي محدد بموجب القانون ويبلغ 14.3 تريليون دولار وهو يشكل 69 بالمئة من الدخل القومي. ووصل هذا الدين في اواخر شهر آيار الماضي الى السقف المحدد، الأمر الذي اصبح يتطلب رفع السقف، إذ بدون ذلك لا توجد أية اموال للانفاق، وبالتالي الدخول في حالة العجز عن الدفع، أي عدم دفع معاشات التقاعد والديون المستحقة على الخزينة وتغطية نفقات الادارة المختلفة وغيرها.
ويذكر ان الرئيس أوباما واجه صعوبات في التوصل الى رفع سقف المديونية من جانب الجمهوريين، الذين اشترطوا تخفيض الانفاق العام ولا سيما في المجال الاجتماعي لقاء موافقتهم على زيادة السقف.
بينما طالب الديمقراطيون بزيادة الضرائب على الاغنياء والشركات الكبيرة والابقاء عليها منخفضة على الطبقات الوسطى واصحاب المداخيل القليلة والابقاء على الانفاق الاجتماعي. وهنا اشتد السجال بين الجانبين وحمي وطيس المعركة التي كانت سياسية في جوهرها. رغم ذلك كان من المتوقع ان يتوصل الطرفان الى كومبرومايز "توافق" يحمي سمعة الولايات المتحدة ومكانتها في العالم!!!
ومن الجدير بالذكر انه جرى رفع سقف الدين العام الامريكي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الآن سبعين مرة منها سبع مرات في عهد الرئيس السابق جورج بوش الأبن. ولكن عجز الموازنة الذي اسهم بشكل كبير في تطوير وزيادة المديونية، نجم عن المبالغة في الانفاق العام..ان هذا العجز هو السبب الأهم للازمة الحالية، والذي تطور بشكل كبير منذ عهد رونالد ريجان حتى الوقت الحاضر. ويبلغ العجز السنوي للموازنة حالياً حوالي تريليون دولار وينجم هذا عن الانفاق المبالغ فيه خاصة على الحروب في افغانستان والعراق التي يقدر البعض انها كانت حتى الآن حوالي 3.7 تريليون دولار، ويشكل الانفاق على الدفاع واحدة من اهم المشكلات للاقتصاد الامريكي. إذ تبلغ ميزانية الدفاع حوالي 700 مليار دولار سنوياً وهي تساوي انفاق اعلى عشرين دولة مجتمعة في العالم على التسليح. وفي العام الماضي زاد الانفاق العسكري الامريكي 50بالمئة عما كان عليه معدل الانفاق في الحرب الباردة، وارتفعت نسبة الانفاق العسكري 67 بالمئة في آخر عشر سنوات.
وامام تداعي عجز الموازنة وزيادة الانفاق، فإن الولايات المتحدة ذهبت بعيداً في الاستدانة. وتقول المعطيات ان كل دولار تنفقه الولايات المتحدة يأتي 60 سنتاً منه من عائدات الموازنة و40 سنتاً تأتي من المديونية، أي ان المديونية اصبحت جزءاً ضرورياً ومكملاً لسياسة الانفاق الامريكية. ومن الجدير بالذكر ان البنك المركزي الامريكي يدخل السوق كمقترض فرد، وبالتالي يتصرف كأي مؤسسة في القطاع الخاص في الاقتراض والسداد على السواء.
ومع ارتفاع عجز الموازنة ومستوى المديونية فان الاقتصاد الامريكي يعاني من عدم القدرة على التعافي الاقتصادي بمايسمح بمواجهة المستحقات الجديدة.فالادارة الحالية ورثت عجزاً متراكماً للموازنة، وأضافت اليه ما يقرب من أربعة تريليونات دولار لانتشال الشركات الكبيرة التي افلست في أعقاب الأزمة المالية عام 2008. وأمام معضلة حالة العجز عن الدفع، فإن تباطؤ النمو يساهم في زيادة معدل البطالة حيث يوجد في الولايات المتحدة حالياً 14 مليون عاطل عن العمل أي حوالي 9 بالمئة.
اعلنت الخزانة الامريكية ان مجموع الدين العام تجاوزت عقبة 100 بالمئة من الناتج المحلي لعام 2010 بعد اقرار رفع سقف الدين العام.
وارتفع سقف الدين في يوم واحد 238 مليار دولار لمواجهة المدفوعات المتراكمة، يبلغ بذلك 14.580 تريليون دولار متخطياً بذلك الناتج الاجمالي لعام 2010 والذي بلغ 14.526 تريليون دولار ، ولكنه سيكون دون ناتج عام 2011 والذي يقدر ان يبلغ 15.008 تريليون دولار .وبذلك تنضم الولايات المتحدة الى الدول التي يتخطى دينها ناتجها المحلي الاجمالي، ومنها بحسب بيانات صندوق النقد الدولي اليابان 229 بالمئة واليونان 152 بالمئة وجامايكا 137 بالمئة ولبنان 134 بالمئة وايطاليا 120 بالمئة وارلنده 114 بالمئة واسلنده 103 بالمئة. وسبق ان تخطى الدين العام الامريكي الناتج المحلي عام 1947 بعد الحرب العالمية الثانية وكانت النسبة متدنية جداً وبلغت 32.5 بالمئة عام 1981 بينما بلغت مستوى 64.4 بالمئة عام 2007 تحت وطأة الانكماش والأزمة المالية العالمية.
ورفع الكونغرس سقف الدين الجديد بـ 2.100 تريليون دولار، ويقدر تخفيض النفقات بمقدار 2500 مليار على مرحلتين. الأولى قيمتها تريليون دولار على مدى عشر سنوات تبدأ فوراً وتشمل قطاع الدفاع وقطاعات أخرى.
والمرحلة الثانية قيمتها 1500 مليار دولار على مدى عشر سنوات ايضاً تتولاها لجنة خاصة في الكونغرس مؤلفة من عدد متساو من الديمقراطيين والجمهوريين تكون مهمتها تحديد أوجه الاستقطاعات الاضافية.
واعلن الرئيس أوباما ان الاتفاق على تحديد النفقات الفيدرالية سيعيدها الى ادنى مستوى لها منذ ستين عاماً مما سيلحق ضرراً بالاقتصاد الامريكي الذي يعاني من معدل بطالة مرتفع 9.2 بالمئة ومعدل نمو منخفض 1.3 بالمئة.
وقابلت الصحافة الامريكية قضية رفع سقف المديونية بانتقادات واضحة وقالت نيويورك تايمز انه اتفاق مفزع!! وأبدت شيكاغو تريبيون مخاوف من تداعيات هذه الخطوة.
ولا شك ان تعليق رئيس وزراء روسيا يلخص بدقة آثار ارتفاع مديونية الولايات المتحدة وتخفيض تصنيفها على الاقتصاد العالمي حيث قال "الولايات المتحدة تتطفل على الاقتصاد العالمي من خلال تجميع الديون الهائلة التي تهدد النظام المالي العالمي.
واهتز الاقتصاد العالمي جراء أزمة الديون الأمريكية، وظهر ذلك جلياً في اضطراب البورصات من جهة وتعمق احتمالات الكساد من جهة ثانية.
فالذي يحدث في الاقتصاد العالمي هو ردود فعل متتالية نتيجة السياسات والاجراءات التي تتخذها واشنطن من جانب واحد، من خلال محاولاتها الحثيثة لنقل أزمتها الى الخارج بعد دخول اقتصادها في أزمة جديدة نجمت عن تراكم الديون مما أدى الى تخفيض تصنيفها الائتماني ، الأمر الذي أثار شكوك واسعة في قدرة هذا البلد على تسديد ديونه وفي ذات الوقت بدء شبح الأزمة في دول الاتحاد الأوروبي بعد تزايد الديون السيادية، مما أدى الى اشاعة الذعر بين المستثمرين وزعزعة الثقة في النمو الاقتصادي. وجاءت توصيات المؤسسات المالية الدولية، صندوق النقد والبنك الدوليين، المطالبة بتنفيذ سياسات انكماشية من خلال تخفيض الانفاق العام والغاء الدعم وغيرها من السياسات لتزيد من تعمق الأزمة. وكان من أهم نتائج تلك السياسات اتساع دور القطاع الخاص في مختلف قطاعات الاقتصاد وخاصة توسعه في مجالات حيوية تمس حياة المواطنين وأمنهم بشكل مباشر من خلال الخصخصة الواسعة للخدمات العامة. ونمت كذلك أسواق المضاربة بشكل غير مسبوق وغير مراقب. وفي ظل كل هذه الاوضاع الصعبة، تلعب سيطرة الدولار على الاقتصاد العالمي دوراً شديد التأثير، لأنه عملة الاحتياط الدولي الرئيسية، حيث يشكل حوالي 70 بالمائة من الاحتياطي العالمي.
الأزمة عميقة داخل الولايات المتحدة وفي دول الاتحاد الاوروبي. فالاقتصاد الامريكي ينمو بمعدل ضعيف جداً دون 2 بالمائة ومعدل البطالة يزيد عن 9.2 بالمائة وتتوالى عمليات التسريح الجماعي للعمال والمدرسين. وهناك حالة من الركود الاقتصادي ويستمر ركود الرواتب والاجور على مدى ثلاثة عقود مما أدى الى انهيار سوق العقار نتيجة الانهيار الاقتصادي، وهناك الملايين من الأسر الامريكية التي اصبحت مهددة بالطرد من مساكنها. ويتصاعد العجز في الميزان التجاري مع تراجع الاستثمار في البنية الاساسية.
وفي ضوء هذه الاوضاع يشتد النضال الطبقي والاجتماعي في الولايات المتحدة وتتسع دوائر المناهضين للأوضاع الماثلة. وعبر عن هذه الحالة الاتحاد الفيدرالي للعمال الامريكيين عندما اعلن "ليس هناك من طريقة لسد العجز في تمويل ما نريد وما نحتاج اليه سوى عودة القوات الامريكية من الخارج لوطنها سواء من العراق او افغانستان، فقد ثبت أن عسكرة وتسليح السياسة الخارجية الامريكية أكبر خطأ ارتكب. علينا ان نستثمر في بلادنا".
ويقول الاتحاد الفيدرالي للعمال الامريكيين "لكن لا نستطيع ان نغفل في المقابل أن نظامنا الضريبي غير عادل ولا يتسم بالشفافية، وهذا هو الخطأ الرئيس في الاقتصاد الامريكي. لأن الحكومة تعطي الحوافز الضريبية للمليونيريين الأمريكيين والشركات الكبرى في حين ان البنية الاساسية تعاني الاهمال الشديد ، بل ويقطع زيت التدفئة عن الفقراء الامريكين وقد تم تصفية اكثر من 50 الف وحدة صناعية خلال العشر سنوات الماضية بينما يصل العجز التجاري السنوي الى نصف تريليون دولار". هذه الاوضاع تتطلب سياسات جديدة في الاستثمار ستوجه الى الداخل كما يقول اتحادالعمال.
وفي ذات الوقت يشهد الاتحاد الأوروبي تباطؤاً حاداً، فقد شهدت المانيا، اهم اقتصاد أوروبي، تباطؤاً حاداً في نموها الاقتصادي بلغ 0.1 بالمائة في ربع العام الثاني، رغم انها تعتبر القوة المحركة للتعافي الاقتصادي في منطقة اليورو وكذلك تباطأ الاقتصاد الاسباني الى 0.2 بالمائة من 0.3 بالمائة في الربع الأول بينما تشير الاحصاءات أن النمو الاقتصادي الفرنسي قد توقف خلال الفترة بين نيسان وحزيران. وبجانب ذلك تعاني دول أوروبية كذلك من ضائقة حادة كاليونان وايطاليا. وتشكل أزمة الديون اضافة مقلقة لأوروبا وللاقتصاد العالمي.
وهكذا يتضح ان شبح أزمة اقتصادية عميقة يحوم حول العالم، الأمر الذي يفرض، في ظل النهوض الطبقي المعادي للقوى الامبريالية داخل بلدانها وعلى الصعيد العالمي،يفرض اجراء تعديلات كبرى في بنية الاقتصاد العالمي، وفي مقدمتها اعادة النظر في النظام النقدي العالمي وإيقاف التلاعب بأسعار صرف العملات .واخراج دول العالم من قبضة قوى العولمة الرأسمالية الشرسة.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن