قصيدة الحياة اليومية في الشعر العربي القديم

فليحة حسن
d.fh88@yahoo.com

2011 / 7 / 24


ملخص البحث
ذهب اغلب الدارسين الى إن قصيدة الحياة اليومية هي قصيدة حديثة ولدت على يد الشعراء الستينيين دون غيرهم من الأجيال الأدبية الأخرى واقتصر ظهورها عليهم فقط ، ولا توجد لها أصول أو جذور في الشعر القديم ، وفي بحثي هذا فندت ذلك الرأي ووجدت إن قصيدة الحياة اليومية هي قصيدة عريقة تمتد جذورها حتى الشعر الجاهلي القديم ووجدت نماذج لها في شعر الشعراء هناك أمثال الجميح الاسدي وامرئ القيس، وان هذا النوع من الشعر كتبه أيضاً الشعراء العباسيين ومن جاء بعدهم وقد أوردت نماذج منه للمتنبي ،
فليس الشعر العربي مبني فقط على قصائد الرثاء أو المديح أو الهجاء ،بل إن الذاكرة العربية قد احتفظت بقصائد من هذا النوع ،وخلدت في مسامع العربي نماذج عديدة منها، وقد تناولوها في مجالسهم الأدبية ومسامراتهم الليلية .

المقدمة
تُعدُّ قصيدة الحياة اليومية واحدة من الموضوعات التي تناولها النقد الأدبي الحديث (بوصفها نتاج التكرار المنظور للحالات التي تحمل في طياتها جدلية زمنية، وهي في الوقت نفسه علاقة بين العقل ونتاجه المعرفي) (1)، لأنها تنبع من خضم التفاعل الاجتماعي وانعكاساته على الشاعر، فالقصيدة اليومية ُتظهر (علاقة الشعر بتجارب الحياة اليومية، نعني التجارب العادية البسيطة التي تحدث لنا نحن عباد الله المتواضعين في معيشتنا العادية...على هذه الأرض)(2)، فضلاً عن إنها (مكاشفة مع الواقع تصل موضوعها بلغتها البسيطة الموحية، وتحاول تصعيد الحاضر لجعله عوضاً عن التراث)(3)، إذ يصبح اليومي أساساً للمألوف أحياناً بوصف الأخير تطوراً له، وتزخر فيه دواوين ومؤلفات القدامى والمحدثين، إذ نلحظ فيه (نقطة مشعة أو حادثاً مؤثراً، أو ذكرى أو لحظة عابرة أو طيفاً مرّ أو خاطراً توارد أو كلمة حبلى أو لمحة غنية)(4)، ولعل ذلك متأت من كونه يضم نغمة شعبية مضمرة في تضاعيف القصيدة، وهو عائد إلى كون الشاعر إنساناً (يحيا بين الناس، وهو بطبيعة الحال يتمتع بموهبة في اتجاه ما)(5)، فضلاً عن كونه صاحب (طريقة درامية في رؤية الأشياء)(6)،وان انسنته تلك لا تعينه بحال من الأحوال أن يعيش ولو بشكل من الأشكال بعيداً عما يحيط به، إذ لا بد له من أن يلامس ذلك المحيط شاء أم أبى، فمن الطبيعي أن يكون الشاعر ابناً لمجتمع يصيبه قسطاً من قسوة الحياة، وما تخلّف تلك من ملابسات تُلقي بعبئها على الحياة اليومية للناس، ومنهم الشعراء الذين يتلقونها بانفعال تتلون خلالها حياتهم متأثرة بالواقع المعيش، فيؤسس الشاعر منطلقاً لتجاربه اليومية، وقد وسمت شعره الصدمات الانفعالية، فهو رهين الانفعال تارة والهدوء تارة أخرى.
ولربما استطاع الإنسان / الشاعر أن يكوّن من هذا الهدوء منطقة محايدة، يرتد إليها ساعة الهزيمة التي لا بد وان تعتري حياته، كونه (كائناً اجتماعياً)، فالمجتمع الذي يمكن أن نستعير له ابسط التعريفات فنقول (انه نحن)(7)،
أو هو (الذي يترك طابعه على الفرد إجباراً لا اختياراً حيث تصبح السمة الاجتماعية وسماً طاغياً لا يمكن للفرد أن ينجو منها ،حتى إذ لاذ بأشد أنواع (الانعزال))(1)،وكلما ارتقى سلّمه من سلّم العمر زاد تلاحمه بذلك المجتمع، وبما إن (العمل الأدبي هو الصورة الذاتية للعالم)(2)، وان الشعر (في أعماقه نقد للحياة)(3)، فأن انعكاس تلك التجارب الواقعية لا بد أن يكون واضحاً في شعر الشعراء، كونهم يمتلكون حساسية في إزاء الواقع المعيش، و (حساسية المثقف عامة والمبدع خاصة مفرطة، وهي التي ساعدت هؤلاء الشعراء على التقاط واقعهم الاجتماعي الخاص، الذاتي والموضوعي بصدق وأمانة بالغتين في الدقة والوعي)(4)،ولأن (الفنان لا يحيى حياة مختلفة في نوعها عن حياة الآخرين ولكنه يحياها بعمق اكبر)(5)، فان هذا العمق قد يؤدي بالشاعر إلى (التجدد) إذا ما استعار نظرة نقدية لمجتمعه، لان (الشاعر الجديد هو الذي يقترح صورة جديدة للحياة والمجتمع من خلال نقده لهما)(6)،وبهذا يمتاز الشاعر عمن حوله في كونه يعيش الحدث ويومئ إلى مكوناته ويسهم في تغييره من خلال طرحه للبدائل أو المساهمة الفعلية في إحداث التغيير المنشود، وبما إن النص بوصفه كتابة (فهو موقف متكامل من اللغة والذات والمجتمع، فهذه المجالات متكاملة ومتداخلة ومتفاعلة فيما بينها)(7)،و (إن عظمة القصيدة لا تأتي من موضوعها بل تأتي من إجادة عرضها للموضوع الذي اختارته)(8)،بسبب الباعث الكامن وراءها، (فالباعث دليل القصد ومعيار لتوازن الواقعين النفسي والخارجي في نفس المبدع وبذلك يفضيان إلى نص فني)(9)،ويتطلب الأمر في ذلك (النزول من الصعوبة في المفردة إلى البساطة الشعرية، حتى يهب الشاعر لمفردات القصيدة اليومية شحنة تعبيرية جديدة وإشعاعاً جمالياً لا مثيل له باستثمار الأسلوب الواقعي)(10)،

وتبقى ذاكرة الإنسان تحتفظ بالأشياء غير العادية في حياته لاسيما الشعراء، منذ ولادتهم حتى نضوج التجارب لديهم، (فقد تكون هناك تجربة طفل في العاشرة...ولد صغير، يبحث في تجمع صخري داخل مياه البحر فيرى شقائق النعمان لأول مرة، إن مثل هذه التجربة غير العادية "ليست غير عادية بالنسبة لطفل غير عادي كما يتبين" وربما تبقى نائمة في عقله مدى عشرين عاماً ثم تظهر، وقد تحولت إلى محتوى شعري مفعم بانفعال خيالي عظيم)(1)، فنحن هنا أمام نتيجتين، الأولى هي أن حالة الإبداع مرتبطة بغائية خلق شيء من مادة معيشة بعد فهمها وتمثلها، لان الشعر بطبيعته (وعاء للإبلاغ)(2)،فضلاً عن ان شعر التجارب الحياتية لابد أن يتوافر لدى الكثير من الشعراء، لأن (الحدث هو دائماً تجربة أو فكرة أو شيء حاضر دائماٍ)(3)،ولكن قد يطغى هذا النوع عند شاعر ما فيبدو كأنه يهيم باليومي، ويصبح هذا النوع من الشعر هو المائز له بين بني جلدته من الشعراء، كما هو الحال عند الشاعر ألبياتي، الذي وصف احد النقاد تجربته الشعرية قائلاً:(التجربة بين الذاتية والحسية والواقعية الحية، والأفكار والتصورات الممتدة بين (الذات) وجوداً إنسانياً، والحلم حالة ورغبة إلى نزعات وجودية وأخرى صوفية الرمز...مع ربط هذا كله بتأثيرات الواقع الذي عاش وعرف...)(4)، وكذلك الحال عند الشاعر سعدي يوسف والشاعر رشدي العامل الذي وصفت تجربته بأن: (الموضوع الذاتي في شعره لا يشكل عازلاً بين الذاتي والعام، بل هو تكريس لفعل تمثل الذات للمحيط)(5)،وكذلك حسب الشيخ جعفر وياسين طه حافظ الذي وصف بأنه (شاعر يتعامل إبداعياً مع الواقع ويؤكد شعرية ذلك الواقع)(6)،مع الاعتراف بأن شعر الآخرين لا يخلو ألبته من الذي أردناه، لان الشعراء في حقيقة الأمر يتباينون كثيراً فيما بينهم في داخل ذواتهم ( فمنهم من يعيش ما يمكن أن يدعى ((بالحالة الشعرية)) الدائمة فتتحول كل المؤثرات الخارجية وما يحيط بهم والأيام التي يقطعونها على هذه الأرض إلى تجارب شعورية، فينظرون إلى العالم الخارجي من خلال هذه الحالة الشعورية الحادة، فيعبرون عنه تعبيراً شعورياً منسجماً مع نظراتهم في الحياة ومزاجهم، فكلّ شيء حولهم رمز يثير حالة شعورية معينة، والكون كله عندهم شعر موقع حزناً ويأساً، أو تفاؤلاًً ومرحاً، أو حباً أو تعاطفاً ،إلى غير ذلك...وهؤلاء هم الشعراء الكبار كهومر وشكسبير وطاغور،
ومن الشعراء من يعيش حياته ويضطرب مع الناس، لكن مواقف خاصة تخلق فيه حالة خاصة فيعاني منها ما يعاني، وتتأجج فيه حالته تلك إلى درجة تبعثه على قول الشعر، وهذا ما عليه جمهرة الشعراء، فهم يستجيبون إلى مناسبات الحياة المثيرة في جوانبها المختلفة من حبٍّ وفرح وحزن وفجيعة ويأس ورضا وإعجاب)(1)،ومع وجود هذا التباين تبقى وظيفة الشعراء وان اختلفوا واحدة، فالوظيفة التي يحلو للبعض أن يقرنها بالقدرة على التوصيل هي المؤثرة والمتفاعلة مع المجتمع، وهي التي تتجسد فيها مهارة وقدرة الشاعر الإبداعية على تمثل حاجات المجتمع، إذ (إن الذين يستوعبون إمكانات التجارب البشرية هم قلة قليلة ولا يكون الشاعر مهماً إلا بانتمائه إلى هذه (الأقلية) مع قدرته على التوصيل)(2)،بينما يقرنها بعض آخر بالإحساس، إذ يقول كروتشة (إن مهمة الشاعر أن يصور الشيء كما يراه وينقض على بوادره ويخطف في لمح البرق أشكاله المتغيرة ويجعلنا نحس نحو هذا الشيء ما أحسّه هو)(3)،وقد يقف بعضهم بوظيفة الشاعر عند حد الإشارة والإيماءة للحدث بعيداً عن إثارة الصخب، (إن الشعر هو ملجأ لا هجوم، فالشاعر لاجئ حساس ولكن ليس له أن يواجه الحياة الحديثة بكل ما فيها وهو يهتف عالياً لمعاصريه الصامتين المرهقين)(4)،ويذهب بعضهم إلى إن (وظيفة الفنان والشاعر هي بعث الحياة في هذا العالم أو إن شئت فينا نحن)(5)،فالشعر (هو الذي يحدث البهجة ويمنح المجتمع مزيداً من الإحساس بعلاقة القصيدة بالقارئ ودور الشعر في المجتمع)(6)،وليس لنا أن نبحث في وظيفة الشعر والحدود التي تقف عندها تلك الوظيفة، ولكن الذي يعنينا من كل هذا (إن للأدب وظيفة اجتماعية و(فائدة) لا يمكن أن تكون فردية صرفاً)(7)،ولكن قد يلوح لنا سؤال مفاده إذا كان الشاعر ينقل لنا تجربته إلى حدّ ما أو تطابق تجارب الآخرين نقلاً أميناً، فما هو فضله في ذلك، إذ بإمكان أي إنسان أن يتبنى عملية النقل تلك وبموضوعية؟
والحق إن الشاعر (ينقل الشيء كما يجب أن يكون)(8)،

وان الذي يرتقي إلى مستوى الأهمية في عملية النقل تلك هو العمل الأدبي (القصيدة) لان الفنان الصادق (لا يغيب عن ذهنه مطلقاً غموض العالم الذي يحياه ولكنه لا ينظر إلى الأشياء المتنافرة بفضول طفل، وإنما يعمل فكره في ترتيب ما يراه داخل نموذج ما أن هذا الشعور بالنظام والشكل هو الذي ينقله لنا الفنان من خلال عمله الفني مهما كان نوع ذلك العمل)(1)،وبما إن الحقيقة التي تخلقها القصيدة إنما تستمد من تجارب حقيقية وانفعالات وبيئات وان الفن ليس انعزالياً –كما أسلفنا- والعمل الأدبي (تعبير عن شيء)(2)،فان (الإنسان قبل البدء في عملية الكتابة لابد أن يكون له شيء يريد قوله )(3)،والقصيدة ما لم تكن ذات دلالة فلا تعد قصيدة ،وعلى وفق ما ورد تظهر أهمية الموضوع الذي نحن بصدد دراسته
الباب الأول
قصيدة الحياة اليومية والشعر العربي القديم

إذا ما تساءلنا عن جذور هذا الموضوع في الشعر العربي لطالعتنا كتب المختارات ودواوين الشعر العربي القديمة بالنماذج العديدة, (ذلك أن معظم تجاربنا البشرية في حياتنا الأرضية ليس من النوع الضخم الفخم الفذ الفريد ذي الأثر الخطير في سياسة الدول ومصائر الشعوب، بل معظمها من ذلك النوع البسيط المتكرر العادي المتواضع)(4)،وان (الشعر تجربة الإنسان مع الحياة ومن ثم لا يمكن أن يوصف أي موضوع من موضوعات الحياة بأنه غير شعري)(5)،من ذلك نجد مثلاً قصيدة (الجميح ألأسدي) القصيدة الرابعة في كتاب المفضليات من(السريع) ومطلعها(6):
أمست أمامه صمتاً ما تكلمنا مجنونة أم أحستْ أهل خروب
التي صورت لنا مشاجرة بين (الجميح) وبين زوجه (أمامه)، تؤكد وجود القصيدة اليومية ،لأن (نجاح الفن في غرضه الأعلى وهو عقد الوشيجة الإنسانية الجامعة بين أبناء البشرية جميعاً على تعدد زمانهم وبيئاتهم واختلاف ظروفهم ولغاتهم ولهجاتهم)(7).
فإذا ما تحولنا إلى المعلقات مثلاً نرى (بروز التجربة الحياتية في المعلقات وقد شملت معظم أبياتها)(8)،هذه التجربة، التي تمثل (انفتاحاً للتجربة الإنسانية ككل)(9)،فالمتأمل في (معلقة امريء القيس يجد عرضاً مترفاً لتجربة حسية وهي (تجربة حياتية) عرضها بإتقان رائع)(10)،(من الطويل)مطلعها:
قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ بسقط اللّوى بين الدخول فحوملِ
وحين تتفحص مغامراته مع النساء (فاطمة، أم الحويرث، وأم الرباب، وعنيزة، وما وصفها بـ(بيضة خدر لا يرام خباءها))، نجده مصوراً اقتحامه إليها مع وجود الأهوال والمصاعب والحراس، ثم بيّن لنا كيف انتحى بها ناحية من الحي يتبادلان الصبابة والغرام،

يقول : (من الطويل):(1)
وبيضــةُ خـدرٍِ لا يرامُ خباؤهـــــــا تمتعتُ من لهوٍ بها غيَر معجـــلِ
تجاوزتُ أحراساً إليها و معــــشراً عـليّّ حراصٍ لو يشـــيرُّون مقتلي
إذا ما الثّريّا في الســماءِ تعرّضـتْ تعّرض إثناء الوشــاحِ المفصّــــــلِ
فجئتُ وقد نضـتْ لنـومٍ ثيــــــابها لدى السِّــتر إلا لبسة المتفضِّـــــــلِ
فقالـتْ يمـــــين الله ما لكَ حـــيلـةٌ ومـــــــا إن أرى عنك العماية تنجلي
خرجــتُ بها تمشـــي تجرُّ وراءِنا على اثرينـــــا ذيـل مرطٍ مرحّــــــــلِ
فلما أجزنا ساحةَ الحيَّ وانتـــحى بنا بطن حقــــفٍٍ ذي ركـــــامٍ عـقنقـلِ
إذا التفتت نحوي تفوّح ريحــــها نسيم الصَّبا جاءت بريـــــا القرنفــــلِ
إذا قلتُ هاتي نوَّلينــي تمايلـــتْ ليّ هضــيم الكشـــــح ريّا المخلخــــلِ
(فهو يذكر خدرها وحراسها، ومنعتها، وكيف وصل إليها، وقد استعدّت للنوم وما كان بينه وبينها من حوار، وكيف أطاعته، وخرجت معه، من الحي إلى مكان بعيد لا تراهما فيه العيون، وكيف كانت تعفّى آثار أقدامهما بأذيال ثوبها الموشى، ثم استرسل يصف محاسنها، ومفاتن جسدها وأطرافها، مصوراً كيف تستصبي الرجال وتعبث بقلوبهم)(2)،فامرؤ القيس في معلقته (ينقل الحياة في صورة ودور اللغة يقتصر على استيعاب هذه الحياة، فهو باكٍ لذكرى حبيبته، وهو داعٍ للوقوف في مناطق محددة ثم يأتي دور الحكاية والحوار)(3)،حتى إن الموسيقى الشعرية في المعلقة جعلها الشاعر (تخدم واقع الصورة في نقل واقع الحياة)(4)،لان (العلاقة صميمة بين المضمون والمشاعر من جهة والإيقاعات من جهة أخرى ...ويسهم جرس الألفاظ بأنواعه في شدّ الآصرة بين عواطف الشاعر ونصه)(5) والملاحظ إن بناء قصيدة امريء القيس هذا لا يتوقف عند حد المعلقة فقط، بل يمتد إلى اغلب أشعاره،

فهو مثلاً في القصيدة التي مطلعها(1) (من الطويل)
لمن طللٌ بيَن الجديةِ والجبل محلُّ قديمُ العهِد طالتْ بهِ الطوَلْ
يسرد لنا بعد الوقفة الطللية ووصف الطبيعة، حكاية نلمح بها طغيان إل(أنا) على بناء القصيدة إذ يقول فيها :(2)
ليالي أسـبي الغانيات بجمـــةٍ معثكلةٍ ســـــوداء زيّنها رَجَلْ
.....
ألا ربَّ يومٍ قد لهوتُ بدِلِّها إذا ما أبوها ليلةً غابَ أو غَفَلْ
فإذا ما وصلنا إلى البيت (الثاني والأربعين) لاحت لنا في الأفق تجربة حياتية متعلقة (بلعبة الشطرنج) يقول :(3)
ولاعبتها الشطرنج خيلي ترادفتْ ورخيِّ عليها دارَ بالشـــــاهِ بالعجل
فقالتْ وما هذا شطارةَ لاعـــــبٍ ولكنّ قتل النفس بالفيلِ هو الأجــــل
فناصبتها منصوب بالفيلِ عاجلاً من اثنين في تســـعٍ بســرعٍ فلم أمل
إلى أن ينتهي إلى قوله (4)
وآخر قولي مثلَ ما قلــــتُ أوّلاً لمن طللٌ بينَ الجُــديّة والجبـــــــــــلْ

وكأنه أراد بهذه العودة الطللية أن يثبتها في أذهان المتلقين، ويفند رأي كثير من الناس الذين اعتقدوا إن الشعر بوصفه فناً عظيماً رفيع الشأن لا ينبغي أن يتناول إلا التجارب العظيمة والأحداث الجليلة والمواقف الفذة، وهذا بطبيعة الحال لا يقتصر على امريء القيس وحده، ولا على شعراء المعلقات الذين نهجوا نهجه، ونسجوا على منواله فقط،
الباب الثاني :
قصيدة الحادثة الحياتية
وإذا ما تصفحنا للمصنفات الجامعة أو دواوين الشعراء – سواء أكانوا – جاهليين أم إسلاميين أم عباسيين ُيكشف لنا عن قصائد ومقطوعات وأراجيز بُنيت على حادثة يومية، أو تجربة حياتية بسيطة، وعادية، إذ إن (من شروط الفنان أن يكون عادي التجارب، فالفنان لا يختلف عن الشخص العادي في انه تحدث له تجارب مختلفة عن تجارب الشخص العادي – فإنه تحدث له نفس التجارب العادية لجميع البشر – لكن امتيازه هو قدرته الزائدة على فهمها والتأثر بها، ثم قدرته على نقلها نقلاً حياً )(5)،من ذلك مثلاً ما جاء في باب السير والنعاس في ديوان الحماسة، إذ بُنيَت اغلب قصائده ومقطوعاته وأراجيزه، على حادثة حياتية، كان الشاعر بطلاً لها، نحو قول رجل من بكر،(من الكامل )(1):
ولقدْ هدَيْتُ الرّكبَ في ديمومـةٍ فيها الدَّليلُ يعضُّ بالــــخمسِ
مســـتعجلين إلى قليـــبٍ آجـــنٍ هيهاتَ عهدُ الماء بالإنـــــسِ
مستعجلين فمشتوٍ ومعالـــــــــجٍ نقباً بخــفِّ جــــلالةٍ عنــــس
ومهوِّم ركبٍ الشـــــمِّال كأنما بفؤادهِ عرض من المــــــــسِّ

فقد صور الشاعر فيها حادثة حياتية بألفاظ مبسطة تجلت فيها الوظيفة الأسلوبية – مقارنة مع الشعر العربي القديم – فيظهر نفسه وقد أصبح دليل قوم في ارض واسعة، ولكي يصور لنا مدى سعة تلك الأرض وترامي أطرافها يستعمل قوله (يعضُّ بالخمسِ) – كناية عن الغيظ والندم الذي قد يصيبه إذ ما تاه الركب في تلك الصحراء الشاسعة، ثم يصور استعجال هذا الركب إلى إيجاد (قليب) - بئر- بعدما أصابهم من العطش الشيء الكثير، ويصوّر حالة أفراد ذلك الركب بين (الذي يشوي اللحم، والمشغول بعلاج ناقة، والذي أصابه النعاس فبدا وكأن به شيء من الجنون – وهذه حالة النعسان الذي يهتز برأسه من النعاس إذا ما أُجبر على السير-، فإذا ما تحولنا إلى كتاب (الأغاني لأبي الفرج الاصبهاني) لوجدناه ضاجاً بالأشعار التي بنيت على حادثة حياتية ألمت بشاعرها من ذلك مثلاً ما جاء في خبر عمر بن أبي ربيعة ونسبه (2) ،والصوت المنسوب إليه(من الكامل) والذي يبتدئ بـ:
ودع لبابةَ قبل أن تترحلا وسأل فإن قلالةً أن تسألا
والتي يقول فيها:(3)
حتى إذا ما الليل جنّ ظلامــه ورقبتُ غفلةَ كاشح أن يمحلا
خرجتْ تأطّرُ في الثيابِ كأنها أيمٌ يســيبُ علـى كُثيبٍ أهيلا
رحّبتُ حين رأيتها فتبسَّــمتْ لتحيتــــي لمــّا رأتنـــي مقبـــــــلا
وجلا القناعُ سحابةً مشـهورةً غراءَ تعشى الطّرفَ أن يتأمّـلا
فلبثتُ أرقيــــها بما لو عاقــــلٌ يرقــــى به ما اســــطاع إلا ينزلا
فالشاعر رسم لنا هنا حادثة مرَّ بها ليلاً، وقد غفل حراس حبيبته فخرجت إليه تتثنى دلالاً وكأنها حية منسابة على الرمال – لرقة مشيتها – فما كان منه إلا أن يرحب بهذه الزائرة، فتبسمت له استجابة لتحيته بعد أن رفعت نقابها، فبدت غراء يغشى العيون بياضها إذا ما تأملها الناظر، فصار الشاعر مأخوذاً بجمالها، وبدا في حديثه معها وكأنه يرقيها كلمات لو سمعها (عاقل) – أي الوعل الذي امتنع في الجبل – لنزل استجابة لتلك الكلمات المؤثرة وهو في كل هذا (يتبع لغة الحوار السهلة، ذات الألفاظ المألوفة المتداولة، والجمل القصيرة المتتابعة، ثم تكون له القدرة الفنية التي لا نعرفها لشاعر غيره، فيخضع المعاني الوجدانية الدقيقة التي يحوم حولها شعراء الوجدان، بهذه اللغة السهلة المتداولة التي يعود له بها الحديث الصعب ذلولاً على حد تعبيرهم)(1)،وربما كان من أسباب تمكنه من هذا (كثرة مخالطته وحديثه للنساء، حتى أصبح هذا الحديث بألفاظه جزءاً هاماً من شخصيته الشعرية، بحيث لو إننا أردنا أن نحذف هذا من أشعاره لرأيناها تموت بين أيدينا)(2)،فإذا ما تحولنا إلى دواوين الشعر العباسي لوجدناها حافلة هي الأخرى بما هو (حياتي) من ذلك ما قاله (بشار بن برد)(من الخفيف):(3)
طرقتني صـــــــبا فحرّكتْ ألبا ب هُدُوّاً فارتعتُ منه ارتياباً
فكأني سمعتُ حسَّ حبيبٍ نقــرَ البــــابَ نقرةً ثم هابــــــا
يرسم لنا الشاعر في هذين البيتين حالة قد تعرض لجميع العشاق والمحبين الذين يتمنون لقاء أحبابهم كلَّ حين، فهم يتخيلون مثلاً الطرق الخفيف الذي يصدر من ريح الصبا حين تلامس الباب وكأنه طرق لأنامل ترجو زيارة من تحب، ولكنها تخاف الرقيب، فتعود أدراجها، وهو بهذين البيتين يستعير للسامع خيالاً سمعياً يساعده في تذوق الصورة المرسومة، (فالخيال السمعي هو ذلك الإحساس بالمقاطع والإيقاع الذي يتخلل بعيداً تحت مستويات الإدراك الواعي للفكر والشعور)(4)،وبما إن (قصائد اليومي والمألوف لا تستبق الحوادث والأفعال وإنما تأتي بعدها)(5)،فحينما أهدى (عبيد الله بن خلكان) للمتنبي، جامة فيها حلوى ردّها الأخير بعد أن كتب فيها بالزعفران(من الكامل):(6)
اقصرْ فلــــست بزائدي وُدّا بلغ المــــدى وتجاوزَ الحــدّا
أرسلتها ممـــلوءةً كرمـــــــاً فرددتــــــها مملوءةً حمــــدا
جاءتك تطفحُ وهي فارغــةٌ مثنـــــى به وتظنّــــــــها فردا
تأبى خلائقك التي شرفتْ إلا تحـنّ وتذكـــــــر العــــــددا
لو كنتَ عصراً منبتاً زهــراً كنت َالرّبيــــعَ وكانت الوردا
فالمتنبي، هنا يطلب من (عبيد الله بن خلكان) أن يمسك عن عطائه لان ذلك العطاء لن يزيد من وده له، فهذا الود قد تجاوز كلَّ حد، ثم يقول له إن (الجامة) التي أرسلتها تطفح بالكرم، قد رددتها لك وهي تطفح بالشكر والثناء، فصارت هي والحمد الذي ملئت به شيئان، إلا إن أخلاقك وشرف محتدك يجعلك تظنها واحدة، ثم يسترسل فيقول لو كنت عصراً مزهراً لكنت ربيعاً وكانت هديتك الورد، ويبدو إن هذه الحوادث الحياتية قد صاغ منها المتنبي كثيراً من أشعاره التي تثير البهجة في نفس المتلقي،
وهو بهذا يُحيلنا إلى أن (الشعر هو الذي يحدث البهجة ويمنح المجتمع مزيداً من الإحساس بعلاقة القصيدة بالقارئ ودور الشعر في المجتمع)(1)،وهذا لا يقتصر على شعر المتنبي فقط بل يتعداه إلى الكثير من الشعراء، الذين يستعيرون (جدل الحياة في حركتها الواقعية واللغوية)(2)،ولكن يبقى الشاعر الذي يطأ تلك المنطقة من التعبير هو (الشاعر الخبير بفنون التعبير الشفاهي والأدبي)(3)،لان ما تتطلبه هذه القصيدة حين رسمها هو (الوعي بفاعلية الناس العاديين، وهم يصوغون تواريخهم)(4) ،حفاظاً على دور الشعر، الذي (ينعشنا ويعلمنا في شبابنا ويبهجنا طوال عمرنا، بل ويحمل مستقبلنا ويريحنا من أحزاننا ويسلينا في منازلنا ويرافقنا في غربتنا، يعاني معنا ويراقبنا، بل ويشاركنا زمن الرغبة والرياضة كما يشاركنا عزلتنا الفردية، وأوقات استمتاعنا وهو كما يظنه العقلاء والعارفون أفضل عشيقة للأخلاق واقرب الأقرباء إلى الفضيلة)(5)،لذلك أصبحت القصيدة الحياتية مسرحا لانفعال وجداني، لا يمكن أن تنفصل عن الرؤية الإنسانية أينما كان التوجه والحال.
الخاتمة
من النتائج المهمة التي توصلت إليها في بحثي عن موضوعة قصيدة الحياة اليومية في الشعر العربي هي:
*إن هذا النوع من الشعر غير مقطوع الجذور مثلما يعتقد بعضهم بل على العكس من ذلك أن جذوره تضرب في البعد إلى ما قبل الإسلام وهذا ما دلت عليه المقطعات والقصائد المنتمية إلى تلك المرحلة .
*إن قصيدة الحياة اليومية لم يطأها كل الشعراء بل إنها بقيت أرض محرمة على الشعراء الذين حلقوا بعيدا عن واقعهم جاعلين من نهر الخيال منبعاً وحيداً يستقون منه
معانيهم.
*انقسمت التجارب الحياتية التي استقى الشعراء قصائدهم منها إلى تجارب سارة وأخرى غير سارة .
* كثر التعبير عن التجارب الحياتية غير السارة لدى غالبية الشعراء بينما قلّ التعبير عن التجارب السارة أو كاد أن يختفي لدى الكثير منهم .
* أرتبطت التجارب السارة بحضور الآخر مادياً أو متخيلاً واللقاء به .
* انصبت التجارب غير السارة على تجارب الفقد والوحدة والاغتراب ، وكثيرا ما جاءت هذه التجارب ممتزجة مع بعضها البعض في القصيدة الواحدة ، فقد يؤدي الاغتراب إلى الفقد والشعور بالوحدة.
* غاير القاموس اللغوي لقصيدة الحياة اليومية الجاهلي ، القاموس اللغوي لقصيدة الحياة اليومية العباسي ، وهذا راجع للتطور العمراني الذي أصاب بيئة الشاعر وما جهزته المدينة به من ألفاظ مدنية اعتمدها الشاعر في قصيدته .

مصادر البحث :
1. الأغاني أبي الفرج الاصبهاني 356- 976 مصور عن ج1 طبعة دار الكتب طبعة كاملة الأجزاء وزارة الثقافة والإرشاد القومي المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر
2. اتجاهات جديدة في الشعر الانكليزي ف. ر.ليفز ترجمة د. عبد الستار جواد دار الشؤون الثقافية العامة 1987 بغداد
3. اثر البواعث في تكوين الدلالة رسالة دكتوراه كلية الآداب . جامعة الكوفة 2001
4. تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي الدكتور شوقي ضيف دار المعارف مصر 1960
5. تي أس اليوت دراسة وترجمة يوسف سامي اليوسف دار المنارات الطبعة العربية الأولى 1986
6. حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر كمال خير بك بلا تاريخ
7. ديوان بشار بن برد جمعه وحققه محمد بدر الدين العلوي أستاذ اللغة العربية سابقا في الجامعة الإسلامية الهند نشر وتوزيع دار أصل الثقافة بيروت لبنان سبتمبر 1963
8. ديوان الحماسة تأليف أبي تمام حبيب بن اوس الطائي – تحقيق الدكتور عبد المنعم احمد صالح دار الرشيد منشورات وزارة الثقافة والإعلام الجمهورية العراقية 1980
9. ديوان عمر بن أبي ربيعة المخزومي شعراء عرب إعداد وتقديم وتحقيق علي المالكي منشورات دار إحياء
10. الشعر العربي عند نهايات القرن العشرين إعداد عادل خصباك دار الشؤون الثقافية العامة / مهرجان المربد الشعري التاسع 1989
11. شرح ديوان أبي الطيب المتنبي – دار الكتب العالمية شرحه وكتب هوامشه مصطفى سبتي 1-2 بيروت لبنان
12. شرح ديوان امرئ القيس ومعه أخبار المراقسة وأشعارهم في الجاهلية وصدر الإسلام تأليف حسن السندوبي – مصر مطبعة الاستقامة بالقاهرة بلا تاريخ
13. ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب محمد بنيس
14. ظاهرة اليومي والمألوف في الشعر العراقي الحديث ياسين النصير بحث في مهرجان المربد الشعري التاسع 24 -1 / 12/ 1988
15. فائدة الشعر وفائدة النقد تي أس اليوت ترجمة وتقديم د. يوسف نور عرض ومراجعة د. جعفر هادي حسن دار العلم بيروت ط الأولى 1982
16. فن الشعر الدكتور إحسان عباس دار الثقافة – بيروت ط 5 1975
17. قضايا الشعر المعاصر نازك الملائكة منشورات دار الآداب بيروت
18. قضية الشعر الجديد / الدكتور محمد النويهي دار الفكر مكتبة الخانجي الطبعة الثانية مزيدة ومنقحة فبراير 1971
19. لغة الشعر / د. جميل سعيد مستل من مجلد العراقي المجمع العلمي مطبعة المجمع العلمي العراقي 1394، 1973
20. مجلة الأقلام العدد 43 ، 1993 من مقالة رشدي العامل وأنا القصيدة بيننا لا المرأة حميد سعيد
21. مجلة آفاق عربية العدد الثاني شباط 1992 السنة السابعة عشرة من مقال ياسين طه حافظ شعرية المكان –شعرية الوجود ماجد السامرائي
22. مجلة الثقافة الأجنبية العدد الأول السنة الثالثة عشرة 1993 من مقال ماهو الشعر روي توماس ترجمة بشار عبد الله
23. مجلة الكاتب العربي السنة 9 العدد 49 – 50 مقال من دعوة الى إعادة قراءة الشاعر عبد الوهاب البياتي ماجد السامرائي كانون الأول 2000
24. مجلة المثقف العربي العدد الخامس السنة الرابعة عبد الجبار داود البصري
25. المفضليات / المفضل الضبي تحقيق احمد محمد شاكر وعبد السلام هارون مصر 1964
26. من الغربة حتى وعي الغربة / فوزي كريم – كتاب الجماهير (13) 1972 الجمهورية العراقية
27. مواقف في الأدب والنقد / الدكتور عبد الجبار المطلبي منشورات وزارة الثقافة والإعلام الجمهورية العراقية 1980 سلسة دراسات
28. نظرية الأدب / رينيه وليك أوستن وارين ترجمة محي الدين صبحي مراجعة الدكتور حسام الخطيب 1962



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن