الفكر الاقتصادي في اليونان القديم

مصطفى العبد الله الكفري
moustafa.alkafri@gmail.com

2004 / 11 / 19

تعرض الفلاسفة والمفكرون والشعراء اليونانيون لبحث بعض المشكلات والظواهر الاقتصادية، ولكن بشكل ضئيل ومحدود وتابع. ولم يدرسوا هذه المشكلات الاقتصادية بشكل منفصل أو كفرع مستقل من فروع المعرفة بل كانت دراساتهم للظواهر الاقتصادية مرتبطة بأبحاثهم في الفلسفة والسياسة والأخلاق (ومن هنا كانت صفة التبعية للدراسة الاقتصادية).
لذلك لم يكن الفكر الاقتصادي عند اليونانيين واضحاً ومتميزاً أو مستقلاً، بل كان تابعاً. حقاً إننا نجد في فلسفة سقراط وأفلاطون وأرسطو، بل أحياناً في أشعار هوميروس، بعض الأفكار الاقتصادية، ولو أنها موجزة. لكن اليونانيين القدماء لم يكفوا، من أجل عرض أفكارهم الاقتصادية، عن اللجوء إلى صيغ أو صور أو أمثلة مستمدة من الفلسفة والتشريح بل والأدب والشعر أحياناً. إنه من الصعب حقاً الحديث عن الأفكار الاقتصادية من خلال الأدب والتشريح والشعر والفلسفة.
كانت الحياة السياسية والاقتصادية لدى اليونان القديم مرتبطة تماماً بوجود المدينة، التي كانت تقوم بالدور ذاته الذي تقوم به دولنا المعاصرة، ومع اختلافها عنها اختلافاً جذرياً. والمدينة لدى اليونانيين وحدة سياسية اقتصادية لا تقتصر على مراكز المدن بل تمتد لتشمل الريف أيضاً. والمدينة هي: (التنظيم السياسي والاجتماعي الموحد لأرض محدودة يمكن أن تضم مدينة واحدة أو عدة مدن كما تضم رقعة الريف الذي يرتبط بها).(1 ) لقد كانت "أثينا Athens" على سبيل المثال مجرد مركز إقليم زراعي، وعندما ازدهرت الحرفة وانتشرت تحولت إلى مركز حرفي، ثم في وقت ازدهار التجارة أصبحت سوقاً ومستودعاً تجارياً، ولكنها ظلت المدينة التي تُجملها الأعمال الفنية وتُحسنها التأملات الفلسفية، وساحاتها مركزاً للمهرجانات المسرحية، فالمدينة هي الأولى دائماً وفي كل مكان، أما الإنسان فهو بما يمليه عليه دوره المدني.
أما سكان المدينة اليونانية فهم ثلاث فئات رئيسة متميزة. وكانت هذه الفئات الثلاث تمثل هرماً قاعدته طبقة العبيد الأرقاء، حيث كان نظام الرق والعبودية هو السمة الرئيسة المميزة للمدن والممالك والدول في العالم القديم. وتشير بعض الإحصائيات إلى أن ثلث سكان أثينا كانوا من فئة الأرقاء. ولذلك كان نظام الرق عنصراً مميزاً للنظام الاقتصادي في دولة المدينة الإغريقية. أما من الناحية الحقوقية والسياسية فلم تعترف بأية حقوق للعبيد في هذا المجتمع. بل اعتبروا أن الرق شرط من شروط الحياة المادية. وينظر أرسطو إلى جميع الكائنات على أنها منذ اللحظة الأولى لولادتها منذورة بالفطرة، بعضها ليأمر والآخر ليطيع. "إن جميع أولئك الذين ليس لديهم ما يقدمونه لنا أفضل من استعمال جسدهم وأطرافهم فإن الطبيعة حكمت عليهم بالاسترقاق، ومن الأفضل لهم أن يخدموا من أن يُتركوا لشأنهم. وبكلمة، أنه عبد بالطبيعة ذلك الذي قل حظه من النفس والوسائل فحمله ذلك على أن يتبع الآخرين".( 2)
وبذلك تكون المدينة اليونانية وحدة سياسية واقتصادية متكاملة، وهي مركز كل الحرف والمهن، تجمع بين زراعة الحبوب والزيتون وصناعة الجلود والفخار، وهي مأوى جميع الطبقات، يعيش فيها السادة وملاك الأرض والتجار وأصحاب الحرف. فإلى جانب كون المدينة موطن أدب السلوك والفلسفة والشعر والتمدن فهي أيضاً موطن الخير والإنتاج وأروع المظاهر الريفية. فعلى قيد خطوات من أسوار أثينا ترى بساتين الزيتون والكروم والحقول المزروعة بمختلف أنواع الحبوب والأعلاف، على مرمى البصر من المدينة توجد مراعي الأغنام يتعهد فيها الرعاة قطعانهم. ولقد ظلت الزراعة مهنة اليونان الوحيدة خلال قرون عدة حتى بدأت التجارة والصناعات الحرفية مع مطلع القرن السابع، وحتى بعد ذلك بقي التقليد قائماً، إن الزراعة هي المهنة الوحيدة المناسبة للمواطن اليوناني. (3 ) ذلك لأن الاقتصاد اليوناني كان، بصفة أساسية، اقتصاداً زراعياً، فاحتلت الزراعة في حياة اليونانيين أهمية جعلتها تستثنى من الاحتقار العام للنشاط الاقتصادي. ونسب إلى سقراط بأنه قال: سوف تتملكني الدهشة والاستغراب فيما إذا علمت أن رجلاً ذا أحاسيس حرة قد وجد لوناً من ألوان النشاط أكثر جاذبية من الزراعة. ( 4)
الدكتور مصطفى العبد الله الكفري
جامعة دمشق – كلية الاقتصاد
gasomfa@scs-net.org
( 1) - جان توشار، تاريخ الأفكار السياسية، ترجمة د. ناجي الدرواشة، وزارة الثقافة، دمشق 1984، ج1، ص19.
( 2)- المصدر السابق، ص21.
( 3) - د. يوسف جميل نعيسة، تاريخ الفكر السياسي، جامعة دمشق، مطبعة رياض، دمشق 1982، ص75.
( 4) - أنظر: د. لبيب شقير، تاريخ الفكر الاقتصادي، دار نهضة مصر للطبع والنشر، والقاهرة.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن