حقوق الإنسان العربي في العصر الحديث

نادية حسن عبدالله

2011 / 7 / 15

عندما نتحدث عن التراث العالمي المعاصر لحقوق الإنسان فإنما نعنى به مجموعة المبادئ الملزمة التي اتفقت الجماعة الإنسانية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية تحديدا على الالتزام بها التزاما قانونيا يجد سنده في آليات دولية وداخلية تكفل تحقق ذلك الالتزام. أي أن حقوق الإنسان في عصرنا هذا لم تعد مجرد مبادئ فاضلة تحض عليها الأخلاق القويمة أو تعاليم تحض عليها الأديان ولكنها تحولت إلى التزامات قانونية يتعرض من يخالفها لجزاءات على المستويات الدولية والإقليمية والوطنية.

جرى العمل على تقسيم حقوق الإنسان إلى فئات وفقا لموضوعها ووفقا لمصادرها ووفقا لنطاقها الإقليمي. فمن حيث الموضوع تنقسم الحقوق إلى حقوق مدنية وسياسية وحقوق اقتصادية واجتماعية بالإضافة إلى الحقوق الجماعية أو التضامنية أو الحقوق الجديدة التي تعنى لحماية حقوق فئات خاصة.
الحقوق المدنية والسياسية وهي الفئة التقليدية من فئات حقوق الإنسان التي ظهرت مع نمو التيار الليبرالي بدءا من كتابات ووثائق الثورة الفرنسية وحتى الآن. ويأتي في مقدمة هذه الحقوق الحق في الحياة وقد نصت عليه المادة الثالثة من الإعلان العالمي والمادة السادسة من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية ومؤدى هذا الحق تحريم الاعتداء على الحياة الإنسانية إلا لسبب يحدده القانون لضرورة في الحفاظ على الحياة الإنسانية ذاتها.
أما الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فتدين في نشأتها وزيادة الوعي بها إلى نمو وتصاعد تيارات الفكر الاشتراكي. وتتمثل هذه الحقوق في الحقوق اللازمة للرفاهية الاجتماعية والاقتصادية والنمو الثقافي للإنسان مثل الحق في التعليم وفي التمتع بمنتجات العلم والثقافة وفي المسكن الملائم وفي الرعاية الصحية وفي التنظيم النقابي وغير ذلك.

أما الحقوق الجماعية أو التضامنية فهي الحقوق المقررة لجماعات من الناس مثل الحق في التنمية والحق في تقرير المصير والحق في البيئة النظيفة الخالية من التلوث، وتزداد يوما بعد يوم الأهمية التي تكتسبها هذه الحقوق.

يشير اصطلاح عالمية مبادئ حقوق الإنسان إلى كونها واجبة التطبيق في كافة المجتمعات الإنسانية بصرف النظر عن تمايزاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. وتنبع الطبيعة العالمية لمبادئ حقوق الإنسان من كونها حقوقا مترتبة على مجرد الصفة الإنسانية دون نظر إلى الجنس أو اللغة أو الدين أو العرق أو المعتقد.
هذه الصفة العالمية لمبادئ حقوق الإنسان أفصحت عنها بوضوح ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تقر هذه الحقوق "لما لجميع أعضاء الأسرة البشرية من كرامة أصيلة فيهم" كما أكدت عليها المادة الخامسة بكل من العهدين بقولها "ليس في هذا العهد أي حكم يمكن تأويله على نحو يفيد انطواءه على حق لأي دولة أو جماعة أو شخص بمباشرة أي نشاط أو القيام بأي عمل يهدف إلى إهدار أي من الحقوق أو الحريات المعترف بها في هذا العهد أو إلى فرض قيود عليها أوسع من تلك المنصوص عليها فيه".

ومن ناحية أخرى فمن غير المتصور إنكار وجود تمايزات ثقافية بين مختلف شعوب العالم، الأمر الذي يجعلها تتمتع بخصوصيات ثقافية لا سبيل لتجاوزها، خصوصيات تجد تجلياتها في اللغة والأدب والدين والتراث الفكري ومختلف صور المعارف والقيم والمعتقدات التي تميز شعوب العالم عن بعضها وتطبعها بطابع ثقافي وحضاري خاص. هذا التمايز وتلك الخصوصيات الثقافية والحضارية قد تؤكد في النهاية وتدعم منظومة مبادئ حقوق الإنسان العالمية، وقد تكون في بعض تجلياتها متعارضة مع تلك المبادئ ومتناقضة معها.

التزمت الدول العربية بعدد من أهم المواثيق الدولية لحقوق الإنسان. فقد صدقت بعض الدول العربية ووقعت على أهم وثيقتين دوليتين لحقوق الإنسان وهما العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ولم يصدق على البروتوكول الاختياري الملحق بالعهد الأول إلا عدد قليل من الدول العربية.

كما صدقت العديد من الدول العربية على اتفاقية مناهضة التعذيب. أما اتفاقية إزالة كافة أشكال التمييز ضد المرأة فقد وقعتها الدول العربية ما عدا سبع دول ما زالت عازفة عنها. وفيما عدا الأردن أحجمت كافة الدول العربية عن التصديق على اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية.

ونصت جميع الدساتير العربية على حماية الحريات العامة وحقوق الإنسان. وتضمنت الدساتير العربية إشارات إلى مبدأ المساواة أمام القانون في الحقوق والواجبات العامة، وإلى حماية وتأمين الحقوق والحريات الأساسية وإن اختلف مضمون الحقوق ونطاق الحرية والحماية وفقا للتراث الثقافي لكل دولة، ومدى حظ الدولة من الأخذ بمبادئ الديمقراطية والحريات المدنية والسياسية، وموقع الفكـر الشمولـي دينيا كان أو دنيويا من التأثير على نظام الحكم بالدولة.

أما حقوق الإنسان من منظور إسلامي ، حيث قام بعض العلماء بتحليلها، والتأكيد على ان الإسلام يعترف بهوية إنسانية واحدة يستحق حاملها بمجرد هذا الوصف حقوقا متساوية بصرف النظر عن الجنس واللون والدين والطبقة. وقد جاء الإسلام معلنا تكريما إلهيا لجنس الإنسان "ولقد كرمنا بني آدم" 70: الإسراء. وجاء ذكر "الناس" مكررا خمس مرات في آخر وأقصر سور القرآن الكريم، وكانت خطبة الوداع لنبي الإسلام عليه السلام إعلانا عاما لحقوق الإنسان، مؤكدا القيمة المركزية -في رسالته الخاتمة- للإنسان وحقوقه، قيمة المساواة بين البشر، موصيا بالنساء خيرا، مسقطا كل الفوارق بين الأجناس والألوان.. وأي سند لاستغلال الإنسان لحاجة أخيه الإنسان.

ومن حقوق الإنسان المضمونة في الإسلام حرية الاعتقاد، وقد تواترت في تأكيدها آيات القرآن وترجمتها صحيفة المدينة، إذ اعترفت بحقوق وحريات لكل المكونات الدينية والعرقية فيها، فبرأ تاريخ الإسلام من حروب التطهير الديني والعرقي، بسبب الإعلان القطعي لمبدأ "لا إكراه في الدين" 255: البقرة. المبدأ الأعظم في الإسلام والأساس الأصلب للحقوق والحريات، بما يجعله حاكما على كل ما يخالفه.

وتتفرع عن حرية الاعتقاد جملة من الحقوق منها المساواة قاعدة التعامل في المجتمع الإسلامي. فلا يتفاضل الناس في المجتمع الإسلامي بلون ولا بجنس ولا باعتقاد، هم سواسية أمام القانون. قال الإمام علي (رضي الله عنه) عن حقوق المواطنين غير المسلمين في دولته "فإنما أعطوا الذمة (أي الجنسية) ليكون لهم ما لنا وعليهم ما علينا.

ومن حقوق الإنسان التي كفلها الإسلام حرية الفكر والدعوة والإعلام والمناقشات الدينية باعتبارها فروعا لقاعدة "لا إكراه في الدين".
وبالنسبة للحقوق الاجتماعية فالعمل واجب ديني، وأن في مال الأغنياء حقا معلوما للفقراء، يمكن المحتاج انتزاعه إن لم تفعل الدولة. ولا حرمة لمال ما دام في المجتمع محتاج.

ومن الحقوق الاجتماعية حق التعليم، وهو إلزامي (فريضة)، والحق الصحي، والحق في السكن والكساء وإقامة أسرة، وحرية التنقل، وحرمة المسكن، وحق الإضراب عن العمل لتغيير عقود ظالمة فرضها الأقوياء على الضعفاء، فلا يجب الوفاء بها. "وليملل الذي عليه الحق" 282: البقرة، أي شروط العقد.

ومن الحقوق أيضا المشاركة في الشؤون العامة. فانطلاقا من مبدأ المساواة والعدل الإلهي وواجب كل مسلم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، جاء الإسلام داعيا إلى الاشتراك في الأمر العام "وأمرهم شورى بينهم" 38: الشورى.

وضمن الإسلام الحق في العدل والأمن من التعسف، إذ أقام الإسلام نظام المجتمع على أساس مبدأ العدل "اعدلوا". العدل في الحكم والعدل في القضاء وفي كل المجالات. وما يقتضيه ذلك من حق الأمن من الظلم والتعسف، ومن ذلك الأمن من التعذيب، فقد أخبر النبي عليه السلام أن امرأة دخلت النار في هرة.

وأخيرا حق الأمان أو اللجوء السياسي، وهو حق تكفله الدولة الإسلامية لكل إنسان بقطع النظر عن جنسه وملته، من استنجد بالمسلمين وطلب الأمان عندهم فالواجب تمكينه من هذا الحق وحمايته حتى يقرر العودة إلى وطنه أو إلى مكان آخر وذلك مقتضى آية التوبة: 5 "وإن أحد من المؤمنين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه".

ومن خصائص حقوق الإنسان في الإسلام أنها كاملة وغير قابلة للإلغاء؛ لأنها جزء من الشريعة الإسلامية. أما وثائق حقوق الإنسان فهي قابلة للتعديل أو الإلغاء، حيث تقوم العديد من الدول من تعديل دساتيرها.

تتعدد تحفظات الدول العربية على الاتفاقات الدولية لحقوق الإنسان التي ارتبطت بها الأمر الذي يجرد أحيانا التزام الدول العربية باحترام الحقوق الواردة بالاتفاقية من أي مضمون. وكثير من تلك التحفظات تذهب إلى عدم تطبيق الاتفاقية بما يتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية.

كيف تعاملت الدساتير العربية مع قضايا حقوق الإنسان؟

رغم خصائص حقوق الإنسان في الإسلام، التي ذكرناها سابقا، ما زالت هناك انتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان في العالم العربي. وهناك ذرائع لانتهاك حقوق الإنسان مثل: ذريعة النضج السياسي والوحدة الوطنية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية.

وهناك حالات عامة تعوق الإدراك والوعي السياسي لحقوق الإنسان مثل (الأمية، الأحزاب والتعصب، التعتيم الإعلامي).

يمكننا أن نحدد أسباب الفشل في تطبيق حقوق الإنسان في ثلاث مجموعات رئيسية: جغرافية-سياسية، اجتماعية-سياسية، اقتصادية-عقائدية، وهي تتمثل في هشاشة الدولة، واحتكار الثروة وإرادة الاحتكار، وانقسام النخبة وغياب الإجماع.

وتواجه ممارسة حقوق الإنسان في الوطن العربي إشكاليتان تتمثلان في الشرعية، شرعية الدولة (الكيان السياسي القطري) وشرعية السلطة، وإشكالية المشاركة السياسية.
إن إدراج الحقوق السياسية في الدساتير العربية عملية ضرورية لحياة الإنسان الاجتماعية، وبها يستكمل الإنسان حريتـه وكرامته من جهة، ومن جهة ثانية يضمن ممارسة حقوقه الأساسية الأخرى. وهي تتمثل في الحق في تقرير المصير، وحرية الفكر والوجدان والمعتقد، وحرية الرأي والتعبير، وحرية الاجتماع السلمي، وحرية تكوين الجمعيات بما في ذلك الحقوق النقابية، والحق في المشاركة في الشؤون العامة للوطن، والحق في تقلد الوظائف العامة في البلد دون تمييز.

من أهم المعوقات التي تحول دون استيعاب قضية الحقوق في المنطقة العربية أمران يجيء أولهما من خارج الثقافة العربية، ويجيء ثانيهما من داخلها، الأول هو المثال السيئ الذي قدمته الدول الديمقراطية الغربية في موقفها من حقوق الإنسان خارج حدودها، أي في العالم النامي ولا سيما في الوطن العربي والإسلامي. والثاني هو سطوة الأعراف الموروثة على تصرف الفرد متذرعة بالدين.

فقد أعطت الدول الغربية المثال الأسوأ على امتهان حقوق الإنسان خارج وطنها والإنسان في الوطن العربي بخاصة، فالتحيز الرسمي السافر عند بعض الدول الغربية -وعلى رأسها أميركا وبريطانيا- في انتهاكات لحقوق الإنسان الفلسطيني على أيدي إسرائيل لكرامة الإنسان وحقه في الحياة والتملك والأمن في فلسطين هو نقطة أساسية تسجل على هذه الدول التي تتصف بازدواجية المعايير في التعامل مع الشعب الفلسطيني والعربي. وهناك الانتهاكات لحقوق الإنسان المسلم في الدول الغربية من خلال "الاسلاموفوبيا" والتعامل بشكل غير مقبول مع الشباب المسلم في أوروبا وأمريكا من خلال انتهاكات كبيرة في حقوقهم الأساسية. مما أدى لرفض كبير من الشباب العربي للفكر الغربي لحقوق الإنسان الذي اتسم بازدواجية المعايير والعمل وفق مصالحهم المطلقة، بدون أي اعتبار لحقوق الإنسان.

أما الأمر الثاني فهو يتلخص بالتقاليد الموروثة ونسبتها إلى الإسلام والأثر السلبي في اتجاه استيعاب قضية حقوق الإنسان، وهذا يضع مسؤولية كبرى على علماء الدين الإسلامي ورجاله لتقديم رؤى تستلهم الإسلام وتستوعب الحداثة وتدافع عن الحريات وترسخها.

تحسن أوضاع حقوق الإنسان خلال الثورات العربية

إنّ الثورات التي انطلقت في الدول العربية عزّزت وضع حقوق الإنسان في المنطقة، وتدفع باتجاه انتزاع حقوق ظلّت حكومات هذه الدول تنتهكها طيلة العقود الماضية. إن ما يدعو إلى التفاؤل بهذه الثورات، أنّها شعبية عارمة، كلّما أمعنت سلطات الحكم في قمعها، زادها ذلك القمع قوّة وصلابة، وتمسّكا بالمطالب العادلة في الحرية والعدالة الاجتماعية، حيث تمكنت من كسر جدار الخوف المتمثل في المطالبة بحقوق الإنسان، والحريات العامة، حيث ليس من السّهل أن يستسلم رجال الأمن لاحترام حقوق الإنسان، ولكنّ المجتمع ومؤسساته النّشطة مثل المنظمات الحقوقية وهيئات المحامين والقضاة، وغيرها من المؤسسات الفاعلة، لا تتوقّف عن المطالبة بالإصلاحات الضرورية، والضّغط من أجل إرساء منظومة قضائية قادرة على تحقيق العدالة ومحاسبة الضّالعين في انتهاكات حقوق الإنسان من رجال الدولة الأمنية.

إنّ منظمات حقوق الإنسان العربية تعمل على وضع دعائم تهدف إلى تعزيز حقوق الإنسان، ليتمكّن مواطنو الدول العربية من ظروف العيش الكريم. أنّ هذا التحسّن الملحوظ في المطالبة باحترام حقوق الإنسان في الدول العربية منذ قيام الثورات العربية حقّق تقدّما غير مسبوق رغم انه مازال أمام النّشطاء كثير مما يجب القيام به، لحلّ أجهزة القمع، وعدم الرجوع إلى الوراء.

ستلعب وسائل الاتصال الحديثة خلال السنوات القادمة دورا استراتيجيا بين من يدافعون عن الكرامة والحرية وبين من ينتهكون حقوق وحريات الإنسان ويمارسون القمع، لذلك يجب أن نكون مدركين لذلك وأن نستخدم هذا السلاح بشكل حكيم لمواجهة خصومنا الذين مازالوا يرتكبون أعمالا قمعية.

واليوم نجد أننا وصلنا إلى مرحلة حاسمة تتطلب إعادة ترتيب أوضاعنا في العالم العربي بحيث نضع حقوق وحريات المواطن العربي في أولى الأولويات وهذا ما يطالب به المواطن العربي اليوم. إنه يطالب بكرامته وإنسانيته وباحترام حقوقه وان يُعامل كإنسان عربي كما تعودنا عليه من خلال دراستنا في تاريخنا العربي وفي مناهجنا التعليمية. فالمواطن يرغب في أن يتحول ذلك إلى ممارسة يومية وبالتالي هذا هو المطلب العربي اليوم لكافة الشباب الذين يثورون من أجل الحرية والكرامة.
الدكتورة شذى ظافر الجندي
دكتوراه في العلوم السياسية
حقوق الانسان ومكافحة الفساد والتنمية



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن