القسم الأول- الأزمة المالية العالمية- أبعادها وآثارها

كامل كاظم العضاض
kaladhadh@yahoo.com

2011 / 7 / 10

(القسم الأول)
الأزمة المالية العالمية
أبعادها وآثارها
مدخل:
قد يبدو العنوان العريض لهذا المقال، أعلاه، أكاديميا أكثر منه تطبيقيا ملموسا، كما قد يبدو مختصا في بحث ما يسمى بالأزمة المالية، اساسا، في الولايات المتحدة وبعض دول الإتحاد الأوربي، وليس في بقية العالم، وبالذات ليس في الدول النامية، وفي مقدمتها دولنا العربية، وخصوصا النفطية الريعية منها. والحقيقة هي أنه يخص العالم برمته، وبالذات الدول المصدرة للأزمة، من جهة، (الدول الرأسمالية الكبرى، كالولايات المتحدة واليابان والإتحاد الأوربي)، والدول المستوردة للأزمة، وهي بقية دول العالم، وخصوصا منها الدول النفطية الريعية، من جهة أخرى. إلا أن أبعاد الموضوع ومضامينه واسعة جدا، كما ان آثاره متشعبة، منها ما هو مباشر وقصير الأمد، ومنها ماهو غير مباشر وطويل الأمد، وعليه، في مقال مكثّف كهذا، مطروح، عموما، للقراء، من غير المتخصصين، يصعب تناول وشرح كل الأبعاد والمضامين والآثار، ولذلك سيتم التركيز على الأبرز والأهم منها، متجنبين الخوض بنقاشات فنية أونظرية صرفة، فهذه قد تستبعد القراء غير المتخصصين.
1. في مفهوم الأزمة المالية، عموما، والأزمة المالية العالمية الحالية، خصوصا؛
كما هو معلوم للجميع، أن المجتمعات البشرية تكونت من خلال تكوّن الجماعات التي رضيت بالعيش المتجاور في مدن أو بلدان، ومن ثم بدأت بكسب عيشها من خلال تقاسم العمل، فتقسيم العمل هو العامل الحاسم في قيام ما يسمى بالإقتصادات المحددة جغرافيا، وهذه الأخيرة بدورها تصبح كيانات إقتصادية تتبادل أو تتقاسم العمل مع كيانات مماثلة أجنبية أو خارج حدودها، وهكذا يتم ما يسمى بالتبادل التجاري، او ما يسمى اليوم بالتجارة الدولية. بيد أن الإنتاج المحلي أو الوطني يقوم على إنتاج البضائع والخدمات، ونتيجة التبادل التجاري و التحويلات المجانية بين المنتجين، او ما بين الحكومة والمواطنين الذين تُستقطع نسبة من إنتاج المنتجين منهم، كضرائب، وذلك لقاء خدمات الأمن والمنافع العامة المقدمة لهم جميعا. فالأفراد والهيئات الإجتماعية، تًستهلك نسبة، ربما كبيرة من الإنتاج المحلي، ويصدّر الباقي لكيانات إقتصادية أخرى، وبالمقابل يتم إستيراد بضائع وخدمات من تلك الكيانات. وكان التبادل في مراحله الأولى يتم بالمبادلة العينية، ولكننا نعلم، تأريخيا، بأن ذلك كان نمط بدائي من الإنتاج والتبادل، وإن النقود، كواسطة أساسية للتبادل المريح والعملي، نشات منذ فجر الحضارات، فقد جاء في شريعة حمرابي، أي منذ ما يقرب من ألفي عام قبل الميلاد، تحديدا للغرامات والضرائب والعقوبات، مقيسة بمقادير محددة من الفضة أو الذهب. وإستخدام الفضة والذهب هو حالة راقية و متقدمة على المقايضة، بل وعلى إستخدام الحصى اوالمحار البحري، كنقود، كما في الحضارات المدينية السابقة أو في المجتمعات البدائية في أفريقيا التي كانت معزولة عن العالم في قرون سابقة. ولعل إستخدام الذهب، كوسيلة للدفع، كان وربما سيبقى هو الوسيلة الأكثر ضمانا وثباتا لتحقق التبادل، والإستقرار في الأسعار، مما يحافظ على القوة الشرائية للبائع، إذ يستطيع المشتري إعادة بيع ما إشتراه بكميات من الذهب تتضمن زيادة في كمياتها لتعطيه هامشا من الربح. لقد إتسع إستخدام الذهب إستخداما هائلا في عصر ما يسمى بالمذهب التجاري، Mercantilism، في أوربا، وخصوصا في بريطانية الناهضة والغازية إستعماريا للهند وآسيا واجزاء كبيرة في أفريقيا، منذ القرن السابع عشر، وحتى بداية القرن التاسع عشر، عندما بدأ المذهب المسمى بنظام التجارة الحرة، Free Trade System، في بريطانية أيضا، بالرواج، وإمتد، خصوصا الى الولايات المتحدة، وهي الإقتصاد الناشئ الذي كان يمور بغزارة الإنتاج والإبداعات التقنية. وعندها تزايد إصدار ما يسمى بالعملة الورقية، كتعهد للدفع بالذهب آجلا، بالنظر لمحدودية كميات الذهب في العالم، مما قد يعيق سرعة وكمية التبادلات التجارية. ولكن هذه العملة التي كانت تصدرها السلطة النقدية التي تحوّلت الى بنك إنكلترا منذ ذلك الوقت، بقيت مقوّمة بمعيار الذهب، أي أن المواطن يستطيع إستبدال الباون الإنكليزي الورقي بما يوازيه من كمية الذهب، وهي محددة بعدد من الغرامات من الذهب. وهكذا نشأ ما سمي بالنظام المعيّر بالذهب، Gold Standard System، (1) ولكن هذا النظام، بعد سنوات من التطبيق لغاية قيام الحرب العالمية الثانية، اصبح محدِّدا ومقيدا للتبادلات التجارية بسبب محدودية كميات الذهب المتاحة للتداول في العالم. و كانت الدول الرأسمالية الناهضة في أوربا قد تلمّست محدودية النظام النقدي المعيّر بالذهب أثناء وبعيد الحرب العالمية الأولى، بين ألمانيا ودول المحور، من جهة، وبريطانية وحلفاؤها، من جهة أخرى. ومما زاد الطين بلّه، أن هذا النظام كاد ان ينهار وتنهار معه العملات العالمية المرتبطة به اثناء حصول الكساد الكبير في أوربا خصوصا في عام 1929، في المانيا بالذات، وخلال ثلاثينات القرن الماضي، حيث إستمر الركود والهمود الإقتصادي لسنوات حتى في الولايات المتحدة وهي الإقتصاد الواثب والأكثر ديناميكية بالمقارنة الى بريطانية الدولة التي إستعمرتها أو إستعمرت معظمها لما يقرب من قرن من الزمان. فلماذا كان النظام النقدي المعيّر بالذهب غير قادر على إنعاش هذه الإقتصادات بعد الحرب العالمية الأولى على الرغم من غزارة الإنتاج الحربي والمدني؟ فذلك، اساسا، لأن ربط سعر صرف العملة بالذهب، وهو محدود العرض في العالم، وكانت الولايات المتحدة تهيمن على إنتاجه الى جانب إتحاد جنوب أفريقيا وغيرها من الدول، كان لابد أن يؤدي الى نشؤ تضخم هائل، فتتلاشى القيمة التبادلية وبالتالي تنهار أسعار صرف العملات مقابل الدولار المحصن بإحتياطي ذهب عالي، وبذلك يعم الكساد التضخمي، عندها قد يفضل الناس العودة الى المبادلات العينية بدلا عن الدفع بالنقود. وفي ذات الوقت، كانت نظريات جون مينارد كينز البريطاني (2) تًَطرقُ الأبواب بقوة، إذ أثبت أن أساس الكساد هو عدم قدرة الحكومات على تحفيز الطلب، فالطلب المتصاعد سيؤدي الى خلق حوافز لزيادة العرض أي الإنتاج. وهذه نظرية جاءت لتقلب النظرية الإقتصادية الكلاسيكسة لتوقفها على رجليها، والتي كان من أكبر منظّريها الفرنسي ساي الذي سميت مقولته بقانون ساي؛ "العرض يخلق الطلب"، وهي التي عكستها نظرية كينز، إذ قالت بأن، "الطلب يخلق العرض". واخيرا إهتدت الدول الأوربية والأمريكية المتنافسة الى نظام أريد له أن يجمع حسنات العالمين، أي إبقاء النظام المعيّر بالذهب بشكل غير مباشر، والسماح بتسريع تبادل العملات وبالتالي التبادلات التجارية بنفس سرعه تداول الدولار الأمريكي المدعوم بالذهب المتيسر. ففي عام 1944، أجتمع معظم قادة الدول الصناعية الكبرى آنذاك في بريتن وود في نيو هامشير في الولايات المتحدة، لمعالجة هذا الوضع المقيّد للتبادلات التجارية الواسعة، وتدارسوه، بما يحافظ على القيمة المعيارية للذهب لعملات بلدانهم. وبما أن الولايات المتحدة كانت تهيمن على نصف إحتياطيات الذهب في العالم، وتشكل أكثر من نصف الطاقة الصناعية التحويلية في العالم كله، وان عملة الدولار الأمريكي مقوّمة بسعر؛ كل 35 دولار أمريكي يساوي أُونصة واحدة من الذهب وبشكل ثابت، لذا تقرر أن تُربط كافة الدول المشاركة عملاتها بعملة الدولار الأمريكي، أي أن سعر صرف عملاتها يقاس بسعر الدولار المقوّم بعدد محدد من كمية الذهب. وعلى ذلك، فقد تقرر السماح للبنوك المركزية للبلدان المشاركة بالتدخل للحفاظ على سعر صرف عملتها بقيمة الدولار، فإذا عانت من فائض في ميزانها التجاري وقويَّ سعر صرف عملتها، تدخل البنك المركزي لبيع هذه العملة في السوق، بمقابل الدولار، بما يساعد على تخفيض قيمتها وجعلها مساوية لسعر صرفها بالدولار الأمريكي، وإذا حصل العكس، اي عانت من عجز في ميزانها التجاري، وإنخفض سعر صرفها بالدولار، عمدت الى شراء عملتها بمقابل الدولار، لتقليل عرضها، بما يعيد سعر صرفها الى وضعه المساوي الى سعر صرفه بالدولار الأمريكي، مرة أخرى، وهكذا كان يمكن تثبيت سعر صرف العملات بمعيار الذهب، بصورة غير مباشرة، بإستخدام الدولار المريكي المثبّت سعر صرفه بالذهب. وبهذا التحوّل اصبح الدولار الأمريكي يعتبر عملة مرغوبا بها عالميا، وبالتالي صار إحتياطيا لعملات الدول المشاركة في التجارة الدولية، وهذه إتسعت لتشمل جميع بلدان العالم اليوم. بيد أن التطورات اللاحقة في الإقتصاد الأمريكي أدت الى نشؤ تضخم كبير في الأسعار وعجز كبير في الميزان التجاري الأمريكي، مما أدى الى تدهور قيمة الدولار، فطلبت من اليابان والمانيا التدخل تخفيض قيمة عملتيهما، لكنهما ترددا وإعتذرا لأن ذلك كان سيؤثر على قيمة صادارتهما. وهذا مما حدا بالولايات المتحدة في عام 1971 الى قيام رئيسها ريشارد نيكسون آنذاك بإتخاذ قرار لمغادرة النظام المعيّر بالذهب، أي ربط الدولار بكمية محدّدة من الذهب، وجعل قيمته معوّمة، أي يتحدد سعرها بالسوق حسب عوامل العرض والطلب. وقد حاولت البلدان الصناعية الأخرى معالجة الموضوع بمؤتمر سُميَّ "مؤتمر سميثسونيان"، لكنها فشلت، وبهذا تم الإتفاق في عام 1973 على نظام تعويم العملات الموّجه أو المدار مركزيا من قبل مصارفها المركزية. ولكن هذا الوضع عزّز، مرة أخرى، من قيمة وسعر صرف الدولار الأمريكي، حيث ظل هو العملة المرجعية، بسبب هيمنة الولايات المتحدة على النسبة الأعظم من تجارة السلع في اسواق التجارة العالمية، وهكذا بقي عملة الإحتياط النقدي العالمية. ولهذا الوضع المحرز عالميا بالنسبة لعملة الدولار نتائج وآثار كبيرة وربما مثيرة سنبيّنها في دراستنا هذه لاحقا.
مما تقدم يبدو واضحا بأن أي تخلخل أو تذبذب بقيمة الدولار ستؤدي الى خلخلة وتذبذب في قيمة وسعر صرف العملات الدول المرتبطة بالدولار، وإن بشكل غير مباشر، لاسيما وغالبيتها يحتفظ بالدلار كإحتياطي نقدي لتثبيت إستقرار عملاتها المحلية. بهذا هو المعنى العام للأزمة المالية العالمية، التي تعني بان أي عجز في الميزان التجاري الأمريكي سيؤدي الى تدهور قيمة الدولار بسبب زيادة عرضه، مما سيؤثر على سعر صرف العملات الأخرى المرتبطة به، مما سيضطرها الى شراء الذهب بفوائضها من الدولارات، فتزيد من عرضه في السوق العالمية، مسببة له مزيدا من الإنتكاس في قيمته. ولمّا كانت الولايات المتحدة لا تملك عرضا زائدا من البضائع والخدمات لطرحها في السوق العالمية لإمتصاص المعروض الفائض من الدولارات، فإن عجزها التجاري سيأخذ بعدا أزمويا أو حتى كارثيا، قد يودي بعملة الدولار ويسبب إنهيارها دوليا، وربما الى إستبعادها، كإحتياطي نقدي لعملات الدول الأخرى. وهذا امر حصل في حالات متباعدة تأريخيا، ولكنه لم يأخذ الحدة التي أخذها منذ منتصف عام 2007، لحد الآن. ومما زاد الطين بلّة، أن السلطة النقدية الفدرالية لجأت الى إصدار تريلونات الدولارات لمقابلة إلتزامات خانقة، منها؛ محاولة تسديد فواتير العجز التجاري، ومحاولة تسديد إنفاقاتها الحربية الهائلة، بعد 11 ايلول 2001، في كل من أفغانستان والعراق، ومحاولة سدّ ديونها واجبة الدفع، مثل سداد فوائد أذونات وسندات القروض الأمريكية، الداخلية والخارجية. وهنا تفاقمت هذه الضغوط الهائلة على الإقتصاد الأمريكي، وعززتها سياسات الإئتمان المصرفية وقروض الإسكان وإفلاسات بنوك وشركات تأمين هائلة الحجم، بل وعجوز في إنفاقات وميزانيات حكومات بعض الولايات، وزيادة ضغوط واعباء ديون دول أجنبية، كالصين وغيرها؛ كل هذه العوامل وضعت الولايات المتحدة على وشك الإفلاس، ما لم تطبع المزيد والمزيد من النقود الدولارية، لتسد عجوزها البالغة أربع تريولنات من الدولارات، ومديونيتها القائمة التي بلغت لحد الآن حوالي 14 تريليون دولار، فما هي آثار كل هذا على الدول الأخرى وعلى التجارة العالمية؟ (3)، وعلى وضع الدولار، كعملة إحتياطي نقدي عالمي؟ (4)، وعلى الأخص، ما تأثير كل ذلك على وضع البلدان التي تعتاش على صادراتها المقوّمة بالدولار، اصلا، كما هي الحال بالنسبة للدول المصدرة للنفط الخام التي تشكل إيرادادتها الريعية من صادراتها هذه المقوّمة بالدولار مصدرا لنموها ولعيشها الأساسي؟ هذا هو السؤال الأخير الذي تهمنا كثيرا الإجابة عليه؟!
على العموم، ما تقدم يمثل إجابة عامة على مفهوم الأزمة المالية العالمية، بسياقها التأريخي والخاص، أي الذي يتعلق بالأزمة الراهنة التي يكابد منها ليس الإقتصاد الأمريكي وحده، بل العالم كله. ولكن هذا لا يلغي الحالة التي سيكون فيها مستفيدون كبار وكبار جدا. من هم؟ وكيف؟ سنتناول الإجابة على هذه الأسئلة في القسم الثاني اللاحق بهذا الموضوع.

د. كامل العضاض*
10-تموز-11 20
KALADHADH@YAHOO.COM
*الكاتب، إقتصادي متخرج في جامعة ويلز في بريطانية، وله دراسات وبحوث إقتصادية قياسية عديدة، وعمل لسنوات بصفته مستشارا إقليميا في الأمم المتحدة في الحسابات القومية والإحصاءآت الإقتصادية.
بعض المراجع:
1. Kimberly Amadeo-- What Is the Gold Standard, and How Would a Return Affect the U.S. Economy?
2. John Maynard Keyenes --1936 The General Theory of Employment, Interest and Money
3. WTCA- World Trade Centers Association Members website http://www.wtcaonline.com/
4. WealthDaily.com/Inflation -- The Dollar is Dying!



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن