ثلاثة مفاهيم للثورة

ليون تروتسكي
contact@marxy.com

2017 / 8 / 3

لم تشكل ثورة 1905 "التجربة العامة لسنة 1917" فحسب، بل كانت أيضا المختبر الذي انبثـقت عنه كل التجمعات الأساسية للفكر السياسي الروسي، و حيث ارتسمت و تـقولبت جميع اتجاهات الماركسية و تنوعاتها. و كانت مسألة الطابع التاريخي للثورة الروسية و مسالك نموها المقبلة في مركز الاختلافات و المنازعات. و صراع المفاهيم و التوقعات هذا بحد ذاته، لا علاقة مباشرة له بسيرة ستالين الذي لم يشترك بشكل مستقل في هذه المجادلات. فالمقالات الدعائية القليلة التي كتبها حول هذه المادة، خالية من أية فائدة نظرية. و قد نشر عشرات البلاشفة بأقلامهم هذه الأفكار نفسها، و ذلك بطريقة أوفى بكثير. إن عرضا نقديا للمفهوم الثوري للبلشفية، كان يجب عليه، بحكم طبيعة الأشياء نفسها، أن يحتل مكانه في سيرة لينين. إلا أن للنظريات مصيرا خاصا بها.

إذا لم يكن لستالين موقف مستقل أثـناء فترة الثورة الأولى وفيما بعد حتى سنة 1923، عندما كانت المذاهب الثورية تحضر وتطبق، فإن الوضع ابتداء من منة 1924 تغير فجأة . فمنذ ذلك الحين بدأت فترة الردة البيروقراطية و المراجعة الصارمة للماضي. فإذا بحبكة الثورة تجري معكوسة. المذاهب القديمة تخضع لتـقيـيمات جديدة أو لتغـييرات جديدة. و يتركز الانتباه بطريقة غير منتظرة أبدا من أول وهلة على مفهوم "الثورة الدائمة" بوصفها منبع جميع عثرات التروتسكية . ومن وقتذاك وعلى مدى عدد معين من السنين أصبح نقد هذا المفهوم يشكل المضمون الرئيسي للعمل النظري لستالين و معاونيه. بل إننا نستطيع القول إن الستالينية كلها على الصعيد النظري تطورت من خلال نقد نظرية الثورة الدائمة كما صيغت سنة 1905. و بالتالي فإن تحليل هذه النظرية المتميزة عن نظريات المناشفة و البلاشفة، لا يستطيع إلا أن يشكل قسما من هذا الكتاب و لو كان ذلك على شكل ملحق.
*****

إن نمو روسيا مطبوع قبل كل شيء بوضعها المتأخر. إلا أن وضعا تاريخيا متأخرا لا يستتبع في تطوره نسخا بسيطا عن نمو البلدان المتقدمة مع فارة قرن أو قرنين. إن وضعا كهذا يخلق بنية اجتماعية "مركـَّبة" جديدة كل الجدة حيث تتأصل آخر فتوحات التكنيك و البنية الرأسمالية في علاقات بربرية إقطاعية وما قبل الإقطاعية. فتحولها و تسودها خالقة بذلك وضعا خاصا جدا من العلاقات الطبقية المتبادلة. و الشيء نفسه يجري في مجال الأفكار. إن روسيا، بسبب وضعها التاريخي المتأخر بالضبط، تجد نفسها البلد الوحيد حيث بلغت الماركسية كمذهب، و الاشتراكية الديمقراطية كحزب نموا قويا حتى قبل الثورة البورجوازية. فطبيعي جدا أن تكون مسألة الارتباط ما بين النضال من أجل الديموقراطية و النضال من أجل الاشتراكية قد خضعت إلى تحليل عميق نظريا في روسيا بالضبط .

لقد رفض النارودنيون، و هم جوهريا مثاليون – ديمقراطيون اعتبار الثورة الجارية ثورة بورجوازية . فنعتوها بـ "الديمقراطية" محاولين بواسطة صيغة سياسية محايدة ، أن يحجبوا مضمونها الاجتماعي لا عن الآخرين فقط بل عن أنفسهم. لكن بليخانوف، مؤسس الماركسية الروسية، في نضاله ضد النارودنية، أعلن حوالي سنة 1880 أنه ليس من سبب كي تأمل روسيا طريقا للتطور متميزا و أنها مثلها مثل الأمم "الأجنبية" الأخرى، عليها أن تمر عبر مطهر الرأسمالية و أنها باتباعها هذا المسلك بالضبط، سوف تحظى بالحرية السياسية التي لا غنى عنها لنضال البروليتاريا من أجل الاشتراكية. ولم يكن بليخانوف يفصل بين الثورة البورجوازية كمهمة والثورة الاشتراكية – التي كان يرجئها إلى مستقبل غير محدد – فحسب، بل كان ينسب إلى كل منها تركيبات للقوى، مختلفة تماما.

كان على البروليتاريا المتحالفة مع البورجوازية الليبرالية أن تحقق الحرية السياسية. و بعد مضي عدة عقود و بعد بلوغها مستوى أعلى من النمو الرأسمالي، تستطيع البروليتاريا في نضال مباشر ضد البورجوازية، أن تقود بشكل ناجح الثورة الاشتراكية.

أما لينين من جهته، فكان يكتب في نهاية عام 1904:
"يظهر دائما للمثقف الروسي أن تحديد ثورتنا على أنها ثورة بورجوازية يعني إزالة لونها وتذليلها و الحط من قدرها... بالنسبة للبروليتاريا ليس النضال من أجل الحرية السياسية ومن أجل الجمهورية الديمقراطية ضمن المجتمع البرجوازي أكثر من مرحلة ضرورية في نضالها من أجل المجتمع الاشتراكي " . وكتب سنة 1905: "إن الماركسيين لمقتنعون تماما بالطابع البورجوازي للثورة الروسية. فماذا يعني هذا؟ إن هذا يعني أن تلك التحولات الديمقراطية... التي أصبحت لا غنى لروسيا عنها، لا تدل بنفسها على محاولة لدك الرأسمالية ، لدك الثورة البورجوازية ، بل إنها ، على عكس ذلك ، تفتح الطريق للمرة الأولى وبشكل مشروع، أمام نمو رحب و سريع للرأسمالية على النمط الأوروبي لا الأسيوي. و لأول مرة سوف تجعل هذه التحولات من الممكن سيطرة البورجوازية بوصفها طبقة..."

وكان يشدد على "إننا لا.نستطيع القفز فوق الإطار الديمقراطي البورجوازي للثورة الروسية ، غير أننا نستطيع توسيع هذا الإطار بنسب هائلة". أي أننا نستطيع أن نخلق ضمن المجتمع البورجوازي ظروفا أكثر ملاءمة بكثير للنضال المقبل للبروليتاريا. في هذه الحدود ، كان لينين يتبع بليخانوف. فكان الطابع البورجوازي للثورة يشكل نقطة انطلاق جناحي الاشتراكية-الديمقراطية الروسية .

فمن الطبيعي جدا، في ظروف كهذه، ألا يتعدى كوبا (1) (ستالين)، في دعايته، تلك الصيغ الرائجة التي كانت تخص البلاشفة و المناشفة على حد سواء.

فكان يكتب في كانون الثاني سنة1905: "إن ما يجب أن نناضل من أجله الآن هو الجمعية التأسيسية المنتخبة على أساس الاقتراع العام المتساوي و المباشر و السري. و هذه الجمعية وحدها ستأتينا بالجمهورية الديمقراطية التي نحن بأمس الحاجة إليها في نضالنا من اجل الاشتراكية." الجمهورية البورجوازية كميدان لصراع طبقي ذي نفس طويل من أجل الهدف الاشتراكي ، هوذا أفق المستقبل.

في سنة 1907، أي بعد نقاشات لا تحصى في صحافة بطرسبرج و في الخارج، و بعد اختبار جدي لمتوقعات النظرية في تجارب الثورة الأولى، كتب ستالين :
"كون ثورتنا بورجوازيه، و أنه يجب عليها أن تـُتمم هدم النظام الإقطاعي لا النظام الرأسمالي، و أنها تستطيع أن تتوج فقط بالجمهورية الديمقراطية، تلك النقاط من الظاهر أن الجميع في حزبنا متفقون عليها".

لم يكن ستالين يذكر بماذا تبدأ الثورة، بل كان يتكلم بما تؤدي إليه وحدد ذلك سلفا و بشكل قاطع تماما بالجمهورية الديمقراطية فقط". و قد نبحث دون جدوى في كل كتاباته حتى عن إشارة إلى أي توقع لثورة اشتراكية ما علاقة مع إسقاط الديمقراطية. هكذا كان موقف ستالين حتى في بداية ثورة شباط 1917، إلى حين وصول لينين إلى بتروغراد.

*****

بالنسبة لبليخانوف و اكيسلرود وزعماء المنشفية عامة، كان تحديد الثورة الاجتماعي، كثورة بورجوازية، مشروعا من الناحية السياسية لأنه كان يمنع سلفا استفزاز البرجوازية بشبح الاشتراكية و "دفعها" بالتالي إلى معسكر الرجعية. فكان اكيسلرود زعيم تكتيك المنشفية يصرح في مؤتمر الوحدة: "إن العلاقات الاجتماعية في روسيا قد نضجت من أجل الثورة البورجوازية لا غير، فأمام الفقدان المطلق للحقوق السياسية في بلادنا. لا يسعنا بأي شكل التحدث عن صراع مباشر بين البروليتاريا والطبقات الأخرى من أجل السلطة السياسية... إن البروليتاريا تناضل لكي تحصل على ظروف نمو بورجوازي. و الظروف التاريخية الموضوعية تجمل من نصيب البروليتاريا التعاون بلا تسامح مع البورجوازية في نضالها ضد العدو المشترك" فكان مضمون الثورة الروسية يحدد هكذا سلفا بهذه التحولات المتلائمة مع مصالح البورجوازية الليبرالية وتطلعاتها .

وعند هذه النقطة بالضبط يبدأ الاختلاف الأساسي بين الجناحين . فلقد كانت البلشفية ترفض الاعتراف إطلاقا بأن البورجوازية الروسية قادرة على قيادة ثورتها حتى النهاية . وكان لينين يعتبر بقوة وبحلابة أكثر من بليخانوف بما لا يقاس، أن المسألة الزراعية هي المشكلة المركزية في الانقلاب الديمقراطي في روسيا. فكان يودد أن النقطة الأساسية في الثورة الروسية هي المسألة الزراعية (مسألة الأرض). ويجب على استنتاجات تتعلق بالهزيمة أو بالنصر أن تعتمد... على تقدير حالة الجماهير في النضال من اجل الأرض". كان لينين يعتبر، مع بليخانوف، أن طبقة الفلاحين هي طبقة بورجوازية صغيرة. و أن برنامج الفلاحين الزراعي هو برنامج تقدم بورجوازي. فنجده يشدد في مؤتمر الوحدة على "أن التأميم هو تدبير بورجوازي: أنه سيدفع نمو الرأسمالية، ويزيد من حدة الصراع الطبقي، ويقوي التعبئة من أجل الأرض، و يسبب تدفق الرساميل إلى الزراعة، و يخفض سعر الحبوب". غير أن البورجوازية الروسية قد بقيت، بالرغم من الطابع البورجوازي الذي لا جدال فيه للثورة الزراعية، معادية لمصادرة الأملاك الكبيرة و كانت تؤيد لهذا السبب بالضبط تسوية مع الملكية على أساس دستور حسب النموذج البروسي. فإزاء موقف بليخانوف المنادي بتحالف بين البروليتاريا والبورجوازية، رد لينين بفكرة تحالف بين البروليتاريا و الفلاحين. و أعلن أن مهمة التآزر الثوري بين هاتين الطبقتين، هي إقامة "دكتاتورية ديمقراطية" كوسيلة وحيدة لتطهير روسيا جذريا من جميع بقايا الإقطاعية، و لخلق نظام فلاحين أحرار و لفتح الطريق أمام نمو الرأسمالية طبقا للنموذج الأمريكي لا البروسي .

كان لينين يكتب أن انتصار الثورة لا يمكن أن يكرس إلا دكتاتورية، لأن انجاز التحويلات التي تحتاج إليها البروليتاريا والفلاحون بصورة ماسة وفورية سوف يسبب مقاومة يائسة من قبل مالكي الأراضي و الرأسماليين الكبار، و القيصرية. فسيكون من المستحيل بلا دكتاتورية، تحطيم هذه المقاومة و دحر المحاولات المضادة للثورة. غير أن هذه الدكتاتورية لن تكون طبعا دكتاتورية اشتراكية و إنما دكتاتورية ديمقراطية. فلن يكون بمقدورها (دون المرور بسلسلة كاملة من المراحل الانتقالية للتطور الثوري) أن تمس أسس الرأسمالية و لن يمكنها في أحسن الأحوال، إلا القيام بإعادة تقسيم جديد و جذري للملكية العقارية لمصلحة الفلاحين، و إدخال نظام ديمقراطي صلب و كلي يذهب حتى إقامة الجمهورية و استئصال جميع السمات الاسيوية و الاقطاعية ليس فقط من حياة القرية اليومية بل كذلك من المصنع، و تدشين تحسينات جدية لوضع الشغيلة و ذلك برفع مستوى معيشتهم، ثم، و فوق كل شيء القيادة الناجحة للاشتعال الثوري في أوروبا.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) الذي لا يقهر. اسم مستعار لستالين، أثناء الفترة القيصرية. -ملاحظة المترجم-
--------------------------------------------------------------------------------
كتبه : ليون تروتسكي
سنة: 1940 و لم يكمله
المصدر : "فصل من سيرة ستالين"
مصدر النسخة العربية : ثورة دائمة أم ثورة على مراحل؟ دار الشمس (ص 23 - 49 )
نسخ الكتروني : وجدي حمدي (سبتمبر 2004)



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن