الوطنية والتخوين

هوازن خداج
hkhaddaj@yahoo.com

2011 / 7 / 10

أعلن زلزال الحراك الشعبي في الساحة السورية بداية مرحلة جديدة من عودة الحياة السياسية التي تم تجميدها وهدم أركانها نتيجة الانتصار الساحق للنظام على المجتمع، ما جعل البلاد تعيش مناخ المواجهة الصامتة، بين مجموعات الحكم الممسكة بالسلطة والمستأثرة بالثروة الوطنية، وبقية أفراد المجتمع الذي استكان بكافة أطيافه للسلطة وأجهزة الأمن بحثا عن السلامة وتجنب الدخول بأي حراك سياسي لضمان البقاء خارج السجن.
لقد برزت هذه المرحلة العديد من الكلمات فعادت كلمة الوطنية لتأخذ الحيز الأول في الحوارات والمجادلات والأفكار، وفي الفرز والتصنيف، وخرجت كلمة تحت سقف الوطن لتشكل مفصلا هاما في التعبير عن الرأي لدى المواطن السوري المحروم من أدنى حقوقه.
لكن ما نلاحظه هو ارتداء هاتين الكلمتين أكثر من جلباب نتيجة عدم تحديد ماهية سقف الوطن ومعطياته، واختلاف المفاهيم حول الوطنية التي لم تأخذا نفس المنحى والمسار لدى جميع الأطياف، ما أسقطهما ضمن تأويلات متنوعة ومتعددة، تشكلت كنتيجة طبيعية لغياب التربية المواطنية التي تنص أن أكون مع الوطن من أجل خير الوطن. فالوطنية ليست شيئا جامدا ومطلقا، أو حالة مؤقتة تمر فيها الشعوب إنما هي حالة ثقافية سياسية واجتماعية تاريخية، وهي مفهوم قابل للتطور والتفاعل المستمر بين جميع الثقافات القومية والدينية في أي مجتمع تم بناؤه بالشكل الصحيح للمواطنة ضمن قوانين واضحة للجميع وتربية قادرة على إبقاء الأفراد في حالة انتماء مستمر من خلال نشر الثقافة الوطنية الديمقراطية وإقامة مؤسسات المجتمع المدني، وإحياء جميع الثقافات الموجودة في المجتمع، التي تشكل جزءاً أساسياً من الثقافة الوطنية لسوريا، حتى يسمو الشعور الوطني على جميع الانتماءات الأخرى، وإن بناء الوطن لا يكتمل إلا في انتماء الخليط الثقافي الذي يعيش على أرضه ويحترم قوانينه التي تحترم وجودهم كمواطنين.
إن الاختلاف في هذه المفاهيم هو الدليل على أن حالة الاندماج الوطني هي مجرد حالة سطحية غير متجذرة في أعماق المجتمع وهي مجرد غطاء لحالة التفكك والانقسامات التي شقت لنفسها مجرى عميقا في نسيج المجتمع. ما أدى إلى اعتماد التخوين لدى البعض لكل من يحاول إبداء رأي معارض لكل ما جرى ويجري من ممارسات تعسفية بحق من يرفع صوته لرد اعتباره كمواطن يتمتع بأهلية الحصول على الحقوق المنشودة، ولم يكن المطالبين بحقوقهم وبعمليات الإصلاح مهما علا سقفها أخف حدة أو أكثر وعي فاعتمدوا التخوين لكل من يقف مع النظام ولمن لا يتبنى أفكارهم بحذافيرها لأسباب متنوعة قد يكون أهمها شعورهم أن الوضع لن يحتمل التعددية في وجهات النظر ولا يقبل الحلول الوسط، ضاربين عرض الحائط ما يسمى اختلاف وجهات النظر واحترام حق الآخر بالتعبير.
مما لا شك فيه أن المرحلة السابقة مثلت بالنسبة للكثيرين من أبناء الشعب السكينة والأمان فقبلوا الفتات متمسكين بمقولات وشعارات كبيرة تتمثل بالمواقف الخارجية لهذا النظام، والإبقاء على سوريا خارج إطار التسوية والاستسلام، ووقوفها في وجه أعداء الأمة ودعم المقاومة، يضاف إليه خشية الوقوع تحت رحمة الفوضى والإرهاب التي رآها في العراق بعد الاحتلال الأمريكي له، وخوف السقوط بحالة التوتر الطائفي والفئوي القائم في لبنان. ما جعل جزء كبير من الشعب السوري يعتمد كلمة الوطنية لكن بمعادلة خاصة تحتم عليه أن يكون مع النظام الحاكم دون أدنى استنكار لما فرض عليه مغلقا فمه عن مشكلاته اليومية العامة والخاصة، غاضا النظر عن رؤية الفساد المستشري دون رادع حتى صار يكم فمه عن المشكلات الاقتصادية والسياسية التي فرزتها الخطوات المديدة لحالة التجويع القائم والمستمر بشكل أو بآخر متحولا عن المشكلات التي لم تنحل عقدها نتيجة الخلل الهائل في ميزان القوة بين السلطة والمجتمع لتبني معادلة الوطنية المطروحة والمفروضة لاكتساب العيش بأمان.
فقد فرضت معادلة العيش بأمان للبعض أن يكونوا مع السلطة وفرضت معادلة الوطنية أن يكونوا مع النظام أو ضد النظام، وأسقط الوطن جانبا ولم يأخذ دوره في تحديد وتعريف الوطنية ضمن معادلة تحكم جزء كبير من الشارع السوري يقوم بما نشهده الآن من حالات التخوين لكافة الأطياف المعارضة للنظام. وفرضت مرحلة التجويف وحالة الفراغ والتجمد التي عاشتها معارضات، لم تستطع تمثيل قاعدة شعبية واضحة المعالم، أن تتخذ التخوين وسيلة وسلاح تشهره بوجه من يقف موقفا مخالفا لما تراه في الواقع السوري المرتبك، متناسية أنها لم تمتلك حتى اللحظة برنامج سياسي يقنع القواعد الشعبية بجدوى هذا البرنامج في مواجهة برامج النظام كما هي اللعبة السياسية المتعارف عليها في كل دول العالم، وأنها غارقة بأزماتها ولا تستطيع الخروج والتوحد مع بعضها في وضع برنامج سياسي إنقاذي للوطن السوري.
إن هذا الشكل من التخوين ليس وليد اللحظة وليس نتيجة حالة الحراك التي نشهدها الآن، هو النتيجة الطبيعية لحالة الارتباك الذي وصل إليه المجتمع السوري بعد تدمير قواه الداخلية ومبادئه الوطنية من خلال كل حالات الحجب للديمقراطية وتحويل الوطن والوطنية لجهة واحدة هي المستفيدة من خيرات هذا الوطن. وكون تلك المعارضة أو المعارضين منقسمون أساسا بين تيارات إسلامية مغالية أو على حدود الطائفية لها انعكاسها الشديد على ساحة البلد المتعدد الطوائف، يمكن اعتبارها مساهم جيد في تدعيم الأفكار الطائفية وتعزيز الانقسامات في صفوف الشعب والذهاب بالخطاب السياسي إلى خطاب ديني وتحويل العقيدة السياسية إلى عقيدة دينية، وبين تيارات مدنية لم تأخذ فرصتها في شرح أهدافها وتحويل المعنى المدني إلى حالة متداولة بين صفوف الشعب، مما أبقاها فكرة غامضة ملتبسة بالنسبة للكثيرين فلم تستطع فرض وجودها في الشارع السياسي.
إن ما تعيشه سوريا الآن من حالات التخوين والتلاعب بمفاهيم الوطنية هو أشد إيلاما وتشويها لكافة حقائق الشعب الذي عاش وعايش كل أزماته بصمت ولا يمكننا اعتبارها ببساطة ردة فعل على انعدام الديمقراطية، ولا يمكن قبولها من الجميع أيا كانت ولاءاتهم، فبعد أن سقط المواطن السوري لسنين طويلة خلف لقمة العيش المغمسة بالذل اليومي دون أدنى تعبير عن الوجع لا يمكن القبول اليوم بأن يتم التلاعب فيه عبر مفاهيم خاصة بالمواطنة يسوقها كل على هواه، ولا يمكن القبول بالتهم التخوينية لإثبات وجهات النظر وتثبيت الأقدام في خندق واحد، فتعددية الآراء حول مصلحة الوطن تفرض على الجميع التعامل باحترام حق الآخر في التعبير عن رأيه .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن