لا كرامة لثورة فى وطنها

نوال السعداوى
nawalalsaadawi@yahoo.com

2011 / 7 / 19

سألنى كريم، أحد شباب الثورة، فى دهشة أقرب إلى الغضب: «لقد تظاهرنا بالآلاف.. تلاشت جميع الفروق بيننا، ولم يبق إلا حب مصر، ومصلحة الوطن، بكل تياراته، واتجاهاته.. كنا يدا واحدة، لم تنل منها الانقسامات، أو التشويش.. كنا هتافاً مصرياً واحداً، خاليا من الشوائب.. الهتاف يجسد العدالة كما نريدها، والكرامة التى نستحقها، والحرية التى حرمنا منها.. هتافنا يرج الكون- مصر أولا، الثورة أولا، التطهير أولا، فورية القصاص وعلنية المحاكمات.. مصلحة الوطن أولا.. الدستور أولا..».

تكمل زميلته لبنى، فى نبرة، لا تخلو من خيبة الأمل: «أين كل هذا الذى طالبنا به؟ أين المطالب التى مات من أجلها الشهداء؟ لماذا يسحبون الثقة والأهلية من أصحاب الثورة؟ لماذا يتكلمون باسمنا، وبالنيابة عنا، ونحن مع الضحايا، الذين نمنا فى الميدان بالأيام، ودفعنا الثمن بالروح وبالدم؟».

ماذا أقول لكريم ولبنى، والآلاف مثلهما؟ وكيف يجىء ردى، على تساؤلات منطقية، عادلة، توقعناها جميعاً، بعد ثورة رفعت رؤوسنا وأحلامنا عاليا؟ شباب الثورة يشعر بالغربة، وكأن الثورة قد قامت على أرض أخرى غير أرضه. الثورة تشعر بالظلم، رغم التأكيدات بضمان عدم القفز على شرعيتها، وتنفيذ أجندة لا تنتمى إليها. لقد تمت محاولات الانقضاض على الثورة، وتوزيع غنائمها، من جانب قوى داخلية، وقوى خارجية، فى تحالف يخطط، ويدبر، ويقود، ويرتب الأولويات، لمصالحه، دون استشارة أحد من شابات، أو شباب الثورة.

وهذا التحالف يستفيد من أى خطأ مقصود أو غير مقصود، لتشويه ملامح الثورة، والتشكيك فى نجاحها، وتثبيط الهمم المتحمسة منذ ولادتها فى ٢٥ يناير ٢٠١١.

وأكثر التساؤلات الحائرة، التى استمعت إليها من شباب الثورة، ويتخللها الكثير من المرارة، هو قرار المجلس العسكرى، إجراء الانتخابات أولا، قبل الدستور، وذلك على الرغم من أن الثورة قد أعلنتها واضحة «الشعب يريد الدستور أولا».

وقد عبرت جماعة الإخوان، والسلفيين، والجماعات الإسلامية، أنها توافق على قرار المجلس، وعلى تأجيل الدستور بعد إجراء الانتخابات، وقد وصف البعض الذى وافق على البداية بالانتخابات، أنصار الدستور أولا، بأنهم ينفذون أجندة صهيونية، ويتبعون الكفرة، الملحدين. شىء غريب حقا.. ألا نعرف كيف نختلف دون إلقاء الاتهامات جزافا؟!

لقد أوضحت الثورة، أن إجراء الانتخابات أولا، سوف يقود إلى نظام ديكتاتورى، قامع، لا يمثل المطالب الثورية فى حدها الأدنى. إن الديمقراطية تستلزم كتابة دستور جديد أولا، وهذا لا يحتاج إلى شرح. فالإنسان قبل القيام برحلة، عليه أولا، الحصول على خريطة الطريق حتى لا يضيع على الدرب. والدستور هو الخريطة التى تنير وتوضح وتحدد الطريق أمام الوطن.. كما أن الذى يريد دخول الأبواب، يجب عليه قبلا الحصول على المفاتيح لكل باب، حتى لا يدخل عنوة بالقوة، والبطش، والاقتحام.

وسياسيا، لابد من توافر الدستور أولا، حيث يكون بمثابة «عقد اجتماعى»، يحدد، دون لبس، المسؤولية بين السلطات، والعلاقة بين الشعب والسلطة. إن مصر تبدأ منذ ٢٥ يناير ٢٠١١ قراءة الوطن من جديد، وهذه القراءة مستحيلة الحدوث، دون قاموس لغوى جديد.. والدستور هو ذلك القاموس الذى سيعيد لنا كرامة تشكيل الوطن، كما يريده الشعب المصرى.

إن إجراء الانتخابات أولا قبل كتابة دستور جديد، هو محاولة أشبه بمن يجبرنا على الكلام دون أبجدية.. أو بمن يأمرنا بالغناء ولا توجد نوتة موسيقية. أيعقل هذا؟ إننى ما زلت منذ اندلاع الثورة وحتى الآن، مع مطالب الشباب الثورى، مثل كريم، ولبنى وما زلت أحمل إرادة التغيير الجذرى المرادف لمعنى الثورة.. الثورة فى جوهرها، تجاوز، وتخطٍ، وجذرية الرؤية، وجذرية الحلول.. وأنا أرى مثلى، ومثل الملايين، ذلك الفكر الثورى الجذرى آت فى الأفق.

كان معنا فى الجلسة، عماد، أحد الشباب الثورى، وشارك فى أحداث الثورة ومراحلها، حتى «الإنذار الأخير».. سألته لماذا أنت صامت؟ نريد أن نعرف رأيك؟ أنت فى الميدان، منذ أول يوم، وبالتأكيد لك رؤيتك لما يحدث. خرج عماد، من شرنقة الصمت قائلا: بصراحة، أنا لست متفائلا مثلكم.. إننى محبط، ولم يكن من المفروض أصلا أن يصل بنا الأمر إلى جمعة «الإنذار الأخير»..

الحكومة تتغير بعناصر، لكنها حكومة لم تنشأ فى عهد ثورى.. ولم يتشرب أصحابها، بمعنى الثورة.. وهى حكومة لم تؤلف من الثوار الذين عاشوا، وماتوا، فى ميدان التحرير.. تغييرات شكلية، لتهدئة زلزال الثورة الغاضب.. وما أشعر به من إحباط، تحول إلى حسرة ومرارة من كيفية التعامل مع قتلة الشهداء، والتباطؤ غير المبرر، فى إجراء المحاكمات.. ستة أشهر فاتت، ولم يحاكم أحد، من الذين ارتكبوا جرائم بشعة فى حق هذا الوطن.. كما أننى كلما التفت يمينا، أو يسارا، وجدت الوجوه القديمة تزدهر، وتتفتح، وتزعم أنها هى التى خططت للثورة، ثم ضمت إليها الشعب المصرى.. هل تتصورون مثل هذا الانقلاب فى سرد الحقائق؟ كلما نظمنا لجمعة متمردة، يمنحوننا فتات الفتات على مراحل، وكأن الثورة تتسول، أو تطلب الإحسان والعون.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن