الإسلام في مرآة الإعلام الغربي الإسلام الأصولي والإسلام العصري

جواد بشارة
jawadbashara@yahoo.fr

2003 / 2 / 26

 

 باريس


من مدارس "طالبان" القرآنية في جنوب افغانستان الى المواقع الاسلامية على الانترنت مرورا بالتلفزيون السعودي والعديد من المساجد في ضواحي باريس ولندن، تنتشر رؤية موحدة للاسلام المعروف بـ"الوهابي" لدى المسلمين الاكثر اعتدالا (او التقليديين منهم). ويرفض المعنيون التسمية مفضلين عليها "السلفيين" (2) . والمقصود هنا ليس حركة منظمة بل رؤية للاسلام تعطي الاولوية الى قراءة حرفية وصارمة للقرآن وتتخذ موقفا نقديا من التاريخ الاسلامي نفسه الذي تلى المجتمع المثالي في زمن الرسول والصحابة.

وتسعى هذه الاصولية الجديدة (3) الى فرض الشريعة كمعيار لكل اشكال السلوك الانساني والاجتماعي رافضة بالتالي اي مرجعية ثقافية اخرى ترافق او تتجاوز الثقافة الدينية البحتة كالفنون التشكيلية والموسيقى والفلسفة والادب والعادات الوطنية من دون ذكر الاستعارة من الثقافات الاخرى (الاحتفال بالسنة الجديدة وتزيين شجرة الميلاد). كما انها لا تقيم مع العلوم سوى علاقة استخدام فتوافق على الحاسوب وترفض العقلانية العلمية. وتتعارض صيغة الاسلام هذه بشدة مع المسيحية واليهودية (وعرضاً مع المذهب الشيعي)، من اغتيال رهبان تيبيرين (1996) الى رفض تشييد الكنائس فوق الارض السعودية (مقابل انفتاح الاخوان المسلمين المصريين على الاقباط (4) او غياب التوتر في ايران بين المسيحيين والمسلمين).

ويبقى هاجس هذه الاصولية الجديدة رسم خط احمر بين الدين والكفر، وهو خط يخترق الامة الاسلامية نفسها، فهي ترفض بالتالي كل المساومات الدينية وايضا الثقافية مع الثقافة الشاملة المهيمنة والتي هي اليوم ثقافة الغرب. كل الامور مصنفة ضمن قاعدة المعروف والمنكر بما في ذلك التفاصيل التافهة من نوع طريقة حلاقة الذقن ("طالبان" الافغانية) او تنظيف الاسنان. ويصبح النشاط الرئيسي للعلماء او الواعظين المتطوعين اصدار الفتاوى لتحديد شرعية السلوك، من استخدام البطاقات المصرفية الى وهب الاعضاء.

بيد انه يمكن هذه الاصولية الجديدة ان تتطور ضمن ظروف اجتماعية وسياسية متنوعة. فـ "جماعة التبليغ" (المعروفة في فرنسا باسم "الايمان والممارسة" Foi et Pratique) مثلا هي منظمة شرعية تماما وليست سياسية. لكن الائمة في مساجد الاحياء الصغيرة في اوروبا يشددون على ارتداء الفتيات الحجاب وعدم المشاركة في دروس الرياضة البدنية ويحرّضون المسلمين لعدم التسليم على النساء باليد او الرد على بطاقات المعايدة في رأس السنة. في المقابل، فإن الدعاة في لندن، من امثال ابو حمزه وعمر بكري، يوزعون اللعنات ويدعون الى الجهاد. فحزب التحرير المتمركز في لندن والذي يجند الشبان المسلمين من الجيل الثاني يعتمد خطابا بالغ التطرف (كالدعوة المباشـرة الى بعث خلافـة (5) المسلمين وادانة اي مشاركة في حياة البلدان المضيفة الاجتماعية والسياسية) لكنه يحاذر الاشارة الى الجهاد ويمتنع عن اي لجوء الى العنف.

تبالغ الوهابية السعودية التي أسسها محمد بن عبد الوهاب (1703-1791) في تمسكها بالنص المقدس وترفض اي مساومة مع كل ما ليس من الاسلام الحنيف، الى حد اقدامها على تدمير قبر الرسول كي لا يتحول مركزا للتقديس. وكانت الوهابية قامت لمواجهة غيرها من المدارس الاسلامية وليس ضد الغرب الذي تحالفت معه بدفع من آل سعود. لكن يبقى هاجسها التصدي لأي تأثير، غربياً ثقافياً كان ام دينياً، وهذا ما يفسر التوتر الذي يخلقه وجود قوات اميركية في السعودية. فالتلفزيون السعودي الموجه الى المسلمين المقيمين في الغرب يعارض اي شكل من اشكال الاندماج في وقت يؤيد سياسة العائلة المالكة المناصرة للغرب.

اخيرا وبالطبع فإن حركات مثل الجماعة الاسلامية المسلحة في الجزائر او تنظيم "القاعدة"، تدعو الى الجهاد، فتستهدف الاولى مسلمين آخرين (بدءا بأعضاء جبهة الانقاذ الاسلامية الذين لم يلتحقوا بصفوفها) مع الرغبة في القضاء على اي وجود مسيحي في الجزائر، في حين تركز الثانية على محاربة الولايات المتحدة الاميركية. ولا تتردد هذه الحركات في الاختلاف في ما بينها وتكفير بعضها البعض حيث ينتقد السلفيون "البدع" التي جاءت بها "جماعة التبيلغ" (مفهوم "الخروج" التبشيري) بينما يناصب انصار ابن لادن الملكية السعودية العداء ويرفض حزب التحرير استجابة دعوة الجهاد التي اطلقها ابن لادن. يختلفون حول الجهاد لكنهم يتشاركون في رؤية للاسلام ترتكز على التطبيق الصارم للشريعة ورفض وجود حيز ثقافي مستقل والعودة الفردية الى ممارسة الفروض الدينية من خلال معيار المعروف والمنكر.

ان هذه التيارات قديمة قدم الاسلام، فحركة "طالبان" الافغانية تذكّر بالموحدين في المغرب ابان العصر الوسيط حين اتحدت القبائل الباشتونية هنا والبربرية هناك وراء زعيم شعبي لكي تفرض على اهل المدن اسلاما صارما قائما على الشريعة وحدها. والسؤال المطروح هو سبب تطور هذه الظاهرة اليوم ضمن اوساط تعيش الحداثة في الواقع بدءا بالمسلمين المقيمين في الغرب.

اما محور التوصيل فيمر عبر المدارس الدينية كالمدارس القرآنية في باكستان او العديد من المؤسسات الاسلامية في السعودية او دول الخليج. من هناك تخرج العلماء والواعظون الذين يفتحون المساجد في الغرب او تستدعيهم الجاليات المحلية للقيام بمهام الدعوة التي جعلت منها "جمعية التبليغ" منهجا تمارسه فرق دولية تنتقل من بيت الى بيت في اوساط الجالية المنتمية سوسيولوجيا الى الاسلام. وقد بدا واضحا في باكستان طغيان الطابع الوهابي على التعليم الديني وخصوصا على المدرسة "الديوبندية" الحاملة في الماضي هوية ثقافية مطبوعة بالميراث اللغوي والادبي الفارسي والتي تحولت خلال عقدين الى الوهابية تحت تأثير الممولين والدعاة السعوديين المؤيدين للجهاد الافغاني ضد السوفيات. وقد أدى السعوديون دورا حاسما في انتشار الاصولية الجديدة. وفي سبيل قطع الطريق على التيار القومي العربي او الاتجاه الشيعي الايراني او الشيوعية، شجعوا على الصعيد الديني قيام اتجاه سني عقائدي محافظ ولكنْ معاد ايضا للغرب (يجدر التذكير بأن للسلطة الدينية في السعودية استقلالاً نسبياً عن آل سعود). وحرص الوهابيون السعوديون على نشر عقيدتهم في حد ذاتها مكتفين بفرضها على انماط التعليم في بقية المدارس وتهميش كل ما يتصل بثقافات العالم الاسلامي الكبرى مشددين على كل ما يذهب في الاتجاه الحنبلي (وهي المدرسة الاكثر تمسكا بحرفية النص من بين المدارس الشرعية الاربع الكبرى). وقد تقلص المضمون التعليمي لصالح كتيبات صغيرة الحجم تدور حول الفقه والعبادات. كذلك قصرت مدة الدراسة الى 3 او 5 سنوات بدل الخمسة عشر عاما التي كانت مطلوبة لاعداد العلماء. وتشكل الفتاوى النشاط الرئيسي للمعلمين (من امثال الشيخ ابن باز والالباني المتوفين أخيرا) اضافة الى تحديد المعروف والمنكر ليصار الى نشرها في كتيبات تعليمية او عبر شبكة الانترنت.

وضع السعوديون كل امكاناتهم المالية في خدمة نشر هذا الاتجاه وقامت منظمات من امثال الرابطة او الدعوة بافتتاح العديد من المؤسسات الاسلامية والمدارس وتوفير المنح بتمويل من المصارف السعودية الاسلامية والاثرياء من رجال الاعمال المدعوين الى دفع الزكاة مباشرة لحساب مؤسسات التربية هذه. هكذا نافسوا معاهد التعليم الديني التقليدية كجامعة الازهر في القاهرة بأن قدّموا منحا دراسية وظروف سكن ودراسة في السعودية بشروط افضل من مصر. كما انه من الاسهل على اللاجىء الافغاني الشاب الى باكستان تحصيل منحة لدراسة الاسلام في السعودية من الحصول على اللجوء السياسي الى اوستراليا.

لكن الدعاية السعودية استفادت ايضا من الموافقة الضمنية للبلدان الغربية او الاسلامية الكبرى ذلك انها كانت تعتبر في الثمانينات موقعا مضادا يفيد في محاربة التطرف السائد في تلك الفترة، من الاسلام الايراني الى الشيوعية. اخيرا ونظرا الى العلاقات الممتازة بين المملكة العربية السعودية والحكومات الغربية كان الاعتقاد سائدا بأن هذه الدعوة ستبقى تحت الرقابة السياسية. فكيف يمكن تالياً رفض تأشيرات دخول تقدّمها السفارة السعودية؟

لكن لا يمكن تفسير الظاهرة بالاموال السعودية فقط لأن انتشار الاصولية الجديدة يستجيب طلباً في "السوق الدينية". اولا لان الحركات الاسلامية التقليدية الكبرى ("الرفاه" التركي و"جبهة الانقاذ الاسلامية" الجزائرية والثورة الايرانية و"حزب الله" اللبناني و"حماس" الفلسطينية اضافة الى فئات من الاخوان المسلمين) تعرضت للقمع او تطبعت من خلال ممارسة السلطة او التحالف معها. وقد تحول بعضها مثل "حماس" او "الرفاه" الى الاتجاه القومي اكثر منه الاسلامي وهي لا تستجيب طلب الشباب المقيم خارج بلاده والذي تدوّل سواء من خلال المنفى والدروس التي يتابعها في الخارج او من خلال الهجرة والذي لا يتماهى مع اي قضية وطنية: فلسطينيو 1948 (مثل لاجئي مخيم عين الحلوة في لبنان) والذين يعرفون انهم لم يعودوا ابدا الى ارضهم في حال ابرام اتفاق سلام اسرائيلي ـ فلسطينين، العمال المهاجرون الى دول الخليج، السعوديون المبعدون عن اللعبة السياسية، ابناء الجيل الثاني المقيمين في الغرب، المتخرجون الشباب من المعاهد الدينية والساعون من بلد الى بلد للحصول على عمل او على منح. وقد استخدم العديد من "الاخوان المسلمين" في المؤسسات الدولية التي يموّلهاالسعوديون عند عجزهم عن ايجاد موقع او فرصة عمل لهم في بلدانهم الاصلية. وهم يستبدلون لغاتهم الام بالانكليزية والعربية الفصحى.

بالطبع هناك اشكال مختلفة من التدين يمكن ان تستجيب الحاجات الجديدة لهؤلاء المسلمين المعولمين لكن الاصولية الجديدة مناسبة تماما لانها تحول معاناة الغربة الثقافية الى خطاب لاعادة تأسيس الاسلام الشامل المنقّى من العادات والتقاليد وبالتالي قابلة للتكيف مع المجتمعات كافة. فهي تحدد العالم الشمولي على انه الامة الافتراضية التي يمكن تحقيقها بجهود جميع المسلمين ولا تتوجه الى جماعات اسلامية موجودة بل الى الافراد المعزولين المنكفئين على ايمانهم وهويتهم. فالاصوليون الجدد هم الذين نجحوا في اسلمة العولمة بأن وجدوا فيها التباشير لاعادة تأسيس الامة الاسلامية الشاملة وذلك بالطبع عبر ازالة الثقافة المهيمنة اي الغربنة في شكلها الاميركي. لكنهم في سعيهم هذا يبنون مرآة شمولية للولايات المتحدة تحلم بماك دونالد "حلال" اكثر من الرغبة في العودة الى مطابخ الخلفاء الكبيرة الماضية.

من خلال تحويلها الاسلام الى محض نظام للسلوك ورفض كل ما هو ثقافي لصالح نوع من اسلام جاهز للاستعمال قابل للتكيف مع جميع الحالات من الصحراء الافغانية الى الجامعات الاميركية، تصبح الاصولية الجديدة نتاجا للاضمحلال الثقافي الحديث اكثر منها عاملا فاعلا في هذا الاضمحلال. فإسلام "طالبان" كما الوهابية السعودية او جذرية ابن لادن، جميعها مناهضة لكل ما هو ثقافي حتى لو كان نابعا من الاسلام. فمن هدم قبر الرسول على يد الوهابيين الى تدمير تماثيل بوذا او ابراج نيويورك، نجد رفضا لاي مفهوم للحضارة والثقافة نظر اليه بتسرع على انه نوع من "العدمية".

انهم ليسوا عدميين بل اصوليون يريدون العودة الى نقاوة الاسلام الاول المصفّى من كل ما بناه الانسان. فمن خلال تشديدهم على فكرة الامة يتوجهون في الواقع الى حالة شمولية يعيشها المسلمون الذين لا يتماهون مع ارض او مع وطن معين. ذلك ان الامة الخيالية للاصوليين الجدد موجودة في العالم الشمولي حيث يحصل التجانس في السلوك واللغة وفق النموذج الاميركي المهيمن (الانكليزية، ماكدونالد...) او من خلال اعادة بناء نموذج خيالي خاضع للهيمنة (الجلابية البيضاء، اللحية و... الانكليزية). هناك تماثل بين تصرف الاصوليين الاسلاميين الجدد والعديد من السمات الخاصة بالشيع الاصولية البروتستانتية التي تناهض بدورها اي مفهوم ثقافي لصالح نمط اخلاقي من السلوك وتجد من يصغي اليها في الاوساط الجديدة الفاقدة حديثا لثقافتها الخاصة (من اصحاب الاصول الاميركية اللاتينية المقيمين في الولايات المتحدة مثلا). ويعتبر موضوع "الولادة الجديدة" مركزيا في الاصوليتين لان المقصود التوجه الى اناس قطعوا مع ماضيهم (واحيانا مع عائلاتهم كما في حال الشبان الارهابيين الذين قادوا الطائرات وضربوا بها البرجين التوأمين). كما يسمح ذلك بالتغطية على غياب المعارف من خلال ممارسة الارشاد والدعوة اذ لا حاجة للدراسة لقول الحقيقة. فالاصولية الجديدة ملازمة للفردية والعصامية.

بالطبع، ليس التطرف السياسي نتيجة مباشرة لهذه النزعة الدينية اذ يفترض توافر عامل اضافي هو بالنسبة الينا الاسلمة التي طغت على الحيز المعادي للامبريالية والمناصر للعالم الثالث (6) . فلا وجود لرابط آلي بين تطور الاصولية الجديدة والارهاب لكنهما ينبعان من معين مشترك تشكل الوهابية السعودية على الارجح ابلغ تعبيراته.

 

--------------------------------------------------------------------------------

(1) مدير ابحاث في المركز الوطني للبحوث العلمية، من مؤلفاته LiEchec de liIslam Politique, Le Seuil, Paris, 1992 et de Généalogie de liislamisme, Hachette, Paris, 2002

(2) اقرأ تحقيق كزافييه ترنيزيان في صحيفة لوموند 25/1/2002

(3) LiEchec de liIslam Politique, Le Seuil, Paris, 1992

(4) حرص "الاخوان المسلمون" المصريون دائما على تفادي اي نزاع طائفي وتبنوا احيانا مرشحين مسيحيين، ويضم حزب الوسط المنشق عن "الاخوان" عضوا من الطائفة الانجيلية في لجنته المركزية.

(5) الغى مصطفى كمال الخلافة عام 1924.

(6) L’islam de Ben Laden î, in … La Guerre des Dieux î, hors-série du Nouvel Observateur, janvier 2002
ما من شك في أن الإسلام نشأ وتكرس ديناً مسيساً: فقد لجأ في دعوته إلى الوسائل التي تلجأ إليها الحركات السياسية (من: دعوة، تبشير، اتصالات فردية لإقناع الآخرين واستمالتهم؛ إلى: إعلان الرأي والموقف، فتحمُّل نتائجه من "تأديب" وتعذيب وحصار اقتصادي ومطاردة بلغت حد التهديد في الحياة، مما اضطر الدعاة والأنصار الأُول إلى الهجرة)؛ وكانت معارك المسلمين الأولى، التعرضية منها والدفاعية، أجزاء من معارك طويلة المدى، على الطريق ذاته؛ وإذ استقر المقام بالمسلمين في مهجرهم الثاني: يثرب، مارس النبي محمد مهام الحاكم السياسي إضافة إلى رسالته الأولى كمؤسس ديانة جديدة، فعمل على تنظيم بيته في الداخل، وتحديد علاقته بأعدائه الأقربين: قريش، ومن كانت تأتلف معهم ضد المؤمنين بالدين الجديد، ومحاولة كسب العالم الأبعد من حوله: عرب الجزيرة، والدول القوية المجاورة، أو تحييد هذا العالم في صراعه الأرأس والأهم: ضد مكة والمسيطرين عليها وحلفائها.
وعندما نجح النبي محمد في ضم مكة إلى الدين الجديد، عمل على شمولها بتنظيماته الجديدة، وأعاد النظر في تحالفاته السابقة، وعمل على تأسيس علاقاته باليهود من منطلقات، وبأساليب، سياسية.
وكذلك كان الحال في عهد خلفائه "الراشدين": في تثبيت "الدولة" الجديدة، وفي توسيع رقعتها الجغرافية.
 
نظام الحكم
لقد كان محمد يدير الأمور العامة كما يديرها رؤساء العشائر في المجتمع البدوي، حيث يشاور ذوي الخبرة والتجربة - الذين كانوا في السابق لا مزية لهم غير تقدمهم في السن، وصاروا الآن من ذوي السابقة في الإسلام - ويحتفظ لنفسه بالقرار النهائي.
وقد عمل على إجراء موازنات دقيقة بين أصحابه المقربين، فلم يترك أحداً منهم دون مصاهرة - أخذاً أو عطاء - كما عهد لهم جميعاً بمهمات خاصة؛ كقيادة هذه المعركة، أو ترؤس ذلك الوفد، أو النيابة عنه في الصلاة بالناس.
وقد كثر الحديث، والخلاف، بشأن نظام الحكم الإسلامي. ومن دون رغبة في الانجرار إلى الجدل الخلافي الأكبر الذي مازال يثير الشقاق والحزازات حتى اليوم فيبعد أي بحث عن موضوعيته، بشأن نظام الحكم في الإسلام، يمكننا أن نقول إن النبي محمداً كان يميل إلى أن يتولى صهره وابن عمه علي شؤون "الأمة" من بعده، إلا أنه لم يترك نصاً صريحاً بتوليته هذه الشؤون من بعده، أو لنقل إنه أصدر نصاً تربوياً تثقيفياً إرشادياً، لم يجده "أهل الحل والعقد" ملزماً، سواء أكان ذلك "حديث الثقلين"، أو "حديث غدير خم"(1).
وللتدليل على عدم صراحة هذين النصين، وغيرهما، اكتفي بالتصريح أن علياً نفسه لم يستشهد بهما بقدر ما استشهد بمعرفة عامة (لدى المسلمين عنه)، عن مركزه ومكانته وجدارته، وبالتالي: استحقاقه لتولي الأمر.
ولعل أطول نص نقل عنه، وأكثر النصوص صراحة، مما يتناول هذا الموضوع، خطبته المرقمة (3) في نهج البلاغة(2)، والمعروفة بـ"الشقشقية". في هذه الخطبة يقول الإمام: "أما والله لقد تقمصها فلان [أو: ابن أبي قحافة = أبو بكر] وإنه يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى". إذن، فأبو بكر يعرف أن علياً مركز الأمر. وهذا كل ما هنالك! ثم يضيف:
"وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر على طخيّة عمياء.. فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى.. فصبرت..". فالتفكير، إذن، كان متروكاً لعلي نفسه لاتخاذ موقف مما أدى إليه وضعه: طفقت، أرتأي، أصول، أصبر، رأيت، صبرت؛ أي أنه لم يكن يشعر أن ثمة تكليفاً إلهياً له بتولي الأمر، وإلا ما كان له أن يجعل رأيه فوق تكليف الله.
ويستمر في حديثه عارضاً الأحداث في تسلسل تاريخي، مستعرضاً موقف الخليفتين الأولين منه، إلى "أن قام ثالث القوم..."، الذي يؤيد الإمام ما اتهمه به الثائرون عليه. ثم يفسر توليه الأمر بعد عثمان على النحو التالي:
"أما والذي خلق الحبة وبرأ النسمة! لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كِظَّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها...". هنا، نجد سبب توليه الأمر هو "ما أخذ الله على العلماء.. الخ"، وهو عهد لم يأخذه الله من علي شخصياً، ولا منه بمفرده، بل من كل العلماء..
وقد وردت في النهج إشارات عديدة إلى رفض الإمام تولي الأمر:
في الخطبة (5)، نجد رفضه اقتراح العباس وأبي سفيان بأن يبايعاه، وفي مقدمة الخطبة (33) يقول إن نعله "أحب إلي من إمرتكم"، في الخطبة (73) قال عندما عزم أولو الأمر على بيعة عثمان "ووالله لأسلِّمن ما سلِمَتْ أمور المسلمين.."، وفي الخطبة (91) عندما أراد الناس مبايعته بعد مقتل عثمان، قال: "إن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمَعَكم وأطوَعَكم لمن وليتموه أمركم"، وأضاف - وهذه عندي مسألة جديرة بانتباه مضاعف: "وأنا لكم وزيراً خير مني لكم أميراً"، وفي الخطبة (139) يوم الشورى، لا توجد إشارة إلى التوريث والوصية، وفي الخطبة (161) يفسر لماذا دفعهم (بني هاشم) قومهم (قريش) عن الأمر وهم أحق به، فيقول: "أما الاستبداد علينا بهذا المقام، ونحن الأعلون نسباً، والأشدّون برسول الله نوطاً، فإنها كانت... الخ"، هنا أيضاً لا إشارة إلى توريث أو وصية. وفي الخطبة (196) يقول لطلحة والزبير "والله ما كانت لي في الخلافة رغبة ولا في الولاية إربة..".
في كل هذه الخطب نجد علياً رافضاً الخلافة، وهو لو كان مكلفاً من الله موصى، به وله، من قبل النبي، لما كان يرفضها حتماً.
أما الإشارة إلى النسب في الخطبة (161)، أو تعريضه بحجة القرشيين يوم السقيفة تجاه الأنصار، إذ تذرعوا بأنهم أهل النبي، إذ قال: احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة! فهو أيضاً لا إشارة فيه إلى التوريث والوصية، وإنما انسجام مع العقلية السائدة في مجتمعه، الذي يعطي حقاً كبيراً لذوي النسب "العالي"، والقرابة من "الحاكم" السابق، في تولي الأمور من بعده.
وكان علي مشاوراً مخلصاً حقاً للخليفتين الأولين، ودافع عن الثالث إلى حد قال عنه هو نفسه: "والله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثماً"! (الخطبة 235).
وهذا كله يؤكد الدلالة على انتفاء الوصية له بولاية الأمر بعد ابن عمه النبي، أو عدم اعتباره هو تلك الوصية - إن وجدت - ملزمة لأحد، ومن هنا عدم احتجاجه بها.
وكذلك جرى الأمر مع ولديه، الحسن والحسين: فقد سلّم الحسن لحسابات سياسية - عسكرية بحتة حين رضي بالصلح مع معاوية، كما بايعه الحسين للاعتبارات ذاتها، وكانت ثورة الأخير ضد يزيد من أجل "إقامة المعروف في أمة" جده، لا تحقيقاً لوصية التوريث.
وعندما تجذرت الدولة الأموية وقوي بنيانها، انصرف أئمة الشيعة حتى عن الأمل في إقامة المعروف ذاك (بالسيف طبعاً)، وكرسوا جهودهم على مشروع ثقافي أرادوا به الحفاظ على تراث جدهم، وابتعدوا عن التدخل في الشأن السياسي ما أمكنهم، حتى وضع الإمام جعفر الصادق قاعدته المعروفة بـ"التقية"، التي تضمنت حتى إنكار المجاهرة بالتشيع، بحيث أنه رفض قيادة الثورة، التي عرفت بالعباسية بعد ذلك، حتى بعد أن قدمها له أبو سلمة الخلاّل في زمن متأخر من التحضير لها. ومن المعروف أن الإمام الثامن، علي بن موسى (الرضا)، قبل بولاية عهد المأمون مكرهاً، ولم يمارس أثناءها عملاً سياسياً.
وكانت غيبة الإمام الثاني عشر ذروة الابتعاد الشيعي عن السياسة والحكم، حيث بقي الشيعة ينتظرون ظهوره ليقيم القسط والعدل في الأرض بعد أن تمتلئ ظلماً وجوراً(3).
بل إن بعض فقهاء الشيعة توصلوا إلى أفضلية ترك الأمور العامة تزداد سوءاً، وحتى التشجيع على ذلك، كي يعجّلوا بظهور الإمام الغائب، ومن أشهر هذا البعض فرقة الـ"حجتية" في إيران.
في العصور الحديثة
وغاب الشأن السياسي عن بحوث فقهاء الشيعة، أو كاد، حتى ظهر السيد جمال الدين "الأفغاني"، الذي لقي من رجال الدين عنتاً لا يقل عما لاقاه على أيدي الحكام - "الإسلاميين".
وعند قيام ثورة "المشروطة" في إيران، كان تصدي علماء الدين للعب دور فيها متأثراً بأفكار جمال الدين، أكثر منه بالتيار السائد في الأوساط الفقهية التقليدية(4)، ورغم تسيّد الروح الثورية وبلوغها حد الصدام المسلح، إلا أن التيار الفقهي التقليدي لم يكتف بموقف سلبي ساكن منها، وإنما اتخذ موقفاً عدائياً نشيطاً تمثل في خط الشيخ فضل الله نوري، الذي أعدمته سلطة الثوار.
لقد نصت "المشروطة"، أي الدستور، التي فرضتها الثورة، على انتخاب خمسة مجتهدين تكون مهمتهم إقرار شرعية كل التشريعات التي تصدرها الدولة، بأجهزتها المختلفة، قبل أن تكتسب تلك التشريعات قوة النفاذ. وبقي هذا النص الدستوري قائماً نحو سبعين سنة في إيران(5)، ولكن هل استفاد منه الفقهاء الإسلاميون حقاً؟
وكذلك كان الشأن في ثورة 1920 العراقية، فقد بقي الفقهاء التقليديون صامتين عند احتدام الثورة، ورضوا بالفتات الذي ألقته لهم سلطات الاحتلال ثم الحكم الأهلي بعد فشل الثورة، في حين تعرض الفقهاء المختلفون، المخالفون، "الثوريون"، للاضطهاد والنفي، وكانت معارضة التقليديين لهم أحد أسباب تأخير عودتهم إلى العراق ووضع اشتراطات مهينة لتلك العودة.
وشهدت الفترة التالية ظهور شخصية بارزة في العمل السياسي "الشيعي"، وفي إيران هذه المرة أيضاً، في شخص السيد حسن المدرس، الذي بدأ حياته السياسية واحداً من الفقهاء الخمسة الذين ينظرون في شرعية القوانين، ليصير نائباً في سلسلة من دورات مجلس الشعب (شورايَ مِلّي)، ولكنه هو أيضاً صار ينظر إليه على أنه سياسي لا رجل دين.
ولم تحظ محاولات رجال دين لاحقون، لمعالجة هموم بلدانهم السياسية، بنجاح أكبر، ولا تمكنت من تأسيس دور لرجال الدين يمهد لحكومة فقهية تقيم عدل علي، كما كان يطمح المثال الشيعي.
 
ظاهرة الخميني
لو لم تنجح الثورة الديمقراطية في إيران سنة 1979، التي لعب رجال الدين في إحدى مراحلها دوراً بارزاً مكّنهم من قيادتها إلى النجاح التام، وتأسيس سلطتهم، لما كان شأن الخميني ليزيد على فقهاء بداية القرن في إيران والعراق، وفي نصفه الثاني في العراق ولبنان.
ولكن نجاح الثورة، وصيرورة الخميني قائد البلاد بلا منازع، مكناه من تطبيق تصوراته(6) عن الحكم في إيران، وشجعاه على الترويج لأحلامه عن الثورة الإسلامية في العالم، مما جعل له شأناً آخر.
ومع أن الخميني عدّل أفكاره عن الحكومة والحكم نتيجة لممارسته قيادة الثورة أولاً، ثم الدولة - طوال عشر سنوات - ثانياً، إلا أنه حافظ على تصوراته الأساسية عنهما: فالقائد حاكم مطلق تتجمع في يده السلطات كلها، ويتدخل في الشؤون العامة جميعاً، رغم وجود أجهزة متخصصة لها.
ولم يكن اعتراضه على إضافة "الديمقراطية" على اسم الجمهورية الإسلامية اعتراضاً شكلياً كما صرح في حينه(7)، وإنما هو اعتراض فكري أساس، فالديمقراطية تقوم على تفويض من الشعب، بينما حصل هو على تفويضه من الله!
وكان يقوم في مركز أفكاره وتصوراته عن الدولة أنها المسألة المركزية في الإسلام، لولاها لا يبقى الدين نفسه، ومن هنا جاءت نظريته الجريئة في اعتبار الحكومة "حكماً إسلامياً أساسيا " يمكن، من أجل الحفاظ عليه، نقض بعض الأحكام الأولية، ومن بين هذه الأحكام الأولية العبادات!
 
ما بعد الخميني
لم يَعْلُ صوت شيعي على صوت الخميني أثناء حياته، ولا يستطيع أن يعلو عليه الآن بعد وفاته، بصراحة في الأقل.
لقد واجه الخميني منذ بداية حركته سنة 1963 معارضة الفقهاء التقليديين، الذين وجدوه منغمساً أكثر مما يجب في الشأن السياسي، وكان دعم الكلبايكاني ومرعشي نجفي(8) له آنذاك دعماً لحرمة رجال الدين أكثر منه دعماً شخصياً له. ولقي معارضة "الحجتية"، التي ترى في بقاء الظلم والاستخفاف بالتجليات والمظاهر الدينية "بركة"، لأنهما يقيمان الحجة على الظالمين والمستخفين، ويعجلان في ظهور "حجة" الله، الإمام الغائب. كما لقي معارضة رجال الدين المسيسين ممن لم يستطيعوا الابتعاد كثيراً عن تراث قرون من الفقه التقليدي، رغم تحركهم معه في ثورته إلى هذا الحد أو ذاك. ولقي عدد منهم من كثيرين من مؤيديه في بعض مواقفه وأفكاره، وخاصة بشأن حق الحاكم في وقف العمل بالأحكام "الأولية".
ولابد أن نضيف هنا أن عدداً كبيراً من الفقهاء الذين تابعوا الخميني في ثورته وانضموا إليها، إنما انضموا مدفوعين بتصوراتهم الخاصة، وأخذوا يبتعدون عنه كلما تجذرت اتجاهاته، ولكنهم حافظوا على تأييدهم اللفظي حفاظاً على مكتسباتهم التي حققوها نتيجة لنجاح ثورته.
 
آفاق المستقبل
لا يوجد بين صفوف الفقهاء الإسلاميين من يتمتع بـ"كاريزما" كالتي كانت للخميني، بحيث يمكنه استقطاب بقية الفقهاء حوله، بل إن من يريد التبسط في طرح مواقف راديكالية في الفقه السياسي، وشرحها، يتعرض في إيران إلى الاتهام بما يشبه التكفير ويتحمل نتائجه.
كما أن الخميني نفسه كان قد قدم كل ما يمكن لإسلام الفقهاء أن يقدمه على الصعيد السياسي، ولن يستطيع بقية المجددين، في المستقبل المنظور، أن يأتوا بجديد غير مشروع وتفسيرات تفصيلية على أفكاره الأساسية.
وقد تعرضت قيادة الخميني لحركة الشيعة العالمية إلى رفض صامت من عدد من المراجع خارج إيران.
وفي إيران ذاتها، تزداد يوماً بعد يوم أعداد من لم تعد تستويهم أفكار الخميني التي وجدوها، في التطبيق، لا تختلف كثيراً عن أفكار أي حاكم يضيف إلى الاستبداد السياسي والحيف الاقتصادي قهراً اجتماعياً.
من هنا، فإن مستقبل الخمينية محكوم بما تقدم، بعد أن انتهت كحركة ثورية.
 
الهوامش:
(1) يستوي الحديثان في صحتهما، وفي مقبوليتهما لدى السنة والشيعة، وفي ورودهما في كتب الفريقين المعتمدة للأحاديث النبوية؛ ولكن ثمة خلافات في نقل النص هي التي أثارت، وتثير، الخلاف حول المعنى، ومدى الإلزام، وهو ما اعتبرناه عدم صراحة النصوص.
(2) وهذا الكتاب مثار جدل، لا يقل عن الجدل الدائر حول موضوع الخلافة نفسه، حول صحة نسبته إلى علي، ولكن لا يمكننا - كيفما نظرنا فيه - أن ننكر نسبته كله إلى الإمام جملة وتفصيلاً، ثم إن عدم احتجاج الإمام بالحديثين المذكورين، وغيرهما، يمكن أن يكون دليلاً على أن أغلب نهج البلاغة، ومنه هذه الخطبة، صحيح لا موضوع.
(3) تضفي التفسيرات الحديثة، "الثورية" للانتظار عليه معنى التحضير، مادياً ومعنوياً، للثورة عند ظهور الإمام الغائب.
(4) إضافة، طبعاً، إلى الحلم الشيعي القديم بإقامة العدل "العلوي".
(5) سقط بوصفه جزءاً من الدستور القديم، واستعيض عنه في دستور الجمهورية الإسلامية بـ"مجلس الصيانة".
(6) وقد اضطر، حاكماً، إلى إعادة النظر في الكثير منها والتخفيف من اندفاعها، حتى اندثر كثير منها في مطاوي النسيان.
(7) صرح بأنه لا معنى لإضافة هذه الصفة، لأن الإسلام ديمقراطي بطبعه.
(8) أصدرا بيانات اعتبراه فيها مجتهداً، وحصلا على تأييد عدد من آيات الله العظام على صفته تلك، فأنقذه ذلك من كثير مما كان يمكن أن يتعرض له على أيدي نظام الشاه، الذي اكتفى بإبعاده عن إيران.
 
منذ ان قام صموئيل هانتنغتون بنشر مقالته المعروفة ((صراع الحضارات)) في صيف 1993، في مجلة ((شؤون خارجية)) زاعماً فيها ان أهم الخلافات السياسية ستكون بين الأمم والمجموعات ذات الحضارات المختلفة، داعياً الغرب الى التصدي للاسلام على وجه الخصوص، ومعتبراً في مقولته ((ان المشكلة ليست في الاصولية بل في الاسلام نفسه، كحضارة مختلفة مهووسة بتفوقها))، زادت في الولايات المتحدة حمى الدراسات عن ظاهرة ما سمي بالصحوة الاسلامية. كما كثفت أوساط عدة في الغرب من الباحثين ومنظري السياسة وصناع القرار جهودها لدراسة هذه الظاهرة ومتابعتها بالرصد والتحليل، ومن ثم رسم الخطط ووضع التوصيات والتقارير لكيفية التعامل معها، في مختلف تلاوينها وصورها، ومحاولة التبيان على أنها الخطر القادم. وتفاوتت الآراء حول هذا الخطر.
((مستقبل الإسلام السياسي))
أصيبت فرضية هانتغتون بالخفوت بعد وقت على ظهورها. فصداها في أوروبا (العارفة أكثر بالبنية الثقافية للعالم الاسلامي نظراً لتجاربها الاستعمارية) كان باهتاً، وتلاحقت التطورات العالمية مهمشة جوهرها.
لكن أحداث 11 أيلول أعادت ((صراع الحضارات)) الى الواجهة.
ويمكن القول أن ثمة إجماع لدى القائلين بنظرية الصراع بين الحضارات يتلخص في الفكرتين الرئيسيتين التاليتين:
الشرق الاوسط ليس مستعدا للديمقراطية الحقيقية، وعلى الولايات المتحدة ان تركز على مساعدة دول الشرق الاوسط عن طريق تطوير ((المجتمع المدني)) فيها.
فشل سياسات الانظمة السائدة في الشرق الاوسط في تدبير مجتمعاتها وتسييرها نحو الديموقراطية والمؤسسات المدنية، سوف ينتج عنه بالضرورة وصول الاسلاميين الى الحكم. والاسلام السياسي في نظر الاميركيين بكافة اشكاله هو عدو للسلام.
غير ان كتاب ((مستقبل الاسلام السياسي)) الصادر حديثاً عن ((المركز الثقافي العربي)) والذي أعده أحمد يوسف، يقدم وجهات نظر مختلفة عن السائد. في ما يلي أبرزها.
 غراهام فوللر (الباحث المتخصص في مؤسسة راند)، يرى ان من مصلحة الولايات المتحدة التعامل مع الحركات الاسلامية، بل وحتى تسهيل وصولها الى الحكم طالما ان هذا الامر يحمل في طياته في نهاية المطاف أضعافا لتيار الاسلام السياسي نتيجة دخوله النظام السياسي، وذلك لأسباب عدة منها، افتقار الاسلاميين لحلول موحدة وناجحة للمشاكل القائمة، حتى ان الجماعات الاسلامية حين يتم تأطيرها في احزاب سوف تفقد الكثير من حيويتها وحماستها. كما ان إصرار الاسلام السياسي على تهميش او عزل شرائح او قطاعات واسعة في المجتمع وخصوصا بالنسبة الى المرأة وإبعادها عن ساحة العمل العام سيؤدي الى فجوة كبيرة بين هذه الشرائح والحركات الاسلامية. وفوللر الذي يكن الاحترام للثقافة الاسلامية كما يقول، يرى ان التحدي الذي تواجهه الولايات المتحدة هو قدرتها على الانفتاح على حقبة جديدة، وقدرتها على الانفتاح والتعرف على ظاهرة الاسلام السياسي.
 أما مايكل كولنز ، فيرى انه لا يمكن القول بوجود مستقبل واحد لكل الحركات الاسلامية، نظرا لاختلاف هذه الحركات في التكوين والزعامة والاهداف. ثم يشير الى ان غالبية الحركات الاسلامية المعاصرة ليست مؤهلة لادارة تصريف الاعمال اليومية في حال وصولها الى السلطة.
 من جهته ستيفن بيليتر (أستاذ الدراسات الاستراتيجية في مكتبة الحرب الاميركية) يلاحظ ان تحدي الاصولية لم يبرز ويأخذ شكلا جادا في العالم كله الا بسبب حركة ((حماس)) إذ لم تحظ أعمال منظمة مسلحة باهتمام كبير من جانب صانعي القرار في الغرب مثلما حظيت به أعمال حماس (حصل هذا قبل 11 أيلول)، والحق ان مقتل عدد من الاسرائيليين على يد ((حماس ))جعل الولايات المتحدة تستنفر كل قنواتها السياسية والاعلامية للدعوة امناقشة ظاهرة ((الارهاب)) في رسالة واضحة الى حكومات الدول الاسلامية وشعوبها.

البارز من سائر النصوص هو ما يبين ان الحركات الاسلامية هي نتاج الانظمة اللاديموقراطية والمتأزمة اقتصاديا، المانعة وصول الحركات الاسلامية الى السلطة وان حصل ذلك من خلال العملية الانتخابية الديموقراطية. فالحكومة الجزائرية بعد فوز الاسلاميين في الانتخابات، قامت باعتقال قادة جبهة الانقاذ وألغت نتائج الانتخابات، وعندما نجحت جماعة الاخوان المسلمين في مصر في لعب دور سياسي في عهد الرئيس مبارك من خلال السيطرة على النقابات واتحاد العمال، سارع مبارك الى إنهاء هذا الدور واستخدم في حربه الدعائية ضد الاصوليين وسائل الاعلام العالمية، واستند الى الاعمال المسلحة التي قام بها الاصوليون في مصر ليصعد صراعه معهم...
إنقلاب 11 أيلول واتساع الفجوة
لكن 11 أيلول قلبت الأمور، كما اسلفنا، رأساً على عقب. فعاد صموئيل هانتغتون الى الواجهة، وازداد استخدام تعبير ((صدام او صرع الحضارات))، واخذت الصحف الاميركية تطرح السؤال استنادا الى بلاغ اسامة بن لادن الشهير حول محاربة أميركا و((الكفار)) والافتاء بجواز قتل المدنيين الاميركيين في أي مكان.
 وكان الفرنسي اوليفييه روزنباخ، في كتابه ((القانون الدولي المصادر)) قال ان السياسة الاميركية تعمل على جر المياه الى طاحونة الاصوليين الذين هم اليوم، اكثر من اي يوم مضى، يصرون على تحويل العلاقات الدولية الى حرب بين الحضارات)).
وهكذا حصل. فقد ازدادت الفجوة بين الاسلام والغرب وكل المحاولات التي سعى من أجلها الكتاب لتجسير الفجوة باءت بالفشل، بعد ((زلة اللسان)) عن الحملة الصليبية التي راح بوش يحاول توضيح ما عناه فيها. لكن الكثير من الكتاب وجدوا في ((زلة اللسان)) انها تفضح مكنونات وعيه السياسي المتكئة الى مقولة هانتغتون.
 فرانكلين غراهام (القس البارز في الاوسط البروتستانتية الاميركية)، قال في منتصف تشرين الثاني ((نحن لسنا من هاجم الاسلام، بل الاسلام هو الذي هاجمنا، اله الاسلام ليس إلهنا، ليس ابن الله كما في المعتقد المسيحي او اليهودي المسيحي، انه إله مختلف. وأنا أعتقد انه دين شرير وقبيح جدا)). وحين يتكلم فرانكلين غراهام فهو يعكس نبرة الخطاب المتداول.
بين هانتغتون اميركا وماركس فرنسا
هكذا الخطاب الاميركي يتجه نحو العنصرية، لكن ماذا عن مستقبل الاسلام السياسي؟ حصيلة ((متسرعة)) قد تأتي بالإجابة:
الثورة الخمينية تهاوت: 75 في المئة من الشعب و86 في المئة من الطلبة عن اداء الصلاة.
حسن الترابي خسر السلطة في السودان بعد ان انقلب عليه شريكه عمر البشير.
السلطات التركية ((الاتاتوركية)) حلت حزب الفضيلة الاسلامي، وتراجع أداؤه الانتخابي.
حركة الاخوان المسلمين المحظورة في سوريا تتجه من خلال بياناتها الاخيرة نحو الليبرالية.
حزب النهضة في تونس لا يزال محظورا، وهو معدوم الفاعلية سياسيا.
في المغرب لا تنفصل الحركات الاسلامية عن الملكية، والملك ينظر اليه بوصفه ((أمير المؤمنين)) على اعتبار انه من سلالة ((الامام علي)).
والحق ان صورة الاسلام السياسي في العالم اهتزت على نحو غير محتمل، الانتحاريون في العمليات الارهابية في نيويورك قتلوا الاسلام السياسي، خلقوا أشد الصور بشاعة عنه، فبات في حاجة ضرورية الى مراجعة جذوره، بعد ان تحول الى ظاهرة عامة بامتياز يحكمها الصخب اكثر من الفعل، ولا تستطيع ذهنيات ((الاسلحة)) الصمود أمام التحولات الاجتماعية والسياسية التي تصيب العالم، رغم المكابرة ورفض الاعتراف بالتراجع والانحسار.
في مقابل حضور هانتغتون الطاغي في أميركا، تلاحظ عودة للأدبيات الماركسية في فرنسا، وخاصة لجهة تحميل النظام الرأسمالي وما يخلقه من ظلم وخلل وتفاوت مسؤولية أحداث 11 أيلول.
 وفي هذا السياق، يعتبر جان ماري فنسان، الذي حمل كتابه الجديد عنوان ((ماركس الآخر)) ان المجتمعات الغربية تواجه منذ 11 أيلول ((نمطا جديدا من النزاعات التي تحمل على الاخذ مجددا بما أكده ماركس تكرارا حول المعطيات المدمرة التي تواكب تطور الرأسمالية)).
وهو يرى ان شعار ((مكافحة الارهاب الدولي)) لا يهدف سوى الى ((حماية الهيمنة الرأسمالية الاميركية على العالم))، وتحويل الارهاب الى ((مفهوم تأسيسي)) تدير أميركا سياستها وعقيدتها الدفاعية على أساسه. وبوش منذ اليوم الاول بعد 11 أيلول رفض حصر الارهاب في بن لادن وتنظيم ((القاعدة)) واتجهت الانظار الى ((حماس)) و((الجهاد)) و((حزب الله)) وكل من يشكل خطرا على إسرائيل.
مستقبل الديمقراطية والحرية
النقطة الرئيسية التي يلاحظها المرء بعد الحرب على أفغانستان، أبعد من ((مستقبل الاسلام السياسي)) بل هي مستقبل ((الديموقراطية)) و((الحرية)). فابن لادن قدم الهدية المرجوة لليمين الاميركي لتطبيق فلسفته حول ما يجب ان يكون عليه شكل الحياة في المجتمع الاميركي، وفي العالم.
وبالتالي انتصر الخوف على الحرية لتصير الحياة في مناخ رعب جديد...
بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر صار حدىث ((الإسلام)) فى أوروبا بصفة عامة، وفى ((هولندا)) بصفة خاصة، هو العنوان المفضل فى كل قنوات الإعلام المكتوب والمسموع والمرئى على السواء. ولىس معنى هذا أن موضوع ((الإسلام)) كان موضوعا هامشىا فى أى وقت من الأوقات خلال السنوات العشرىن الأخىرة، وتحدىدا منذ حَدَث ((الثورة الإسلامىة)) فى إىران ونجاحها فى إزالة عرش الطاووس سنة 9791، لكنه كان حاضرا دائما بدرجات ونسب تتفاوت وضوحا وخفوتا حسب الأحداث أو بالأحرى الحوادث التى تتواتر أنباؤها قادمة من أى ركن من أركان العالم الإسلامى الفسىح. لكن الأمر فى السىاق الحالى جد مختلف؛ فالحدث الذى أعطى حدىث ((الإسلام)) مركز الصدارة بهذه الدرجة من الحدة لم تأت أنباؤه من داخل العالم الإسلامى، بل كان حدثا حىا بالصورة شاهده ملاىىن المشاهدىن ىحدث فى كل من ((نىوىورك)) و((واشنطن)).
أنشأ هذا السىاق واقعا مختلفا للحدىث عن الإسلام، وطرح بالتالى أسئلة مغاىرة لتلك التى كانت تُطرح عادة فى ندوات الحوار سواء عبر قنوات الإعلام أو داخل المؤسسات الدىنىة أو الأكادىمىة فى الغرب. بىنما كانت الأسئلة قبل الحادى عشر من سبتمبر تتعلق غالبا بهموم غىر المسلمىن وبقضاىا ((الأقلىات)) و((المرأة)) و((حقوق الإنسان)) فى الإسلام، فإن هذا السىاق الجدىد استعاد بأثر رجعي أسئلة القرنىن الثامن عشر والتاسع عشر عن ((الإسلام والعنف))، مفهوم ((الجهاد)) و((انتشار الإسلام بالسىف))، ((الإسلام والتخلف)) ومعاداة الحضارة والتقدم والتفكىر العلمي.. إلخ.
ورغم أن دلالات حدث الحادى عشر من سبتمبر ما تزال فى حاجة إلى كثىر من التحلىل والمناقشة لسبر أسبابه الفعلىة، أعني الأسباب العمىقة في بنىة النظام العالمى، وفي نسق أىدىولوجىة ((العولمة))، وما ىرتبط بها من عملىة تدفق المعلومات والأموال وسهولة الحصول على تكنولوجىا الحرب والأسلحة، وعلاقة ذلك كله بالتحول الهىكلي فى بنىة ((الإرهاب)) من قوى محلىة غاضبة، تقوم بعملىة هنا وهناك، إلى قوة دولىة مدمرة، فإن رد الفعل السرىع انشغل بالبحث عن ((الفاعل)) من أجل تحدىد المسؤولىة الجنائىة والقانونىة. ولما كانت الأرض ممهدة من قبل لتنصىب متهم سبق اعتباره ((العدو الجدىد)) للنظام العالمي فى كتابات صموىل هنتنجتون عن ((صراع الحضارات))، فما أسرع ما تم وضع ((الإرهاب))، الذي ىرفع راىة الإسلام، موضع الاتهام. هذا رغم أن الحدىث ىدور دائما حول ((الإرهاب الدولي))، وهى ظاهرة تتجاوز حدود الأدىان والثقافات وتحتاج إلى تحلىل أعمق لمكوناتها وعناصرها وتارىخها.
وإذا كان رد الفعل فى العالم الإسلامى ىمىل إلى تفسىر هذا المىل فى الغرب لرد ظاهرة الإرهاب إلى ((الإسلام)) وحده بوصفه أى بوصف هذا المىل تعبىرا عن موقف عدائي أصىل ومتأصل ضد ((الإسلام)) وما ىمثله من قىم، فإن هذا التفسىر لا ىقل بساطة، وأخشى أن أقول سطحىة، عن مفهوم ((صراع الحضارات)) عند هنتنجتون. لقد اختصر هنتنجتون ((الغرب)) فى ((أميركا))، مثله مثل فوكوىاما صاحب نظرىة ((نهاىة التارىخ))، ضاربا عرض الحائط بالفروق الثقافىة والتارىخىة بىن ((أوروبا)) و((أميركا))، ووضع هذا الغرب بوصفه كتلة واحدة فى مواجهة كتلات أخرى جغرافىة وعرقىة ودىنىة، دون تمىىز بىن هذه التصنىفات.
والسؤال هو: هل ىمكن تفسىر الموقف الراهن باعتباره تعبىرا عن ((كراهىة)) و((عداء)) متأصلىن ضد الإسلام والمسلمىن، أم أن على الباحث أن ىتحدى مثل تلك الإجابات السهلة؛ لأنها جاهزة ومرىحة، وىبحث عن الأسباب الأعمق لتفسىر الموقف الراهن؟ وكىف ىمكن للباحث الموضوعي مهما حاول أن ىتخلص من الأحاسىس والمشاعر والانفعالات المعقدة التي تضغط على عقله وتشل أحىانا قدرته على التحلىل الهادئ. لعلي لا أعبر فقط عن تجربتي الشخصىة حىن أذكر أنني حال مشاهدتى على شاشة ال CNN لحدث انهىار المبنى الأول من مركز التجارة العالمي، وما تلاه من اقتحام الطائرة للمبنى الثاني ثم انهىاره هو الآخر بعد دقائق، تبادر إلى ذهني فورا حالة رد الفعل المتوقعة ضد هذا الفعل الإجرامي البشع بكل المقاىىس، والمرفوض بكل المعاىىر والأعراف الإنسانىة. لكنى وفى نفس اللحظة لم أستطع أن أمنع عقلي من مقارنة رد الفعل المتوقع والمبرر بحالة رد الفعل ((البارد)) الهادئ والمحاىد والموضوعي ضد القتل الىومي للفلسطىنىىن، والذى كان العالم كله ىشاهده على نفس القناة. صرخت فى أعماق نفسى: سىهتز العالم كله غضبا للدم الأميركى، نفس العالم الذي لم تحركه مشاهد الدم الفلسطىني الذي ىسىل ىومىا منذ أكثر من عام كامل. ألىس الدم هو الدم؟ أم أن الدم الإنسانى ىكتسب قىمة تتوقف على محل المىلاد والجنسىة ولون البشرة؟ أي عالم هو عالم الألفىة ثالثة؟ وما معنى ((حقوق الإنسان)) و((حوار الحضارات)) و((حوار الأدىان))؟ ما أسهل أن ننصِّب من ((الغرب)) مجرما نصوِّب له سهام كراهىتنا، ونُنَفِّس فى كراهىته عن مشاعر غضبنا وإحباطنا. لكن الأصعب ألا نستسلم لسَورة الغضب، التى هى فى النهاىة سمة من سمات الضعف وقلة الحىلة، بل والعجز.
استدعى حدث الحادي عشر من أيلول 1002 أخبار أحداث الانتفاضة الفلسطينية في أيلول 0002، التي كانت قد صارت جزءا من زادنا اليومي في الغربة، نتابعها بالصوت والصورة، ونتابع حالة البرودة العاطفية التي تُقابَل بها أنباء الانتفاضة ومشاهدها الحية في الدوائر السياسية والثقافية هنا. بالنسبة لنا كان لون الدم في أعيننا ورائحة الدم ملء أنوفنا، والحزن يعتصر كل اهتزازة في مشاعرنا وعواطفنا.
إن المقولة المريحة، التي مفادها أن الغرب هكذا دون تمييز أو تحديد يكره الإسلام ويتآمر ضد المسلمين، يمكن بلا شك أن تجد سندا لها في بعض حقائق التاريخ الحروب الصليبية والجغرافيا القضاء على الامبراطورية العثمانية وإلغاء الخلافة والاقتصادية المتمثلة في نهب ثروات الشعوب في فترة المد الامبريالي. تلك شواهد تُستدعَى دائما لتأكيد مقولة العداء الغربي المتأصل للإسلام والمسلمين. لكن مقولة العداء الأصيل تلك لا تشرح لنا علاقات ((الصداقة)) بين ((الغرب)) وكثير من الأنظمة السياسية في العالم الإسلامي، خصوصا تلك التي تعتبر نفسها ويعتبرها الكثيرون في الغرب والشرق على السواء أنظمة ((إسلامية)).
ومن المؤكد أن مقولة الكراهية الأصيلة للإسلام والمسلمين لا تصمد في تحليل التحالف الإسلامي الأميركي للقضاء على الشيوعية، التي كانت تعد شارة الإلحاد. في هذا التحالف ضد الشيطان الأحمر وضع الغرب يده في يد الإسلام، ووضع المسلمون يدهم في يد الغرب ((المسيحي)) للقضاء على الإلحاد عدو البشرية، فأين كان العداء المتأصل؟ أليس هذا التحالف هو الذي سمح للإرهاب بتكوين ((قاعدته)) في أفغانستان، وذلك حين لم تمانع كل الأنظمة السياسية السماح للمجاهدين الإرهابيين محليا بالسفر إلى أفغانستان؟ من هنا هو المسؤول ومن هنا هو المجرم ومن الضحية؟
ابتكار العدو
هل كانت الحرب ضد الجمهورية الإسلامية وضد نظام الخميني حربا ضد ((الإسلام))، وهي حرب ساعدت في إشعالها قوى محلية ((إسلامية)) كثيرة؟ وهل كانت حرب ((تحرير)) الكويت ضد الاحتلال العراقي حربا مع ((الإسلام)) وضد العلمانية؟ ألم تشارك في هذه الحرب دول إسلامية كثيرة يدا بيد مع قوى الغرب بقيادة الولايات المتحدة؟ ليس معنى ذلك بأي وجه من الوجوه محاولة تبسيط العلاقة المعقدة تاريخيا وجغرافيا وسياسيا وثقافيا بين ((الغرب)) و((العالم الإسلامي)) باتساع رقعته الجغرافية وتعدد أبنيته العرقية والثقافية. إن التبسيط المخل يتركز في هذه المعادلة الساذجة بين ((إسلام)) يبدو ثابتا وساكنا ومفهوما وبين ((غرب))، يبدو كذلك ثابتا وساكنا ومفهوما. هذا ما يحاوله هواة الصيد في الأيديولوجيا بينما يعلنون موتها ونهاية التاريخ. إذا سلمنا بمقولة ((نهاية التاريخ)) فمن السهل التسليم بوجود إنيات ثابتة ساكنة مثل ((الغرب)) و((الإسلام)).
في جذر الفلسفة الأميركية يمكن أن نتلمس أسبابا لهذا الحرص على نصب عدو ما، يكون جاهزا حين تتعرض الأمة الأميركية الناشئة التكوين والهشة التاريخ والقابلة للتشظي لخطر ما حقيقي أو وهمي. إن نمط التفكير الأميركي مبني معرفيا على أساس الفلسفة البراغماتية، التي وضع أسسها كل من ((تشارلز ساندرز بيرس)) (9381 4191) و((وليام جيمس)) (2481 4191). وهي فلسفة تركز على مدى ((الفائدة)) العملية المباشرة للأفكار؛ فالفكرة تكون ((صحيحة)) إذا كانت فقط ((نافعة))، وتكون على العكس ((زائفة)) إذا لم يكن لها مردود نفعي مباشر. وليست الفلسفة البراغماتية مجرد رد فعل للفلسفة المثالية التي تؤمن بالأفكار بوصفها ((حقائق)) مستقلة ذات وجود موضوعي، بل هي تبالغ في ربط مفهوم ((الحقيقة)) ربطا مباشرا بالفائدة العملية، أو ((تحقيق المنفعة)).
ولما كانت فكرة أن ((الإسلام عدو)) فكرة نافعة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وزوال خطر التحدي الشيوعي سياسيا وعسكريا وأيديولوجيا، فقد أصبحت الفكرة ((حقيقة)) بقدر ما تحققه من نفع. أما لماذا يحتاج الواقع الأميركي إلى ((عدو)) فهذا سؤال آخر يجد إجابته في التكوين التاريخي لهذا المزيج المعقد من الجماعات والمصالح والصراعات، المعروف بالمجتمع الأميركي. إلى أي حد يمكن المقارنة بين هذا التكوين التاريخي للولايات المتحدة والتكوين التاريخي لدولة ((إسرائيل))، فهذا سؤال آخر يكتسب شرعيته من حقيقة أن شكل التماسك الاجتماعي السياسي الوحيد يتحقق فقط في حالة وجود ((خطر)). فإذا لم يكن ثمة خطر حقيقي فعلي فلا بد من اختلاق حالة ((خطر))، تتطلب بدورها تعيين ((عدو)). هل يساعدنا هذا الشرح لأسس الفلسفة الأميركية في فهم أيديولوجيا البحث عن عدو؟ وهل يشرح لنا لماذا أصبح هذا العدو هو ((الإسلام)) تحديدا، وذلك دون أن نبتلع الطُّعْم الذي يراد لنا ابتلاعه؟
في أميركا يمكن أن نتلمس بداية تخلق مشاعر الخوف من الإسلام ابتداءً من نجاح الثورة الإسلامية في إيران، وما صاحبها من احتلال السفارة الأميركية في طهران واحتجاز عدد من الدبلوماسيين والعاملين في السفارة. خلق هذا الحدث اهتماما متزايدا بالإسلام في الدوائر السياسية والأكاديمية الأميركية، لكن هذا الاهتمام انصب بصفة أساسية على استراتيجية تجميع المعلومات التي من شأنها أن تساعد صانع القرار السياسي في التصدي لمشكلات التعامل مع العالم الإسلامي في إيران وتركيا والعالم العربي من جهة، وفي جنوب شرق آسيا من جهة أخرى. وبعبارة أخرى يمكن القول إن الغايات النفعية هي التي حددت النهج الأميركي الغالب في الدراسات الأكاديمية للإسلام، وحصرتها في إطار المداخل السوسيولوجية والأنثروبولوجية والعلوم السياسية. وهذه المداخل على أهميتها تتجاهل البعد التاريخي للفكر والثقافة الإسلامية، وهو بعد لازم وحتمي لفهم الإسلام الحي، أي الإسلام كما تمارسه المجتمعات الإسلامية المختلفة عرقيا وثقافيا. وفي تركيز المناهج الأميركية على دراسة الإسلام الحي معزولا عن سياقه التاريخي يكمن ((سوء الفهم)) العويص في الأوساط السياسية المسؤولة عن صناعة القرار. وكم كان حجم الفضيحة مرعبا حين فسر الخبراء عبارة ((توكلت على الله)) التي وردت على لسان الطيار المصري المسكين بأنها تعني إقدامه على ((الانتحار))! إنه ليس جهلا باللغة، بل هو جهل بالتاريخ والثقافة والتراث الذي تعد اللغة وعاءه الجامع.
هذا عن الوضع في أميركا من حيث علاقتها بالعالم الإسلامي من جهة، ومن حيث طبيعة المداخل التي فرضتها هذه العلاقة على دراسة الإسلام من جهة أخرى. الوضع في أوروبا وهي مكون رئيسي في مفهوم ((الغرب))، الذي تعد أميركا مكونا من مكوناته يختلف. ويكفي أن نذكر أن الاهتمام بالإسلام وتاريخه وآدابه يعود إلى بدايات انبعاث المد الإسلامي داخل حدود الامبراطوريتين القديمتين الرومانية والفارسية منذ أواخر القرن السابع وبدايات القرن الثامن. وقد واكب هذا التداخل الجغرافي تلاقح ثقافي اتخذ في البداية شكل المساجلات الدينية.
من المفيد في هذا السياق الإشارة إلى أن بدايات السجال المسيحي الإسلامي مذكورة في القرآن الكريم في سورة آل عمران بصفة خاصة، حيث تسرد قصة السيد المسيح بدءا من ميلاد السيدة مريم حتى رفع السيد المسيح (الآيات من 53 06) ثم تنعطف الآيات التالية (16 وما بعدها) مشيرة إلى الحوار الذي دار بين النبي عليه السلام ووفد نصارى ((نجران)) القادمين من ((اليمن)) الذي كان آنذاك تحت حكم ((الحبشة)) الخاضعة بدورها للكنيسة الرومانية. في هذا السياق يتبيّن منطق القرآن الكريم في حالة وصول الحوار إلى طريق مسدود، تسليم الأمر إلى ((العلم الإلهي)) بالدعوة إلى الابتهال إلى الله بأن يصب لعنته وغضبه على ((الكاذبين)) (فمن حاجَّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمَّ نبتهل فنجعل لعنة اللَّه على الكاذبين).
هذا المنطق القرآني المحايد والموضوعي ظل منهج المسلمين في الاستجابة للتحديات اللاهوتية التي كان يطرحها المفكرون النصارى نذكر من أوائلهم ((يوحنا الدمشقي)) (ت: 131ه/947) الذي نشأ وتربّى وتعلَّم وعمل في بلاط الخلافة الأموية في دمشق، ولم يمنعه ذلك من تحدي صدق نبوة محمد عليه السلام ومن تحدي مصداقية القرآن الكريم ورفض كل المفاهيم القرآنية عن طبيعة السيد المسيح وحقيقته. بل يمكن القول إن كتابات ((يوحنا الدمشقي))، أشهر لاهوتيي عصره وآخر آباء الكنيسة، عن الإسلام والقرآن وعن نبي الإسلام هي التي وضعت الأساس اللاهوتي للنقاش الذي ما يزال صداه مستمرا حتى الآن بين اللاهوتيين المسيحيين وممثلي الفكر الإسلامي. ومع ذلك فلم نسمع عن أي مضايقات تعرَّض لها ((يوحنا الدمشقي)) في عقيدته أو في شخصه. لم نجد سوى الاهتمام بكتاباته والرد عليها ومناقشة أطروحاته(1).
هذا الحوار، أو بالأحرى السجال، القديم الجذور، بدأ يأخذ شكلا منظما في القرن الثاني عشر حيث تمت ترجمة القرآن إلى اللغة اللاتينية لأول مرة في طليطلة سنة 1143. صحيح أن هذه الترجمة لم تُنشر إلا بعد ذلك بحوالى أربعة قرون سنة 3451 وذلك بتأييد ومساندة ((مارتن لوثر))(3841 6451) المصلح البروتستانتي المعروف. كان الهدف من الترجمة هو إتاحة معرفة بالقرآن تمكن رجال اللاهوت من ((الدحض)) و((الرفض))، وهي الحاجة التي تزايدت مع تزايد خطر التوسع العثماني رغم انحسار الرقعة الجغرافية للإسلام بسقوط ((غرناطة)) 1492 تطور الاهتمام الأكاديمي بالإسلام وتاريخه وآدابه في أوروبا واتخذ مسارات مختلفة ومنحنيات شتى معروفة لكل من درس تاريخ الاستشراق. ورغم كل السلبيات التي يمكن تتبعها في الدراسات الاستشراقية، وهي السلبيات التي حللها بكفاءة منقطعة النظير الدكتور إدوارد سعيد في كتابه المعروف، فإن الخدمات التي أسداها المستشرقون للثقافتين العربية والإسلامية لا يمكن تجاهلها.
من الجدير بالذكر أن ترجمة القرآن بهدف الدحض والرفض من منظور لاهوتي، لم تمنع ((التأثر))، ويكفي أن أشير هنا إلى دراسة رائدة بعنوان ((أثر الإسلام في إصلاح المسيحية)) للمرحوم الشيخ أمين الخولي، وهي دراسة تتبع بدقة تاريخية وبمنهج تحليلي الكيفية التي تسربت بها الأفكار والمفاهيم الإسلامية حتى ساهمت في بلورة حركة ((الإصلاح الديني)) التي تمثلت في كتابات مارتن لوثر، الذي كان يعتبر الإسلام، كما يتمثل في التوسع العثماني، ((عدوا)) لابد من التصدي لخطره. هذا من ناحية التأثير الإسلامي في العالم المسيحي، ومن الناحية الأخرى، ناحية تأثير الدراسات الاستشراقية في المفكرين العرب والمسلمين، تكفي الإشارة إلى الاهتمام في الثلاثينيات من القرن الماضي بترجمة كل ما ينشر عن الإسلام في الغرب من أجل الدخول معه في حوار علمي. النموذج الواضح لهذا ((الحوار)) يمكن متابعته في الترجمة الأولى لدائرة المعارف الإسلامية، التي توقفت للأسف عند حرف ((العين)). هل يجب التذكير بأن دائرة المعارف الإسلامية تصدر في الغرب، تصدرها مؤسسة ((بريل)) بمدينة ((ليدن)) بهولندا. وهي نفس المؤسسة التي أصدرت هذا العام المجلد الأول من الموسوعة القرآنية، التي يشارك في مجلس تحريرها وهيئة مستشاريها علماء وباحثون مسلمون وغير مسلمين. وقد كانت مجلة ((المنار)) التي كان يصدرها رشيد رضا وساهم في تحريرها الشيخ محمد عبده حتى وفاته عام 5091 قناة اتصال بين الشرق والغرب حتى وفاة صاحبها؛ فكانت مفتوحة لكل الآراء فكتب فيها المبشرون المسيحيون، وكان يتولي الرد والتعليق على هذه الكتابات رشيد رضا نفسه أو غيره من العلماء المسلمين.
السجال
هكذا يمكن القول إن ((السجال اللاهوتي))، الإسلامي المسيحي، الذي بدأ مبكرا جدا في القرن الثامن، تطوّر بالتدريج إلى حوار بين طرفين تبادلا مواقع القوة، لكن هذا ((الحوار)) لم يتخذ شكلا منظما إلا في منتصف القرن العشرين وبعد صدور الوثيقة الأولى عن ((حقوق الإنسان)) سنة 1948، ففي بداية الخمسينيات تم إنشاء اللجنة الدائمة للتعاون بين المسلمين والمسيحيين Continuing Committee for Muslim Christian Cooperation (CCMCC) ، وهي اللجنة التي قامت بتنظيم مجموعة من اللقاءات بين بعض ممثلي القيادات الدينية من الجانبين في لبنان. وبالمثل نظم كل من ((الفاتيكان)) و((المجلس العالمي للكنائس)) لقاءات مماثلة، هذا بالإضافة إلى المؤتمر الذي نظَّمه العقيد القذافي في 0791 واللقاءات التي نظمها ((مركز البحوث الاقتصادية والاجتماعية)) في تونس، ولقاءات ((مؤسسة آل البيت)) في عمان.
والآن وبعد هذه الجهود المشكورة من الجانبين لماذا تبدو الصورة قاتمة؟ ولماذا لم تمتد جدوى الحوار الرسمي والأكاديمي لتمارس أي فعالية تذكر على مستوى وعي المواطن العادي، المسلم وغير المسلم على السواء، في المجتمعات الغربية؟ لماذا يظل خطاب الأمير تشارلز خطابا نخبويا، ولماذا تظل عبارات جورج بوش الابن وتوني بلير والرئيس الفرنسي شيراك عن التمييز بين الإسلام دينا وثقافة وحضارة وبين ((الإرهاب)) عبارات بلا مردود في سلوك مواطنيهم في أميركا وإنكلترا وفرنسا؟ وأخيرا لماذا هذه الفجوة بين صورة الإسلام في ((الإعلام)) وبين الصورة في الخطابين السياسي والديني الرسميين؟ تلك أسئلة آن أوان مواجهتها مواجهة شجاعة.
أعتقد أن جزءا جوهريا من الشجاعة المطلوبة هو شجاعة مواجهة النفس بالنقد، الذي لا يجب التقليل من شأنه لمجرد أنه صادر من آخرين. إن ((الآخر)) ليس بالضرورة عدوا أصيلا، بل هو بدرجات متفاوتة ((مرآة)) تتجلى فيها صورة ((الأنا)). وعلى ذلك يجب علينا عدم المراوغة للتهرب من الإجابة عن السؤال التالي: لماذا يستشهد المسلمون دائما بالنصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تبرز الوجه السلمي المتسامح للإسلام ويتجاهلون النصوص الأخرى التي تحض على القتال والقتل والإرهاب؟ وهو سؤال أصبح يثار كثيرا بعد الحادي عشر من أيلول، خاصة مع تزايد حجم الإجابات الجاهزة، سواء ذات الطابع الدفاعي/ الاعتذاري apologetic أو ذات الطابع السجالي polemic.
في الإجابات الدفاعية/ الاعتذارية يتم تجاهل النصوص التي تحض على القتال والتربص للمشركين في كل مكان، أو يتم اللجوء إلى توظيف مقولة ((النسخ)) رغم كل ما تثيره من مشكلات من الوجهة اللاهوتية؛ فالنصوص التي تحض على القتال والتربص بالمشركين نزلت بعد النصوص التي تؤكد التسامح والمساواة بصرف النظر عن اللون أو اللغة أو حتى العقيدة. في الإجابات ذات الطابع السجالي يقوم المحاور ببيان أن العنف ظاهرة موجودة في كل الأديان وفي كل الثقافات، ولعله يستشهد بمدى العنف الذي مارسه الصليبيون باسم المسيح لا ضد المسلمين وحدهم بل ضد المسيحيين الشرقيين واليهود معاً. وحين يؤكد المحاور حقيقة وجود العنف في كل الأديان وكل الثقافات فإنه يكاد يصل إلى تخوم تبرير العنف.
ومن أهم عناصر الشجاعة في مواجهة النفس أن يعترف رجال السياسة والعلماء والمثقفون في العالم الإسلامي بأن ثمة مشكلة يعاني منها العالم الإسلامي، تتمثل في ظاهرة وجود تفسيرات للإسلام يمكن استخدامها تبريرا لقتل الأبرياء. ولا بد من الاعتراف بأن هذه التفسيرات ستظل معوقا من معوقات التقدم والازدهار والترقي ما لم يبدأ العلماء والمثقفون في العالم الإسلامي في توظيف منهج النقد التاريخي في دراسة التراث وتحليله. ولا بد من الإشارة هنا منعا لسوء الفهم الناشئ عن الالتباس أن ((النقد)) لا يعني ((النقض)) والهدم. ولا يمكن القول إن بنية ((العقل الإسلامي)) ضد ((النقد)) ومع التسليم والإذعان كقيم مطلقة؛ ذلك أن الحديث عن عقل إسلامي خارج محددات الجغرافيا والتاريخ من جهة، وبمعزل عن الشروط الاجتماعية/ الثقافية للمجتمعات الإسلامية بمرجعياتها التاريخية المختلفة من جهة أخرى، حديث ميتافيزيقي لا يستند إلى أسس واقعية. لعل الأكثر واقعية أن نبحث عن علة هذا الفزع العام من منهج ((النقد))، خاصة حين يطال أياً من الظواهر الدينية في التاريخ الحديث، في أزمة ((الحداثة)) و((التحديث)) وإشكالياتها النابعة من سياق العلاقة الملتبسة بين العالم الإسلامي من جهة، وبين أوروبا بصفة خاصة والغرب بصفة عامة من جهة أخرى. ربما نجد في هذه العلاقة مؤشرات للإجابة عن بعض الأسئلة الحائرة. لماذا كان ممكنا مثلا في القرن التاسع الميلادي لمفكر موسوعي مثل جلال الدين السيوطي (ت 909 ه) أن يسرد الرأي القائل بأن ((القرآن)) الكريم أُوحيَ إلى محمد عليه السلام بالمعني فقط وأنه هو الذي وضع صياغته باللغة العربية، ولم يعد ممكنا اليوم مجرد مناقشة هذا الرأي أو حتى حكايته؟ لماذا إذا ذكر مؤرخ مجرد ذكر الحقيقة التاريخية المعروفة أن محمداً، عليه السلام، فشل في دعوته في مكة حيث تعرض هو وصحبه لاضطهاد غير محتمل من قريش، ومن ثم لم يجد مناصا من الهجرة إلى يثرب، تهيج الدنيا ويحتج المحتجون فيحاكم الرجل ويحكم عليه بالسجن؟ ولماذا ينجرح الشعور الديني بصدور رواية أدبية أو نشر قصيدة شعرية، أو عرض لوحة فنية أو رواية سينمائية، ويحشد الخطباءُ العامةَ في تظاهرات احتجاج ضد ما لم يقرأوا أو يشاهدوا؟ ما سر ذلك العداء العجيب للفنون والآداب، خاصة فنون الموسيقى والغناء، كأن ترتيل القرآن الكريم لا ينتمي إلى فن الأداء الصوتي، وكأن القرآن نفسه ليس نصا أدبيا وفنيا راقيا بامتياز؟ وأخيرا لماذا نحرم ثقافتنا من فنون المسرح والأداء بوضع محاذير ضد ظهور بعض الشخصيات التاريخية؟ في البدء انْصَبَّ التحريمُ على ظهور الأنبياء، ثم أخذ ينسحب تدريجا على الصحابة وآل البيت، والآن توضع المحاذير ضد الممثل أو الممثلة الذي يشخص دور شخصية مهمة من التابعين، كأن يقال مثلا إن عليه، أو عليها، أن يجعل من هذا الدور آخر الأدوار التشخيصية. أليس معنى ذلك أن التمييز بين ((الشخصية)) و((الممثل)) الذي يشخصها غائب غيابا تاما من أفق الوعي العام؟ إنه التوحيد التام بين ((المثل)) و((الممثول))، سواء في اللغة بين الألفاظ والمعاني والدوال والمدلولات أو في الواقع بين ((الفكر)) و((الشخص))، أو في الأداء الفني والأدبي بين ((المتخيل)) و((الواقعي)). وكأن الثقافة الإسلامية ما تزال في مرحلة التفكير البدائي ((السحري))، الذي لا فارق فيه بين اللغة كنظام رمزي وبين ما تمثله وترمز إليه من دلالات، ولا بين ((الممثل)) والدور الذي يمثله والشخصية التي يقدمها، ولا بين العمل الفني أو الأدبي وبين ((العالم)) الذي ينبثق عنه، أو الفنان الذي يبدعه. يبدو هذا كله غريبا في ظل ثقافة دينية انطلقت من آفاق مرجعية تراثية رحبة، انبثقت بصفة أساسية من ((قرآن)) تأسست دعوته على العقل نقيضا للجهل والتعصب وضيق الأفق المسمى ((جاهلية)) وعلى ((العدل)) نقيضا للظلم الذي يتأسس على قوة ((الجهل)) في كل مناحي الحياة، وعلى ((الحرية)) نقيضا للعبودية بكل معانيها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
النقد
إن التردد في تقبل منهج النقد التاريخي للتراث يرتبط بغياب قيمة ((النقد)) من أفق الحياة العامة بوصفه شرطا أوليا للمعرفة الحقيقية، أي المعرفة التي تنبثق من معطيات المعلوم إلى آفاق المجهول. وغياب ((النقد)) كقيمة إيجابية يمكن أن يفسر هذا التوجس من الديموقراطية باسم الإسلام. ويجعل من الصعب على المواطن في الغرب تصور إمكانية التعايش بين الإسلام والديموقراطية. وحين تُذكر الديموقراطية تُذكر حقوق المرأة، اعتمادا على شواهد الحال في مجتمعات إسلامية كثيرة.
علينا في ممارسة الحوار ألا نكون أقل شجاعة في نقدنا للآخر، وللغرب السياسي، خاصة حين يتصل الأمر بالكيان الصهيوني وممارساته القمعية ضد شعب فلسطين. إن ((إسرائيل)) هي نقطة ضعف أوروبا السياسية والثقافية، وليست نقطة ضعف أميركا وحدها. علينا أن نذكر الغرب السياسي والثقافي بأن ((المشكلة اليهودية)) لم تُحل حين تم تصديرها لفلسطين استنادا إلى دعاوى لاهوتية سرعان ما تتهاوى أمام سلاح النقد التاريخي. وإذا كانت الكنيسة قد أصدرت وثيقتها البابوية بتبرئة اليهود من دم المسيح عليه السلام، فكيف يمكن أن يكون لهؤلاء اليهود، الذين لم يقتلوا السيد المسيح؛ لأنهم لم يكونوا موجودين آنذاك، أن يكون لهم حق في الأرض التي لم يعيشوا فيها أبدا؟ وإذا تبنّينا النهج السجالي لقلنا إن حقهم في العودة إلى أرض الأسلاف أرض الميعاد لابد أن يقارنه تحملهم لمسؤولية الجريمة التي ارتكبها أسلافهم؛ فالميراث لا يتجزأ. علينا أن نكشف للغرب السياسي أن انتماءه الديني المضمر يجعل من ((إسرائيل)) طفل العالم المدلل. لكنه ليس الانتماء الديني المضمر فقط، بل يضاف إليه ((عقدة الذنب)) إزاء اليهود.
وبصرف النظر عن نهج التحاور واستراتيجياته وآلياته، فمن الضروري أن يكون حواراً نقدياً بنَّاءً، لا مجرد نقد للآخر وتبرئة الذات. وفي تقديري أن الأمر ليس أمر عداء متأصل ضد الإسلام في الغرب، بقدر ما هو غياب لروح الحوار النقدي المتبادل، والمستند إلى درجة عالية من الشفافية المنهجية. إن مشكلاتنا مع الغرب هي مع سياسات الغرب ومصالحه الاقتصادية، وفي القلب من هذه السياسات والمصالح ((الكيان الصهيوني)). دليلي على ذلك مسألة ((تجريم)) النقد التاريخي إذا اتصل بموضوع المحارق النازية، وإذا اتصل بالحقوق التاريخية لليهود في أرض فلسطين. حين يتصل الأمر بإسرائيل يصبح الغرب شرقا حيث يصبح ((النقد)) جريمة.
دأب الاسلاميون المتطرفون منذ عدد لا بأس به من الاعوام على شق طريقهم الى وعينا بواسطة المتفجرات. الا انه ليس ثمة منبر او سعة اطلاع في الغرب حول اولئك المثقفين الذين يسمّون انفسهم "التقدميين الدينيين" ويتصدون للمتعصبين بتفسيرهم المتحرر الخاص للاسلام.
وان اقصى درجة من لفت الانظار قد يحظى بها هؤلاء هي اثارتهم اهتماما قصير الاجل بصفتهم ضحايا العنف الاصولي. وقد قال الاديب المصري الحائز جائزة نوبل نجيب محفوظ في احد الايام بشيء من المرارة: "ليس الغرب مهتما برؤوسنا سوى حين تُقطع".
ومن هذا المنطلق تتجلى في الاعلام الغربي صورة تمثل هيمنة التيار الاصولي على جميع انحاء العالم الاسلامي. الا انه تجري في الواقع جدالات تقدمية للغاية حول امكان المصالحة بين الايمان والحداثة في العالم العربي اليوم. والمذهل هو ان المناقشات الاكثر اثارة للاهتمام على هذا الصعيد تحصل في ايران، وهي الدولة الاسلامية الاصولية.
ففي الاعوام التي تلت العام ،1979 جازفت ايران بخوض تجربة اسلامية، وانتشار شعار واحد، شعار كان يجب ان يؤخذ على محمل الجد مفاده: "الاسلام هو الحل". لكن حين خاض هذا الشعار اختبار الواقع، تبين انه ليس صحيحا على الاطلاق، اذ ظلت المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية على حالها. وفي النظام الايراني الذي لا يفصل بين الدين والدولة، حُمّل الدين، الذي كان من المفترض ان يكون الحل، مسؤولية الانتهاكات في الميدان السياسي.
وذلك هو السبب الذي دفع عددا من الاسلاميين السابقين الى المطالبة بعلمنة الدولة. في البدء كان الامر محض تلميح يمكن رصده بين الاسطر، اما الآن فقد ازدادت الاصوات المطالبة ارتفاعا. وهي اصوات معلمين دينيين واشخاص غير لاهوتيين وصحافيين ورجال سياسية، يعتبرون انفسهم حركة ويقولون انهم يريدون "التنوير الديني". الا انه يجب على هؤلاء التقدميين  الدينيين ان يحلوا مشكلة دقيقة في اطار جدالاتهم النظرية. اذ يترتب عليهم ان يشرحوا كيفية عدم تضارب مطالبهم مع الدين الاسلامي. هل يمكن المرء ان يعيش وفق قوانين علمانية، ويعتبر نفسه مسلما؟ وتلك المشكلة حادة في شكل خاص لأن عددا كبيرا من تقدميي الحاضر يملكون ماضيا اسلاميا اصوليا. وقد كان من غير المطروح بالنسبة الى غالبية المسلمين عبر التاريخ ان يتولى زمام السلطة حاكم علماني. الا ان الواقع التاريخي كان يقضي بالفصل بين الدولة والدين، لا توحيدهما. وكان كافح عدد كبير من "التقدميين الدينيين" في ما مضى في سبيل التوصل الى هذا التوحيد، وعملوا على تطبيقه ابان الثورة الايرانية. لذلك يجب عليهم اليوم ان يشرحوا كيف يمكن للحياة ان تستمر من دونه.
احدى وسائل اختبار هذا الجدال تكمن في مناقشة موضوع حقوق الانسان. وكان مؤسس الدولة الايرانية آية الله الخميني قد وصف الاخيرة بأنها "مجموعة من القوانين الفاسدة التي صاغها الصهاينة بهدف القضاء على كل الاديان الحقيقية". الا ان الفيلسوف عبد الكريم سوروش يجادل بأنه يمكن الدول الاسلامية تطبيق حقوق الانسان من دون اي صعوبة. الا ان العملية يجب ان ترتكز على مبدأ وجود قيم اعلى من القيم الدينية، وهو بذلك يحتل موقعا جديدا تماما ضمن الخطاب الاسلامي المتحرر. اذ كان مفكرون آخرون قبله يؤمنون بأنه يمكن المصالحة بين الاسلام وحقوق الانسان، الا انهم كانوا يفعلون ذلك على اساس اعتقادهم بأن هذه الحقوق - او على الاقل معظمها - قد ذُكرت مسبقا في القرآن او حتى انها استندت الى الاسلام.
لا يتبنى سوروش هذه الحجج، التي لطالما هوجمت على اساس انها اعتباطية الى حد ما. وهو يذهب الى حد الشك في منطقها لأنه يرى ان حقوق الانسان ما هي ببساطة سوى وصايا نابعة من العقلانية الانسانية لا من الاسلام. الا انه لا يعتقد رغم ذلك انها تتعارض مع الدين. بل على العكس من ذلك تماما، اذ ينظر الشيعة الى الوحي الاسلامي على انه اسمى تعبير عن العقلانية. ولهذا السبب يمكن تبني حقوق الانسان، ولو صدرت في الاصل عن محيط غير ديني.
بالنسبة الى سوروش، الايمان متناغم تماما مع التجديد الكامل للمفاهيم الدينية، بما انه يعتبر ان اي فهم انساني للدين يعتمد على الظروف المعاصرة، اي انه تاليا عرضة للتحول باستمرار. وهو يكتب انه من الضروري تقديم تفسيرات جديدة للنصوص القديمة في سبيل اصلاح التفسير المقيد السائد للاسلام(...)
وان المصلحين الدينيين مستعدون للتخلي عن اي قوانين دينية لا تتوافق مع القيمة الانسانية. وكل القوانين الدينية تقريبا، بما فيها تلك المعروفة بأركان الاسلام الخمسة، ما هي الا "الاطار" الذي يوحّد الاسلام من الخارج. الا انه لا علاقة لها بالجوهر الديني الحقيقي. ويجادل سوروش قائلا ان الشخص الذي يؤمن بعقائد الشيعة الخمس التي لا يمكن الغاؤها هو شيعي: الله، الانبياء، الائمة الاثني عشر، البعث، العدالة الالهية.
ومن هذا المنطلق، ليس من الضروري الالتزام حكما بوصية وضع حجاب على الرأس. صحيح ان الاسلام يطلب ارتداء الحجاب، الا انه على النساء ان يفعلن ذلك طوعا. واذا لم ترغب المرأة بالقيام بالامر، لا يعتبر رفضها هذا انتهاكا لصفة دينية اساسية.
تنصّ عقيدة السلطة الخاصة بالجمهورية الاسلامية على ان الحكومة تخضع لعالِم دين شرعي يتلقى التوكيد على شرعيته من الله مباشرة لا من الشعب. لكن بعد 20 عاما من خوض غمار تجربة الدولة غير العلمانية، بدأ المفكرون الايرانيون بالتقدم بطلب مدهش، الا وهو ادخال الديموقراطية. فيقول محمد شابستاري، وهو زعيم روحي ان الحكم مسألة دنيوية مسندا بذلك الحاجة للديموقراطية الى نظريته اللاهوتية.
وتتمتع هذه المسألة بأهمية كبرى في اطار الخطاب الايراني، لأنها الطريقة الوحيدة التي يمكن التقدميين الدينيين من خلالها الدفاع عن انفسهم ضد اتهامهم بأنهم خاضعون لتأثير الغرب وللتوجيه من الخارج.
ويُظهر شابستاري ان القرآن ينص حصرا على ضرورة ان يكون النظامان السياسي والاجتماعي عادلين - لا اكثر. ولا يمكن ان تنشأ اي فلسفة للدولة - على غرار ما يدعيه المحافظون الحاكمون - من المبادئ الاخلاقية العامة الموجودة في القرآن. ويرى شابستاري ان واقع كون النبي زعيما دينيا وسياسيا في آن واحد ليس حجة ضد الفصل بين الدولة والدين. بل يقول ان هذا الواقع قد يكون جزءا من عقيدة الخلاص الاسلامية، الا انه يجب اعتباره مطلقا.
من هذا المنطلق، يدحض شابستاري كلام الاصوليين الاسلاميين والمراقبين الغربيين الذين يتبنون كلامهم على حد سواء. فالاخيرون يعتبرون بدورهم ان الاسلام يؤكد وحدة الدين والدولة، بحسب ما يدل عليه تاريخه. والحجة الاهم التي يستند اليها شابستاري في موضوع أن القرآن ينص فحسب على الاصول المتعلقة بأساليب الحكم، لا على شكلها الدقيق، هي ما يعرف بالعهد، وهو تفويض الخليفة علي في القرن السابع حاكم مصر (مالك الاشتر). اذ عهد علي، وهو القائد الذي اجازه الدين الى شخص علماني وغير ديني مهمة تولي زمام الحكم في مصر. وقد قدم علي الى حاكمه في التفويض تعليمات اخلاقية، لكنه لم يطلب تأسيس نظام حكم اسلامي، بل اشار بدلا من ذلك الى ضرورة عدم التخلي عن القوانين والتقاليد الموثوقة، اذ لا يمكن الدولة الجديدة ان تكون اسلامية حقا وان ترضي الله الا اذا كانت خالية من القمع والاستبداد. ونص التفويض على الكلام الآتي: "كن يا مالك، منصفا بازاء الله وبازاء الشعب. لا تضطهد الناس، فكل من يضطهد مخلوقات الله سوف يثير العداء الالهي ومعارضة اولئك الذين احزنهم".
ولما لم يحدد القرآن اي نظام خاص، يؤمن شابستاري أنه في وسع الناس ان يقرروا بأنفسهم اي شكل للدولة يفضلون. وهو يؤيد الديموقراطية، وحجته الاهم لمصلحة هذا الشكل من الحكم دينية. فوحده الايمان الذي يقوم على اساس الحرية ايمان حقيقي يرضي الله، وافضل نظام لتطبيق مبدأ الحرية هو الديموقراطية.
وتتبنى تصريحات سوروش بدورها حول "الالحاد والحرية الدينية" المقاربة نفسها. اذ تعتبر الجمهورية الاسلامية انها المنفّذة لكل القوانين الدينية والاخلاقية، وانها مخولة اتخاذ تدابير في حق الافكار غير الدينية والهرطقية لأن هذه تشوه حقائق القرآن. الا ان سوروش يعكس تلك الحجة معلنا: "في ظل نظام اراد فرض الحقائق فرضا على المجتمع، ارتكب الناس اخطاء اكثر وكانوا ضررا اكبر مما كانوا ليرتكبوه ويعانوه في ظل نظام يسمح لهم بارتكاب الاخطاء".
ويعي سوروش كذلك الاخطار التي قد يستتبعها الايمان في مجتمع منفتح، الا انه يمنح كذلك الملحدين ومنتقدي الدين، وفق مفهومه، حرية التعبير عن رأيهم. وهو يهاجم بوضوح اعداء الحرية، اذ يقول: "لا تعتقدوا ان دماغكم هو منبع الحقائق وان كل ما يصدر عنه حققية مطلقة".
ورغم ان سوروش يتبنى مواقف علمانية، الا ان لحججه دائما دافع ديني. فايمانه مهم بالنسبة اليه، وتاليا بعد اختباره طوال 22 عاما وجود الاصولية الاسلامية، وصل الى الاستنتاج بأنه يجب الفصل بين الدين والدولة. فيقول: "ان المجتمعات الحرة، أكانت دينية ام لا، هي الهية وانسانية في وقت واحد. اما في المجتمعات التوتاليتارية، فلا يبقى اي اثر للانسانية ولا للالوهية".
ولا ينحصر هذا النقاش الدائر حول الاسلام في الحداثة بعدد من الاوساط الفكرية. فالصحيفة التي عبّر من خلالها عبد الكريم سوروش عن افكاره، وهي صحيفة "كيمان"، تتمتع بنسبة مبيعات مرتفعة منذ اعوام، وهي مقروءة على نطاق واسع في اوساط الطلاب. لكن تم حظرها آنذاك، وكذلك تحظى الكتب التي يصدرها التقدميون الدينيون بقراء في كليات ايران الدينية خصوصا، حيث تتم مناقشتها. وقد باتت الآن مراكز التدريب هذه، التي تشكل المصدر الذي يستمد منه النظام كادرات جديدة،  منبعا للافكار التقدمية اذ يتلقى الطلاب تدريبا كلاسيكيا في مجال الدراسات القرآنية، الا انه يكتسبون كذلك - بفضل كتابات التقدميين - اطلاعا حول المناهج الحديثة على غرار علم التأويل والنقد النصي.
بعدة كهذه، يمكن الملالي الشباب مناقشة مسائل متعلقة بحقوق الانسان وفهم الدولة ودور النساء  في الاسلام. وبذلك لا يسمحون لأنفسهم بالتقيد بالتفسير القرآني الذي تروج له السلطات الرسمية، بل يعملون على تطوير قراءات بديلة.
ويمارس تقدميون دينيون آخرون تأثيرا متزايدا على التطورات السياسية الراهنة. فعالم الاجتماع اكبر غندشي على سبيل المثال، وهو احد تلامذة سوروش، اشتهر خلال العامين الماضيين كمحقق صحافي يعمل على فضح مؤامرات المحافظين الايرانيين الرفيعي المستوى. وقد أدخل مفهوم "الفاشية الدينية" الذي تبناه كذلك الرئيس المعتدل محمد خاتمي. ويقول غندشي ان الفاشية الدينية ترفض اي "فهم انساني للدين وتعتبر الناس عبيدا لدى حاكمها وتفصل بين الدين والعقلانية، وهي عدائية وشديدة التعصّب".
وفي رأي غندشي، يشمل الفاشيون الدينيون السفاحين المنظمين الذين يهاجمون المثقفين الانتقاديين والنساء ذوات الملابس الجريئة، وكذلك المسؤولين الرسميين الذين يؤيدون اعمالا كهذه.
ان قول امور كهذه في الجمهورية الاسلامية ينطوي على مجازفات. اذ حُكم على غندشي لبضعة اشهر خلت بالسجن لسنوات عدة، ومرارا تعمد عصابات من السفاحين الى اقتحام محاضرات سوروش والى تهديده بالقتل. ومنذ عامين سُجن تقدمّي بارز آخر طوال 18 شهرا لأنه انتقد عقيدة الدولة في الجمهورية الاسلامية. وقد حوّل هذا العقاب التلميذ محسن قديوار بطلا. فكلما ظهر الآن رجل الدين هذا بين العامة، وإن كان ينوي فقط الاصغاء الى مناقشة علنية، تحييه موجات من التصفيق.
ان اسماء المصلحين وافكارهم معروفة جيدا من جانب الشعب، وخصوصا الشباب منهم. وليس مفاجئا ان يتكلم التقدميون الدينيون بصراحة في محاضراتهم وعظاتهم. فمنذ عامين قال زعيم آخر من زعماء الحركة، هو مساعد الرئيس عبدالله نوري، امام آلاف الطلاب المفعمين بالحماسة في جامعة طهران الكلام الآتي:
"لا يمكن إجبار الشعب على قبول دين ما، لأنه اذا تم اجبارهم، لا يعود هذا الدين ديناً".
وكان نوري قبل ايام من ذلك، اثناء حديثه امام حشد ضخم في قم، وهو المركز اللاهوتي الرئيسي في ايران، قد دعا الى التعددية في السياسة والدين على حد سواء، واعتبر اوروبا نموذجا للجمهورية الاسلامية. وقال: "بذل رجال الدين خلال العصور الوسطى في اوروبا كل الجهود الممكنة بهدف فرض قيود على حرية الرأي، لكن الديموقراطيات الاوروبية هي التي تواصل اليوم التقاليد الاسلامية المتعلقة بالتعددية والديموقراطية".
مباشرة بعد هذا الكلام، اجتاحت عصابات عنيفة من السفاحين المكان وفرّقت الجموع، وبعد مرور وقت قصير على الحادثة حُكم على نوري بالسجن مدة خمسة اعوام. لكنه تمكّن، قبل دخوله السجن، من عرض انتقاداته على شاشة التلفزيون لأن المحطة الوطنية الايرانية بثت وقائع المحاكمة على الهواء، الى ان ادركت الاخطار الكامنة في كلام نوري.
لغة الجدال الايراني هي الفارسية، ويصعّب ذلك على العرب امكانية متابعته. بالاضافة الى ذلك، لا يمكن ان تنطبق بعض حجج هذا الجدال الشيعي في اطار سني. لكن النقاش الايراني حول الدين والحداثة يجد رغم ذلك اصداء في بقية العالم الاسلامي، بما ان انظار المؤمنين قد التفتت نحو ايران منذ الثورة. وقد تُرجمت بعض كتب المصلحين الى العربية، ويلتقي المثقفون خلال المؤتمرات.
لكن لا تزال ثمة شكوك حول ما اذا كانت المبادرات التقدمية قادرة على تحريك اقسام واسعة من الشعب في العالم العربي.
اخيرا، يمكن القول إن كل شخص في الجمهورية الاسلامية عانى تجربة مؤلمة جراء الاصولية الاسلامية. ومن الملح هنا ايجاد حل لمشكلة عقد مصالحة بين الاسلام والحداثة. في اي حال، يُظهر الجدال الدائر في ايران ان ثمة محاولات كثيرة لاعادة تفسير الاسلام، وليس من الضروري ان تكون المصالحة بين الاسلام والحداثة امرا مستحيلا. لذا من المفيد متابعة الجدال الايراني بغية التمكن من التصدي للحجج المبسّطة للغاية التي يتسلّح بها عدد كبير من المسلمين ممّن يصرّون على ان القرآن ينص على هذا الامر او ذاك.
واذا كانت تفسيرات حديثة للاسلام قادرة على الظهور في دولة اسلامية، فما الذي يحول دون ظهورها في اوساط مسلمي اوروبا كذلك؟ قد يتمكن الجدال الايراني تاليا من ان يؤمن قاعدة لما يمكن توقّعه من الاسلام.
إن المفارقة التاريخية التي رافقت ظهورا لعالم الاسلامي لحديث تقوم في ولادته كبيرا. مما حدد بالضرورة عسر تربيته وصعوبة انقياده بما في ذلك لنفسه. وذلك لأن انهيار الامبراطورية العثمانية - الاسلامية كان يعني أيضا انهيار روح العظمة الزائفة واستظهار عجزها الذاتي. لقد أثبت ذلك وكشف في الوقت نفسه عن انها لم تكن امبراطورية بالمعنى الدقيق للكلمة، ولم تكن قادرة على أن تكون اسلامية، لأن هويتها النهائية كانت تذوب منذ عهد بعيد في تركيبة عديمة المعالم. أي أنها كشفت عما وراء لباسها الامبراطوري المزركش وهيئتها الانكشارية عن جسد عجوز. أما الحداد الجنائزي الذي أعدته الامبراطوريات الأوروبية المنتصرة فقد كان يكشف عن قوة وشكيمة واصرار في التهام كل ما يمكن التهامه على انه غنيمة العصر، والثأر التاريخي الذي لازم مخيلة شعوب القارة لقرون عديدة.
وقد فرض هذا الوا قم معادلة جديدة كانت مقوماتها تامة الكمال في طرفي الصراع الشرقي - الاسلامي والغربي - الأوروبي. أي أنها أحدثت ما كان ينبغي له أن يحدث مطبقة حذافير الفكرة القائلة، بأن ما أصابك لم يكن ليخطئك – وكشفت في الوقت نفسه عن أن ما جرى هو نتاج لما استقر فينا. وبهذا المعنى كان الضغط الأوروبي واجباره الحضاري الجديد نعمة تاريخية أيضا بمضمونها الثقافي والسياسي، لأنه كشف عن أن العالم والتاريخ نأر تحترق بمقدار وتنطفيء بمقدار.
غير أن للاجبار الحضاري معناه العميق بما في ذلك في وجوده كأسلوب مؤثر في صيرورة الحضارة ذاتها. ففي الاجبار يندثر الماضي وتتمظهر في ظل قواه المتصارعة الامكانات الجديدة في مختلف اشكالها على أنها بدائل لـ"الانبماث " الجديد. الا أن هذا الاندثار هوالصيغة التاريخية التي يحددها توازن القوى وكيفية ظهورها. ذلك يعني بأن الاجبار الحضاري هو في الوقت نفسه أسلوب وجود الحضارات وتعايشها وتصارعها لأنه يتضمن في ذاته امكانيات البدائل. أي أنه يضع معيار الاستمرارية الموضوعية في صراع الحضارات. وما عدا ذلك فإن لكل اجبار معناه الثقافي.
فعندما نقف على أرضية التاريخ الفعلية، فإن الخطوات المخطرة لا يمكنها أن تتعدى قوة ذواتها الفاعلة. ذلك يعني بأن الاجبار الحضاري هو في الوقت نفسه الاسلوب المناسب للتعبير عن الطاقة الذاتية للصعود والهبوط. فهو يستمد مقوماته من مباديء نشوئه الأول. اذ ليس الصعود الحضاري سوى نمط تجلي الانفتاح المتزايد في بواطن المباديء الكبرى. وينطبق هذا بالقدر ذاته على امكانيات هبوطه. بصيغة أخرى، ان العمق الذاتي للثقافات الكبرى هو عمق مبادئها الأساسية ومنطلقاتها الأولى: وعلى كيفية انكسارها في ظل الصراعات الواقعية تتوقف أنماط "تهذيبها". الا أن ذلك لا يعني بأن التطور !لتاريخي للثقافات وأساليب وعيها تختبيء بصورة غائية في فعلها الأول. ان فرضية كهذه لا تفعل في الواقع الا على تأمل ما جرى بأعتباره قضاء وقدرا. أي أنها تحول التاريخ الى فعل ثابت،معطى مرة واحدة وال الأبد. أما في الواقع فإن "جمود؟" يقوم في أسلوب رؤيته. فالتاريخ لا يعرف صعودا إلا في مقابل هبوطه، ولا هبوطا الا في مقابل صعود؟. أي أنه غالبا ما يعي ذاته وتجليا ته الثقافية في مقولات الصراع والتحدي وفي هذ0 الوعي يمكن افتراض فرضيات لا تحصى، ولكنه ملزم مع ذلك بالوقوف أمام حقيقة كمون الحاضر في المامي والماضي في مبادئه الأول أو بؤرته الثقافية.
وبهذا المعنى كان الاجبار الحضاري للغرب الأوروبي في مواقفه تجاه الشرق وتأثيره عليه هو اجبار في مفاهيم وقيم الخضوع والسيطرة. أي أنه أثر من أثار القوة وموازينها، لا نتاجا للروح الانساني في كينونته الفاعلة. فالأخيرة ليست كيانا ما قائما بحد ذاته، أو قوة مغتربة تمتليء في الفعل التاريخي كما لو أنها تجل لقانونية الحكمة أو حكمة القانون (الطبيعي أو التاريخي،، بل الروح المنسق للوحدة. حقيقة أن الوحدة لا تعني التجانس المطلق أو الهدوء الوديع، لأنها لا تفترض في صيرورتها حد النهاية، بل قوة الفعل الحية للصراع أيضا. أي أن الكينونة الفاعلة للروح الانساني لا تفترض هنا بالضرورة مطابقة التاريخ الفعلي مع الواجب المثالي، بل تشير الى ما في غياب التطابق هذا من «أنقص في الكمال " باعتباره الهوة الواقعية التي تقف أمامها على الدوام مساعي الثقافات الانسانية.
ولهذا كان من الممكن النظر الى انهيار العالم الامبراطوري العثماني على أنه نعمة أيضا وذلك لأنه أبرز الى الوجود تعددا اسلاميا وقوميا جديدا، مما افترض في ذاته تكون وتعمق عناصر رجوع الأمور الى نصابها الحق. أي أنه استثار مشاعر الرجوع للمصادر الأولى، وبالتالي تثوير الروح الاصلاحية والراديكاليات الاجتما - سياسية والثقافية. فقد واجه كلاهما هذا الواقع الجديد بحماس خاص تضمن في ذاته كل التناقضات المميزة للوحدة الحية. فقد سلك العالم الاسلامي هنا سلوك ذلك البدوي الذي أجاب عن سؤال حول ما اذا كان يعاني من البرد، وهو عار في الفلاة، بعبارة: أدان نسبي يدفئني"! واذا كان هذا الرد يبدو ساذجا باعتبارات الجسد، فانه عميق باعتبارات الروح. فهو يكشف عن أن للجسد دفئه الباطن فيما وراء جلده العادي. أي كل ما يربطه بمشاعر الانتماء اللامرئية.
فقد كان هذا الباطن التاريخي لقوميات "الأمة الاسلامية " يكمن في شعورها العميق بإرثها الثقافي. مما كان يهديء في ذهنيات وسلوك الاصلاحيات الاسلامية والراديكاليات السياسية ورع الضمير المضطرب ويمده في الوقت نفسه بشعور الثقة المستند الى الفكرة القائلة بأن الحياة في حروبها دول. وقيما لو أزلنا شاعرية هذه الصورة وتجريدها عن كل ما يبدو في لغة الأدب تعبيرا عن مأساوية المصير وبطولة المواقف والنظر اليها في تاريخيتها الواقعية، فإن المعادلة الجديدة فيما بين الغرب والشرق كانت تتمحور في لحنونة التحدي الجديد بين شروق الغرب الأوروبي وغروب الشرق الاسلامي. أي كل ما رافق عملية الاجبار، التي أخذ يفرضها الغرب على الشرق.
فقد كان لهذا الاجبار الحضاري مقدماته الداعية في التاريخ الأوروبي. فهو يظهر كما لو أنه انكار ونفي وخيانة لتلك الأجنة الكبرى في روافده المدنية. أي في تكون ونمو عناصر النزعة الانسية في عصر النهضة ومحاربة المركزية الكنسية والدوغمائية الدينية في عصر الاصلاح، والتثوير المعرفي - الثقافي لعصر التنوير وتطوير العلوم التجريبية ودورها في ترسيخ العقلانية والعلمانية عن الوجود الطبيعي والاجتماعي. اضافة الى قيم الليبرالية والديمقراطية للبرجوازية المنتصرة. أما في الواقع فانه لم تكن هناك خيانة ولا انكار ولا نفي. لقد سار كل شي ء على أنه جزء من كلية الصيرورة الرأسمالية وتراكمها النهم. وقد كانت هذه العملية عميقة المحتوى وبعيدة الأثر، نقلت الكيان الأوروبي، رغم تجزئته المتفاقمة، الى وحدة جديدة من خلال فرض أولويات مركز يته في وعيه الذاتي. وهو ما يفسر لحد ما غياب رؤية الغير وآثارهم فيه. ولهذا أصبح من الممكن أن يفترض الأوروبي في تاريخه العلمي والفلسفي والسياسي والأدبي، تلقائية تطوره الذاتي. وهي نظرة واقعية للأنا الأوروبية. الا أن هذا الافتراض الصارم في تجاهله للغير يتضمن البقايا المقلوبة للهم الشرقي في الوعي التاريخي الأوروبي ووجدانه. ومن الصعب توجيه اللوم الى ظاهرة كهذه، مازال التطور الأصيل يستلزم بالضرورة النفي الدائم لمقدماته. فمن الصعب على الشجرة مثلا، أن تلتفت في نموها الى بذرتها الأولى، مازالت هي ذاتها تعطي في ثمارها البديل الكمي والنوعي لبذرتها لاولى.
فقد جرى التطور الداخلي لأوروبا من خلال الرجوع الى المصادر اليونانية في الفكر، والرومية في السياسة والنصرانية الأولى في ايمانها الوجداني، مرورا بالوساطة العربية. أما التطور الخارجي فقد ارتبط، فيما لو استعملنا عبارة القدماء بقوى النفس الغضبية لخيالاتها المشرقية. في "الاكتشافات " الجغرافية لم تكن في أحد جوانبها، سوى نتيجة تتبع حاستي الشم والنظر الأوروبيتين لبريق الجواهر الشرقية وأريج عطوره وروائح توابله المغرية.
غير أن ذلك لا يعني الانتقاص أو التقليل من شأن هذه الاكتشافات. فقد كانت هي دون شك."اكتشافات " للوعي الأوروبي وتوسيعا لمداركه. بمعنى أنها وضعت جغرافية العالم لا في جغرافيته الواقعية، بل في تصوراتها البدائية. وهو ما نعثر عليه في ثبات الوهم القائم في تسميات عديدة كهنود أمريكا وما شابه ذلك. ولكن اذا كانت هذه الاكتشافات تمتلك قيمتها في مدارج الوعي الأوروبي، بما في ذلك في مركزية تصوراتة "العالمية " فلأنها استجابت لمساعي ابداعه الخاص. أي جرى تحسسها وتلمسها وادراكها في معترك البحث الدؤوب. وهي الصفة الملازمة لكل ابداع حي تماتما بالقدر الذي عادة ما تؤدي به في بداياته الى اطفاء ورع التواضع المعرفي.
وبما أن الأخير كان على الدوام من هواجس المفكرين الكبار، فإن الاندفاع التحمس لـ"الاكتشافات " الجغرافية، لم يكن حبا للمعرفة ولا توسعا للمدارك أي أنه لم يكن «تقليدا» لروح الاغريق القدماء، بقدر ما أنه كان استجابة لسطوة الأوروبية الرومية، أو المادية الشرهة. مما عمق في آن واحد نفسية النفس وشهوة نوازعها المادية. وهي الحصيلة التي يمكن رؤيتها ليس في أدب السياسة الأوروبية منذ مكيافيلي، وبل وفي أدبها الشعري والروائي أيضا.
لقد أدت هذه العملية في مجراها وفي حصيلتها الأولى الى خلق الأسطورة المثيرة عن الشرق. مما ولد الى جانب تهويل هالتها الظاهرة اغراء كواهن السطوة والاغتصاب واستثارة لعاب السرقة ومشاعر الارتياب تجاه من يقف بالضد منها. أي أنه أثقل النفس الأوروبية بخطاياها. واثار فيها روح الغزو والاستيلاء. وذلك لأن "اكتشافأت " الوعي الأوروبي الجديد للشرق استثارت فيه روح المغامرة، وتثليم معارفه الشخصية القديمة. الا أنها خلقت في الوقت نفسه الأساس الموضوعي للاحتكاك السياسي - الحضاري الجديد، الذي دفعه تطور البرجوازيات الأوروبية الى نهايته المنطقية: التوسع العسكري والنهب الاقتصادي! وهي ظاهرة متميزة وفريدة في التاريخ العالمي سواء من حيث فعلها وغاياتها وآلياتها ونتائجها.
فقد كان التاريخ العالمي في مساره بمعنى ما، احتكاما أمام محرابه الذهبي. وبالتالي فلا معنى هنا لاتهام "الآخر" وتبرير الذات في أفعالهما التاريخية. فالأخيرة هي ليست معمدانا للروح الاخلاقية، ولا شمعدانا للصوص. أو على الأقل، انهما اختلطا على الدوام بابداعهما نماذج الوحدات المتناقضة باعتبارها صيرورة للحضارات ذاتها ومدنياتها وبهذا كان التوسع العسكري والنهب الاقتصادي الأوروبي، اللذين رافقا صيرورة البرجوازية نتاجا طبيعيا لغياب التكافؤ الاجتما - ثقافي والعلمي في أحدى مراحل التطور التاريخي العالمي. مما أدى بالضرورة الى الا تتحدد أفعاله بغاياته، ولا آلياتها بنتائجها. واذا كان هذا اللاتطابق هو بمعنى ما أحدى القوى المحركة للتطور التاريخي، فانه شكل أيضا معيارا نموذجيا أو مؤشرا متميزا في ادراك خصوصية الثقافات الكبرى.
فالغايات الكامنة في النزوع البرجوازي للأمم الأوروبية لم تكن واضحة المعالم. فهي لم ترتبط بغايات متسامية. أي أن تجليها المباشر، والذي يوحي بالعقلا نية المفرطة، ما هو في الواقع سوى أثر معكوس للما دية المبتذلة وأوهامها. ولهذا كان بامكانها أن تستعمل كل الذخيرة اللامتناهية للمخيال الكاثوليكي والبروتستانتي من أجل البرهنة على أن ما تقوم به، بما في ذلك خارج نطاق وجودها "الطبيعي"، على أنه استمرارية لمعجزة المسيح. فهي أيضا تبعث ما في قبور الموتى من كنوز وتشفي الذات من أمراضها. أي أن تفترض في آلية فعلها أهدافا لا تتطابق مع غاياتها الفعلية. وعندما سيعطي فيفل في وقت لاحق لهذا المسار من خلال تأمله اياه صفة العالمية، فإنه يكون قد اقترب من حقيقة الذات. ولكنه حالما يجعله مسارا للعقل فإنه يكون قد أبعده في متاهات الأدلجة البربرية. ففي الحالة الأولى كان سبره لفور الماضي اقتحاما للمستقبل، إما في الحالة الثانية فإنه يكون قد افترض عقلا لما لا عقل له. ولهذا كان مضطرا الى مداعبة جنونه الذاتي بخيالة. أي الرؤية المقلوبة والاستعلاء الرزين المظهر والخاوي المعنى، والتأمل المفرط فيما لا قيمة له.
إن هذا الانقلاب المعنوي للرؤية العقلانية عن التاريخ ومحاولة حشره فيما ترتضيه مشاعر الجرمانية المتحذلقة، كان الصيغة المناسبة للمعاناة الألمانية الباحثة عن معقولية للامعقول في واقعها آنذاك. أي للعقلانية المغلقة في قوميتها الناقصة عن الكمال. أما عقلانية المسار الواقعي لفعل التاريخ الأوروبي فقد كانت متضاربة المفزع والمحتوى. مما أعطى لمظهرها همجيتها المناسبة. وذلك لأنها أطفأت في ذاتها ورع القيم المتسامية. انها أعطت للفعل قيمة الإرادة. وربطت الأخيرة بالقوة (المادية،. ولهذا كانت نتائجها مطابقة لآلياتها. أي ابداع البربرية الجديدة كإحدى الصيغ الأكثر حضارة للكينونة الأوروبية الحديثة. فهي بربرية تختلف عن تنقلات العالم القديم وهجرات الجراد، كتلك التي مثلتها القبائل الجرمانية في أوروبا والمغول في آسيا. غير أنه في كلتا الحالتين، جرى تعمق الخمول التدريجي لقواهم "البهيمية " من خلال اندماجهم الشامل في امتحان الثقافة والتمدن. أي العملية التي حورت غريزة الاجتياح الجماعي ( القطيعي، صوب سهول العمران ودروبه. مما ألزم الروح بواعثها في البحث عن مصادر الجمال فيما وراء القوة الجسدية.
وهي النتيجة التي نعثر عليها في تنصر القبائل الجرمانية واندماجها في هياكل "دولها المقدسة "، وأسلحة المغول واندماجهم في صروح الامبراطوريات الهندية الآسيوية. أي انهما اندثرا وذابا في سيلان الثقافة القديمة. وقد كانت تلك نتيجة طبيعية، بفعل افتقادهما الى مباديء موجهة كبرى. ولهذا كانوا ملزمين في استعدادها من نعاذ- الثقافة "المقهورة ". اما الاكتساح الأوروبي الحديث فانه كان في جوهره انقطاعا ونفيا كبيرا لما سبق، لأنه لم يستند الى غريزة "الخروج " البربرية، بل الى كبحها الذاتي. وذلك لأنها ارتكنت أساسا الى تثوير وعيها الذاتي. أو انها العملية التي ألهمتها مهمة الرجوع الدائم للذات من خلال نفيه المستمر كأسلوب يقيني في معرفة الذات. وبما أن هذه المعرفة قد جرت من خلال تهشم وحدة النكنيسة ودعامتها العقائدية، فانه أدى بالضرورة الى إحلال بدائل الأوروبية القومية اللادينية مما أعطى لتطورها نزوعه القومي- العلماني البرجوازي. وقد حدد ذلك بدوره أيضا نزوعها الخارجي نحو السطوة والاستغلال.

 

 


الغرب وكينونة التحدي الشرقي -الاسلامي


لم تعد السيطرة "المدينة الجديدة للغرب الأوروبي استعارا بالطريقة الاغريقية ولا الرومية. لقد كان غزوها الشرق أقرب الى البربرية المحصنه بوعيها الذاتي الضيق. وذلك لأن حوافزها وأفعالها كانت محددة بآلية الأخذ والاغتصاب والسرقة والنهب. فهي لم تعرف العطاء ولا البذل الروحي. ولهذا ثم تث ك في يك ابداعها "الغرباء"، لأنها لم تنو ذلك ولم تلهب هواجسها  وحدنية الفكر ولا توحيدية القناعة ولا شعور الواحدية الانسانية. ولهذا ثم يكن "استعمارها» سوى تخريب المكان وتوسيع زمان الصحراء الثقافية للآخرين.. وبهذا المنى لم تختلف الصيرورة الأوروبية الجديدة في الكثير من مظاهرها عما هو ممدن للتاريخ البشري المنصرم في حضاراته ككل. أي استعمال القوة الداخلية وامتدادها:لخارجي في شكل غزو واحتلال. الا أن ما يميز هذه العملية الجديدة هو محوريتها المركزية في السيطرة أي محاولة خلق العالم وصهره من جديد على مثالها.
وقد كان لهذه العملية منطقها الخاص في الثقافة الأ وروبية وواقع تطورها البرجوازي. أي أنها استندت الى ما استقر فيها في نماذج عليا وذلك من خلال نفيها في مجرى التطور الاجتما - اقتصادي والفكري - الروحي والعلمي - التجريبي. بحيث استطاعت أن تستعيد في مجرى تطورها وحدة صراعاتها الأول، أو نماذج وحدتها وتجزئتها. وبهذا المعني كانت تمتثل مساعي الرأسمال في عالميتها، وحب السيطرة في قو ميتها. أو انها ذاتها الصيغة الجديدة لوحدة وصراع عالمية الكاثوليكية وقومية البروتستانتية. غير أن ذلك لا يستلزم القول بتطابق هذه الصيغ من حيث فاطيقها التاريخية. انها فقط تشير الى ما في نماذجها "المتسامية " ما هو قائم فعلا في صيرورة الوعي الأوروبي المعاصر ووحدة انتمائه وصراعاته فيها. فقد كانت البروتستانتية، أو بصورة أدق نماذج الاصلاح الديني في واقعيتها شكلا من أشكال تجلي الوعي القومي ونزوعه نحو التحرر من عالمية الكاثوليكية أو سيطرتها الكهنوتية الشاملة. وقد أدى ذلك بالضرورة الى بزوغ الورع القومي على أنه نموذج حي لاستعادة الانبماث المسيحي. حيث جرى فيه البحث عن الخلاص الحق من الشرعية المزيفة التي حاكت الكنيسة الموحدة في غضون قرون عديدة،، ثوبه الميلادي وكفنه الجنائزي. وهو ما يفسر لحد ما سر المواجهة التي خاضت أوروبا بها صراعاتها ضد الشرق باسم المسيح. أي أنها استمدت من حوافز الكاثوليكية العالمية نزوعها الوحدوي - الملكي (الامبراطوري). الا أن تجسيدها السلطوي كان لابد وأن يجري من خلال تنافس قومياتها الأخذ في النفور والفرقة. فقد ظلت النزعة العالمية تشكل الخلفية الموضوعية لوجودها (الأمم) وصراعها. أما القومية الصاعدة فقد كانت الأسلوب المناسب لفعلها وعملها. أي كل ما شكل الخلفية المتصارعة والمتناقضة في الوقت نفسه لـ "روحية " الأمم الأوروبية و"ذهنياتها". وبالتالي خلفية وأسلوب مواقفها واحكامها وتقييمها للحضارات الأخرى وثقافاتها القديمة والمعاصرة وبما أن لكل تعميم مثالبه الخاصة، لهذا فمن غير الدقة القول بالتشابه والتجانس الكاملين في آراء الأوروبيين ومواقفهم واحكامهم للثقافات الأخرى. فقد كشف تاريخ الوعي الأوروبي ومدارسه وما يزال، عن تعارض وتضاد يصل أحيانا حد القطيعة فيما بين اتجاهاته بصدد تقييم ثقافته نفسها وثقافات الآخرين. غير أن هذه العملية مازالت في تناقض لم يحسم نهائيا بعد لصالح التعددية الثقافية. فقد أثار القرن التاسع عشر مسألة ما اذا كان الغرب مدينا في ثقافته الفلسفية الاغريقية للشرق أم لا، حيث حسم لصالحه. وهي اجابة عميقة المحتوى ودقيقة من حيث مكوناتها وفاعليتها الواقعية. ولكنها عوضا عن أن تثبت دعائم التعددية الثقافية، انهمكت في نسج خيالها الشقين عن عالميتها. ولم تكن هذه الضحية المأساوية للعقل والضمير بمعزل عن مكونات وعيه السياسي وروح الميكيافيلية العميقة. أي كل ما رفع ويرفع عناصر القوة والتفوق والسيطرة الى مصاف المطلق السياسي والفضيلة العملية.
وقد كانت النتيجة النهائية لهذا الواقع تقوم على تطويع الوعي الثقافي الذاتي في بوتقة الانتصارات العسكرية والتكنولوجية. فالأخيرة كانت التجسيد المتعاظم والآلي للروح الثقافية. مما أغرى آلية التفكير بفعل استقامة الميكانيك والآلة، بحيث جعل من واقع القوة المادية أسلوب وبرهان القوة الروحية والحق. واذا كانت هذه العملية المتناقضة قد اسهمت في تعميق عناصر العقلانية والموضوعية في الفكر وحريته، فإنها أسهمت أيضا في تثليم وحدة الحقيقة والأخلاق. أي أنها أخذت تنهمك في تأمل ذاتها ووعي وجودها عل أنه النموذج الوحيد الموجود. فهي تبدو كما لو أنها اختزلت:لعقلانية الديكارتية الى ديكارتية ثقافية متأوربة. وبما أن المادة الموضوعية لتفكيرها هو وجودها الذاتي، فإن الأخير هو الوجود الحق، وهو المحك والمعيار النهائي للمكتشفات القديمة والمعاصرة.
وقد كمن في هذه العملية المتجذرة للثقافة الأوروبية وعي خصوصيتها الفريدة. وهو انجاز عميق المحتوى، بما في ذلك في انسانيته. ولكنه يبدأ بالفساد حالما يحاول أن يتخطى ذاتة. بمعنى حاثا يحاول أن يفرض مقاييسه الثقافية على أنها نماذج عالمية مطلقة. وهو ما يمكن ملاحظته في فرضياته التاريخية العديدة. أي أنه يجعل من فرضياته منطقا شاملا، عادة ما يتبعض فيه تاريخ الأمم وثقافاتها الى عينات جزئية في سلسلة البراهين "العقلانية " على ما في الثقافة الأوروبية من شمولية في احكامها. أما في الواقع فإن هذه الفرضيات لم تكن في أغلب أحكامها أكثر من أوهام رصينة. إلا أنها استطاعت في هذه الأوهام أن تخلق الوعي الراديكالي وعناصر رؤيته للكل الانساني من خلال التركيز على ما في عينات الثقافة القديمة وذراتها من "الأنا القديمة "، أو "الطفولية " للوجود الانساني.
إننا نعثر في هذا الترفع والاستعلاء عن قوة ضاغطة نحو ادراك حفريات الوجود الانساني. وهي مهمة يشترك في تأطيرها الفكري كل تيار انساني التوجه والمحتوى. ولكنه اشتر ان ثقافي الصورة والمضمون. بمعنى امتلاكه خصوصية تعامله مع وجوده الذاتي في التاريخ. أما بالنسبة للثقافة الأوروبية فقد كان من الصعب عليها في باديء الأمر أن تقرن رؤيتها للغير بمعايير الشمولية الانسانية. ولهذا كانت مضطرة، موضوعيا أيضا، ال أن تزاول رؤيتها "العالمية " في معاييرها. والى أن تعطي للأخيرة صفة العالمية. أي أن تزاول وهم التدجين الثقافي. وهو جهد لا يفعل في الواقع إلا على اجترار بديهيات الثقافة لا ابداعها الحر. أي أن يجري بناء المواقف والأحكام خارج كينونتها التلقائية. بمعنى نقلها الى واقه آخر لم يتحسس معاناة الفعل التاريخي (للقيم والمواقف). وهو أسلوب يمتلك معناه وجذوره الموضوعية في الشرطية الثقافية للمقارنة وتجلياتها المعرفية.
فقد كانت بديهيات الثقافة الأوروبية في ابداعها الحر. مما حدد بدوره طبيعة العلاقة فيما بينهما باعتبارها علاقة الأنا بذاتها. أما الصعوبة التي يمكن أن تولدها ضرورة تحديد العلاقة فيما بين البديهية في الثقافة والابداع الحر فيها، فإنها تزول حالما يجري النظر اليها في إطار الاستمرارية والانقطاع التاريخيين، أو عملية النفي الدائم للذات. ففي هذه الأخيرة تتمركز الثوابت المتغيرة للانتمائية الثقافية، والتي شكلت كل من الروح الاغريقية - الرومية والنصرانية، والعلمية - التجريبية قواها التاريخية الكبرى. أي كل ما اسهم في خلق وعي الانتمائية الأوروبية لذاتها. وبالتالي ادراك الأنا الأوروبية كقوة قائمة بحد ذاتها.
ان هذه الانتمائية جلية في التاريخ الأوروبي منذ مراحل تاريخية مبكرة. وهي انتمائية تستند الى روابط فعلية ومؤثرة في صيرورة الوعي الثقافي الأوروبي. حقيقة أن الاشكالية الوحيدة هنا هي بديهية الانتمائية الاغريقية لأوروبا. فقد كانت هذه الانتمائية نتاجا للاستئثار الذاتي الأوروبي. فهي لا تمتلك من حيث وجودها التاريخي والثقافي صلة جوهرية بالنزعة الأوروبية المعاصرة. فالأخيرة تبلورت تاريخيا ونفسيا وثقافيا كوحدة متفاعلة للعناصر الرومية - النصرانية. فالا غريق لم ينهمكوا في انشاء وحدة أوروبية على مثالهم ونموذجهم. بل انهمكوا في تهذيبهم الذاتي المتوافق مع قوانين الفكر والجمال الاغريقيين (الشرق أوسطي)، بينما أفلح الروم في التوحيد الأوروبي والبحر المتوسط. أي أنهم حاولوا خلق وحدة ثقافية عالمية. وهو أثر انكسر في تفلفل النصرانية الشرقية واختراقها للغرب مما أدى الى صيرورة النزعة الأوروبية المتسامية باعتبارها وحدة ثقافية مستقلة، تجلى أول ملامحها الكبرى في خوض الحروب الصليبية ضد العالم الاسلامي، وآخرها في خروجها الحديث عن عزلتها الذاتية. ولهذا فإن خروج أوروبا من "غربتها" وضعها بالضرورة أمام الشرق. أي لم يكن بإمكانها أن ترى آنذاك شيئا سواه، مما عمق وأثار أنانيتها "الغربية".
وقد كانت لهذه العملية آثارها المزدوجة في تعميق حدة الخلاف والمقارنة. أي افساد الرؤية وشحذ قوتها النقدية. وليس المقصود بإفساد الرؤية التاريخية هنا سوى انبهارها المفاجيء بظواهر العالم الشرقي. فالنفس المنغلقة والمتطورة ثقافية في ذاتها لا يمكنها آن ترى بغير مقاييسها المعتادة ومن هنا كان لابد للانطباعات الأولى أن تكون شرطية في شكلها ومحتواها وذلك لأن اصطدام الغرب الأوروبي بالشرق لم يكن بالامكان ادراكا بصيغ غير صيغ الانبهار والتعجب والاستخفاف والاستنكار، الرفض الكلي أو التقبل العاطفي. أي أنه لم يكن بامكانه أن يبني على أسس غير أسس رد الفعل النفسي والعاطفي. ولهذا فانه في الوقت الذي أفسد على الرؤية التاريخية مصادر ورموز استيعابها الواقعي للشرق، فإنه استثار في حدة انطباعاته الشرطية الروح النقدية، ولحد ما امكانيات تجوله في دنيا العجائب. وقد كان هذا نوعا من اغراء الذات بالذات، ولكنه كان في الوقت نفسه. من حيث  محاكاته الثقافية بالنسبة للوعي الأوروبي شبيها بـ"اكشاف " أمريكا. أما في واقعيته فقد أثر في صيرورة وحدة وخلاف الشرق والغرب. أي أنه ساهم في تكوين الملامح الأولية للرؤية المتبادلة. وبغض النظر عن التقاليد العريقة لهذه الملامح، إلا أنها أفرغت رؤية الآخر من محتودها المتفرس بفعل الانعزال النسبي للحضارات القديمة، ويفعل بناء روحها الثقافية على أسس ومباديء القومية. أي أنه لم يعط لها حتى في حالات الغزو، بعدا أكثر من شعور السيطرة والخضوع. وهي صفة لم يخل منها عالما الشرق والغرب على السواء في مواجهتهما الحديثة. وبهذا المعنى كانت الوحدة أيضا هي رؤية الأبماد التاريخية في الأنا والآخر. إلا أنها وحدة لها حساسيتها الجديدة، وذلك بفعل مدها الخلافات الى مداها الأقصى. لأنها ابرزت محورية التباين في صيغ الخلافات المدركة لذاتها، والمتمركزة أيضا في منظومات القيم والمفاهيم والأفعال الاستعلائية. أي كل ما تجسد في نوازع المركزية الأوروبية. وهي صفات لم يكن لها وجود فاعل في الحضارات القديمة.
فقد كانت الأخيرة ذات محورية ثقافية أو دينية - عالمية. أي أنها لم تكن قارية ~ جغرافية اما الخلاف الجديد فقد جرى ادراكه على أساس دمج مكونات تفتقد التجانس فيما بينها، بالشكل الذي أعطى لها صفة النقيض المستعلي على ما هو حوله. أي وحدة الجغرافي - القومي ~ الثقافي. وان هذه الوحدة المتشكلة تاريخيا في غضون فترة طويلة قد توجت في أوروبا بـ "مركزيتها" الايديولوجية. ومن الممكن أن نعثر على مثالها الأول في وحدة الثقافة الرومية - النصرانية. فقد كان لهذه الوحدة أثرها في ابداع مكونات الانتمائية المشتركة للشعوب الأوروبية. اضافة لذلك انها خلقت المزاج المشترك في تصورات وأحكام ورموز الشعوب الأوروبية نفسها. أي انها شكلت بفعل عضوية اندماجها في الانا الأوروبية الحديثة أحدى مقدمات تعارض الشرق والغرب.
إن مشاعر الخلاف هذه لم تكن نتاجا لاستحواذ الأوروبية المركزية على عقول الأوروبيين فقط، بل وتمتلك مقدماتها وبواعثها في الشرق أيضا. حقيقة انه لم تجر مواجهة المركزية الأوروبية بمركزية شرقية (آسيوية) لأنها لم تمتلك مقدماتها المندمجة في كل آسيوي. ومع ذلك كانت "الشرقية " في اتجاهاتها المختلفة هي الاطار والتيار الذي بلورته لغة الأوروبيات الصاعدة. وعندما تغنى ردوارد كيبلنغ في انشودته الشهيرة عن أن الشرق هو الشرق والغرب هو الغرب وسوف لن يلتقيا، فانه كان يعبر في حدسه الشاعري عن افتراق المصير أكثر مما يعبر عن وحدة الضمير الكامنة في صيرورة الحداثة الجديدة للشعوب والأمم، لقد قال هو كلمة حق أريد بها باطل !!وانشد وتفنى بما لامعني للتغني به، ولكنه عبر عن وهم العصر الكبير في فاعليته الكبيرة.
فعندما افترض الغرب الأوروبي في وجوده ومثله قيما مطلقة للكل الانساني، فإنه لم يفهم الآخرين بمعاييرهم، بل بمعايير وعيه الثقافي الذاتي. ولهذا بدا الشرق في نظره غريبا ومتشائما، لا معقولا وشاذا، لأنه تحسس منذ اللحظات الأولى طاقة المعارضة الخفية كقوة كامنة.. فقد كان الغرب أقرب الى ادراك حقيقة الشرق في أصالته. ولكنه كان من الصعب عليه أن يتقبلها ككل، وهو أمر طبيعي. اذ ينطبق هذا بالقدر ذاته على كواهن التحدي الشرقي. فقد كان للتحدي الشرقي ذراته الكامنة، ولكنها لم تن نفسها كذرات في مواجهة. أي انها لم تتشبع بروح المركزية الذاتية. وهي صفة كان من الصعب أن تتبلور فيها بفعل روح العالمية الثقافية أو الدينية السائدة فيها. ولهذا كانت مواجهتها للغرب الأوروبي تفتقد الى دقة السلاح وسلاح الدقة. الا أنها في هذه المواجهة أخذت تدرك ذاتها كقوى دينية وقومية وسياسية. انها ألزمت ذراتها في التطور كقوى مجزأة من أجل اعادة لحمها في تركيبات جديدة. بمعنى أن الشرق أخذ يكتشف في هذه المواجهة ليس الأخر فحسب بل وذاته الجديدة. أي ذاته التي ابدعها عالم المواجهة والصراع والتحدي لا تطوره التلقائي.
فقد اضطر الشرق منذ اللحظات الأولى للصراع الى أن يواجه غزوا "متمدنا" والى أن يدرك منذ الوهلة الأولى روح الفضيحة القائمة فيه باعتباره شكلا يتعارض مع أسس مدنيته نفسها. وهو السر القائم وراء تشوه الغزو الأوروبي في اطروحاته،واشكاليته في غاياته. لقد كشفت المدنية الأوروبية وتطور وعيها الذاتي في صراعه المرير من أجل الحرية والتقدم والاخاء والمساواة والديمقراطية والحق عن زيفها وانانيتها وظاهريتها وماديتها المبتذلة ولا عقلانيتها في التعامل مع الآخرين. فقد كانت حريتها اذلالا، وعدالتها ظلما، ومساواتها جورا وتمدينها تخلفا وديمقراطيتها استبدادا واستقلالها عبودية. بصيغة أخرى انها كشفت عن أن نموذجها المتمدن هو انانية قومية شوفينية. وبما أن هذه الصفة كانت مشتركة بين شعوب القارة كلها،. فانها ضاعفت من مركزيتها الغربية في مواجهة الشرق بالصيغة التي جعلته يبحث في ذاته عما يمكنه أن يكون بديلا لهذا الهجوم الشامل. وقد حصل هذا البديل على تعبيراته العديدة. اما في عالم الاسلام فقد اتخذ صيغته الأولى بظهور مفهوم الشرق المسلم والذي عكس في تطور مضامينه طبيعة التحولات التي جرت في العالم الأوروبي والعالم الاسلامي.

إسلام الشرق وآفاق الرؤية الحضارية للعالم العربي
اذا كان الوعي الأوروبي قد تقاسم بدرجات متباينة منذ القرن السادس عشر، الاهتمام بالشرق لاعتبارات دينية - فكرية وسياسية - اقتصادية، فإن أحدى نتائج وافرازات هذا الاهتمام في تراكم وتعمق التصورات الموضوعية عن العالم الاسلامي. وهي النتيجة التي نعثر على تجليها المباشر في ظهور شخصيات علمية كبيرة مثل ريتشارد وسيمون واوربان رولان ويبار بيل وجورج سايل، ويوهان رايسكه وغيرهم. بينما تتداخل في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تيارات الثقافة الغربية والمستشرقة والتي افترض وجودها وتداخلها تطور الرأسمال ومصالح القوة وتوسع الثقافة (الاكزوتيك الرومانسي والعلمي)الشرق،. أي كل ما ساهم في نهاية المطاف أيضا بتعميق شقة الحلاف الشرقي - الغربي. وبما أن هذا الخلاف لحان مبنيا في وقته على تباين مستويات القوة والتفوق المادي - الاقتصادي - العلمي والتكنولوجي والثقافي. الموفي، فانه أدى بالضرورة الى تكون العناصر الجديدة لما يمكن دعوته بـ "الشرق الغربي". أي ذلك الشرق الذي جرى تصوير ملامحه في اطر وتقاليد النزعة الأوروبية المركزية. أي كل مارافق صورها الوهمية عن الشرق بشكل عام والاسلامي بشكل خاص. ولم تكن هذه الأوهام معزولة عن انكسار تقاليد العالم الرومي - النصراني القديم ورموز وعيه الكبرى منذ الحروب الصليبية، والتي لحانت حصيلتها العامة تقوم في فضيلة الغرب ورذيلة الشرق،والخرب النصراني والشرق الاسلامي بشكل خاص. فقد كان لهذه الصورة استلا بها المبطن في تاريخ الاحقاد وغفول الذاكرة، الا أن فعلها المباشر في عالم الاسلام قام في استثارة ردود فعله المباشرة واللامباشرة. أي استثارة ما يمكن دعوته بشرقية الاسلام واسلام الشرق كدرجات متتالية في وعي الذات الروحي - الثقافي والعملي – السياسي لقد كانت "شرقية الاسلام " الغربية تركيبة مغرية مثلت في سلبيتها رد فعل الانتمائية الأوروبية النصرانية. الا أنها كانت ممتلئة بمعاني الاستقلالية العريقة بالنسبة للعالم الاسلامي. ولهذا ليس من قبيل الصدفة أن تصبح هذه التركيبة شعارا لوعي الذات الاسلامي الجديد. وحالما دخلت دهاليز الكينونة الجديدة للعالم الاسلامي، فانه كان لابد لها من أن تخضع لنفس الآلية التي خضعت لها صيرورة "الشرق الغربي"، وان كان بصورة معاكسة. أي انها استثارت في الشرق حمية الشرقية. وهنا ظهرت الملامح الأولى للأنا الشرقية الواعية لذاتها بوصفها كيانا مستقلا ومواجها للغرب.
واذا كانت هذه المواجهة تتمحور حول ما يمكن دعوته بالشرقية السالبة، فإنه لا ينبغي مع ذلك النظر اليها كسلبية في محتواها التاريخي. فهي ليست فقط الدرجة المناسبة لأسلوب المواجهة الذي فرضته أحدى مراحل التاريخ العالمي فيما بين الشرق والغرب، بل ولأن صراع الشرق والغرب قد تحول الى أسلوب جديد في مخاض الحضارة العالمية المتوحدة. أي أنه كان لابد لها من أن تمر في مخاض التجربة القاسية للاتهام والاتهام المتبادل، للصراع والعداء باعتبارها دروبا في وعي الذات. وهو ما يمكننا العثور عليه في آراء رواد الفكر الاسلامي (الاصلاحي) ككل. حيث تظهر بجلاء ملامح الصراع المتزايد بين الشرقية والغربية. فقد كان الافغاني على سبيل المثال في كتاباته الأولى ممثلا للجامعة الشرقية أكثر منه ممثلا للجامعة الاسلامية. وهو ما يفسر لحد ما سبب بقائها في آرائه ومواقفه حتى آخر كتاباته. رغم أنها أخذت تتلاشى الى الدرجة التي يصعب فرزها بمنظومة أو مفاهيم مستقلة قائمة بحد ذاتها. وليس ذلك في الواقع سوى انعكاس لطبيعة التحولات التي تعرض لها فكرة الشرقية والاسلامية في منظومة الاصلاحية وممارساتها الراديكالية ومشروعها النهضوي الاسلامي. فعندما يناقش الافغاني قضايا الاصالة والتقليد، فانه عادة ما يردد الفكرة القائلة بأن الوطأة الأشد على الشرق تقوم في تقليده للغرب. ولهذا شدد على الأمم الشرقية في حاجة الى تقوية المناعة الذاتية أمام الهجوم الغربي.
لقد كانت مواقف الافغاني هذه نتاجا لاستيعابه واقع "المسألة الشرقية " آنذاك. لهذا لم ينظر الى هذه المسألة، حالما تطرق اليها نظرته الى قضية سياسية أو عسكرية خالصة، ولم ينظر اليها باعتبارات تتعدى حوافز القوى القائمة في عصره. فقد كان أدري بمواطن عدم التكافؤ. ولهذا لم يتحدث في هذا المجال عن مقارنة بين الرجل المريض والرجل السليم، ولا عن العثمانية المتدهورة والأوروبية الصاعدة،بل حاول اختصارها حسب عبارته، فيما أسماه بـ "معترك الغربي بالشرقي". أي اذا كان الغرب قد تذرع بالنصرانية، فإن ذلك لم يكن في الواقع سوى ذريعة وواجهة لا غير. فالمسألة الشرقية، كما فهمها الافغاني، هي مسألة الضعف والقوة. أما مهمة وأسلوب حلها الأمثل فقد وجده في الاسلام. وفي هذا نستطيع رؤية تحول المفاهيم والأحكام والمواقف عن عموم الشرق الى خصوصه. أي من شرقية الشرق الى شرقية الاسلام الى اسلام الشرق.
لقد عكست هذه الثلاثية في صيغتها المجردة التطور التاريخي والواقعي لوعي الذات الشرقي - الاسلامي. فقد كانت شرقية الشرق الرد المباشر على غربية الغرب. وهي الصيغة التي نعثر عليها بهذا القدر أو ذاك من الوضوح عند المفكرين المسلمين للقرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. فعندما يحدد الافغاني صفات الغرب، فإننا نعثر فيها على ادراك جلي لغايات الغرب الانانية تجاه الشرق من جهة، وعدم تكافؤ القوى فيما بين الطرفين من جهة أخرى. فهو يشير الى أن الغرب لا يقدم للشرق اصلاح سير وسيرة على العكس ! انه يشجع التخلف والجمود. بل لا تطرق دولة غربية دولة شرقية الا وتكون حجتها حفظ حقوق الحاكم واخماد فتنة أو حماية المسيحيين والاقليات أو حقوق الاجانب أو حرية الشعب وتعليمه أصول الاستقلال. ا~ الغربي فإنه حالما يرى بلدان الشرق، فانه يفكر بالشكل التالي: شعب جاهل وأراض خصبة ومعادن كثيرة ومشاريع كبيرة وهواء معتدل، اذن نحن أولى به ! ولم يبن الأفغاني هذه الأحكام على أنها فرضيات ممكنة بقدر ما إنه نظر اليها كواقع فعلي. فقد عايش هو حيثيات ووقائع الصيغ الأولى للشرقية الاسلامية التي ساهم في رسم ملامحها الراديكالية الفعالة. أي أنه ضمنها طرفي الهجوم والدفاع والسلب والايجاب المستندين الى محاولات فهم الواقع الجديد. فالأفغاني كان أبعد من أن يصاب بشعور الخيبة أمام حاضره وأعلى من أن ينحدر الى درك الرومانسية المبتذلة بتمجيد الماضي. وقد أنقذ ذلك ذوقه الانتقادي من فساد تعلقه بالماضي. فالأخير لم يعم رؤيته الواقعية للأمور. على العكس ! ولهذا أسهم أيضا في شحذ رؤيته واحكامه المكونة للشرقية الاسلامية. ففي تقييماته للغرب لا نعثر على غبنه اياه بفعل عدوانه وسطوته ونهبه للشرق. بل يمكن القول، بأن كتابات الافغاني تتضمن في أغلب الانتقادية احتراما عميقا لانجازات الغرب العلمية والعملية. ولهذا طالب بالتعلم منه والاستفادة منها. الا أنه وضع هذا التعلم في شروط الافادة لا التقليد. بمعنى أنه طالب بالبقاء في حيز الاصالة باعتبارها الشرط الجوهري لكل تطور حقيقي.
وقد قدم الافغاني مثار اليابان آنذاك على أنه نموذج يمكن من خلاله شحذ همة المسلمين. انه أراد القول بأن الشرق يمكنه رغم تخلفه المعاصر أن ينافس ويتفوق على الغرب في مجال انجازاته العلمية. ومن الممكن القول بأن مثال الافغاني يبدو الآن أكثر وضوحا وجلاء منه قبل قرن من الزمن بمعنى دقة حكمه على ضرورة التعلم وامكانية التفوق. أما أصالة فكرته العميقة فإنها تقوم في محاولته التركيز على مثال اليابان على فكرة الأصالة الثقافية والتطور العلمي التكنولوجي. وقد شكل مثال اليابان بالنسبة له، ان أمكن القول، مرحلة انتقالية من شرقية الشوق الى الشرقية الاسلامية. وذلك لأن الافغاني أدري من غيره آنذان بخصوصية الأصالة الثقافية للعالم الاسلامي. فقد كان هو شديد الادراك للأثر الثقافي الكبير الذي تركه المسلمون على تطور الحياة والنهضة الكبرى في أوروبا قبل قرون مضت. وبالتالي، فإن استعادة هذه النهضة بالنسبة للعالم الاسلامي ممكنة ولكن من خلال اتقان أساليب تطوره المعاصرة. فالتطور لا يرتهن بدين دون آخر، ولا بشعب دون آخر. وان مثال اليابان يبرهن ليس فقط على امكانية منافسة الغرب من جانب الشرق، بل وامكانية التفوق عليه دون التدين بدين ما أيضا. وان الشرط الوحيد لذلك، حسب نظر الافغاني، هو شرط الأصالة الثقافية. ولهذا أكد على أن اليابان استطاعت أن تبز أقرانها حتى في عدم تدينها، لأنها بقيت أصيلة. وبغض النظر عن الملابسات الكثيرة المتعلقة بتدين أو عدم تدين اليابان، فإن ما هو جوهر وير في آراء الافغاني بالنسبة للعالم الاسلامي آنذاك يقوم في وضعه مهمة تعلمه من الآخرين ورفعها الى مصاف الضرورة، مع الاحتفاظ في الوقت نفسه بالهوية الثقافية. وبما أن هذه الهوية لم تكن معزولة ولا يمكن عزلها عن الاسلام، فإنه حاول أن يجد في هذه الشرقية -الاسلامية القوة التي يمكنها أن تشكل روح الاندفاعة الجديدة للنهوض والتقدم. وبهذا المنحى ينبغي النظر الى مقارناته العديدة التي يقدمها عن الانسان الشرقي والانسان الغربي، عن الغربي النصراني والشرقي المسلم. فعندما يقارن على سبيل المثال، الانجليزي بالعربي، فإنه يعتبر الانجليزي قليل الذكاء عظيم الثبات، كثير الطمع، عنود وجسور ومتكبر، أما العربي فإنه يتصف بما يقابلها من الصفات. أي كثير الذكاء، عديم الثبات، قنوع وجزوع وقليل الصبر ومتواضع. وبغض النظر عما في هذه المقارنة من خلل يصعب تلافيه، الا أنها تتضمن اشارات واقعية وحوافز للبدائل العملية. ولهذا السبب ركز الافغاني على الصفات العملية ~الفعلية في مقارناته كالثبات والطمع والصبر وما يقابلها من الصفات. فالأفغاني يدرك دون شك،الطابع المكتسب لهذه الصفات. أي أنه يدرك الخلل الممكن في هذه المقارنة في حالة أخذها كما هي بصورة مستقلة عن تاريخيتها الملموسة وغاياتها النهائية. وذلك لأن صفات الأمم عرضة للتغير والتبدل كذواتها. واذا كان من الممكن الحديث عن صفات أخلاقية ~ نفسية - قومية فإن ذلك لا يتعدى حدود شروطها الاجتما - ثقافية - التاريخية باعتبارها قيما سائدة. وقد أصاب الافغاني في مقارنته هذه وفي محاولته تأسيسها النظري - التاريخي عندما رجع الى القرآن للبرهنة على أن تشديده على الصبر وضرورة الصبر، وان الصبر هو مفتاح الأمور العسيرة، وان الفوز للصابرين، ليس الا رد فعل على عدم تميز العرب الجاهلين بالصبر. وهي ملاحظة دقيقة من حيث قيمتها الاجتما - سياسية. بمعنى أن الافغاني أراد أن يثير من خلال ذلك حفيظة الفعالية الكامنة في الذات العربية الاسلامية. أي أنه أراد التعبير عما يمكن دعوته بالهمة الشرقية واستثارتها في مواجهة الغرب المعتدي، باعتبار أن ما يميز الأخير ليس سوى صفات يمكن اكتسابها، أو الصفات العملية المرتكزة الى الفعل الدؤوب والصبور. ولكن اذا كانت هذه المقارنة واشباهها ترتكز الى تمحيص مكونات القوى القائمة وراء "المسألة الشرقية "، من أجل استثارة الهمة الشرقية، فإن مقارنة الغرب النصراني بالشرق - المسلم، أدت في نتائجها الى صياغة الأسس الجديدة لما يمكن دعوته باسلام الشرق. ففي معرض مقارنته النصاري بالمسلمين،يشير الافغاني الى أن القائمين بالنصرانية يسخرون الدين لأجل الدنيا، بينما العاملون بالاسلامية يسخرون الدنيا لأجل الدين. والنصاري يحسنون أمر دنياهم وما تتطلبه مظاهر الحياة بينما لا يعمل المسملون بأحكام الاسلام فيخسرون الدين والدنيا. والنصرانية تدعو للمسالمة وعدم التدخل في السياسة وترك أهوال قيصر لقيصر وترك المنازعات الشخصية والقومية والدينية، الا أن أعمالهم عكس ذلك. بمعنى لا تخضع لمباديء النصرانية وتعاليمها ولا التمسك بها بينما من يقرأ القرآن ويعرف تاريخه يدرك حقيقة دعوته لاستعمال القوة في الحق والجهاد. بينما نرى أعمال المسلمين على عكس ما يدعو القرآن اليه، خاملة خنوعة غير متمسكة بما يدعو القرآن اليه من القول والعمل. فالنصاري تبدو هنا، كما يقول الافغاني، كما لو أنها تأخذ بالعهد القديم بينما المسلمون كما لو أنهم يأخذون بالعهد الجديد.
إن هذه المقارنة التي يوردها الافغاني تنصب كلها في اطار ابراز طبيعة الخلاف والتباين دين العالم الغربي - النصراني - والشرقي - الاسلامي، من أجل استنهاض همة المسلمين في عالم التحدي الجديد. الا أنه لا يضع هذه القضية في اطار المواجهة المباشرة بقدر ما أنه أراد أن يكشف من خلالها واقع التخلف الشرقي - الاسلامي وعوامل نهضته الممكنة. فقد كانت نظراته في أعماقها مواجهة تاريخية - فكرية - سياسية - ثقافية للذات أكثر مما هي مقارنة غربية - شرقيةاو نصرانية- اسلامية. الا انها مهدت الطريق أمام صياغة جديدة للشرقية الاسلامية  في مواجهة ذاتها أكثر مما في مواجهة الغرب. ومن هنا ماثرتها الفكرية العميقة. لقد أراد الافغاني البحث عن سبب تطور الغرب الأوروبي فوجده في فروجه هن نصرانيته. غير أنه لم يبحث في ذلك عن نقص في النصرانية، بقدر ما أنه صور الواقع سر في ذلك في نتائجه، التي يمكن أن تعارض منطلقاته الاسلامية ذاتها. فهو يؤكد على أن تطور الغرب ونهوضه ليس نتاجا لالتزامه بالنصرانية والدين. على العكس، ولم ير في ذلك الخروج من الدين فضيلة بقدر ما أنه وجد في نموذجه الأوروبي شينا - ما طبيعيا ولحد ما ضروريا باعتباره رجوعا للذات ومصادرها الأول. ولهذا اعتقد بأن سبب صعود النصاري الأوروبيين يقوم في استعادتهم لعاداتهم وتقاليدهم القديمة. أي تقاليد ما قبل النصرانية (اليونانية الرومية). اذ لم تكن النصرانية بالنسبة لهم، حسب تصور الافغاني، الا كالوشي والطراز على الظاهر. بمعنى أن رجوعهم الى مصادرهم الذاتية (اليونانية _ الرومية) هو الذي أدى الى نجاحهم. وهي المقدمة التي حاول من خلالها بناء استنتاجه المماثل والقائل بأن الرجوع الى مصادر المسلمين الأولى.، هو الذي يشكل أساس نهضتهم الحية وان مصادر قوة المسلمين وتقدمهم وازدهارهم هو الاسلام لأنه لا تاريخ لديهم سواه.
لكن اذا كانت هذه الفكرة هي النتيجة التي يفترضها تطور منطق الموازاة بين الشرق والغرب والنصرانية والاسلام، فإن أساسها الذاتي يقوم في الكيفية التي انكسر بها وعي ضرورة النهوض في مواجهة الغرب بالاستناد الى الأصالة والارتباط الوجداني العميق بالتراث الخاص. انها تستند الى ادراك عميق بأنه لا يمكن للثقافة والحضارة أن يتطورا بسلامة دون الاستناد الى قواهما الخاصة. فهما يشبهان الكائن الحي. بمعنى أن وضمهعا في قالب غريب سوف يؤدي بالضرورة اما الى تشويههما أي موتهما الطبيعي. فإذا كان التطور الأوروبي يستند في أحدى مقدماته الأولية الكبرى ال حركة النهضة واعادة الاهتمام بالقضايا الدنيوية عند شعر ائه الكبار أمثال دانتي وبوكاشيو وبترارك، فإن الثقافة الاسلامية مليئة بمئات الشعراء العظام الدنيويين. واذا كانت النزعة الانسانية تمثل اعادة الاعتبار للانسان من خلال انتزاعه عن سيطرة الكنيسة، فإن العالم الاسلامي لم يعان من عقدة مؤسسة كهذه. أما الاصلاح الديني فلم يكن بامكانه أن يكون لوثريا أو كالفنيا. والقضية هنا ليست فقط في ان الاسلام لا يعرف كنيسة أو كيانا ما مقدسا وسيطا بين الله والانسان، بل ولأنه امتلك  تقاليده العريقة في تباين فرقه ومذاهبه وحق الاجتهاد فيه. ولهذا فإن الاصلاح كان يستلزم أولا وقبل كل شي ء ازاحة ثقل الانحطاط الثقافي والاستبدادية الشرقية (التركية - العثمانية) الجاثمة على عقل وضمير العالم الاسلامي من خلال الرجوع الى ما دعاه الافغاني باسلام الحق والحقيقة.
وعند هذا الحد يكون الافغاني قد مثل الحركة الواقعية في انتقال عناصر "الشرقية الاسلامية " الى صياغة المباديء الجديدة لاسلام الشرق أو اسلام الدعوة الجديدة أو الاسلام السياسي.
وليس من قبيل الصدفة أن يوجه المفكرون الكبار للحركة الاسلامية السياسية جل اهتمامهم من أجل اقامة البديل السياسي كمقدمة ضرورية للتطور الثقافي. فقد كان نشاط الافغاني الناضج هو نشاط الاسلام السياسي. وكتابات الكواكبي هي مناهضة للاستبداد وبديله الاسلامي. بصيغة أخرى، اننا نقف أمام العناصر الجديدة التي شكلت أساس ومنطلق البناء اللاحق لاسلام الشرق في تجلياته العديدة. أي ظهور الاسلام وبروزه كقوة سياسية - ثقافية مستقلة تأخذ على عاتقها مهمة بناء الكيان الشرقي على أسس اسلامية. ولعل الحركات الاسلامية الكبرى وبالأخص حركة الأخوان المسلمين هي أحد التيارات الفعالة الأولى في هذا الاتجاه.
فإذا كانت كتابات حسن البنا الأولى تتضمن بصورة مغوشة وعامة وحدة الشرقي -الاسلامي في تكرارها الدائم لعبارة "نحن الشرقيين " و"ا لشعوب الشرقية » والتي تطابق في مضمونها «نحن المسلمين " و«الشعوب المسلمة » فإنه يؤكد لاحقا على أن الانتماء الاسلامي الحق لا يمكن حصره في اطار الوطنية والقومية. فالشعوب الشرقية، حسب نظر حسن البنا، هي شعوب مسلمة وان ما في الاسلام أرقي وأزكى لها. وقد كانت هذه الأراء في اتجاهيتها العامة تنصب في اتجاه المعارضة لقوة الغرب المفروضة على عالم الاسلام أو كما دعاها حسن البنا في عبارة إساءة الغرب للشعوب المسلمة والنيل من عزتها وكرامتها وتراثها. ولهذا صاغ مهمة التخلص مما اسماه بـ "النير الغربي» الذي فرض عليها فرضا، غير أن هذه المهمة لم تكن رد فعل مباشر لعوامل القوة، رغم انها تتضمنها بصورة مبطنة. فقد جرت محاولة وضع البديل لعلاقة الشرق (المسلم) بالغرب (النصراني) من خلال صياغة صورة مقارنة لهما في ميادين متنافرة ظاهريا، ولكنها مترابطة في هاجسها "القومي". فعندما يقارن ما يدعوه بالأوروبي والمسلم، فإنه يشير الى أن الأوروبي يسعى للحرية الوطنية وحدودها الجغرافية، أما المسلم فإن في عنقه أمانة هي هداية البشر بنور الاسلام. وان الأوروبي يسعى للسيطرة المادية، بينما المسلم يسعى لرفع نور الاسلام لا ابتغاء جاه ولا سلطان. والأوروبي يدعو للعسل من أجل استعباد الغير، بينما يدعو المسلم ويعمل للخضوع لله. وان الأوروبي يدعو للعزة القومية وفضيلتها بينما يدعو المسلم لوطن اسلامي على بقاع الأرض. فالقومية بالنسبة للأوروبي مثل أعلى بينما هي للمسلم وهم.ان هذه المقارنة تعكس دون شك، فعالية العنصر السياسي وقوته القائم فيها. بمعنى أنها ليست نتاجا لهوس المقارنة، وهي شأن ما في آراء الافغاني، تعكس شموخا معنويا في تجاوز الضعف والوهن الاسلامي الواقعي. ولكنها اذا كانت في آراء الافغاني تعكس توجها عمليا أقرب الى العقلانية القومية في انتمائيتها الأصيلة كمشروع مثالي لحد - ما، فإن حدودها الاسلامية الصارمة في آراء البنا تعكس  رؤية مغايرة هي أقرب الى السلفية اللاعقلانية، رغم حوافزها الصارمة في استعادة عزة وهيبة الشعوب المسلمة. وهي نظرة لا تخلو في نفسيتها من أممية الاسلام، الا أنها تعبر في واقعيتها التاريخية عن عدم اكتمال الوعي الاجتما _ سياسي بأهمية القومية المعاصرة. أي أنه جرى تقليب الديني على السياسي في النظر الى ظاهرة اختلاف الناس في الأقوام والأمم في فهمها الا سلام في يوم ما، أو كما هي مسطرة في القرآن نفسه. بمعنى أنه جرى النظر الى الفرقة القومية بمنظار الوحدانية اللاهوتية. وهي أمور من الصعب التوفيق بينها في مضمار السياسة والتاريخ، لأنها من عوالم مختلفة. وليس الا السلفية اللاعقلانية هي التي ما مكانها ابتداع مثل الوحدة الممكنة في مخيلتها على أنها البديل الأفضل لما هو موجود. وبهذا كانت دعوة البنا هي محاولة لخلق القوة الجديدة لعالم الاسلام في مواجهة "الغرب الملحد». وهي الحوافز التي نعثر عليها فيما وراء هذه المقارنة المباشرة. فقد طالب البنا باستكمال هذه المقارنة من خلال رفع خلاف الشرق والغرب الى ذررته القصوى. وذلك بتطبيق ما يمكن دعوته بالبديل النوعي لهذه العلاقة. أي السعي لبلوغ سيطرة الاسلام والمسلمين لا الغرب. وذلك تجسيدا لما دعاه البنا بمدنية الاسلام لا مدنية المادة. وهي المدنية التي يتحول بها المسلمون الى أوصياء على البشرية بالقرآن، لأنه كتاب الخضوع لله لا للقوة الغاشمة. ولم يجد البنا في ذلك سوى التجلي الضروري للدورة التي يفصح التاريخ عنها باعتبارها شرطا لازما لوجوده واستمراره الحق. وقد كتب بهذا الصدد قائلا: "كانت قيادة الدنيا في وقت ما شرقية ثم صارت بعد ظهور اليونان والرومان غربية. ثم نقلتها النبوات الموسوية والعيسوية والمحمدية الى الشرق مرة ثانية. ثم غفا الشرق. ثم نهض الغرب نهضته الحديثة. وها هو الغرب يظلم ويجور ويطغى ويتخبط. فلم يبق الا أن تمتد به يد شرقية قوية يظلها لواء الحق وتخفق على رأسها راية القرآن ".
واذا كانت هذه النظرات تعكس في ملامحها وسيكولوجيتها حوافز المواجهة أو التحدي، فإنها تعبر في موضوعيتها السياسية والثقافية عن نزوع الاسلام للتعبير عن مصالح الشرق. أي تحوله واتخاذه صيغة "اسلام الشرق ". فقد أخذ هذا الاسلام يتحول الى المقدمة الايديولوجية والملاذ الضروري لأحد بدائل الانبعاث الحضاري لعالم الاسلام. أي أنه تحول الى "مشكاة " المواجهة الثقافية للغرب من خلال اسهامه في استثارة وبلورة معالم واتجاهية الحركات الاجتما _ سياسية الاسلامية في صياغاتها المتعددة لبعث "اسلام الحق ". مما أعطى للا سلام أهمية استثنائية في الوعي السياسي لحركاته المعاصرة ككل. لقد أدى كل ذلك الى بلورة المقدمات الخفية لما يمكن دعوته بالمركزية الاسلامية في الوعي الاجتما _سياسي والثقافي العربي.
يراد بالاسلام معنى السلام وهو اسم من اسماء اللة الحسنى لسلامته تعالى من النقص والعيب  و يراد به ايضا الامن والطمأنينة والصلح  اي انه دين للمحبة والتسامح ويهدف الى اسعاد الانسان  , أما الحرب والخوف فهما نقيضان للسلام  وكلاهما  لا يجتمعان , والدين هو غذاء للروح وليس سورا يعزل الانسان بعيدا عن رياح التغيير والحضارة والعلوم , وقد كان للدين الاسلامي دور كبير في اذكاء روح المقاومة ضد المحتل في العديد من البلدان لنيل الحرية والاستقلال  وكان دافعا  للاستبسال في المقاومة للحصول على الحق من الباطل ومن ذلك مثلا دوره في قيام ثورة الجزائر ومقاومة الاحتلال الفرنسي الذي دام 132 عاما , وتاثير فتوى رجال الدين الشيعة لتفجير ثورة 1920 في العراق ضد المحتلين الانجليز و كذلك مقاومة الاحزاب الاسلامية مثل حزب الدعوة والمجلس الاسلامي والشخصيات الاسلامية من المراجع العلمية الاخرى وغيرهم  ضد  الظلم والطغيان في نظام صدام منذ عام 1971 وحتى الان .
ان  الكثير من المثقفين المسلمين وغير المسلمين يتحرج من الخوض في مناقشة القضايا الدينية لحساسيتها ومساسها بمشاعر ومعتقدات الناس وللخوف من ردود الفعل غير المحدودة ضد من يناقش او يحاور مواضيع تخص الاسلام عموما و تفسير النصوص في القرأن الكريم والاحاديث النبوية و بيان ادلة الاحكام الشرعية الاخرى بشكل خاص  فالى  وقت ليس ببعيد ظلت هكذا امور من المحرمات او ما يسمى ضمن منطقة  (( التابو Tabu  )).وهذا ما دفع عدد من انظمة الحكم العربية والاسلامية الى اتهام من يحاول نظم القصائد الشعرية او مناقشة الافكار الدينية بتهمة ازدراء الاديان او التكفير ومنع نشر هذه الافكار او القصائد او الاراء وهو ما حصل ويحصل مع الكثير من الكتاب والشعراء والباحثين والمثقفين والاكاديمين الذين تركوا اوطانهم او تعرضوا للاضطهاد فيها .
وعلى اية حال فنحن هنا اليوم لسنا بصدد نقد الاسلام او اية ديانة اخرى  اذ اننا نحترم كل الديانات والمذاهب والمعتقدات  ونعترف  بخيارات الناس مادامت هذه الخيارات موافقة للقانون , ونقدر ان قضية الاعتقاد بدين او مذهب  معين هي من قيم البشر التي لا يجوز التعرض لها او المس بها  الا اننا نشير هنا الى بعض التنظيمات السياسية المتشبعة بالعنف والنهج الارهابي و التي ترتدي ثوب الاسلام وصولا الى الاغراض السياسية ومنها حركة طالبان وتنظيم القاعدة و جماعة جند الاسلام التي انضم اتباعها الى جماعة  انصار الاسلام في كردستان العراق  ومن هم على شاكلتهم ممن يفسرون الاسلام حسب مقاساتهم المتخلفة ووفقا لنمط تفكيرهم المتحجر الذي ينم عن جهل بقيم التسامح والمحبة في الرسالات الدينية  , وشتان بين منهج سياسي يتحصن بدرع الدين ويسعى باسمه للوثوب الى السلطة وتحقيق الولاية الشاملة والاغراض السياسية وبين قيم رسالية ايمانية غايتها نشر المحبة والسلم بين نفوس الناس .
 
واذا عدنا قليلا الى الوراء نجد ان (  المعتزلة ) لعبوا دورا فلسفيا كبيرا في نقد الفكر الديني عموما من الناحية الفلسفية وكذلك مافعلة جماعة ( اخوان الصفا) وذلك لفك الطوق عن الجمود الفكري ومقاومة التعصب والتطرف الديني في الفترة الماضية  وكذلك نهض بهذا الدور عدد من المفكرين والمثقفين  في العصر الحديث ومن ذلك مثلا الاديب طة حسين في كتابة ( الشعر الجاهلي ) والشيخ على عبد الرازق والذي شغل منصب شيخ الازهر سابقا في مؤلفاته القيمة العديده (وتعرض على إثر ذلك إلى سحب شهادته العلمية وفصله من الوظيفة وتعرض لمحكمة تفتيش، وكانت كتبة جزءاً من معركة سياسية) وخالد محمد خالد و غيرهم كثيرون , مثل فرج فودة ونصر حامد ابو زيد ومهدي عامل ونجيب محفوظ وحسين مروة ونوال السعداوي..الذين يحترمهم التاريخ على العكس من الاشخاص الذين ظلوا خارج حركة  قوانين المجتمع  وفي حدود الاسوار متحجرين يتهمون كل من يسعى للتنوير بنعوت تدل على جهلهم في الاسلام وثقافتهم الضيقة في قيمة ودور الرسالة السماوية في المجتمع  .
 
و على الرغم من التطورات الكبيرة في مختلف العلوم والمعارف التي وجدت من اجل الانسان , الا  انه مع ذلك برزت ظواهر تؤدي الى عكس الاتجاه ومنها  ظاهرة الاسلام السياسي في العصر الحديث حيث يتخذ من الاسلام  درعا لطرح فكرا متعصبا لا يعرف التسامح ولا العقل المنفتح ولا الاعتراف بالاخر وصار اتباعه يلجأون الى طرق  الذبح واستخدام السكين والبندقية والفؤس  والتمثيل بالجثث والاسلحة الفتاكة كأسلوب  للحوار مع الاخر بدلا من زرع بذور الخير والمحبة والكلمة التي توحد الناس من خلال  الحوار الحضاري – الجدلي الفكري الذي يقوم على الحجة بالحجة والدليل بالدليل  .
 
فالوهابية مثلا تؤمن بأن :(( الفكر والكفر واحد .... وهما من ذات الحروف ..فلاتفكروا لكي لا تكفروا )) بهذا القول يدعوا محمد بن عبد الوهاب مرشد ومؤسس الفكر الوهابي الناس  والذي اعتمدته تنظيمات القاعدة وحركة طالبان وجند الاسلام و انصار الاسلام منهجا لها, وهو دليل على التحجر الفكري والتعصب الخطير , فالجهل – كما تعلمون – حبل يلتف على عنق صاحبه والجاهل عدو نفسه , والحركات السياسية  التي تسترشد بهذه الاراء و بمثل هذا النمط من التفكير لا تقبل اي نقد او اصلاح فكري لانها تعتقد انها تملك الحقيقة المطلقة . ..وما عداها كافر !
 
لذلك لابد من القاء المزيد من الاضواء على هذه الظاهرة الخطيرة لانها من المواضيع المهمة والحيوية التي لم يجرؤ الا القليل  في الحديث عنها لما يتميز  به هذا الحوار من خصوصية وحساسية وربما سوء فهم من الاخر ليصل الى حد  القمع وهدر الدم  و التكفير , فقد برزت قضية تسيس الاسلام في العصر الحديث من بعض الاحزاب والحركات السياسية واتخذت من الاسلام منهاجا ودليل عمل لها للوصول الى الحكم لتكون لها ولاية دينية وولاية سياسية  باشاعة الرعب  و الخوف بوسائل شتى  وهو جوهر العمل الارهابي الذي يعد فعلا جرميا عمديا  .
 
ولقد اصبحت مشكلات التطرف والارهاب من القضايا المهمة والخطيرة على مختلف المجالات , تزعزع الامن الوطني وتهدد الامن والسلم الدوليين , لاسيما في منطقة الشرق الاوسط , حيث ما تزال تبذل العديد من الجهود اقليميا ودوليا لمكافحة ظاهرة الاضطراب السياسي واعمال العنف والتعصب , لذلك لابد من تحديد بعض المصطلحات وتمييزها عن بعضها البعض قبل ان ندخل في بيان البعض من مشكلات ومخاطر الارهاب, اذ من المعلوم ان هناك فرقا بين الانغلاق الاعمى لرأي او فكرة معينة اي الجمود الفكري وعدم الاعتراف بالرأي الاخر وبين التطرف اي المغالاة  في الاراء او المواقف ثم الارهاب الذي قد يمارس من فرد او جماعة او من الدولة والذي يسمى بـ ارهاب الدولة , وهو ما سنبينه على النحو التالي مشيرين الى بعض النتائج العامة في مكافحة التعصب والتطرف والارهاب :
 
مفهوم التعصب ؟
التعصب في اللغة عدم قبول الحق عند ظهور الدليل بناء على ميل الى جهة او طرف او جماعة او مذهب او فكر سياسي او طائفة. والتعصب من العصبية وهي ارتباط الشخص بفكر او جماعة والجد في نصرتها والانغلاق على مبادئها. ويطلق على الشخص بـ المتعصب Fanatical. وهذا التعصب قد يكون تعصبا دينيا او مذهبيا او سياسيا او طائفيا او عنصريا وهو سلوك خطير قد ينحدر نحو الاسوء ثم يؤدي الى التطرف والهلاك والخراب بسبب التشدد وعدم الانفتاح وعدم التسامح ايا كان نوع التعصب ومهما كان شكله او مصدره. ولعل اخطر اشكال التعصب هو التعصب القومي والتعصب الديني حيث تمارسهما بعض الجماعات او الانظمة الدكتاتورية او تحرض عليهما او تشجعهما خلافا للقوانين وللالتزامات الدولية وللديانات السماوية والقيم الانسانية النبيلة القائمة على المحبة والتسامح والاعتراف بحقوق الانسان واحترام التعددية القومية والتعددية السياسية والتعددية المذهبية والتعددية الدينية. ولا يمكن ان نتصور وجود مجتمع انساني مستقر وامن ويعيش الناس في ظله بأمان وبسلام مع وجود التعصب الذي يرفض الحق الثابت والموجود ويصادر الفكر الاخر او القومية الاخرى او يحظر حرية العبادة او لا يعترف بوجود الطرف الاخر.
مفهوم التطرف ؟
التطرف هو الشدة او الافراط في شيء او في موقف معين وهو اقصى الاتجاه او النهاية والطرف او هو الحد الاقصى , وحين يقال اجراء متطرف يعني ذلك الاجراء الذي يكون الى ابعد حد , وهو الغلو وحين يبالغ شخص ما في فكرة او في موقف معين دون تسامح او مرونة يقال عنه شخص متطرف في موقفه او معتقده او مذهبه السياسي او الديني او القومي , والمتطرف في اللغة من تجاوز حد الاعتدال.
 والتطرف معروف في العديد من دول العالم في القضايا الدينية والسياسية والمذهبية والفكرية والقومية وغيرها. وهذا التطرف ناتج عن الانفعال وهو اجراء يائس من شخص او جماعة ضد طرف اخر. فاذا اقترن التطرف بالعنف والاعمال الفعلية  الاجرامية التي تفزع الناس وتهدد الامن والاشخاص المدنيين وتقلق امن المجتمع اصبحت من الاعمال الارهابية لان التطرف اصبح يثير الفزع والخوف والرعب وهو اقصى درجات اليأس والقسوة المدمرة. لذلك فان التطرف هو المغالاة السياسية او الدينية او المذهبية او الفكرية وهو اسلوب خطير ومدمر للفرد وللجماعة ولكيان المجتمع والدولة لابد من مقاومته بطرق واشكال متعددة ايا كان الطرف القائم به بتفعيل دور القانون.
مفهوم الارهاب ؟
الارهاب من الرهبة اي الخوف او هو التخويف واشاعة عدم الاطمئنان وبث الرعب والفزع  Terrorوغايته ايجاد عدم الاستقرار بين الناس في المجتمع لتحقيق اهداف معينة , فالارهاب هو العنف المخيف ويقال في اللغة الراهبة اي الحالة التي تفزع , كما ان العنف الذي يمارس ضد الانسان وحقوقه الاساسية هو الارهاب ايا كان مصدره او القائم به. ويقال عن الرهيب والمرهوب هو ما يخاف منه من عمل او فعل يثير الخوف اي الرعب Fright
اما عن تعريف الارهاب   The definition of terrorism فيمكن وصفه على انه العنف السياسي اي الرعب والخوف الذي تقوم به جماعة او افراد او شخص او دولة او منظمة لتحقيق اغراض او اهداف معينة من وراء ذلك. وهو ظاهرة من ظواهر الاضطراب السياسي في العصر الحديث.
 
القانون الوضعي والقانون الالهي ؟ وهل هناك تعارض بينها ؟
ان ادلة الاحكام الشرعية في المذاهب الفقيه الاسلامية وهي :
1-                 القرأن وهناك مدارس متعدده في التفسير منها مدرسة حرفية النص ومدرسة التفسير المتطور للنصوص , والقرأن من مصادر القاعدة القانونية في كثير من البلدان الاسلامية سواء بصورة مباشرة ام غير مباشرة .
2-                 السنة النبوية ولكن اية سنة نعتمد عليها ؟ فهناك كثير من الاحاديث مشكوك فيها او ضعيفة وهناك تفسير حرفي لها ..وهذه السنة ( قولية او فعلية او تقريرية ) وهي من مصادر القاعدة القانونية للعديد من القوانين في كثير من البلدان الاسلامية .
3-                 الاجماع اي اجماع الصحابة فيما لا نص فية على امر معين
4-                 الاستحسان او القياس او المصالح المرسلة عند السنة ( أودليل العقل عند الشيعة ) كدليل رابع من ادلة الاحكام الشرعية التي تبث روح التطور لمواكبة المستجدات وايجاد الحلول للمشكلات الانسانية مثل ايجاد حكم شرعي للاستنساخ البشري وغرس الاعضاء البشرية ومواكبة تطورات الحياة الاخرى  .
ونعتقد هنا ان باب الاجتهاد  والتفكير مازال مفتوحا وان دليل العقل لغرض استنباط الاحكام الشرعية يمكن اعمالة لمجاراة تطورات الحياة وتوظيف الدين لخدمة الانسان .وان تفاهم الاديان من خلال الحوار الحضاري يعد اساسا لنشر السلام بين الناس كما ان اهل الكتاب من اليهود والنصارى وغيرهم من اصحاب المذاهب والديانات  ليسوا كفارا كما يزعم الارهابيون ألم يهاجر المسلمون الى الحبشة وهو بلد مسيحي لان الرسول محمد قال ان فيها ملكا لا يظلم فيها احد

الارهاب وتسيس الاسلام في كوردستان العراق:
ارتبط ظهور الإسلام السياسي في كوردستان ، بانتصار الثورة الإيرانية في إيران عام 1979  واندلاع الحرب العراقية – الإيرانية عام 1980 –1988 ، حيث تم تشكيل الحركة الإسلامية في كردستان العراق بعد سنوات من الحرب. وكانت ارتباطات الحركة ومنذ بداية نشوئها بإيران واضحة، إلا أن هذا لا يعني أن أسباب نشوء الظاهرة تعود إلى العامل الخارجي فقط، بل إن هناك عوامل داخلية في كوردستان  هيأت الأرضية المناسبة لنشوء ظاهرة الاسلام السياسي في المنطقة  وتحويلها إلى حركة سياسية منظمة في الوقت الحاضر.
و في الحقيقة لم تشهد منطقة كوردستان ولا العراق كله اي عمليات ارهابية ترتكب باسم الاسلام على النحو الذي نراه اونقرأ ونسمع عنة الان ومنذ فترة في كوردستان العراق , وما يطرح من خطاب سياسي – باسم الاسلام تفوح منه رائحة الوهابية والتطرف المقترن بالعمل الارهابي والجرائم الخطيرة في المجتمع  واخص القول جماعة ما يسمى بجند الاسلام التي تحول اتباعها ال جماعة انصار الاسلام وهم في حقيقة الامر جند للشيطان هدفهم زعزعة الاستقرار والامن والسلام في ربوع المنطقة وارتكاب سلسلة من الجرائم بطرق وحشية  بعد طول سنوات الحروب والمعارك الضروس التي شهدتها المنطقة .
وهذه الاعمال الاجرامية التي ترتكبها الجماعات باسم الاسلام من قتل وتدمير واغتيالات ومحاولة زعزعة الاستقرار في المجتمع  يقف من ورائها الاطراف التي لاتريد لربوع كردستان السلام والامن والحرية . ولعل من اخطر الاعمال الاجرامية التي قامت بها هذه الجماعات الشيطانية العديد من عمليات التفجير في مناطق متعددة وكذلك اعتيال شخصيات كوردية و محاولة اغتيال الاستاذ الدكتور برهم صالح مما دفع بقيادة الحزبين البارتي والاتحاد الى تشكيل غرفة عمليات مشتركة لمكافحة هذا السرطان الجديد تنفيذا للواجبات والمسؤوليات المناطة بهذه القيادة تجاة شعبها .
ان هذه الجماعات تقوم بفرض الحجاب على النساء والاطفال بالقوة وبالمغريات ومن خلال عاملي الترغيب والترهيب وكذلك من خلال بث الرعب في نفوس المواطنين الابرياء بالقيام في التمثيل بالجثث بعد قتلها زرعا للرعب في النفوس وهو امر محرم شرعا حيث قال الرسول محمد   ( لا تمثلوا حتى بالكلب ) فكيف يتم التمثيل بالقتيل ؟ ولماذا يقتل ؟ ولاي يهدف ؟ وهل يجوز نشر الفكر السياسي- الارهابي  بالقوة وباسم الدين  ؟
ان هذه  الاعمال تدخل في نطاق مفهوم الجرائم الدولية وان القائم بهذه الاعمال ينطبق علية وصف المجرم الدولي بسبب اقترافة للجرائم الارهابية ومن احكام هذه الجريمة هي مايلي:
1.                             الجريمة عادية وعمدية
2.     المجرم يحاسب عن جريمته مهما طال الزمن لانها لا تسقط بمرور الزمان او بالتقادم
3.     لا يمنح المجرم حق الحماية واللجوء اذا فر الى اي بلد اخر
4.     لا يعفى الفاعل من العقاب حتى ولو تذرع انه ينفذ الاوامر العليا من الامير للجماعة او من مسؤول اعلى منه ايا كانت المسؤولية او المنصب.
 
ان بروز هذه الظاهرة الاجرامية الخطيرة تحت يافطة الاسلام ,والاسلام منها براء , هي جديدة على كوردستان التي لا يعرف اهلها الا التسامح والمحبة والسلام  والعيش الامن غير ان من يغذيها هو نظام صدام اولا وبعض الاطراف الاقليمية التي لا تريد استقرار المنطقة وبخاصة  بعد زوال حكم الطاغية عن المناطق المحررة منذ عام 1991 وان هذه الظاهرة السياسية الملفتة للانتباه والتي تسئ للاسلام برزت بصورة واضحة بعد هروب تنظيمات القاعدة للمجرم بن لادن وشياطين طالبان من اعشاشهم الى جحور اخرى يزرعون المخدرات ويقتاتون على السحت الحرام .اما عن برنامجهم  فهو يقوم على : (القرآن، البندقية، الخنجر، راية لا إله إلا الله، محمد رسول الله)  وهي تمثل ادعائهم في (فرض حكم الله على الأرض) غاياته سياسة واسلوبة ديني . وهذه الجماعات تكفر دعاة الديمقراطية لانها تتعرض – في نظرهم – مع الايمان بالله وشريعته  وتلغي اي دور للمرأة في شؤون الحياة .
 
ولهذا على كل عراقي منصف ومحب لوطنة ان يقاوم هذه الجماعات بكل الوسائل والطرق ونبارك خطوات القيادة الكوردية في وضع غرفة عمليات لمكافحة اعشاش هذه البؤر الاجرامية من اجل تامين الاستقرار لمنطقة شهدت الحروب والقتال لسنوات طوال ومن حق الشغب الكوردي وجميع العراقيين العيش بطمأنينة  بعيدا عن الدكتاتورية الجديدة التي تمارس باسم الدين الاسلامي .
كما ان  هذه الجماعات هم من العرب المرتزقة الفارين ومن الكورد العاطلين ومن الافغان والايرانين ومن جنسيات مختلفة تريد ان تحقق اهدافها الاجرامية وتؤسس حكما باسم الاسلام على غرار امارة طالبان وشياطينها .فحركة جند الاسلام و جماعة انصار الاسلام وتنظيم القاعدة وطالبان ومن هم على شاكلتها  تهدر دم ( الشيعة ) لانهم يؤمنون بدور العقل كدليل رابع يستنبط منه الحكم الشرعي عند عدم وجود نص في القرأن او السنة النبوية او في الاجماع  لأن العقل يعني اعمال الفكر وفهم متعيرات الحياة وتطوراتها ويهدرون  دم  ( العلمانيون ) وجميع من يخالفهم او من يفكر بعقله بحرية وصولا للحقيقة لان الفكر والكفر واحد عندهم كما انهم ينادون صراحة  بقتال اليهود والنصاري من خلال الجهاد مما يجعل وجودهم خطورة كبيرة على مستقبل كوردستان والعراق والمنطقة .
بعض نماذج اسلوب التفكير والتكفير لهذه الجماعات الاهابية:
1.                  الذبح والتمثيل بالجثث
2.     غير المسلم كافر
3.     غير الوهابي كافر
4.     المرأة لا يحق لها ان تتعلم وفرض اقامتها في البيت فقط مع الحجاب
5.     غرس الفكر الدنين المتطرف والايمان بالعنف المفرط
6.     زرع المخدرات وتسويقها للحصول على المال وممارسة الاعمال الاجرامية
7.     تطبيق النصوص الحرفية للقرأن بمايخدم فكرهم السياسي .
8.     عدم التعامل مع غير المسلم او حتى اكل الطعام الذي يبيعه لانه اعد من نصراني او من كافر كما يسمونه .
9.     حرمان المرأة من التعليم والعمل وتحريم توليها القضاء وكل اشكال الوظائف
10. تنفيذ العقوبات التي وردت في القرأن بحذافيرها مثل قطع اليد عند السرقة ورمي الانسان المحصن بالحجارة حتى الموت عند ارتكاب الزنا وتنفيذ عقوبة الجلد على غير المحصن عند ارتكابة للزنا كما يفهمون .
11. ترويج سياسة العنف ومن خلال التحريض الدائم على القتال وما يطلقون علية من عبارة (( الجهاد لقتال الكفار )) بحجة ان الجهاد واجب على كل مسلم ومسلمة ضد الكفر علما ان مفهوم الكفر هو ما يحددة تفكيرهم وثقافتهم الشيطانية وسلفيتهم.
12- تكفير الشيعة على اساس انهم رافضة وتحليل قتلهم وسلب اموالهم .
13 - انهم يقررون مقدار التعويض عن الضرر الذي يصيب  المرأة ما يسمى بالدية ومقدارها نصف دية الرجل اي تعويضها او ورثتها نصف مقدار تعويض الرجل ومنع سفرها بمفردها مطلقا الا مع محرم لانها حرمة والحرمة من الحريم او الحرام والحرام يعني نقيض الحلال .
14- اعتبار ان النساء للمتعة فقط ولهذا يوجبون تعدد الزوجات ويكثرون من الخليلات والمحضيات مع توفير اساس شرعي لامير الجماعة في ان يحضى بما يريد من النساء للاستمتاع  .
15- هدر دم المخالف لهذه السياسة او النهج السلفي وبخاصة من يعارضها من العلمانين
ومن الطبيعي ان ليست كل الاحزاب والحركات الاسلامية هي على ذات الشاكلة وانما هذه فئة محصورة وضيقة ومعروفة الاهداف  وهي مجموعات  ظالة باغية , ونؤكد هنا احترامنا للحركة الاسلامية في نضالها ضد الدكتاتورية ومنها المجلس الاسلامي الاعلى و حزب الدعوة و منظمة العمل الاسلامي وللرموز الاسلامية المجاهدة مثل الصدر الاول والثاني والبدري وغيرهم من الشهداء  .
 
نماذج من الاعمال الارهابية لبعض الجماعات الاسلامية :
1.                             جرائم تفجيرات السفارة الامريكية في نيروبي عام 1998
2.      جريمة تفجير مركز التجارة العالمي ووزارة الدفاع الامريكية في 11 ايلول 2001
3.     جرائم تفجيرات في مترو ميلانو وفي صقلية عام 2002
ان جرائم القتل الوحشية والذبح  من جند الاسلام وجماعة  انصار الاسلام في كوردستان جريمة خطيرة واساءه للاسلام من الفكر الوهابي ومن مؤيدية.ولهذا فان الفتاوى من امراء الجماعات الاصولية المتطرفة في جواز القتل والتمثيل بالجثث هي باطلة وحرام شرعا وباطلة قانونا .
 وهذه الجماعات تخالف حتى وصايا الرسول محمد فلقد كان النبي (ص) يوصي جنوده، بالطفل وبالمرأة ، وبالشيوخ من كبار السن وبالحلقات الضعيفة الاخرى في المجتمع  ، وبالمريض وبأصحاب الصوامع من أهل الاديان الاخرى، واوصى بان لا يقطعوا زرعاً ، ولا يحرقوا متاعاً  ولا يقتلوا طفلا ولا شيخا او امرأه ،قائلا لهم بأنكم إمة الرحمة في الارض ، وأمة العدل الآلهي فحرم قتل الاسير و التمثيل بالجثث .وهو اكبر دليل على رفض واضح لثقافة العنف والالتزام بقواعد الامن ونشر السلام .
ان قواعد القانون الدولي تدين اي عمل يستهدف المدنيين وتعتبره من الاعمال الارهابية ايا كانت العقيدة التي يتبناها الفاعل ويعد الشخص القائم بالعمل الارهابي مجرما دوليا لا تسقط جريمته بالتقادم . ولغرض فصل الدين عن السياسة و تجنب تسخير الاسلام كدين وجد من اجل الانسان وسعادته وتامين الحياة المطمئنة له , شأنة شأن الاديان الاخرى , نرى ان من الاهمية بمكان ان يصار الى تكثيف الحوار بين الاديان الذي لابد ان يقود الى التسامح وزرع قيم المحبة والفضيلة والخير بين الناس في المجتمع والى نبذ العنف  فالاديان جاءت لمصلحة الانسان ومن اجلة لنشر السلام بين الناس وندعم جهود تقديم المجرمين الى العدالة فالتعددية  الدينية ضرورة و حق الاختلاف ناتج عن مبدأ يقره الاسلام وهي حرية الانسان في اختياره ومسؤوليتة عن ذلك ولا اكراه في الدين .
نهاية عام 7991، وبعد اشهر علي الفوز الساحق للسيد محمد خاتمي في رئاسة الجمهورية الاسلامية، طرحت مراسلة سي. أن. أن السؤال التالي: ولكن اية هي ايران الحقيقيّة؟ .
مثل هذا السؤال لا يحض علي طلب المعرفة بقدر ما يتوقع نزاعاً لا مفرّ منه ما بين رئيس جمهورية إصلاحي، يؤمن بالتعددية والحوار الحضاري والمصلحة القومية ويحاول، من ثم، ان يصوغ سياسة بلاده في سبيل تحقيق هذه الغايات، ومن خلال التوكيد علي اولوية سلطة المجالس ، اي البرلمان الايراني، وما بين قائد روحيّ، هو آية الله خامنئي، يُدين ادني محاولة للفصل ما بين السياسة والدين ويصرّ علي اولوية دور رجال الحوزة، وعلي ضرورة التصدي لـ الغزو الثقافي ، وإستكمال الجهاد ضد الإستكبار العالمي والصهيونية...الخ.
فأي الكلامين هو الصادر عن قلب السياسة الايرانية الفعلية؟ او للدقة، اي القائدين ستكون له الغلبة في تمثيل ايران في النهاية؟
ويبدو ان الباحث الاميركي دانييل برومبرغ قد إختار الاجابة عن هذا السؤال غرضاً لهذه الدراسة العميقة والحافلة بالمعرفة. غير انها إجابة مرهونة بالاجابة عن جملة من الاسئلة الاخري: مثلاً، من كان آية الله الخميني الحقيقي نفسه؟ وهل كانت الثورة الايرانية محض سعي غير عقلاني في سبيل الطوبي، ام كانت معنيّة بإنشاء مؤسسات غرضها تلبية المصالح السياسية والاقتصادية للشعب الايراني؟
ذلك ان المؤلف لا يري الي التضارب الفاضح ما بين موقفي الزعيمين، الرئيس والفقيه، كإعلان عن إنفجار توتر دام طويلاً، او لنزاع لا بد وان يُحسم لمصلحة طرف دون آخر، وإنما هو من مظاهر التنافر المؤسسيّ الذي ما برح يسم النظام الايراني ويتحكم بسياسته.
فمنذ اطاحة حكم الشاه، صير في ايران الي إرساء نظام سلطات متنافسة يقوم علي اساس من التنافس المؤسسي افضي الي عمليّة تشريع للسلطة وعقلنة للسياسة ذات دينامية بالغة التعقيد عسيرة. وعوضاً عن ان تدخل السياسة الثورية الايرانية في السياق الروتيني المتوقع دخوله بعدما تستنفد السياسة المعنية طاقتها الثورية او غير العقلانية، بحسب تأويل ماكس فيبر، جعلت تندرج في سياقات متباينة ومتضاربة في كثير من الاحيان.
يسلّم برومبرغ بان الثورة الايرانية جاءت نتيجة ازمة مجتمع عجز عن الاستجابة لايقاع المتسارع للحداثة، وان النظام الذي كان لا بد وان تسفر عنه هو نظام قيادة كاريزميّة كما هي الحال حينما تصل العقلانية الحداثية الي طريق مسدود. غير انه، وبخلاف تلامذة مدرسة علم الاجتماع السياسي، سواء كانوا من اتباع فيبر ودوركايم ومانهايم، ام كانوا من اتباع موسكا وغرامشي وتيارات الماركسية الجديدة ، لا يري بأن سيرة هذا النظام يمضي وفقاً لسياق خطّي، او تعاقبي، يتمثل في الانتقال السببي من طور واحد الي آخر- مثلاً الانتقال من حالة الثورة الي حالة الدولة، او من حالة التجاوز العقلاني الطوباوية النازع، الي حالة العقلانية من خلال تشريع السلطة السياسية وبناء مؤسسات تستجيب الي متطلبات الواقع السياسية والاجتماعية..الخ.
فظاهرة القيادة الكاريزمية، والسياسة التي انتهجها عهد آية الله الخميني، لم تكن ظاهرة كاريزما تقليدية او حداثية، وإنما تقليديّة وحداثية معاً، متجاوزة للعقلانية وعقلانية في الوقت نفسه، صوفية الطبيعة ولكن ذات توجّه الي الفعل والتأثير في الواقع، طوباوية الغاية ولكن ايضاً مقبلة علي بناء مؤسسات حديثة والاستجابة لمنطق عقلانيتها- بإختصار فإن كاريزما السياسة الايرانية لهي ظاهرة ما بعد حداثية .
ولئن رجّح برومبرغ صفة ما بعد الحداثة علي صفة الحداثة، فهذا لأن مناهج علم الاجتماع السياسي التقليدية، الوضعيّة منها والماركسية، تخفق في تقديم تحليل يحيط بحقيقة تناقضات السياسة الايرانية وتعجز بالتالي عن سوق تاريخ خطّي مقنع. فالسياسة الايرانية، ومن حيث جمعها التقليدي الي الحديث، انما هي سياسة تنتمي الي مزاج ما بعد الحداثة . او بكلمات اخري، هي من علامات، ونتائج، مزاج ممعن في عولمة إقتصادية وثقافية، وب



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن