تعقيباً على مقالة ((الوجه الآخر لانهيار النظام الاشتراكي)) ... وماذا عن دور البورجوازية الجديدة؟

زياد منصور

2002 / 8 / 15

طالعنا الاستاذ مسعود ضاهر في مقالة له في جريدة <<السفير>> في العدد 9264 بتاريخ 2 آب 2002 والمعنونة بما يأتي: <<الوجه الآخر لانهيار النظام الاشتراكي في روسيا>>، باستنتاجات كثيرة حول أبرز تجليات الانهيار ونتائجه وبعض مظاهره، مكرسا حيزا وانتباها مفرطين الى قضايا ومسائل تعرّف إليها ولمسها لمس اليد بعد زيارة له اخيرة الى العاصمة الروسية.
ومما لا شك فيه انه كُتب الكثير عن هذا الموضوع وللاستاذ ضاهر مقالات عدة في هذا المجال، الا ان شعورنا ونحن من يتتبع كتاباته بأنه هذه المرة لم يتحفنا بالجديد على غير عادته، ولذا فاننا اردنا ان نسهم معه بتوضيح بعض ما التبس علينا وما يمكن ان يلتبس على كل قارئ متابع للشؤون الروسية، خصوصا انه يظهر ان الاستاذ ضاهر ما زال تحت تأثير الانطباعات عن رحلته السابقة الى العاصمة الروسية موسكو، فبدت الاخيرة له بعد مرور خمسة عشر عاما مختلفة تماما عما هي عليه في تموز 2002، فتوسع كثيرا في شرحه وتفصيله لمظاهر هذه المتغيرات، مستنتجا بعد مقدمة طويلة: <<ان روسيا تبتعد يوما بعد يوم عن هموم العرب، بل هموم الكثير من القضايا العالمية الساخنة، وقواها الحية والفاعلة، برغم الصراع الحاد على مستوى الدولة والمجتمع، منهمكة في بناء البيت الروسي الداخلي وتنظيم اوضاعه بعد فقدان المواطن الروسي لثقته بدولته وبنفسه في السنوات العشر الاخيرة>> الخ... ويستطرد الكاتب متحدثا عن أسباب الانهيار وعجز النظام السابق عن مواجهة التحديات الاقليمية والدولية.. ثم يعود في فقرة اخرى ليتحدث عن نمط الانتاج الاشتراكي الذي أظهر عجزه الفاضح في تلبية الحاجات الاساسية للشعب الروسي اولا ومن ثم للشعوب الاخرى.. معيدا أسباب ذلك لبيروقراطية فاسدة بوجه عسكري وسياسي تحكمت بكل شيء، ليصل الى استنتاج اول مفاده ان الشعب الروسي فرح فرحا عظيما لانهيار هذا النمط البيروقراطي الذي حرمه كل شيء، ثم ايضا الى استنتاج ثان بعد استعراض وغوص مطول في الواقع الاجتماعي للمواطن الروسي، حيث تناول معاناة المرأة الروسية في النظامين القديم والجديد متعمدا تزويد القارئ بمعلومات عن سوء اوضاعها وطرق التعامل معها، محاولا بذلك الاشارة الى ان للانهيار اسبابا جمة تصل حتى الامور الاشد دقة في العلاقات الانسانية والمجتمعية التي أسهمت بالانهيار.. انه اختصار للاسباب غير مبرر وتبسيط للموضوع على أهميته، ما كان للكاتب ان يقع فيه، خصوصا انه على ما يُعتقد يعرف الكثير من الاسباب التي ادت بالحالة الى ما هي عليه! ويبدو الامر اكثر غرابة حين يلفت انتباهنا لما حدث بمنطق تبريري يظهر الانهيار وكأنه أمر منطقي ناجم عن سوء حال الناس في ظل نظام وصفه بالعسكري البيروقراطي الفاسد، هو نفسه الذي أنتج وأمّن وفق الكاتب وجود شبكات الميترو والشوارع والساحات والحدائق والمتاجر، تستخدمها البورجوازية الجديدة لكي تستعيد ترتيب البيت مستخدمة ما انتجته هذه الحقبة نفسها في اتساق غريب وغير متماسك بين البداية والنهاية، بحيث غابت الاستنتاجات والعبر الكبيرة لتتوه في قضايا صغيرة حول النساء والبنات الجميلات (تعبير الكاتب) ومسائل اخرى حول الجمال المدني وهلم جراً.. ربما ان الكاتب بذهابه الى التفصيل أراد ان يقنع القارئ بحجم الانهيار وتبعاته وهذا ليس بخطأ في بعض الاحيان، لكن لا يصح الامر عند الحديث عن تدمير لبنى اجتماعية غيرت معادلات كثيرة دوليا واقليميا ومحليا.
لقد غابت عن ذهن الكاتب مسائل جوهرية سببت عملية الانهيار. مثلا، غابت عن باله أسباب أشد عمقا للانهيار وتتعلق بعوامل مرتبطة بالضغط الخارجي الهائل والاستنزاف الكبير لطاقات المجتمع في معركة غير متكافئة مع الغرب.
غاب عن باله دور القوى الداخلية في الحزب وداخل المجتمع في عملية التقويض من خلال الاختراق الكبير للبناء الحزبي من جهات مشبوهة ومثقفين وكتاب وشعراء وعلماء ذوي انتماء قومي واحد ولون واحد.. وان كنا نوافق بعض الشيء على انه، بنتيجة بعض الضغط على المجتمع من قبل الحزب الحاكم، تعب الناس وتعب الشعب، لكننا يجب ان لا نُسقط على الاطلاق ان الامر كان يعود الى فلتان غير معقول ومظاهر انحراف اجتماعي ونقاش عبثي شجعته اوساط محددة داخل الحزب ورفضها بشدة التيار المحافظ والمتمسك بجوهر النظام.. نذكر على سبيل المثال، (موضوع الخمرة وقرار المكتب السياسي الشهير 1988 بتحديد كميات بيع الفودكا الذي أثار عاصفة شعبية تبين لاحقا ان وراءها مراكز نفوذ اقتصادية وبعض اعضاء المكتب السياسي ومرتبطة بسفارات، وقرار رئيس الوزراء ريجكوف رفع سعر قطعة الخبز الى ثلاثة كوبيكات) والذي أفرز في واقع الامر ازمة ثقة، تطورت في ما بعد الى ازمة أعمق ذات بعد سيكولوجي تجلى في اللامبالاة من قبل الناس تجاه الانهيار، فلم تخرج حتى مظاهرة واحدة تأييدا للنظام القديم في عملية انتقال سلمية للسلطة لم يعهدها التاريخ من قبل، وهذا ما كان للكاتب ان يشير اليه ولو ببعض التحليل نظرا لكون الانهيار لم يأت وليد ظروف تاريخية محددة وهو بالتالي لم يكن حتميا، او كان متوقعا ومخططا له، وهذا ما يغيب عن بال الكثيرين الذين يكتبون عن الانهيار وعن تلك الفترة بالتحديد وهو ما وقع فيه الاستاذ ضاهر ايضا.
لقد اكتملت عناصر كثيرة أوصلت البلاد الى ما هي عليه، ومن بينها انهيار الاقتصاد الوطني، وهنا ثمة أوجه شبه مع لبنان، منها سيادة الفوضى الشاملة، الاستخفاف بالعدالة وبقوى الامن والاجراءات الرادعة، وتردي الاوضاع المعيشية للسكان، اضافة الى عدم فهم الامزجة الانفصالية في الجمهوريات والمقاطعات ونمو المشاعر القومية الشوفينية التي ألهبتها عناصر لعبت في الخفاء فشجعتها الى أقصى درجة، ونمو الكره للقومية الروسية في الجمهوريات المختلفة والتي تسلطت ولم تتعايش مع الآخرين، واستفحال الصراع ليس من أجل الاصلاح والتغيير بل على السلطة بين تيارين الاول مرتبط بالخارج وبقوى داخلية (التيار الاصلاحي ذي اللون القومي والعرقي الواحد).
فوفق إحصاء دقيق حول الانتماء القومي لأعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية يظهر ان 41% من هؤلاء هم من <<القومية>> اليهودية، وبين التيار المحافظ الذي بقي حتى اللحظة الاخيرة يقاتل السياسيين الجدد من الديموقراطيين المتوحشين الطامحين للحلول محله في السلطة، لكنه فشل لكون الصراع بقي في البلاط كما يقال وداخل المكتب السياسي ولم ينقل الى الشارع، وهؤلاء هم مجموعة من المرتدين والموظفين والمهاجرين والمثقفين الادعياء من اصحاب الايديولوجيا الليبرالية الجديدة التي بدت جذابة بعد عقود من الركود.. هكذا يتبدى ان الانهيار لم يكن بسبب البيروقراطية المتعسكرة فقط كما جاء في مقالة الاستاذ مسعود ضاهر وانما ايضا بسبب الموقف المتفرج واللامبالي للقواعد الحزبية وخلفها الشارع وبسبب الشرخ الحزبي الكبير، الي جانب ما ذكره في مقالته.. لقد غاب عن ذهن الكاتب وجود حلفاء لدى الديموقراطيين الجدد الذين جذبتهم الوعود بمنصب سلطوي او بالعيش الرغيد والذين شكلوا طابورا خامسا في الحزب مستعدا لخيانته، والغريب ان اول مروج لهذه الذهنية كان الامين العام وبعض المقربين اليه.. وربما هنا نجد نوعا من التطابق مع الحالة الحزبية اللبنانية مع فارق بسيط هو ان الحزب في روسيا كان في السلطة، اما عندنا فهو خارجها.
لقد كان على الكاتب ان يشير الى جملة عوامل تعتبر بحق مظاهر للانهيار الحقيقي، والتي سببتها البرجوازية الجديدة الصاعدة والمتحكمة والتي أطبقت بقوة على النظام القديم، ورهنته للنظام الاقتصادي العالمي وللشركات العملاقة التي تتطلع الى السوق الروسية بجشع قلّ نظيره.
ولعل سبب استنتاجات الكاتب السريعة يعود لكونه لم يعش تجربة الانهيار بمرارتها. فلقد كان حريا به ان يتنبه الى مظاهر أشد بشاعة لهذا الانهيار، تسببت في الوصول الى ما ذكره هو بالذات.
اولا: التفاوت والتمايز الاجتماعي الكبير في المجتمع وفي المداخيل، وبروز مافياوية عصبها قيادات في الحزب و<<الكي جي بي>> وبعض الموظفين تراكمت بين أيديها الثروة المالية والامتيازات.. وهم الآن يشكلون غالبية أغنياء روسيا الجدد (نوفوروشي). اما عن انتمائهم القومي والعرقي فيقتصر على أبناء <<القومية>> اليهودية، فالشيشان فالتتار وفي المرتبة الاخيرة قلة من أبناء القومية الروسية.
ثانيا: فقدان غالبية الثروة الوطنية والموارد الطبيعية والباطنية، والاعتماد على مبدأ الاستيراد حتى للمواد المصنعة محليا، وتراجع الانتاج الصناعي الى ما فوق الخط الآمن، والى حد ان المجمع العسكري أصبح عاجزا عن انتاج <<ميغ 32>> الحديثة.
ثالثا: عادت الى روسيا أمراض عصر الحرب واجتياح امراض عصرية كالايدز، التيفوئيد الكوليرا، السل، الجرب، وتدمير نظام الطبابة المجانية والوقاية.
رابعا: التغيير الجيوسياسي من خلال حرمان روسيا من منافذ بحرية هامة وتقطّع اوصال الجمهوريات حتى داخل الاتحاد الروسي نفسه، وآخر مظاهره حرب الحدود مع جيورجيا، وأزمة كالينغراد بفعل انضمام دول البلطيق قريبا الى الاتحاد الاوروبي.
هكذا يتبدى بوضوح وجود بعض الخلل في ما ورد في مقالة الاستاذ ضاهر، فنحن لا نوافقه القول ان <<البرجوازية الجديدة>> والتي لا يمكن ان تجد وصفا لها في القاموس السياسي وفي الادبيات السياسية، تبدو منهمكة في اعادة ترتيب البيت الداخلي. بل على العكس، فهذا البيت هو آخر همها، وهي تسعى لنسف أسسه ودعائمه ونهب محتوياته. وهكذا، ببساطة، نجد ان الكاتب، ومن دون ان يدري، قد انضم الى القائلين بأن لا طريق آخر أمام روسيا غير الطريق الذي أُملي عليها من قبل <<الكرماء>> الغربيين وأعوانهم الروس، وبأن الواقع الذي فرضته الطبقة الجديدة كان قدرا محتوما وأمرا منطقيا، وهذا ما لا يمكن ان نتفق معه عليه، وان كان استدرك وتنبه في مقطع آخر لأمر أساسي مفاده انه برغم كل المفاتن والأبهة التي شاهدها في موسكو الجديدة، هناك الوجه الآخر المتمثل بوجود خلل أمني مريع، وحالة عدم اطمئنان يعيشها المواطن الروسي وهذا ما أعاد النص الى طبيعته الحقيقية وجوهره، وأعادنا الى الوجه الآخر للانهيار.
أخيرا تصل المقالة في نهايتها الى وصف اوضاع العرب في روسيا الذين يعيشون حالة غياب تام عما يجري، وهو الاستنتاج الاكثر دقة في مقالة الاستاذ مسعود ضاهر، بينما اسرائيل حاضرة في كل مكان. لقد كان الاستاذ ضاهر على حق عندما تحدث عن ضرورة ان يصار فعلا، من قبل الانظمة العربية، الى حماية نتاج عباقرة روس كتبوا عن القضية العربية وتاريخ العرب أكثر من العرب أنفسهم، ورفدهم بعناصر القوة لكي لا يتحولوا الى وقود علمي للكيان الصهيوني بسبب الضائقة الاقتصادية. وتبقى صرخته بحاجة الى تفعيل وبحاجة الى ان تجد لها صدى واسعا في الاوساط العربية. فإلحاق الهزيمة بالعدو في المعركة الايديولوجية والفكرية والعلمية، مهما بلغت المسافات طولا، هي ايضا اسهام في المعركة من أجل استعادة الحقوق والارض السليبة، خصوصا ان تفوق العدو يظهر في مختلف عواصم القرار، فكيف في موسكو، العاصمة التي وقفت الى جانب الحق العربي فترة طويلة من الزمن!
() كاتب في الشؤون الدولية.
 
جريدة السفير 


https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن