في ذكرى إستشهاد سكرتير محلية الناصرية مزهر هول راشد

أمير أمين
amirhabeb@hotmail.com

2011 / 7 / 29


ليس سهلاً أبداً أن أكتب عن شخص بمعزة الشهيد العزيز أبو كريّم , لذلك كانت ولا زالت تنتابني مشاعر الحزن والقلق من أن لا أعطي للشهيد حقه الذي يستحقه ببضعة سطور والتي أغفل عن ذكرها وإستذكارها العشرات من رفاقه ومعارفهi ولمختلف الأسباب التي أجهل أكثرها وأتمنى مقدماً أن يكتب لاحقاً عنه عدد آخر من رفاق مدينتنا المعروفين بالشهامة والوفاء لكي نرد جميعاً جزءً بسيطاً من كرم الشهيد علينا وجوده بأغلى ما يملك وهو نفسه في سبيل أن يبقى حزبنا ويواصل مسيرته الشاقة والتي تستمر للآن وستتواصل في السنوات اللاحقة بهمة وعزيمة لاتلين وبدماء شابة جديدة ومن الجنسين في محافظتنا والمدن الأخرى ..
في مساء أحد الأيام وكنت حينها جالساً في إستعلامات المقر الجديد للحزب الشيوعي العراقي في الناصرية دخل شاب أسمر طويل وسيم الطلعة له شوارب سوداء أنيقة يرتدي الملابس الريفية من عقال ويشماغ الى العباءة , سلّم عليّ وعلى أحد الرفاق من الذين كانوا جالسين بالقرب مني ثم سأل عن تواجد شخص ما يبدو أن له إرتباطاً تنظيمياً به وحينما أجبته بنعم أنه موجود في الداخل , دخل حالاً الى المكان الذي أعتقد أنه يعرفه ! تفاجئت به وسألت الرفيق الذي كان بجانبي : من هذا !؟ رد عليّ : أنه مسؤول الفلاحين !!وضحكنا لأنه لم ينتظر في غرفة الإستعلامات حسب ما كان متعارف عليه وخمنت حينها أنه ربما يكون بمستوى محلية أو ما دونها بقليل ومرت الأيام وبعد أن تعرفنا عليه عن قرب وجاء الشهيد أبو كريم هذه المرة يرتدي بدلة بنية اللون وكان يسرح شعره الأسود الناعم الى الخلف وأصبح من أهل البيت الأكثر ألفة ومحبة , لكنه أختلف عن هيئة الفلاّح كلياً حتى أن الشهيدة موناليزا والتي كانت قد تعرفت عليه حزبياً وهو في الملابس الريفية لم تعرفه حينما إستبدلها بالقاط وهم ذاهبون بمهمة حزبية ضمت عدد من كوادر المحافظة برحلة في القطار الى البصرة وحينما سلّم عليها الشهيد أبو كريّم أجابته بسلام إعتيادي لشخص تتعرف عليه لأول مرة ! ولم يقل لها شيء وظن أن المسألة طبيعية لكنها عند الإجتماع عرفت أنه الشخص الذي تعرفه وقد أكد لها الرفاق ذلك أيضاً فعادت تعتذر منه لكنها قالت لي : لو بقي الرفيق أبو كريّم بالملابس الريفية لكان أفضل لعمله الحزبي السري , ولامت الحزب على كشف جميع الرفاق كما عرفت منها ذلك فيما بعد ...
كنت أعمل مع عدد من رفاقي في اللجنة الطلابية لمدينة الناصرية وكانت لدينا غرفة في المقر فكنّا نتردد عليه بشكل يومي ونقوم بواجب الحراسة الليلية وفي النهار نستلم واجب خفر الإستعلامات لذلك كنت أعرف الرفاق القادمين والذاهبين والعاملين في المقر الذي كان يقع على مقربة من مديرية أمن الناصرية !! وكان الشهيد أبو كريّم حينما يدخل لا نحس بحركته فقد كان هادئاً وخجولاً, يذهب الى عمله ويتناول كراساً أو أحد الكتب ويقوم بالإطلاع عليه وحينما أنشأنا صالة كبيرة فوق السطح من الفيبر , كان الشهيد يصعد اليها ومعه كتاب ويبدأ بقرائته بصمت ولعدة ساعات وهذه الصفة كان الشهيد ينفرد بها من بين كوادر اللجنة المحلية الذين كانوا يمضون جل وقتهم بإحتساء أكواب الشاي والمناقشة وبصوت مسموع في أكثر الأحيان , كانت للشهيد أبو كريّم ملامح شخصية الرفيق الخالد فهد حتى شكله يكاد أن يتشابه معه في بعض الملامح وحينما قرأت عن شخصية الشهيد فهد وطابقتها مع شخصية الشهيد أبو كريّم والتي عشتها عن قرب لعدة سنوات لاحظت أن هناك الكثير من أوجه الشبه حتى أنني أستطيع القول : لو أن الرفيق فهد كان قد تعرف على الشهيد أبو كريّم في أي وقت فأنه سوف لن يتردد لحظة في ضمه الى قوام اللجنة المركزية للحزب والتي كان الشهيد فهد يختار اليها بنفسه عدد من الرفاق الجيدين .... في خريف عام 1978 والحملة البعثية على حزبنا الشيوعي العراقي كانت في بداياتها الأولى , جرى خطف الكادر الشيوعي المتقدم الشهيد أبو كريّم من أحد شوارع مدينة الناصرية من قبل زمرة مجرمة من أزلام أمن المحافظة ..ذهبوا بالشهيد الى خارج الولاية وقاموا بعملية دفنه في الأرض الى رقبته وسحبوا عليه أقسام أسلحتهم من رشاشات الى مسدسات قائلين له أنت أبو كريّم من محلية ذي قار ! رد عليهم وبكل شجاعة وبهدوء : أنني لست الشخص الذي ذكرتموه !! ثم هددوه بإطلاق النار على رأسه إن هو أنكر , وطلبوا منه التعاون معهم , لكنه لم يتلفظ بكلمة واحدة حتى أنه أنكر إسمه !! وبعدها أخرجوه من الحفرة وقالوا له : نحن نعرفك ونعرف موقعك وإذا أمسكناك مرة ثانية فسوف تكون نهايتك على أيدينا ! وحينما عاد الشهيد الى حزبه وسرد لهم ما جرى له قال له أحد الرفاق : لماذا لم تقل لهم أنك أبو كريّم وهم يعرفون ذلك بالتأكيد !؟ أجاب الرفيق الشهيد : بأنني أدرك أنهم يعرفونني وإلاّ ما مسكوا بي وفي هذه الظروف الحساسة , لكني لو قلت لهم أنني أبو كريّم لكان هذا بداية إنهياري !! وسوف تتبعها بقية أسئلتهم التي يجب أن أجيب عليها تباعاً لذلك أنا قطعت عليهم تكملة ما أرادوا البدأ به متحملاً كافة النتائج !! أثارت هذه الكلمات الحماس والشعور بالمسؤولية لدى عدد كبير من الرفاق وساعدت الكثيرين على الصمود في الحملة وخاصة في السنة اللاحقة والتي كانت أشد بأساً وضراوة ولم تهز شعرة واحدة من شوارب الشهيد أبو كريّم وكان أدرى بنفسه وأكثر حرصاً على حزبه ومبادئه التي نذر نفسه لها بكل وعي وقناعة لذلك إنتدبه الحزب أوائل عام 1979 للعمل في بغداد ضمن لجنة التنظيم المركزي والتي نشطت في ربط مئات الرفاق الوافدين الى العاصمة من مختلف المحافظات بخيوط تنظيمية وساعدت على حفظ الكادر الحزبي من عمليات البطش التي كانت تقوم بها أجهزة السلطة حينذاك وساعد الرفيق أبو كريّم عدد من الرفاق وأنا من ضمنهم في التخلص من قبضة النظام وتوفير الهويات وجوازات السفر الى الخارج كما أنه ساعدني ومن مالية الحزب بمبلغ جيد قدره 60 دينار حينما ودعني في آخر يوم تواجدت فيه في بغداد وهو اليوم الأخير من شهر أيار عام 1979 بعد أن كنت مختفياً ومطارداً وفي وضع خطر جداً والحملة على حزبنا كانت تشتد يوماً بعد يوم للسفر وبسرعة خارج العراق ..!.
سافرت الى سوريا وكانت يدي على قلبي وكنت أخشى من إستشهاد جميع من بقوا هناك , لكني لم أتوقع من أنني سأصدم يوماً بخبر إستشهاد أبو كريّم وكنت أتوقع أنه في مكان أمين وهو غير معروف لدى أجهزة الأمن في بغداد وسمعت بالخبر الصاعقة حينما كنت على موعد في الشام مع الرفيق أبو يوسف وكان يشغل عضوية اللجنة المركزية , كنت وإياه في أحد شوارع العاصمة السورية نتحدث عن الوضع في العراق فقال لي وبحسرة : لقد إستشهد مسؤول محليتكم أبو كريّم !! لم أستوعب الخبر ! وبينما كنت أمسح الدموع الغزيرة التي تساقطت مني فجأة ً واصل الرفيق العزيز أبو يوسف كلامه قائلاً : لم يتمكنوا ( ويقصد الأنذال ) من إنتزاع كلمة واحدة منه تخص التنظيم وإلاّ لضاع رفاقنا !!وقد صان العهد وحفظ الأمانة التي كان جديراً بحملها على أكتافه وهي أرواح مئات الشيوعيين والشيوعيات ! ولم أستطع التركيز على بقية حديث الرفيق وعدت بمخيلتي عدة سنين الى الوراء متذكراً الشهيد والأيام التي جمعتنا به وأحاديثه الشيقة وروحه العذبة ومحضره الممتع وتلك الصفات الإنسانية الرائعة التي إمتازت بها شخصيته المحببة للنفس والتي أثارت حقد وكراهية أزلام البعث المقبور فكانوا له بالمرصاد ووجهوا سهامهم الغادرة والقاتلة الى جسده حينما إنهالوا عليه ضرباً بكل ما كانت لديهم من قسوة .. حدثني صديقي الرفيق أبو حياة الذي كان معه في نفس الزنزانة في مديرية أمن بغداد تلك الليلة من صيف عام 1979 ( وكان يعمل معي في كردستان وأصبح لاحقاً عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي ) : من أن شخصاً كان يرقد بجانبه كان يئن بوهن وهو يزحف متوجهاً الى الباب يريد أن يطرقه طالباً من الجلادين القليل من الماء..لم يستطع الوصول الى مبتغاه بسبب ما إثخن به من جراح .. ندس رفيقه الذي كان يرقد الى جانبه ( أي أبو حياة ) قائلاً له : خوية ..رفيق أنا أبو كريّم , راح أستشهد وأرجوك أن تبلغ الحزب بذلك !! وإستطاع الرفيق أبو حياة أن يزيح قليلاً من غطاء عينيه لكي يتعرف عليه ( وقد وصفه لي بدقة قبل أن تظهر صورته بعد إستشهاده.. )..ثم يشير الرفيق أبو حياة الى أن الشهيد أبو كريّم كان متشبثاً بباب الزنزانة محاولاً طرقها علّه يحصل على القليل من الماء لكنه لم يتمكن وإنهارت قواه وسقطت يده على الأرض وغفى الرفيقان من شدة الحر والتعب والتعذيب وما هي إلاّ سويعات حتى جاء الأنذال وفتحوا الباب وكانوا يصرخون بهم للإستعجال بالنهوض , نهض صديقي أبو حياة ( الرفيق فارس الربيعي ) لكن الشهيد أبو كريّم لم يحرك ساكناً مما أثار غضب أحدهم الذي قام بالضرب عليه والصياح الذي رافقه السباب , لكنه لم يتحرك وإيقن شرطي الأمن المذعور أن أبا كريّم قد فارق الحياة , تركه راكضاً وهو يصيح : سيدي هذا مات !!عاد ومعه أحد الضباط الذي ما أن عرف حالة الشهيد المسجى أمامه حتى قام بصفع رجل الأمن قائلاً له : ( ولك حيوان مو كلنه هذا ما نريدة يموت ..نريدة يعترف .).. ثم بدأ وبعصبية يوضح للحارس ما كانوا يضمروه للشهيد من الأبقاء على حياته لأيام أخرى قليلة عسى وأن يتمكنوا من إنتزاع الإعترافات منه على رفاقه في التنظيم الواسع الذي كان مؤتمناً عليه حتى الرمق الأخير وقد صان شرفه وكرامته وأمانته وكان قدوة في نكران الذات والتضحية وكما في المرة السابقة , فأنه لم يتفوه أيضاً هذه المرة بكلمة واحدة تخصه شخصياً أو تخص أسرته أو رفاقه وتنظيمه وإستشهد بكل ما أوتي من صلابة ومات الجلادين بغيضهم وكانوا يرتجفون من صلابته وشدة بأسه.. وترك زوجة شابة وستة أطفال كانوا صغاراً لا زالوا يعيشون في ذكراه ولم تستلم عائلته رفاته حتى هذه اللحظة !! وأنا أناشد السيد رئيس الوزراء بالكشف عن هوية الجناة وهي ليست بمهمة شاقة , وتقديمهم للعدالة والبحث عن رفاة الشهيد أبو كريّم وتسليمه الى ذويه وإعتباره أحد شهداء الشعب العراقي وتكريمه معنوياً وتعويض عائلته مادياً وإطلاق إسمه على أحد شوارع الناصرية أو إحدى ساحاتها العامة كجزء بسيط من الدين الذي بذمة الحكومة والشعب العراقي الذي ضحى بنفسه في سبيله , وفي مثل هذه الأيام لا يسعني إلاّ أن أنحني إجلالأ للذكرى الثانية والثلاثين لإستشهاد المناضل الفذ الرائع الشهيد أبو كريم البطل ورفاقه البواسل الذين مرت ذكراهم أيضاً هذه السنة وفي مثل هذه الأيام والذين طرزوا بدمائهم الطاهرة تربة هذا الوطن..أناس بواسل شيوعيين وشيوعيات جادوا بدمائهم من أجل وطن حر وشعب سعيد ..المجد للشهيد البطل أبو كريم الخالد مزهرهول راشد وجميع رفاقه الميامين . إستشهد أبو كريّم وهو لم يتجاوز السن الرابعة والثلاثين من العمر..أي أنه كان في عز الشباب وحيويته...

ملاحظة :إتصلت تلفونياً بأخ الشهيد أبو كريم , الأخ العزيز مبدر هول راشد أبو إنجيلا لتغطية الموضوع ببعض الأمور التي يعرفها عن الشهيد وبإختصار فذكر لي ما يلي :
ولد الشهيد أبو كريّم في ناحية الفجر التابعة لقضاء الرفاعي عام 1945 وهو متزوج وله بنت وخمسة أبناء وإبنته هي الكبرى وإسمها كريمة وهو ينحدر من عائلة شيوعية وإنخرط في صفوف الحزب الشيوعي منذ وقت مبكر من شبابه وكرس حياته لقضيته المجيدة ودرس في الملالي ( الملّة ) كما هو الفقيد أبو كاطع وتتلمذ في مدارس الحزب الشيوعي وكان مناضلاً وقائداً لمنظمات حزبية وجماهيرية عديدة وفي عام 1962 إنتدبه الحزب للعمل في أرياف الحي وقد عمل بنشاط ودأب وبروح شيوعية لا تكل وفي المنظمة الحزبية كان الشهيد محط إحترام ومحبة الفلاحين لشجاعته وتفانيه وتفهمه لمشاكلهم وبعد ذلك عاد الشهيد الى أرياف الناصرية التي يعرفها جيداً وسبق له أن ناضل بها منذ الصغر وأصبح عضواً في لجنة التوجيه الفلاحي التابعة الى المنطقة الجنوبية وأصبح عضواً في مكتب محلية الناصرية وفي عام 1976 أصبح سكرتير محلية الناصرية وعضو مكتب المنطقة الجنوبية وسكرتير لجنة التوجيه الفلاحي التابعة للمنطقة الجنوبية وقد تعرض الشهيد الى مخاطر جمّة من طرف الأجهزة البوليسية القمعية في مختلف العهود , وفي عام 1978 خطف من قبل الأمن في محافظة ذي قار من أحد شوارع الناصرية وفي الحملة على حزبنا عام 1979 عمل الشهيد في بغداد بجد ونكران ذات من أجل الحفاظ على رفاقه وعن طريقه تم إخراج مئات الرفاق الى خارج الوطن للحفاظ عليهم من البطش وبقى في عمله هذا لحين إستشهاده في يوم 2 من شهر آب 1979..وفي أحد الأيام قال له أحد الرفاق : يا أبا كريّم وأنت تمد نفسك جسراً للآخرين يعبرون الى شاطيء الأمان , هل ستلتحق بنا ! أجابه الشهيد : أشق لي شقاً في الأرض وأبقى هنا في وطني !.. مكانك في القلب حفرته بالمكرمات... واعدت ووفيت الوعد . وستبقى للأبد في قلوب وضمائر كل من يقدر و يستحق تضحيتك الغالية ..



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن