الهوية العربية في عالم العولمة

رسميه محمد

2011 / 4 / 9

الهوية العربية في عالم العولمة

المقدمة
أحد أوجه أزمة الثقافة العربية يتجلى في الوقت الراهن, في الفهم المشوه للهويه, وفي الصراع حول مفاهيم مناقضه لها. المسألة قديمه في بلداننا, لكن الجديد فيها أنها تحولت الى جزء من أزمه المجتمع, وأزمه التطور, وأزمه الثقافه. فاذا كان الخلاف حول العلاقه بين التراث والحداثه, بأسمائها المختلفه, قد عبر, في فترات سابقه, بما في ذلك فترات النهوض, عن اشكاليات الانتقال من التخلف الى التقدم, فأنه يعبر الان, في ظل تفاقم الأزمة العامة عن تراجع في الوعي وعن تراجع في تحديد حاجات التطور الموضوعيه لبلداننا, وتحديد المهمات المرتبطه بها . المشكله حاليا أعمق بكثير من أي وقت مضى, فأ نهيار المشاريع التي حملت شعارات التحرر والتقدم والعدالة الاجتماعية, بأسم الاشتراكية ,أوبأسماء أخرى, قد أعطى للمشكلة أبعادا جديدة. وثمة في الصراع الحالي حول الهوية, في علاقتها بالبحث عن حل للازمة القائمة, نهجان خطران, يكمل الواحد منهما الاخر كما يشير الى ذلك كريم مروه - الاول, يرى الحل في التماهي مع كل مايأتينا من جديد من العالم . ويعتبر التمسك بالتراث عائقا أمام التقدم. فالتقدم, بالنسبة لهذا الفريق, هو عملية مطلقة, وفي الاطلاق ,هنا, تغييب لوظيفة التقدم .اذ لاتقدم الا في الزمان والمكان, وفي الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والانساني ,أي في الخصوصيات القومية, التي فيها تتحدد الهوية. وبهذا الربط بين المكان والزمان والانسان, وبين التقدم, يأخذ التقدم موقعه الصحيح. الثاني ,يرى في العودة الى الماضي.أي الى مايعتبره أنه الاصول , الحل لمشكلاتنا. ويرى المصدر الاساسي للخلل, المتمثل في الازمة القائمة ,هو الابتعاد عن التراث ,بهذا المعنى, أي الابتعاد عما يجري تصويره على أنه أساس الهوية الثقافية والحضارية, في شكلها التاريخي المؤدلج. ويرى هذا الفريق في الخارج عدوا, لمجرد كونه الاخر المختلف , فيرفض كل مأياتي منه, حتى ولو كان فيه مايساعد على تقدمنا.ويتعامل معه ,حتى ولو كان علوما ومعارف انسانية عامة, كسلعة استهلاكية مفروضة علينا. ويبرز, في صفوف ايديولوجيي الرأسمال المعلوم المتوحش, من ينظر لحتمية هذا النوع من الصراع بين هذين الموقفين الخاطئين, في بلداننا, وفي البلدان التي نلتقي معها في الانتماء الى العالم المتخلف ,من نوع صراع الحضارات, ومن نوع حروب الثقافات ,علما بأن صراع الحضارات هومفهوم مصطنع ,لا تبرره كل عناصر الاختلاف والتمايز القائمة بين الشعوب. أما حروب الثقافات فهي موضوعة مضللة أطلقها مؤدلج الرأسمال المعولم هنننغتون .والواقع هو ثمة ثقافات تنتج, اليوم, وتعمم, عن وعي, من أجل أن تكون مصدرا لحروب مصطنعة , وظاهرة التعصب القومي والديني في الظرف الراهن ,لا يمكن اعتبارها , تعبير عن صحوة قوميه, أو صحوة دينية, وهذا الراي لايقلل من أهمية المسالة القومية ,ولا من أهمية المسالة الدينية. ولكنه يرمي الى اعادة الامور الى نصابها, منعا للتشويه, والتزوير (1) ..
أهميه البحث... تكمن أهمية البحث بأن مفهوم الهوية بات يحتل اليوم مساحة واسعة من التفكير والخطاب ,وبخاصة منذ أن اثارت العولمة وبدايات مابعد الحداثة تساؤلات عديدة في مقدمتها اشكالية الثقافة والهوية على نطاق محلي وعالمي.
وقد أخذ الحديث عنها يقترن بصورة متلازمة مع طروحات التعددية والديمقراطية وصراع الحضارات ,حيث أصبح الارتياب من العولمة هاجسا مركبا من اندماج عالمي لايراعي المساوة بين البشر ويعمل على احتواء الاخر, وفي ذات الوقت يبحث على اساءة فهم معنى الاختلاف بين الثقافات,الذي يؤدي الى تفكيك بنية العلاقات الاجتماعية وامكانية تزايد حدة الصراعات الحضارية.
هدف البحث ... يتركز هدف البحث في التعريف بالمشكلة ودراسة الظروف والعوامل التي ساعدت في ظهورها والبحث عن مخرج جديد يمكننا وضع حلو ل ناجحة لها.
منهجية البحث,... كون موضوع الهوية العربية موضوع شائك وقديم وحديث أيضا , لذا تستند الباحثة بشكل رئيسي على المنهج العلمي الجدلي .
خطة البحث...
المقدمة...
المطلب الاول - مفهوم الهوية والخلفية التاريخية لتشكلها .
المبحث الاول_ مفهوم الهوية العربية
المبحث الثاني _ الخلفية التاريخية لتشكل الهوية العربية .
المطلب الثاني _ الهوية العربية والعوامل المؤثرة فيها .
المبحثالاول - عناصر التنوع والتجانس في الهوية
المبحث الثاني – دور الديمقراطية والاندماج المجتمعي في الهوية .
المبحث الثالث _ التنشأة السياسية وتكون الرأي السياسي في عصر العولمة.
الخاتمة والاستنتاجات
المطلب الاول – مفهوم الهوية والخلفية التاريخية لتشكلها .


المبحث الاول – مفهوم الهوية العربية .
الهوية هي السمة الجوهرية العامة لثقافة من الثقافات , لكن هذه السمة ليست ثابتة أو جاهزة أو نهائية , كما يفهمها أو يعرفها البعض أحيانا , ولذلك لايمكننا صياغة تعريف اجرائي لها ولا توصيفها وتحديد خصائص ذاتية لها لأنها مشروع ثقافي مفتوح على المستقبل . ولكنه مشروع معقد ومتشابك ومتغير من العناصر المرجعية المنتقاة المادية والاجتماعية والذاتية المتداخلة والمتفاعلة مع التاريخ والتراث والواقع الاجتماعي .
والهوية ليست أحادية البنية وانما تتشكل من عناصر متعددة , في مقدمتها الاثني والديني واللغوي والاخلاقي والمصلحي و اضافة الى الخبر الذاتية والعلمية والوجدانية . والهوية ليست مجموع هذه العناصر , بقدر ماهي محصلة مركبة من عناصر تشكلت عبر الزمن وتم تلقيحها بالخبروالتجارب والتحديات وردود الافعال الفردية والجماعية عليها , في اطار الشروط الذاتية والموضوعية السائدة والطارئة عليها .
وقد عرف الجرجاني الهوية بأنها الامر المتعقل من حيث امتيازه عن الاغيار والهوية عند ابن رشد تقال بالترادف على المعنى الذي يطلق عليه اسم الموجود .وعند الفارابي(( هوية الشيء.. عينته وتشخيصه وخصوصيته ووجوده المتفرد له الذي لايقع فيه اشراك)) .
وفي الغرب كان غرودياك أول من استخدم مصطلح الهوية في التحليل النفسي ليدل به على أمر غير شخصي في الطبيعة الانسانية .
كما أن الهوية كما جاءت في المعجم الفلسفي لمراد وهبة ((عباره عن التشخص وقد تطلق على الوجود الخارجي وقد تطلق على الماهية مع التشخيص, وهي الحقيقة الجزئية, وقد تطلق على الذات الالهية فهوية الحق هي عينه)). ويرى نديم البيطار في دراسته عن(( حدود الهوية القومية)) بأن(( هوية الام هي هوية تاريخية والتاريخ هو الذي يشكلها وهو يعني لا وجود لهوية خارج المجتمع والتاريخ , فالامة وحدها تملك الهوية سواء كانت مجتمع أو فرد.
والهوية مثل أرض الوطن بالنسبة للشعب أو الامة, هي ملك مشاع للمجتمع ولكن لايملك أحد الحق في التفريط بجزء منها ولايصح التنازل عنها.
ويميز علي الدين هلال المستويات الثلاثة للهوية حيث يقول- ينبغي التمييز بين ثلاثة مستويات مختلفة عند تحليل موضوع الهوية, فهناك الهوية على مستوى الفردي, أي شعور الشخص بالانتماء الى جماعة أو اطار انساني أكبر يشاركه في منظومة من القيم والمشاعر والاتجاهات. والهوية بهذا المعنى حقيقة فردية نفسية ترتبط بالثقافة السائده وبعملية التنشئة الاجتماعية. وهناك, ثانيا التعبير السياسي الجمعي عن هذه الهوية في شكل تنظيمات واحزاب وهيئات شعبيه ذات طابع تطوعي واختياري. وهناك ثالثا, حال تبلور وتجسد هذه الهوية في مؤسسات وابنيه واشكالية قانونية على يد الحكومات والانظمة. أما الاستاذ محمد عابد الجابري فيرى في الهوية (هوية العربي) بأنها رد فعل ضد الاخر ونزوع حالم لتأكيد (الآنا) العربي بصورة أقوى وارحب. فهوية العربي ليس وجودا جامدا ولا هو ماهية ثابتة جاهزة انه هوية تتشكل وتصير. اذ يؤكد الاستاذ عبد العزيز الدوري بأن الهوية العربيه تكونت مقترنة بتكوين الامة العربية في التاريخ, وهو تكوين استند الى عوامل عدة في مقدمتها اللغة والتقانة في اطار الجغرافية التاريخية(2) .
والاصل في الهوية يرتبط بفكرة المواطنة في الدولة من ناحية الجنسية كظاهرة وكمبدأ قانوني كما ترتبط بالابعاد الثقافية للشخص والمجتمع مثلما تتصل بالانتماء السياسي للدولة .
وعموما تتغذى الهوية من مصدرين هما ..
أولا التراث , وهو المصدر الثابت أو الجوهر الذي يشكل الذهنية التي تقولب الشخصية النموذجية التي تنبثق عنها الهوية .
ثانيا – المجتمع الذي يشكل المصدر الثاني الطارئ والمتغير من الهوية , الذي يؤثر تاثيرا كبيرا , فمن الممكن انه يعيق ماهو ثابت أو يعطله مؤقتا , لان الثابت غالبا مايعيد انتاج نفسه من جديد , ولو بصفة أخرى يقتضيها هو في اللحظة المناسبة ووفق صيرورة المجتمع وشروط تغيره الذاتية والموضوعية . ومن أهم المتغيرات الطارئة هي السلطة والمصلحة والكوارث والحروب والقوى الخارجية وغيرها . ويشير أحمد زكي بدوي , بأن الهوية هي التي تميز الفرد نفسه عن غيره أي تحديد حالته الشخصية . ومن السمات التي تميز الافراد عن بعضهم البعض هو الاسم والجنسية والسن والحالة العائلية والمهنة(3) . أما كارميل كاميليري فهو يعرف الهوية بأنها (صيرورة التطور المستمرة لبناء الذات النفسية والمحافظة عليها, والتي تترجم بالشعور بالانا , وبطريقتين---
أولا- كوحدة منسجمة ومتغيرة والتي هي في أساس اليات وجود الهوية.
ثانيا - كوحدة منشغلة بالبيئة تبني ضد كل مايصدر منا ومن حولنا, مقاومة وتحلل وايضا كوساطة باستعمال مايستفيد منه هذا الكائن. هاتين الطريقتين تسمح لنا ببناء علاقة مطابقة في كل لحظة مع ما يصدر منا ومن حولنا, وهي في اساس وظيفة عمليات الهوية في التبني أوفي دورها الفعال أوفي برغماتية سلوكها . عبارة ثانية تعبر الهوية عن وجود الذات التي تتشكل من خلال التفاعل المستمر لمشاعر الفرد مع محيطه ومع نفسه من أجل التعبير عن هذا الوجود, مشاعر تعكس صيرورة العوامل المتدخلة في تكوينها منذ ولادتها, وكما يقول ادمون مارك ليبيانسكي فان الخطاب العائلي يساهم في توجيه تكون الهوية, انه يحدد موقع الطفل داخل العائلة وبنفس الوقت يخطط له مستقبله المنتظر من خلال اقتراح صورة لهذا المستقبل. وحسب راي الان تورين. يمكن التعرف على الهوية من خلال مواقف الفرد الرافضة للتحديد الاجتماعي للادوار التي يجب أن يلعبها ,ومن خلال مطالبته بالحياة والحرية والابداع.
أي أن الهوية تظهر من خلال التحدي في مواجهة تفرض على المشاعر من الخارج أومن داخل النفس باتخاذ موقف ما أو القيام بعمل معين . فدفاع الفرد عن وجوده ضد كل تدخل أوهجوم يهدف الى اضعافه, أو تحديه لاشباع رغبة ما والتسامي بها,مثل هذه المواقف بحد ذاتها تعكس وجود هوية الفرد . اذن فصيرورة هذه المشاعر متوقفة على قدرتها في التصدي لهذه المواجهة بشكل ايجابي أو سلبي. لذلك فغياب المواجهة تعني موت المشاعر وانتهاء الصيرورة والتي مع انتهائها تنتهي الهوية من الوجود. ويعني ذلك أن الهوية هي تعبير عن هجلية تناقضات النفس البشرية التي ترتكز على مايدور من حولها وعلى مايدب في دواخلها من مشاعر والتوليفة التي تبدعها للتكيف مع الخارج ومع الداخل. ولاتتم هذه الهجلية بشكل الي بل بشكل واعي تترجمها مواقفها في الحياة. لذلك فانها تأخذ لها الصفة الفرديه عندما تتعلق القضيه بخصوصية مواقفها اتجاه تعاملها مع مايدور في خلدها وتترجم هذه الهوية الى الواقع بالكيفية التي يرى فيها الفرد نفسه من خلال المعنى الذي يعطيه لعمله والذي يمنحه خصوصية فرديته مقارنة بالاخر. ولكون العمل هو الاخر في تغيير مستمر فان مايطمح الفرد الى تحقيقه يترجم أناه المثالية, وتأخذ الهوية صفتها الجماعيه عندما تثار مشكلة المساس بالعوامل الجماعية لمحيطها, بمعنى مجتمعها, وهي تلك التي ساهمت في تكوينها والتي تشترك معها في قيمها ومعاييرها والتي تعطي ايضا لعملها معنى أخر في اعطاءها معنى متميز لقيمها المشتركة, أي لأناها المثالية الجماعية من خلال مايطلق عليه بالانتماء الى المجموعة(4).
ا لهوية الجماعية....
على أثر التغييرات الجذرية التي حدثت في الشرق الاوروبي, وبالتحديد في الاتحاد السوفيتي السابق وتفكك جمهورياته في أسيا الوسطى والقوقاز, قد سلط الضوء على مفاهيم, ومصطلحات سياسية واجتماعية كانت قائمة, الا أنها كانت غائبة عن الدراسات السياسية والاجتماعية, ومن بينها مصطلح الهوية الجماعية. اذ يمكن القول بأن هوية مجموعة بشرية , أو شعب كامل ما , تمثل ذلك الانتماء الجماعي الموحد لافراد وفئات أي منهما . فأعلان هذا الفرد أو ذاك بأنه جزائري أو أنها فرنسية, يعني بأن هذا الشخص ينتمي مع بقية الجزائريين في صفات واشياء تكون الهوية الجزائرية, وكذلك تكون الهوية الفرنسية أو الانكليزية. وأن الدراسات الحديثه في العلوم الاجتماعية رأت أن العرق, الثقافة , الدين الارض والدولة هي العوامل الرئيسية التي تحدد هوية الشعوب. فمن حيث لون البشرة تقسم الاجناس البشرية الى خمسة أجناس كبرى. الابيض, الاصفر, الاسمر, الاحمر, والجنس الاسود.
وعلى المستوى الجماعي فلون البشرة يمثل أحد ملامح الهوية الجماعية لشعب من الشعوب أو المجموعة من المجموعات البشرية , كما في لون البشرة الاسود في المجتمع الامريكي بشكل خاص.وكل العوامل أو العناصر الاساسية في تشكيل الهوية الجماعية لايمكنها أن تتبلور الا في اطار الدولة(5) .
المبحث الثاني - الخلفية التاريخية لنشوء وتشكل الهوية العربية
يمكن التحدث عن شبه اجماع لدى المؤرخين والباحثين التاريخيين على أن التاريخ العربي لايبدأ بالاسلام أولا, وعلى أن العصر الجاهلي ,أي القرنين السابقين على الاسلام, لايمثل بدايته ثانيا ,وعلى أن هذا العصر ليس جاهليا بقدر ماهو مرحلة تاريخية لها خصوصياتها وقانونياتها واشكالاتها, ثالثا. وقد ظلت مرحلة ماقبل الاسلام, بسبب ذلك وغيره ,حقلا يسوده كثير من الغموض والاضطراب , لذلك كان المرء يخرج خالي الوفاض ,الا القليل, على صعيد البحث العلمي التاريخي فيه . انطلاقا من هذه الرؤية يتحدث معظم الباحثين عن الهوية العربية بعد ظهور الاسلام(6). يذكر اسماعيل نوري( أن أول مايمكن الوقوف عليه, لاستجلاء ملامح الصورة الفكرية العربية الاسلامية فكروية الدين , التي من خلالها تشكلت الابعاد العامه لسمات الحضارة. فكان التوحيد محل الشرك وتعدد الالهة, نقطة الشروع التي أسهمت بشكل بالغ في تعميق وحدة الهوية, والتي انعكست على مفاصل الحياة بشكل واع, عبرت من خلاله عن نضج عميق لنقطة الشروع(7) .
لقد أحل الاسلام فكرة التوحيد الشاملة العامة, وشمل بما هو ديني وحدانية الله, وبما هو سياسي الولاء للامة بدل الولاء للقبيلة ,وبما هو اجتماعي العدل بدل العرف . وأفرز حالة من التزاوج بين مفهومين, حمل كل منهما أحادية على مدى زماني طويل. بل وحتى عصرنا الحالي مازالا منفصلين هما القومية والاممية.
الامة العربية والاسلامية كانت خلال القرون الخمسه الهجرية الاولى, قد حققت ازدهارا في كافة مجالات المعرفة النظرية والتطبيقية, وبنت أخر حضارة انسانية على أرض امبراطوريتها الشاسعه الاطراف, قبل أن يحقق الغرب ثورته الصناعية الحديثة حيث توفرت للامة العربيه مؤيدات وشروط متعددة ,فتواصلت مسيرة البذل والعطاء والتطور والتقدم.
الا أن جذوة الحضارة العربية- الاسلامية قد خمدت, وأنطفات أنوارها ,بسبب تفكك البنى الداخلية, وتخلع الانساق, وتقطع الاوصال ومصادرة العقل, فأصبحت الحضارة العربية الاسلامية حضارة طرفية ملحقة, بعد أن كانت مركزا ومحورا, واستطالة واهية للاخرين بعد أن كانت المصدر والمنبع.
عندما حقق الغرب تقدمه وبنى حضارته واقتحم الوطن العربي , أدرك مفكروا ذلك العصر, ولمسوا ماديا وعيانيا ما وصل اليه مستوى التطور والتقدم في الغرب بفضل الثورة الصناعية التي سهلت
ومهدت لها التحقق ولانجاز ثورة فلسفية-فكرية- ثقافيه , فأستبدلت دين الكنيسة بدين جديد اسمه العقل وثقافتها اللاهوتيه المغلقة, بثقافة علمانية دنيوية منفتحة وذات افاق كونية.
من هنا فقد راود النخبة العربية سؤال محوري واحد. هو لماذا تقدم الغرب هذا التقدم الهائل المبهر, ولماذا تخلفنا نحن العرب هذا التخلف المزري؟ وبالمقابل, ماهي الاسس أو ماهو السر الذي يكمن خلف تقدمهم؟ لقد تعددت الاجوبه عن هذا السؤال. وبدون الحاجة الى الدخول في تفاصيل السجالات والمناقشات والمواقف التي باتت معروفه والتي دارت بين التيارات الفكرية والسياسية , يمكن العثور على قاسم مشترك واحد هو مقولة التحديث – الحداثة-أو التنوير.
والحداثة نبتة أوروبية نمت وكبرت وتطورت وأعطت ثمارها في سياق الثورة التي قادتها الطبقة البرجوازية الثائرة على الطبقه الاقطاعية وما تحمله هذه الطبقه من فلسفة وافكار وثقافة ونظام حكم في الغرب , حيث فجرت هذه البورجوازية قيما انسانية تقدمية وتحررية , كالانسانوية والعقلانية والديمقراطية والعلمانية والعلموية, مهدت الطريق لكل التطور اللاحق للثورة الصناعية, ابتداء من ثورة البخار الى ثورة الكومبيوتر أومايسمى بحضارة ( الموجة الثالثة )التي نراها اليوم على حد تعبير الفان طوفلر (8). واذا كانت العلمنة في تاريخها الاوربي والغربي هي واقع تاريخي ونظري واقتصادي واجتماعي وسياسي , فهي في سياقها العربي الحديث اشكالية نظرية وسياسية لم تجد من التحولات التاريخيه مايكفي لتحويلها الى واقع ولرفعها من مستوى الطلب والطموح الى حيز الصيرورة والحتمية.
فقد اندفع الشاميون والمصريون في حماسة لاسترجاع بعض ماكان لهم من مجد وحضارة منسيين , وسرعان ما حاكاهم سائر العرب فهذبوا لغتهم واثروها, واجتهدو في اعادة خلق أدب وفن دون أن يتحرروا كليا من عبء الماضي, فأستطاعو بذلك أن يؤسسوا مراحل متميزة في تاريخهم الحديث. أنها مرحلة تجدد ومرحلة انبعاث, وكان من نتائجها تقوية الوعي بوجود تراث في الثقافة العربية مع أواخر القرن التاسع عشر , حيث بدأ العرب في اكتشاف تراثهم الماجد في اللحظه نفسها التي اكتشفوا فيها أنفسهم متأخرين في مرأة الغرب المتقدم.
وقد ظهرت بوادر نهضة... شبه تامة. عند المفكرين التنويريين العرب, ابتداء من الطهطاوي حتى محمد عبده , والكواكبي,وشبلي الشميل, وفرح انطون, واديب اسحاق وغيرهم, ممن تزخر باسماءهم وارائهم الكتابات العربية الكثيرة في التنوير العربي . وهذا يعني ان النهضة ليست مجرد عملية تغيير ثقافي واجتماعي جزئي وانما هي عملية تغير شامل تنبعث من الرغبة الواعية في الافادة من الثقافة الاكثر تقدما ورقيا لتعديل الاوضاع القائمة المرفوضة على الاقل من النخبة المثقفة , وارادة الخروج من حالة التخلف والركود التي سيطرت على الفكر العربي ,واللحاق بالعلم الغربي الذي كان يعتبر في ذلك الحين وتحت تأثير تلك الظروف النموذج المثالي الذي ينبغي الاقتداء به. وفي حدود معينة, تؤخذ في الاعتبار الثقافة التقليدية , وامكانية تعديلها دون أن يؤدي ذلك الى استبدال ثقافة جديدة وغريبة ,هي الثقافة الغربية بالثقافة العربية (الاصلية والاصيلة) أو حتى تغيير هذه الثقافة الى حد الذي تفقد معه ملامحها ومقوماتها المتميزة.
وجوهر الخلاف بين الحضارتين الغربية والعربية الاسلامية أن الاولى قامت على القطيعه مع الماضي المظلم وابعدت الدين عن مجالها, والتزمت بالحداثة جملة وتفصيلا, أما الثانية فهي حضارة تأسست على أساس تجاوز المراحل المظلمة, لاسترداد واحياء حضارة مغمورة, كان لها المجد وعظمة أوائل الاسلام . وكان أغلب رواد النهضة الحديثة يستندون بشكل أو بأخر الى الاساس الديني., بعكس الرواد الغربيين, فالتجديد الفكري الذي ارتبط بالحضارة في العالم العربي . كان يهدف الى تجديد الحياة, واعتبر الدين أحد المحاور الاساسية نظرا للدور الذي يقوم به في المجتمع العربي والاسلامي . ولم يكن القصد من الاراء التي تدعو الى التجديد الديني ان تهدف الى نقد الدين في ذاته أو الدعوة الى الالحاد, بقدر ما كان القصد هو مناقشة وتنقية الافكار السائدة في المجتمع, والتي لم تكن تتفق في كثير من الاحيان مع جوهر الدين, وكان الهدف هو تخليص العقل من الجمود في نظرته الى الدين, وتحكيم العقل والمنطق في مناقشة امور الحياة. وهذا الخلاف الجوهري بين الحضارتين ظل مصدر تفاقم الازمة والصدام بين العرب والمسلمين في مقابل الغرب(9).
لقد بدت مشكلة تجديد الهوية الوطنيه والقومية من القضايا الرئيسية التي عالجها المفكرون العرب وكان من الطبيعي أن تقودهم افكارهم العلمانية الى التمييز والفصل بين ماهو عربي وماهو اسلامي ,وبالتالي أوجدو لاول مرة في التاريخ العربي تعريفا للعروبة منفصلا عن الاسلام واعتبروا الاسلام نفسه أحد عوامل التطور الحضاري العربي , ومن خلال هذا التمييز نشأ المفهوم العلماني للقومية العربية , كما نشأ مفهوم جديد للوطن قائم على الروابط الاجتماعية بدلا من الروابط الدينية.......ويعد بطرس البستاني أول من قال بعروبة الناطقين بالضاد ووحدتهم(10) .
أن حركة النهضة العربية الاولى حققت منجزات مادية مهمة, بناء جيش قوي , صناعة عسكرية, زراعة منتجة ومتقدمة , الا انها منجزات فوقية افتقرت الى النفس الديمقراطي , وقد وصف محمد عبده ( محمد علي الكبير ) قائلا ( بأنه كان زارعا ماهرا , وصانعا مقتدرا , ومحاربا شجاعا , لكنه لم يترك رأيا يستتر به ضمير (انا) الا ونفاه عن بدن صاحبه)(11). وفي مرحلة لاحقة تمكن النهضويون الاوائل من وضع هدفين أساسيين للتحرر والتقدم يتلخص الاول في التحرر السياسي من الاستعمار . والثاني التحرر الفكري من الجمود والتقليد والرجعية . كما حاولوا ايجاد صيغة تكيف الدين مع واقع العصر . الا أن كل ذلك على أهميته , لم يشكل انقطاعا ثقافيا ومعرفيا نوعيا وحاسما وعاما عن الماضي جملة, ولم يتجاوزوا البنى الموروثة التقليدية بصورة جذرية في ميادين الفلسفة والفكر والتنظيم الاجتماعي , كما انهم لم يستطيعوا أن يستوعبوا حقيقة الحداثة , حيث أن البنى الداخلية للعرب ماتزال ماضوية وهشه ومتداعية , بينما البنى الحديثة تتسم بالتماسك الداخلي والوعي الذاتي.
لقد اثبتت التجربة التاريخية الاوربية أنه من أهم الخصائص الجوهرية للحداثة انها تمثل سياقا مرحليا يتم فيه الانتقال من نمط للمعرفة الى نمط أخرمختلف جذريا.وهو بمثابة انقطاع عن أساليب التفكير التقليدية غير العلمية وتبن لاساليب جديدة .
لقد طرحت التجربة القومية العربية, نفسها بديلا لليبرالية ,لكنها تخلت عن أهم انجازاتها المتمثلة بالديمقراطية كأداة تجديد للسياسة وبالعلمانية كأداة تجديد للثقافة.
لقد أثبتت التجربة التاريخية الاوربية أن الحداثة لا تتحقق الا بتوافر عدة شروط..
الاول- ثورة ثقافية عقلانية, علمانية دنيوية, سلاحا نهجا علميا نقديا صارما, يستهدف كل ماهو قديم ومفوت في البنية الثقافية العتيقة, والانساق الفكرية الغيبية.
الثاني- أن سيرورة التحديث تتطلب قوة اجتماعية مستنيرة تستوعب كل المصادر والمؤثرات لتتولد ديناميكية داخلية في المجتمع, تكون طاقة للدفع والفعل , يحفز على تجاوز اللحظة الراهنة الى فسحة مستقبلية, ترتقي بالمجتمع بشكل عام.
الثالث - يجب أن يكون تطلعنا وطموحنا أن نبتدع منطقا وفلسفة عربية تبصر الواقع الراهن *الحاضرالعربي*وتحيط به من كل جوانبه بعمق معرفي وعلمي, يجعلنا متحررين من قيود التبعية والنظر بعيون الاخر, والتفكير بمنطق الغير, في سبيل بناء منظومة فكرية وثقافية وفلسفية تستوعب الحاضر وتكون سلاحا نظريا مطابقا للواقع لمعالجة اشكالاته وتجاوزه نحو أفاق مستقبلية ,تشكل قطيعة نوعية مع كل فكر سلفي , ومعرفة مفوتة لن تجلب لنا بالتأكيد الا التقهقر والدمار وانتاج حداثة التأخر.
الرابع- بناء الانسان العربي الحديث ذي الثقافة العلمانية والعقلانية والواقعية الثورية, وتغليب الثقافة العلمية على الثقافية الغيبية والامتثالية والنقلية والاتباعية.فالانسان الحديث انسان جديد في نظرته للوجود والمجتمع ونمط الحياة, وشكل العلاقات الاجتماعية, ومضمونها التحرري , المتعلق بالاعتراف بالاخر, وحريته العقيدية, وحريته في ابداء الراي, وحريته في الاختلاف والنقد للراي المخالف(12).
المطلب الثاني – الهوية العربية والعوامل المؤثرة فيها
المبحث الاول – عناصر التنوع والتجانس في الهوية العربية
يمكن النظر الى مسألة التجانس والتنوع في الهوية العربية كما تتجلى , من خلال.
1- الانتماء العربي .
2- الثقافة المشتركة.
3- التواصل والاتصال بين البلدان العربية .
4 -التكامل الاقتصادي.

5 - التوحد السياسي
أولا- الانتماء العربي.
يكاد يجمع معظم الباحثين على أن اللغة عنصر مكون أساسي في الهوية العربية وأن الغالبية العظمى من الجماعات التي تغطي الوطن العربي تتكلم اللغة العربية( وهي لغتهم الام) وتشعر بالانتماء الى الجماعة العربية ويعتبر الوطن العربي مجتمعا وأمة.
لقد صنف سعد الدين ابراهيم , الجماعات في الوطن العربي حسب بعدين رئيسيين هما الشعور بالانتماء العربي والتحدث باللغة العربية كلغة أم فتوصل الى أن هناك أربع مجموعات ..
1- الجماعة الرئيسية التي تمثل أكثر من 85 بالمئة من مجموع سكان الوطن العربي وهي التي يتكلم أفرادها اللغة العربية ويشعرون بالانتماء الى الجماعة العربية.
2- جماعات تتكلم العربية ولكنها لاتشارك العرب حسهم القومي( ومن الامثله التي ذكرها , الطائفية المارونية في لبنان).
3- جماعات ذات انتماء عربي ولكنها لاتتكلم العربية مثلا جماعات في الصومال , غرب السودان,و اقطار شمال افريقيا.
4 - جماعات لاتتكلم العربية ولاتحس بالانتماء العربي وابرزها في رأية الاكراد في شمال العراق وقبائل جنوب السودان وقبائل البربر في المغرب والجزائر.غير أنه لابد من الاشارة هنا الى أن علاقة العرب باللغة لم تكتمل , فهنا ك وجود هوة بين اللغة العربية الفصحى المكتوبة واللغة العامية المحكية(13). ومهما كانت علاقة العربي بلغته, لابد من الاعتراف بأن اللغة وحدها وبحد ذاتها, لاتشكل هويته , ومن التأكيد أن للانتماء العربي أسس أخرى منها- ثقافية وتاريخية وجغرافية واقتصادية,باختصار أن الانتماء هو مزيج غريب من العناصر الموضوعية والذاتية في واقع تاريخي اجتماعي محدد.مقابل هذا الاحساس العام بالانتماء العربي هناك انتماءات اخرى, ترافقه أوتتعارض معه كالانتماءات الدينية والاقليمية والاثنية والقبلية بالاضافة أو كبديل للانتماء القومي العربي . من ناحية أخرى نشات في الاسلام اتجاهات وظواهر تتعارض مع القومية العربية ومنها ,الشعوبية والدعوات المختلفة لوحدة اسلامية بصرف النظر عن الانتماءات القومية. في العصور الاولى ظهرت الشعوبية التي ذكرابن ربه في كتابه العقد الفريد أن اتباعها هم أهل التسوية, فمن حجة الشعوبية على العرب قالت انا ذهبنا الى العدل والتسوية وأن الناس من طينة واحدة.. واحتججا بقول النبي عليه الصلاة والسلام المؤمنون أخوة... وليس لعربي على أعجمي فضل الا بالتقوى... موافق لقول الله تعالى(أن اكرمكم عند الله اتقاكم) هذه هي الحجج النظرية , أما الخلاف فهو خلاف قومي ضمن الاسلام كان من ظواهره(( مفاخرة العجم على العرب)), و((من العصبية العربية)) ضد العجم. وفي العصر الحديث ظهرت دعوات اسلامية كبديل او حتى معادية للقومية بما فيها القومية العربية.
أما مايهمنا بالدرجة الاولى في مجال الحديث عن الولاءات التقليدية هو أن الواقع الاجتماعي في عدد من البلدان العربية وخاصة المشرق العربي أحال الواقع الديني الى واقع طائفي .
الانتماء الاقليمي( الوطنية والقومية)- مهما كان رأينا بمدى الانتماء العربي وعمقه واستمراريته وافضليته, فان المدقق في الحياة العربية لابد أن يلحظ وجود ازدواجية قومية وطنية تتمثل بأشكالية التوفيق بين الولاء للمجتمع العربي ككل والولاء للوطن( القطر). يكون المخرج بالنسبة للبعض القول بسيادة الولاء القومي والوحدة العربية, وللبعض الاخر بالموازنة بينهما, وللبعض الاخر بسيادة الولاء الوطني ( القطري) , وقد ينشأ عن كل ذلك اتجاهات تقول أما بالوحدة التامة أو وحدة بعض المناطق العربية ( وحدة المغرب- وحدة الهلال الخصيب- وحدة وادي النيل- وحدة الجزيرة العربية............الخ) أو بالابقاء على الوضع الراهن كما هو. هذه بعض جوانب تعددية الانتماء القومي وازدواجية الوطنية والقومية.
الولاء القبلي- أن الولاءات القبلية- العشائرية- العائلية هي بين اكثرالولاءات التقليدية رسوخا وتاثيرا في مجمل الحياة العربية المعاصرة. وفيما يتعلق بدورها بالنسبة لمسألة التنوع والتجانس في الهوية العربية فأن القبلية قد تتعارض مع الدين كما تتعارض مع القومية.
الولاء الاثني- نشير هنا الى ولاءات الاقليات اللغوية والثقافية التي تتعارض مع الولاء العربي في عدد من البلدان العربية كالمغرب والسودان والعراق والخليج.
الثقافة المشتركة(14)....
ننظر أيضا الى مسالة التجانس والتنوع في الهوية العربية من خلال مدى وجود ثقافة مشتركة في المجتمع العربي, فنشير بها الى مجمل المعارف والحياة الابداعية في العلم والفلسفة والفن.وهنا نود ان نشير الى وجود ثقافة عربية عامة يمكن وصفها بانها ثقافة مشتركة ومتنوعة في ان معا, وذلك في شتى مجالات الحياة اليومية. تستمد الثقافة العامة هذه من اللغة العربية وادابها, ومن الدين, والعائلة, وانماط الانتاج المتشابهة, والتحديات , والنظام العام السائد, ووحدة التجربة التاريخية.
وفي سبيل اجراء تحليل أدق لتنوع الثقافة العربية, نشير الى أن الثقافة العامة تشمل في الواقع ثلاثة انواع محددة من الثقافات الخاصة وهي كما يلي ....
*_ الثقافة السائدة وهي ثقافة النظام العام والمؤسسات والطبقات والعائلات الحاكمة, انها الثقافة العامة المشتركة والاكثر انتشارا.
*_ الثقافة الفرعية وهي ثقافات خاصة ضمن الثقافة العامة وتتمثل في المجتمع العربي بشكل خاص, في البداوة والفلاحية والحضارة وتتنوع بتنوع الطبقات وثقافات الاقليات والجماعات والاقاليم.
*_الثقافة المضادة التي تتناقض مع الثقافة السائدة وتدخل في صراع حاد معها ,وتتمثل خاصة بأتجاهات الرفض ا لمنتشرة في أوساط المثقفين المبدعين والثائرين السياسيين وفي العراق عدة أقليات أهمها الاكراد (تقدر نسبتهم بين 15 بالمئة _20 بالمئة) الذين شكلت مسألتهم معضلة للحكومات المتعاقبة .
ثالثا- التواصل والاتصال بين البلدان العربية
أن الاتصالات بين البلدان العربية هزيلة للغاية,الامر الذي يحد من امكانيات الوحدة وتجاوز المسافات النفسية الاجتماعية بين العرب في اقطارهم المختلفة. فلكل قطر عربي مؤسساته الاعلامية الخاصة, ونظامه التربوي, وتوجهاته, ومنشوراته, وارتباطاته المنفردة مع الخارج. وتمارس الانظمة العربية الرقابة والمصادرة ليس فقط في الداخل, بل بين الاقطار العربية. فأصبح التبادل الثقافي محدودا لدرجة شبه الانقطاع والعزلة.
رابعا. التكامل الاقتصادي
لم يلق عامل التكامل الاقتصادي الاهتمام الذي يستحقه الا مؤخرا من حيث تاثيره بمسالة الهوية العربية, وأهمل اهمالا ملحوظا من قبل منظري القومية العربية على عكس عوامل اللغة والثقافة والتاريخ. وقد اهتم معظم المنظرون بهذا العامل, أما كعامل تفرقة أو كعامل توحيد دون اهتمام جدي ومنهجي بأثره المزدوج .
خامسا - التوحد السياسي
فرضت التجزئة السياسية على الوطن العربي بعد انهيار الامبراطورية العثمانية. ومع أن هناك عوامل داخلية أثرت في فرض هذه التجزئة الا أن الامبريالية هي التي شكلت العامل الحاسم والاهم , وكان الاستبداد العثماني قد هيأ لذلك على الاقل بأضعاف المجتمع وتجريده من مناعته والتسبب بتخلفه وتفككه الاجتماعي(15).
المبحث الثاني - دور الديمقراطية و الاندماج الوطني في الحفاظ على الهوية
أن الاندماج الوطني أو التجانس الاجتماعي , هو انصهار الجماعات اجتماعيا وثقافيا, بحيث تتوحد الهوية الخاصة والهوية العامة في هوية مشتركة جامعة وسهولة الوصول الى نوع من الاجماع حول القضايا الاساسية المتعلقة بمصير البلاد وعلاقته بالعالم الخارجي.ولأنه يندر أن تجد مجتمعا لاتتوافر فيه التعددية والتنوع القومي والديني والمذهبي والقبلي واللغوي, فأن محاولة اقصاء وعزل هذا التعدد والتنوع , يسهم في الانقسام والتجزئة والى احداث خلل في نسيج المجتمع , فطبيعة المنظومة الاجتماعية وأشكال العلاقات القائمة بين عناصرها هي انتاج كيفي لمجمل الخصائص الذاتية والنوعية التي يتميز بها أفراد المجتمع في وضع تأريخي وأجتماعي محدد,فمتى كانت خصائص الافراد على درجات قريبة من التماثل كان ذلك داعيا الى تشكيل معايير ضبط وانتظام ترتبط في خصائصها بخصائص الافراد , فمع وجود التنوع لا بد من تنوع المعايير الضابطة أيضا , ومع وجود التناقض لابد أن تظهر المعايير المتناقضة . وأنسياقا مع هذه الفرضية ,فان طبيعة التناقض ستؤدي الى صراع , ومن هنا , فأن الانقسامات الاثنية الحادة والعميقة والعنيفة تؤدي الى خلل في التجانس الاجتماعي, ولما كانت الديموقراطية تقبل بوجود المختلف, والسلوك الناتج من هذا القبول في حياة المجتمع وأعضائه, هو النظر الى حرية الغير جماعة أو فرد بوصفها حقا قائما ومضمون الاستمرار ,ولما كان أي مجتمع لايخلو من تعددية وتنوع ,فلا مكان لتعايش هذه المكونات الا في ظل عقد اجتماعي, والديمقراطية هي صيغة لهذا العقد , يضمن استمرار وجودها , وهذا لايكون الا في ظل الاعتراف المتبادل والواعي بين هذه المكونات عبر وسائل سياسية وقانونية , أولها.. المواطنة,وثانيها..تنظيم الحريات العامة . فالمواطنة بوصفها أنتماء الى الوطن -الدولة لاتثمر الافي جذر الديموقراطية ,كون الديموقراطية تقوم على أساس الاعتراف بالانسان ,بحقوقه وحرياته بغض النظر عن الانتماءات الاثنية ,وعلى أساس حق المواطن بالتعبير والمشاركة في صنع القرار , وهي ذاتها مقومات المواطنة الفعالة والصالحة في ظل الانتماء الى الوطن-الدولة بحيث لا يمكن الفصل بين فكرتي المواطنة والديموقراطية, ففكرة المواطنة هي من افرازات الفكر والنظام الديمقراطي, بمعنى أنها ولدت من رحم الثقافة الديموقراطية وتعترف بأن المواطن الانسان هو مصدر السلطات السياسية جميعها , وبدون الديموقراطية لاتنمو فكرة المواطنة , غير أن هذا الطرح لايفهم منه الغاء الانتماء القومي أو ألديني أو المذهبي, وأنكاره,بل هو الحد من هيمنة قومية أو دين أو مذهب على الآخر ,لأن الديموقراطية انفتاح على العوالم البشرية في تواصلها الواقعي مع الاخرين , فلا معنى لوجود حقوق قانونية وسياسية الا بتوافر الحد الادنى من ضمانات ممارستها على أرض الواقع,مثل وجود التقارب النسبي في الدخل والثروة والمكانة الاجتماعية وتوفير فرص العمل والتعليم والرعاية الاجتماعية , وحق الحصول على المعلومات, التي تجعل من الديموقراطية عملية مشاركة ممكنة وفعالة , وليست مجرد أستحواذ واقصاء من فرد أو قلة من الناس , بأسم الديموقراطية على حساب قيم العدالة والانصاف والمساواة .أما تنظيم الحريات , فالديموقراطية لاتنشد الحريات المطلقة, بل هي تنظيم لها بشكل يضمن تبادل الاعتراف بحريات البعض مع البعض الاخر, ويجعل حرية كل واحد بنائة لأنها مندمجة ضمن حرية المجموع , بمعنى أن الحريات في النظام الديموقراطي لا تذهب الى النزعة الفردية ,لأن الحريات في الاصل-طبيعية -فالفرد يتعدى الفردية لتحقيق القيم الانسانية المشتركة ويهدف الى التكامل داخل المجتمع, فالديموقراطية نظام يفسح المجال للامكانيات كلها أمام كل شخص, وأنها النظام, الذي يخولنا بصفتنا أشخاصا الوسائل الناجعة كي نحيا, في وعينا وسلوكنا والمثل العليا المشتركة, فالديمقراطية لاتلغي حرية الافراد بل تمنحها بعدا اجتماعيا ولاتلغي الصراع والتنافس بين الذوات الفردية,بل تضفي عليها الصفة العقلانية والاخلاقية التي تجعلها موجهة نحو المصلحة العامة. اذن..البعد الديموقراطي هو الذي يجعل الحياة الانسانية ممكنة داخل كل مجتمع مع تواجد الاختلاف فيه, وهو المجال الذي تتحقق فيه وبفضله صيغة جدلية بين وحدة المجتمع وتنوع مكوناته , وعليه فان غياب التجانس الاجتماعي يقود الى خلق سلسلة معوقات امام تحقيق الديمقراطية .. لان الديموقراطية تذهب الى بناء المؤسسات السياسية , ولاتعتمد على المؤسسات التقليدية , فاللجوء الى احلال المؤسسات التقليدية في الدولة الحديثة, يضع أي مجتمع يسعى الى تحول ديموقراطي أمام تهديد خطير, فشعور الأفراد بالولاء الى الانتماءات لا ينقصها أبدا استعمال العنف و التهديد بالقوة .مما يفوت فرصة على المجتمع في بناء تجانس اجتماعي بأتجاه الوحدة الوطنية ومايعنيه ذلك من ضياع للهوية .
ثانيا.. أن الديموقراطية ليست نظاما سياسيا فحسب , بل قيم اجتماعية واخلاقية وسلوكية , تتمثل في التسامح والحوار وقبول المختلف والتعاون والتضامن الاجتماعي والمشاركة السياسية , فأن روح التضامن والتعاون بين مختلف الجماعات والهيئات أول وسائل العلاج لازمات الانظمة الديموقراطية.وبما أن الافراد محكومون بواقعهم الاجتماعي واسهاماتهم فيه فأن الانقسامات الاجتماعية تعمل ضد التصرف العقلاني وتحرمه من ممارسة حريته الفردية وتقف عقبة في وجه نمو القيم والمثل الديموقراطية,فالقيم التي تسيطر عليها ولاءات الافراد ضمن المؤسسات التقليدية كلما قويت مصادرها وأصبحت أكثر أرتباطا ببعضها قل احتمال وجود التسامح السياسي , ومن ثم فقدان الروح الديموقراطية اللازمة لقيام النظام الديموقراطي.
ثالثا .. أن الولاءات المزدوجة تهدد التجانس الاجتماعي ,واللحمة الوطنية, وقد يكون مرد الولاء المزدوج نتيجة اقصاء طرف أخردون أخر,مما جعل هذا الجانب أو ذلك يحتمي خلف عناوين جانبية ,الامر الذي يسهم في تفتيت الوحدة الوطنية , فبدلا من الانشداد الخارجي لهذه الجهة أو تلك ,يفترض أن يقام جسر للعلاقة مع الطرف الخارجي, تصب في مصلحة القضية الوطنية , ولنا مثال ...في حالة العراق ,في موضوعة الانشداد الخارجي ,اذ يفترض أن يتم أقامة جسرا من العلاقة في التماثل الديني والقومي والمذهبي مع الطرف الخارجي في خدمة وبناء واستقرار أركان الدولة والمجتمع العراقي,بدلا من جلب الصراعات وتغذيتها من الطرف الخارجي,ومن ثم تهديد الوحدة الوطنية .
رابعا.. أن للثقافة السياسية دور في تأسيس الاندماج الاجتماعي,فان سعي السلطة السياسية الى تحفيز المشاركة السياسية وتنشيطها في المجتمع يؤدي الى قيام حراك اجتماعي وسياسي ومن أبرز مظاهره الحوار ونقل المدركات والطموحات والتطلعات من الشعب الى السلطة السياسية مدخلات ومخرجات وصولا الى نقطة الرضا والقبول ,ومن ثم بناء الوحدة الوطنية وهي عامل مهم في عملية التحول الديموقراطي .وأتسمت طبيعة المجتمع العربي في العصر الحديث بالازدواجية في القيم والافكار والممارسات, فعلى الرغم من ملامسته قيم المدنية والحضارة بعد أنتشار التعليم وزيادة رقعة مساحة الثقافة واطلاعه وتعامله مع أدوات ووسائل الحضارة في حياته اليومية حتى الوقت الراهن , فلا زال يحمل من ترسبات البداوة الكثير,بمعنى أن اتصاله بالقيم الحضارية كان ولازال مكانيا وليس ثقافيا , ونجد ذلك ماثلا حتى في قسم ليس بالقليل من الاوساط المثقفة ,لان التغيير الاجتماعي على عكس التغيير السياسي والاقتصادي فهو يحتاج الى وقت ليس بالقصير ,كونه يرتبط بقيم وعادات وتقاليد مر عليها مدد طويلة أعتاد عليها فصارت عرفا قد يكون اقرب الى القانون اذن.. ان تقدم القيم التقليدية والبدائية القبلية ,العشيرة يعني غياب القيم المدنية أو ضعفها ,ومن ثم تأثيرها في عدم تبلور مفهوم الوطن والمواطنة أو تهديد عملية ألتحول الديموقراطي, لأن المواطنة في علاقة توأمة مع الديمقراطية ,وهي أساس الفاعلية الاجتماعية التي تفضي الى الابداع والانتاج والمشاركة في بناء التكامل الوطني (16) . وثمة صلة بين الاقليات القومية والدينية والاندماج الوطني ,فعندما تحرم تلك الاقليات من التمتع بحقوقها وحرياتها,وتغيب هويتها تلجأ الى التمرد ومحاولة الانفصال عن الكل الاجتماعي ونجد ذلك في ظل الهيمنة المركزية للدولة كما حصل في العراق في ظل السلطات الاستبدادية المتعاقبة .
نستنتج مما تقدم أن هناك علاقة جدلية تربط بين الديمقراطية والاندماج الوطني والحفاظ على الهوية , وأن أزمة الهوية في المجتمع العربي تعود بشكل أساسي لوجود أنظمة تسلطية ذات امتدادات خارجية , ولذلك فان مستقبل الهوية العربية يتوقف على قيام نظام عربي ديمقراطي مستقل ينقل العالم العربي من حالته الراهنة الى مستوى الوطن العربي, فلايزال العالم العربي يعيش حالة انتقال. أي أن هناك ضرورة لنقل الوضعية العربية الراهنة من مرحلة العالم العربي الى مرحلة الوطن العربي وأعني بذلك أن العالم العربي هومجموعة البقع أو الاقطار العربية التي ماتزال تعيش حالة من القطرية لاتسمح حسب اراء الكثير من الباحثين بالتحدث عن وطن له كيانه الشخصي , وهذا يعني أن النقلة من العالم العربي الى الوطن العربي هي نقلة مرتهنة بتحقق عملية توحيد بين هذه الاقطار.والتوحيد هنا هو توحيد يتم عبر مشروع سياسي ثقافي اقتصادي أي أن الوضعية العربية الراهنة هي فعلا وضعية في مرحلة التشكل ولذلك يلاحظ أن جهود الامبريالية والاستعمار من قبلها , ثم المشروع الصهيوني تتركز في العمل دون تحقيق هذه النقلة من بنية العالم العربي الى بنية الوطن العربي لان بنية الوطن العربي هو بنية نوعية جديدة تتجاوز العالم العربي أي تتجاوز التبعثر القطري, الذي هو في الحقيقة ,السمة الاساسية الغالبة في المرحلة العربية الراهنة(17)
المبحث الثالث - التنشأة السياسية وتكون الراي السياسي
تتكون شخصية الفرد في العائلة ثم تاتي المؤسسات الاخرى كالمدرسة والدين والاحزاب وغيرها لتتمم أوتعدل أو تغير ذلك. أن الاتجاه العام والغالب في المجتمع العربي هو استمرارية وتكامل التنشئة فتتمم المؤسسات أكثر مما تعدل أو تناقض بعضها البعض. من خلال هذه الثقافة المتكاملة السائدة ينشيء المجتمع الافراد على شاكلته فيحملون قيمه واخلاقه ومبادئه واهتماماته بدرجات متفاوتة وحسب مواقعهم الطبقية وانتماءاتهم الاجتماعية ومصالحهم ومدى اندماجهم في المؤسسات التقليدية. يظهر جليا أن العائلة قد تفقد بعض طاقتها
على تنشئة الافراد حين يمر المجتمع في مراحل انتقالية وفي حالات التعارض بين العائلة والمؤسسات الاخرى ( التعارض مع الاحزاب مثلا ) والتفاوت الثقافي بين الاهل والابناء ..... الخ. وفيما يتعلق بأنماط التنشئة التقليدية في العائلة العربية, فأنها كانت ولاتزال الى حد بعيد, تشدد على العقاب الجسدي والترهيب والترغيب أكثر مما تشدد على الاقناع. من هنا الاعتماد على الضغط الخارجي والتهديد والقمع السلطوي, وعلى الحماية والطاعة والامتثال والخوف من الاخطار وتجاوز الحدود المرسومة. وتنشأ عن كل ذلك نزعة نحو الفردية والانانية والتأكيد الدائم على (الانا) أكثر من التأكيد على ( النحن) ونتيجة للمحاولات المستمرة لسحق الذات وتذويبها في الجماعة وفرض الطاعة والتأكيد على العضوية بدلا من الاستقلالية, تتكون عند الفرد حاجة ماسة مضادة للتأكيد على ذاته والاعلان عن وجوده ومنجزاته تجاه قوى تحاول انكارها. أ ن الهيمنة السلطوية في العائلة والمؤسسات الاخرى هي بين أهم مصادر النزعة الفردية, اذ تغرب الانسان فيراها مضادة له وفوقه وعلى حسابه بدلا من أن يراها منبثقة عنه ومن أجله. وبما أن العائلة لاتتيح للطفل سوى مجال ضيق لتحقيق استقلاله الذاتي, كما يقول شرابي, ينشأ عند الطفل شعور بالعجز ويميل نحو الاتكالية والهرب من مواجهة التحديات. ويضيف الشرابي أن من أهم نتائج اعتماد الطفل على العائلة أنه ينمو وشعوره بأن مسؤوليته الاساسية هي اتجاه العائلة لا تجاه المجتمع ولايبقى عنده سوى مجال صغير للشعور بالواجب تجاه المجتمع الاكبر الذي يتصوره الفرد كفكرة مجرده لاينطبق عليها مفهوم المسؤولية بصورة طبيعية. وبالنسبة الى الفرد المرتبط عائليا بهذا الشكل, لايمثل المجتمع سوى عالم الصراع والكفاح الذي ينتزع الفرد لنفسه فيه مكانا ليدعم كيانه وكيان العائلة ورفاهها. أن العائلة مرتبطة بالمجتمع في علاقة جدلية .......... فهي تدعم المجتمع وتناهضه في ان واحد. واذا اتفق وجود مطالب اجتماعية وعائلية متناقضة فمن الاسهل على الفرد أن يوفق بين الجهتين بالقيام بواجبه تجاه العائلة والمجتمع. ومهما كان فان العائلة العربية هي الاطار الاهم الذي يتم فيه بناء شخصية الفرد.
هذه التنشئة التي يتلقاها الفرد في العائلة التقليدية تجعله يربط في ظل بعض الظروف , بين كرامته وكرامة العائلة أكثر مما يربط بين كرامته وكرامة المجتمع.هذه هي بعض مظاهر التنشئة الاجتماعية التي تقوم بها العائلة في المجتمع العربي في الوقت الحاضر, وهذا مايفسر جزئيا على الاقل مسألة نوعية استجاباتنا للتحديات الاساسية, بما في ذلك التحديات التي تواجه الوطن وتهدده بمزيد من فقدان السيطرة على مصيرة.
التوسط بين الفرد والمجتمع
تشكل العائلة مؤسسة اجتماعية رئيسية تقوم بدور الوسيط الاهم بين الافراد والمجتمع ذكرنا ان شخصية الفرد وذاته وعقله تتكون ضمن العائلة, وأن ثقافة المجتمع تنتقل الى الفرد من خلال العائلة , وأن المؤسسات الاجتماعية تتصل ببعضها البعض في اطار المجتمع اتصالا عضويا , وأن العائلة تهيء الفرد للعمل في المجتمع. هنا نود أن نضيف أن العائلة كوسيط بين الافراد والمجتمع يمكن ان تلعب عدة ادوار مهمة منها أن دور الفرد ونفوذه ومكانته وتوفر المجالات أمامه ومناعته في المجتمع ترتبط بدور العائلة ونفوذها ومكانتها وتوفر المجالات أمامها ومناعتها .
تعين العائلة القوية أفرادها على مواجهة صعوبات الحياة في المجتمع وتحميهم من القوى المركزية النافذة وتجد لهم الوظائف والمراكز المهمة. وعلى العكس من ذلك , يفشل أفراد العائلة الضعيفة في مواجهة التحديات وحماية أنفسهم من سيطرة القوى النافذة ويشغلون وظائف ثانوية على الاغلب. من هنا أن بعض العائلات تسيطر على النظام السياسي ومؤسسات المجتمع, بينما ترزح بعض العائلات الاخرى تحت أثقال الهرم الاجتماعي. ومن هنا أيضا نظام الواسطة المعروف في مختلف البلاد العربية.
تجسد المجتمع في العائلة
يمكننا ان نعتبر العائلة صورة مصغرة للمجتمع الكبير نفسه اذ نجد ان العلاقات السائده في المجتمع هي التي تسود في العائلة.و أن الثقافة السائدة في المجتمع تسود ايضا في العائلة, والتغييرات التي تحدث ضمن العائلة لايمكن فصلها عن التغييرات التي تحدث في المجتمع وخاصة في مراحله الانتقالية بين القديم والجديد.أن العلاقات السائده في العائلة هي العلاقات عينها السائدة في المجتمع ككل وفي المؤسسات الاقتصادية والسياسية والتربوية . أن علاقة التلميذ بالاستاذ , والعامل بصاحب العمل, والمواطن بالزعيم السياسي , والمؤمن بالزعيم الديني, تشبه الى حد بعيد علاقة الولد بالاب, فهي في جميع هذه الحالات علاقات سلطوية أبوية تؤكدعلى قيم الطاعة والثقة وما يرافق ذلك من خوف وتودد وخضوع. لذلك يستنتج هشام شرابي في دراسته المذكورة أن العائلة في خصائصها الاساسية صورة مصغرة عن المجتمع, فالقيم التي تسودها من سلطة وتسلسل وتبعية وقمع, هي التي تسود العلاقات الاجتماعية بصورة عامه... فأن بنية العائلة القائمة على السلطة الفوقية تقابلها بنية اجتماعية ممائلة..... ومن حيث هي نظام , تقوم العائلة في أن واحد بتجسيد ودعم النظام الاجتماعي الاكبر . كما أن جميع المؤسسات التي تمثل دور الوسيط, بما في ذلك المؤسسات التربوية والدينية, تقوم هي أيضا بتعزيز القيم والمواقف التي بواسطتها تدرج العائلة أعضاءها في الحياة الاجتماعية, وغنى عن القول أن قيم مؤسسات الطبقات المهيمنه اجتماعيا...تصبح هي القيم السائدة في المجتمع..... ومن الواضح أن تغيير المجتمع يقتضي تغيير العائلة والعكس صحيح.
أن الامثلة التي يمكن ذكرها في معرض التدليل على العلاقات الوثيقة والمؤثرات المتبادلة بين المؤسسات الاجتماعية لاتحد. المهم هنا أن نشير الى تداخل المؤسسات وتشابكها فلا يمكن فهم الواحدة منها بمعزل عنها جميعا وفي اطار المجتمع ككل الذي لايمكن فهمه أيضا بمعزل عن المجتمعات الاخرى والاوضاع العالمية. ضمن هذه الشبكات المعقدة تتكون الظواهر الانسانية, وتتبدل بفعل مواقعها وانتماءاتها أكثر مما تتكون وتتبدل بفعل قوانينها الداخلية الخاصة. ولذلك يحصل التغيير الشامل بتغيير البنى الاجتماعية والنظام السائد(18).
أن شعور الفرد بالوعي والذي يعكس صيرورة الاخذ والعطاء بينه وبين مجتمعه يتميز عن الشعور السياسي الذي هو نتيجة مباشرة لعملية التنشئة السياسية التي يتلقاها .
فما المقصود بالتنشئة السياسية؟
هناك عدة تعاريف لمفهوم التنشئة السياسية لدى كل من ريتشارد دادسون وكينيث برويت ( تلك العمليات التي من خلالها يكون المواطن رايه بخصوص عالمه السياسي) .
فبلنسبة لهما فأ ن الحياة السياسية هي المسؤلة عن حصول الفرد على معلوماته السياسية فكل مايعبر عنه من توجهات مختلفة وعقد ورفض أو ولاء باتجاه السياسة انما يعكس تأثير هذه الحياة عليه. بعبارة ثانية تأثير الثقافة السياسية في التكوين الثقافي السياسي للفرد التي يكتسب معطياتها انطلاقا من علاقته المباشرة منذ مرحلة بواكر طفولته مع رمز سياسي له معنى معين
يفرض عليه الالتزام به لتشابه المواقف.مثال على ذلك احترام رئيس الدولة كشخصية احلالية لشخصية الاب. بعبارة أ خرى احلال سلطة الرئيس محل سلطة الاب وهذا مايذهب اليه التحليل النفسي الفرويدي حيث يؤكد على أ همية العلاقة بين دور الاب كسلطة وتماثل الطفل معها فبالنسبة لهذه المدرسة فأ ن التنشئة ما هي الا وجه ثاني لعملية التماثل وهي على نوعين حسب رأي كل من جون لابلانش, وجون بيرتراند بونتاليس..
فاولا...انها تعني تلك العمليات النفسية التي يضم فرد ما الى دواخله وجها ما أو خصوصية ما أوصفة معينة لشخص أخر يتخذها كنموذج وعلى ضوءها يغير كليا أو جزئيا من شخصيته وسلوكه. أو تعني..ثانيا....ابعاد الفرد ذاتيته وتبني شيئا من أو صفة مشاعر أو رغبة شخصية ما أن اعطاء الدور الرئيسي للعائلة في عملية التنشئة السياسية يجعلها كأول هيئة مسئولة في هذا المجال ويكفي معرفة تأثيرها ليس فقط بترسيخ الافكار وانما في النمط السلوكي التي تمهد له لشخصية الفرد المستقبلية وخاصة فيما يسمى بظاهرة تحديد الهوية الحزبية للفرد كتعبير عن الهوية السياسية للاباء باتجاه مواضيع سياسية(19). هذا ماوصلت اليه دراسات جامعة ميشغان في سنوات الستينيات والتي تضمنها كتاب انكوس كامبيل وفيليب كونفيرس ورن ميلر ورونالد ستوك – الناخبين الامريكان .. التنشئة السياسية حسب رأي كل من ديفيد استون وجاك دينيس تعتبر ضرورية لوجود النظام السياسي لان استمرار أ ي نظام سياسي متوقف على حصوله على دعم بيئته, ومهما كانت درجة تطوره فلا يمكن تحقيق هذا الانجاز الا عن طريق تطوير المشاعر الايجابية لدى الاطفال ومن خلال تلقينهم بمعطيات ثقافتهم السياسية المسيطرة التي ينقلها الاباء الى أبناءهم وذلك عن طريق التعليم والممارسة السياسية واتخاذ المواقف المعينة بخصوص قضايا سياسية مطروحة على الساحة. ولكن تثار مشكلة في هذا الخصوص وتتعلق في نوعية الثقافة التي يراد غرسها في نفسية الفرد وكيفية تلقينه وليس فقط البحث عن دعم النظام من خلال عملية التنشئة. في الواقع أن المشكلة التي تواجهها عملية التنشئة تكمن في فكرة اعادة خلق نفس الهوية السياسية, بمعنى استخدام التنشئة كوسيلة لاعادة انتاج العلاقات الاجتماعية ذاتها . أن الانتقادات التي يمكن توجيهها الى هذه التحليلات تكمن في أنها ترجع كل علاقة سياسية للفرد الى مرحلة بواكير نفسية هذا الفرد, بمعنى استحالة قيام تماثل مع أي فكرة دون أن يكون للعلاقات العائلية دور بذلك وهذا ما يخالف الواقع لان مفهوم التنشئة لاينحصر في دور العائلة فقط وانما هناك هيئات ثانية تدخل معها في القيام بدور ايصال الافكار السياسية للافراد ومن بين هذه الهيئات المدرسة حيث يمكن اعتبار دخول الطفل اليها كولادة ثانية من زاوية قدرتها على تزويده بكل نماذج التمثيل وقيمها . أن القول بأ ن المدرسة تلعب دور في عملية التنشئه يعني قدرة هذه المدرسة على تغيير وتعديل ماتم ترسيخه من افكار وسلوكيات من قبل المجتمع العائلي. بمعنى تغيير الهوية التي تم وضع اسسها من قبل العائلة بهدف التوافق مع الظروف وتبني الجديد . بعبارة اخرى , أن دور المؤسسات التعليمية في شأن التنشئة السياسية يمكن اعتباره كوسيلة تهدف الى ايصال نتاج لما يحويه الزمن من أفكار ومعتقدات وميول ونزعات ولكون أن الزمن في تطور بتطور ظروفه, فأن برامج هذه المؤسسات تتطور هي الاخرى بهدف مطابقتها مع التغيير. لذلك فأن انعكاسات ذلك على التنشئة يعتبر كنتيجة طبيعية وكمحصلة لما يتم من تفاعل داخل وخارج هذه المؤسسات والتي تنعكس بدورها على تغيير في هوية الافراد واتجاهاتهم لكون أن في أساس كل تغيير تكمن الأسس المعرفية. وهنا يظهر الاختلاف بين التنشئة العائلية والتعليمية ففي الاولى تلعب العواطف دورا كبيرا في بناء الشخصية بينما في الحالة الثانية تلعب المعرفة هذا الدور , كما يظهر أن هناك جانب متداخل أو تكميلي في الادوار بين العائلة والمدرسة وهذا شيء طبيعي لان كلا المؤسستين يمكن اعتبارهما عوامل في تحديد الاتجاهات السياسية الطويلة الامد لدى الفرد أو المواطن بسبب طول مدة خضوع الفرد(20) .
أما فيما يتعلق بدور المؤسسة الحزبية فمن الجدير الاشارة اليه , أن المؤسسة الحزبية لم تشكل قطيعة مع محتوى العلاقات الابوية السائدة في المجتمع العربي, بل أنها في كثير من الاحيان أعادت انتاج العلاقات المذكورة ذاتها . ويشير الباحث ورد كسوحه الى مستويين من الوعي التي ساهمت في خلقهما العلاقات الحزبية التي عاش في كنفها الشباب العربي وهما ..
المستوى الاول للوعي...وتعبر عنه الفئة من الشباب المولودة في الستينيات و أواسط السبعينيات من القرن الماضي , والتي وقعت ضحية تبدلات وتحولات القيم والافكار والايديولوجيات والسياسات في بنية المجتمع والسلطة والاحزاب , في مختلف الدول العربية , وكانت النتيجة المنطقية لهذا الوضع حصول أولئك الشباب على وعي مجتمعي مأزوم وفاقد لهويته ومشروعيته التائهتين مابين انتماء متعب الى مرحلة سابقة والى بقايا وأثار مشروع استنفد كافة قواه ووسائله وخياراته , مع مايحمله هذا الوهم الانتمائي من وفاء لنوستالجيا ذكريات واجازات الامس المنقضي على حساب عقلانية الاستقراء والتحليل الرائية الى المشهدين الراهن والمستقبلي, وبين انتماء شقي الى مرحلة حالية أكثر تأزما من تلك السابقة , والى مشروع دولي ومجتمعي مؤجل حتى اشعار أخر في ظل غياب أي أفق سياسي نظري وعملي قادر على اقتراح الحلول والنهوض بأعباء المرحلة ... فقد بدأت العلاقة بين أولئك الشباب والاحزاب المتواجدة على ساحة الفعل السياسي قي تلك الفترة تنحو اكثر فأكثر بأتجاه شكل من أشكال الاغتراب والتناقض والهوية المأزومة والانتماء الفاقد لهويته ومعناه , وذلك كتعبير مباشر عن الحلقة المفقوده مابين وعي القواعد الحزبية الشابة, النوعي والمحمل بشفافية الرؤية وواقعية التحليل العقلاني لواقع الهزيمة وعقم شعارات وحلول المرحلة السابقة , والنتائج السلبية المتناقضة مع الاهداف المعلنة لعمل الاحزاب العربية كنتيجة منطقيه لدوغما النظرية والممارسة الحزبية واستنفاد أشكال البناء والتنظيم الحزبي التقليدية . هذا من جهة , وبين ( وعي ) القيادات الحزبية التقليدية المشوه والمستنفذ, والمسخر كليا لخدمة الايديولوجيات المغلقة ذات النزوع الشمولي المركزي المغيب والملغي للاخرالمختلف فكريا وسياسيا وحزبيا , والمستمر عبثا في نهجه الاصولي الاستبدادي , هذا رغم السقوط المدوي والانهيار الكامل للتجارب العملية والتطبيقية المماثلة في العالم والمستندة الى ذات الأسس والركائز النظرية والمفهومية التي قا عليها بناء هذه الاحزاب. والمتعلق بشكل المؤسسة الحزبية السلطوي المغيب للاخر وللطاقات الحزبية الشابة والطامحة للتغيير من جهة أخرى . لقد أدت ازمة العمل السياسي العربي الى ابتعاد قطاعات واسعة من الشباب العربي المؤمن بضرورة النضال الحزبي والسياسي وبأولوية الفعل التغييري عن هذه الاحزاب , والركون الى الصمت والحياد والقبول بالامر الواقع والرضوخ لقواه التي استطاعت أن تنتصر في معركتها مع قوى التغيير , وأن تجذب اليها قطاعا كبيرا من أولئك الشباب الذين أثروا يائسين, الارتماء في أحضان هذه القوى وبناها الما قبل وطنية متمثلة في سلطة الطائفة والعرق والمذهب والقبيلة وبالتالي سلطة النظام الرسمي العربي المستند في وجوده الفوقي وغير المشروع على حالة التوازن القائمة بين تلك البنى القبلية والعشائرية والطائفية المتخلفة, وذلك أملا في أن يجد أولئك الشباب في هذه البنى والعلاقات الحماية التي لم تستطع أن تؤمنها لهم أحزابهم الوطنية والتقدمية وبحثا منهم داخلها عن الهوية الوجودية والكيانية والذاتية. ... المستوى الثاني للوعي ,وتعبر عنه الفئة من الشباب العربي المولودة في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي- وهي الفئة التي تجسد تماما واقع الاغتراب والتغريب الانساني في الدول العربية كافة, حيث يمارس هؤلاء الشباب اليافعون حياتهم بمعزل تام عن كل مايتعلق بأمور السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة, وهم يفعلون ذلك بنوع من اللامبالاة المطلقة والتجاهل التام لتلك المنظومات المجتمعية, أو ربما الجهل بها , مستعيضين عنها بمنظومات أخرى مختلفة عن السابقة ومتناقضة معها تماما من حيث الأسس والمنطلقات والبنى المفهومية والتوجهات والاهداف, وتتمثل في التمظهرات الخارجه ل ثقافة الاستهلاك والترفيه والتكنولوجيا المصاحبة للمد العولمي في مجالات الحياة كافة(21).
في الواقع أن تأثير الافكار الخارجية على تكوين الهوية السياسية ليس بالشيء الجديد, فقبل دخول العالم الى مرحلة عولمته لعبت وسائل الاتصالات الجماهيرية من صحف ومجلات وسينما وراديو وكتب في بلورة الهوية الشخصية للفرد . ولأن السلطة السياسية في مرحلة ماقبل العولمة كانت قادرة على السيطرة على مجالها الفكري من خلال تكثيف أفكار سلطتها والتركيز على دور مؤسساتها في عملية ايصال الافكار الوطنية الى الناشئة ومواطنيها, فقد استطاعت بهذه الاساليب من تقليل خط تفكك الهوية السياسية , ومن المحافظة على الروح الوطنية. ولكن في الوقت الحاضر عدم تعلق بهذه الروح وعدم ثقة المواطنين بسلطتهم , رفع اعلام بلدان أجنبية مثلا- يتم عبر تأثير أدوات العولمة التكنلوجية والتي تذهب الى خلق نوع من التأييد والتعاطف مع الاتجاهات الفكرية لايديولوجيته(22) . وهذا مايذهب اليه تشومسكي أيضا , فقد تحدث تشومسكي عن الكيفية التي يعمل بها الاعلام الامريكي في التنظيم الصارم لعقول الجماهير.... وتطرق ديفيد هيوم الى هذه المسائل منذ مائتين وخمسين عاما. وما أثار فضول هيوم هو ( السهوله) التي تحكم بها الكثرة من قبل القلة, والخضوع الضمني الذي يسلم به الرجال مصيرهم لحكامهم . وقد وجد هذا مدهشا لان (القوه هي دوما الى جانب المحكومين) واذا أدرك البشر ذلك, فسوف ينتفضون ويطيحون بأسيادهم , واستنتج أن الحكومة مؤسسة على التحكم بالرأي,و هذ المبدأ يشمل الحكومات الاكثر طغيانا وخضوعا للعسكر, بالاضافة الى الاكثر حرية وشعبية.
قلل (هيوم ) من فعالية القوة الوحشية بالتأكيد. والترجمة الاكثر صحة هي أنه كلما كانت الحكومة أكثر( حرية وشعبية )صار من الضروري أكثر الاعتماد على التحكم بالرأي لضمان الخضوع للحكام(23). ويحلل (سويم العزي) كيف تتم عملية خلق الرأي السياسي لدى الفرد, أن تغيير رأي الفرد السياسي لايعني فقط تأثر الفرد بالبيئة المحيطة به و انما يعني أيضا تعطل تاثيرات التنشئة الاولى تحت ضغط البيئه التي فسحت المجال أما الى دعم هذا التغيير أو الوقوف ضده , ويعني أيضا هذاالتغيير في الرأي تغيير في دوافع الفرد الشخصية التي تبحث عن مصادر للتعرف غيرتلك التي تم تلقتها خلال كل مراحل تطور شخصيته بسبب عدم قدرة المصادر السابقة على تحقيق اشباع دوافعه المادية والمعنوية(24).
وقد يسود الاعتقاد أن البحوث قد تساهم في بلورة الحقائق العلمية ولكن الواقع ينبأ أن هناك من يتنازلوا عن مواقعهم الجليلة كباحثين يفترض فيهم الامانة على المباحث والصدق في المقاصد, لاالتنازل عن الحقائق الى حدود نكران الذات بنكران الاصالة التي تفترض منهم أن يعطوا لاأن يحذوا حذوا الموجهيين المغلوطة التي ترسم منهجيتها على أسس مصلحية تفترض ضرورة اخفاء الحقائق حتى تسهل لهم قيادة من تبعهم من الباحثين من غير الغربيين بما يمكنهم من تعطيل الحقائق لا الغائها, لان هذا غير ممكن أصلا ولاسيما أن الحقائق هي القوانين الطبيعية الموجودة, وليست المصنوعة بايديهم , وليست هي في عالم الواقع الذي يتطلب الانطلاق من هذا الواقع والدخول فيه على أساس هذا الفهم . قد يمكن لبعضهم أن يموه الحقيقة , ولكنه بحال لن يتمكن من الغائها. ومن هنا نفهم أن المساحات الزمنية والمسافات المتباعدة مابين الحدث الثقافي الحضاري وبين المتعاملين معه, قد تقصر مدى الرؤية لكنها تحدد هذه الرؤية بالنهاية, ومثل صيني يقول* وان تعطلت عقارب الساعة عن الدوران فأنها تشير الى الوقت الصحيح مرتين على الاقل يوميا* فليس وهم المعرفة هو الذي يحددها معرفة وليست أهواء العارفين هي الموازين التي تؤخذ بها اعتمادا وليس التجهيل سنة تتبع وانما هذه جميعها انعطافات وموانع أنية قد يؤخذ بها بعض الوقت,من قبل بعض الناس ولكن لايؤخذ بها كل الوقت من كل الناس , لان المعرفة الثقافية والكونية الحضارية كليهما وجود انساني لايمكن اسقاطه في معطيات التزوير القافزة فوق الحقائق قصد تجهيلها وتغييبها عن الاذهان بوضعها في اطر الوعي المصلحي الذي يرتئيه هذا المنهج المغلوط كي يصل الى غايته في تغييب متعمد لكل مايمكن ان يشكل واقعا يسكت تخرصات أصحابه المبنية على السكون دون الحركة وهو ماليس قائما أبدا, لان وجود السكون يستدعي وجود الحركة , والعكس صحيح هذا من جهة , ومن جهة أخرى فأن تعمية الاشياء في ما ورائيات متوهمة لاينكر دور العقل في كشفه عن هذه التعمية. ويرى ليوتار في كتابه ( مابعد الحداثه) أن المعرفة بصفتها سلعة معلوماتية لاغنى عنها للقوة الانتاجية, أصبحت وستظل من أهم مجالات التنافس العالمي من أجل احراز القوة ويبدو من غير المستبعد أن تدخل دول العالم في حرب من أجل السيطرة على المعلومات كما حاربت في الماضي من أجل السيطرة على المستعمرات(25). ويرى الفن توفلر في كتابه ( أشكال الصراعات المقبلة) أن المعرفة كوسيلةتختلف عن كل الوسائل الاخرى, لاتنضب ويمكن استخدامها من قبل الطرفين وأن جزءا محدودا من المعلومات يمكن أن يعطي أفضلية استراتيجية وتكتيكية هائلة ويمكن أن يؤدي حجزه الى نتائج كارثية. فخطورة المد المعلوماتي الجديد تنبع من قدرته على الاستحواذ على القنوات والادوات التي تصنع ثقافة الفرد وبالتالي تستحوذ على بنيته المعرفية وتتحكم في سلوكه وتوجيهاته وأهدافه وبعبارة موجزة فأنها تسترقه في القطيع الالكتروني الذي يقوده قلة ونخبة تستحوذ على معظم موارد العالم.
أن البحث عن هذه التحولات التقنية المثيرة ليس لانها أشكال حديثة يستلذ بها البشر وتزداد رفاهيتهم من خلالها , وانما لما ستفرزه من تحولات نفسية وثقافية واجتماعية وسلوكيةعلى البشر بحيث تنطلق من الاشكال التقنية الجديده أنماط بشرية في السلوك والفكر والمجتمع . لذلك فأن هذه الافرازات لابد أن تلقي بظلالها على مجتمعاتنا لتفرض ثقافتها وقيمها واخلاقيتها الجديده علينا وهذا سيشكل لنا تحديا كما هو الان. ومن هنا لابد من دراسة ظاهره المعلوماتية ومعرفة ملامحها وأشكالها وتموجاتها لكي نصل الى تحليل أبعادها واثارها على المستقبل .لم تعد الاسرة ولا المدرسة قادرتين على مواجهة التحدي الذي يتعرضان له والذي يتمثل في حماية الهوية الثقافية من الخطر وصعوبة ضمانهما للامن الثقافي العربي وعليه ينبغي تهيئة الظروف المؤدية الى زيادة قدرة وامكانية هاتين المؤسستين المهمتين لكي يكون دورهما أكثر تاثيرا وفعالية في الحفاظ على الهوية الثقافية وضمان الامن الثقافي العربي. يرى مفكرون عرب أخرون وربما الغالبية الساحقة منهم , أن مواجهة الاختراق الثقافي ينبغي أن تقوم على التجديد أو التحديث من داخل الوطن العربي بتطبيق استراتيجية محددة تشمل الجوانب, السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية . وكمثل على ذلك يرى الجابري ضرورة وجود ديمقراطية حقيقية تتضمن التعبير الحر والمشاركة ويتم فيها تحرير الثقافة من السياسة وكما وردت على لسانه ( فالسياسة سلطة والثقافة حرية والسلطة تقتل الحرية تكبلها وتلغيها ) وجانب اجتماعي واقتصادي يقوم على تنمية مستقلة ركيزتها الاساسية اعطاء الاولوية لتلبية الحاجات الضرورية للناس وتقليص الفجوة بين الاغنياء والفقراء والمدينة والريف. واخيرا وليس أخرا بعد ثقافي تمتزج فيه الاصالة والمعاصرة والثقافة الجماهيرية والعالمية. ولا ينسى الجابري أن هذه الاستراتيجية ذات الابعاد المتعددة ينبغي أن تتم ضمن العمل العربي المشترك والتنسيق بين جميع اقطار الوطن العربي.
ويتناول بعض الكتاب الرؤيا الامريكية حول الشرق الا وسط والتي تبلورت في وثيقة أمريكية صدرت عن وكالة التنمية الدولية في الثمانيات تحت عنوان ( التعاون الاقليمي للشرق الاوسط ) وقدمت الى الكونغرس الامريكي , وتم التاكيد فيها على ضرورة العمل على احلال تعاون اقليمي في الشرق الاوسط, مبنى على أساسين ,هما الاساس الجغرافي والاساس الاقتصادي بدلا من تعاون اقليمي مبني على اساس قومي سياسي والسعي الى الاعتراف العربي باسرائيل وادخالها في النظام الاقليمي للمنطقة . والخلاصة ان الرؤية الامريكية للشرق الاوسط المتمثلة في ( مشروع الشرق أوسطية ), الذي يقوم بالضرورة على استبدال الاساس القومي العربي بالا ساس الاقليمي هو مشروع قديم صهيونيا , ويرتبط ظهوره عند الولايات المتحدة بفترة الثمانينات ,أي الفترة التي بدأت فيها العولمة المالية تتحول الى الظاهرة الاساسية في النظام الاقتصادي العالمي . واذا كان اطار هذا المشروع مافوق قومي في الظاهر , فأن تأثيراته على الارض لايمكن لها الا أن تكون تفكيكية, مادون وطنية , لان استبدال القومي والوطني بالاقليمي يعني دائما اضعاف دور الوطنية في مجالاتها التقليدية ( القوميةو الاجتماعية ) مقابل تقوية الدور في مجالات أخرى ( المحلية والمعلومة) , وبالتوازي اضعاف مشروعية الفكر والثقافة ,الذين تقوم عليهما الدولة القومية والوطنية , اي التراث الحضاري والنزعة الوطنية(26).
الخلاصة والاستنتاجات .
1 - أن الاسلام بفضل خروجه بالعرب الى عالم ماوراء شبه الجزيرة ,قد نهض بدوره العظيم في دفع عملية التطور الاقتصادي الاجتماعي لمجتمعات اسيوية وافريقية واوربية عدة . هذا على الصعيد التاريخي - العالمي. وعلى مستوى الجزيرة العربية نفسها, موطن الاسلام, ترتبط تقدمية الاسلام وثوريته بأنه أولا, قد أعلن سلوكيا وشرعيا أنه يقف الى جانب الكادحين والمعدمين ممن يكسبون قوتهم اليومي من الرعي أو الخدمة في القوافل أو التعامل الجزئي مع التجارة بالمفرد. وذلك في مواجهة فريق أولئك التجار الكبار والمرابين وزعماء القبائل المتعاملين مباشرة مع زعامة قريش كما وترتبط ثورية الاسلام , ثانيا, بأنه سيكون صاحب الفعل الاكبر في دفع حركة التغيير لصالح التقدم , أي لصالح العملية التاريخية التي كانت تتجه الى نقلة في العلاقات الاجتماعية من شكلها القبلي البدائي الى شكل ماأخريعلوه في سلم التطوروالتقدم. وبالاتفاق مع ذلك الواقع جاءت ( المبادئ الاسلامية الاساسية العامة التي تنهض عليها البنية الكلية لفكرالاسلام) والتي اعتدمدتها القوى المعارضه للايديولوجية السلطوية ,سلاحا تقدميا في مواجهتها وهي مباديء تناهض الاستبداد والظلم الاجتماعي والفردي كليهما, وذات وجهة اجتماعية من حيث الاساس , بمعنى أنها تضع الاولوية لمصلحة المجتمع ككل وترمي الى توفير القاعدة المادية لسيطرة حكم العدالة الاجتماعية فوق كل سيطرة واقعه او محتملة.
2-أن مشروع الدولة - الامة الذي وضع بدايتها الاسلام قد تصدعت , لان هذه الدولة - دولة الامة استبدلت بأمبراطورية, أرادت أن تشتمل على كل الاديان التي كانت قائمة في حينه, اضافة الى البنية العربية , ولذلك الدولة العربية هذه التي تحدثنا عنها في مرحلة باكرة من الاسلام لم تطل ولم تستطع أن تحقق أركانها الاساسية.لان العامل الاسلامي السياسي كان قد وطن نفسه بوصفه مشروع امبراطورية, وسوف يأتي العباسيون ليحققوا ذلك, ليبعدوا بشكل نهائي , مفهوم الدولة العربية الذي كان قد تكرس الى حد ما, في اطار الدولة الاموية, لذلك مفهوم الدولة العربية ظل ملتبسا في تلك المراحل التاريخية العربية, ظل ملتبسا ومخترقا وربما ظل غير واضح في أذهان من قاموا على رأس هذه البدايات للدولة العربية. ولايزال العالم العربي يعيش حالة انتقال , أي أن هناك ضرورة نقل الوضعية العربية الراهنة من مرحلة العالم العربي الى مرحلة الوطن العربي , وهذا يعني أن النقلة من العالم العربي الى الوطن العربي هي نقلة مرتهنة بتحقق عملية توحيد بين هذه الاقطار,والتوحيد هنا هو توحيد يتم عبر مشروع سياسي ثقافي اقتصادي أي أن الوضعية العربية الراهنة هي فعلا وضعية في مرحلة التشكل ولذلك يلاحظ أن جهود الامبريالية والاستعمار من قبلها , ثم المشروع الصهيوني تتركز في العمل دون تحقيق هذه النقلة من بنية العالم العربي الى بنية الوطن العربي لان بنية الوطن العربي هو بنية نوعية جديدة تتجاوز العالم العربي أي تتجاوز التبعثر القطري, الذي هو في الحقيقة ,السمة الاساسية الغالبة في المرحلة العربية الراهنة(27) .
3 - أن العولمة الامريكية , تحاول أن تخلف قاعدة للهيمنة الجديدة على البشرية , بأسم وحدة العالم, التي تتم كميل تاريخي موضوعي , لكن بقيادة الرأسمال ولمصلحته وفي الاتجاه النقيض لمصالح الاكثرية الساحقة من البشر. ومهمة العرب في هذا الواقع , هي في ابتداع أفضل الطرق للحفاظ على الهوية العربية. وفي النضال مع سائر شعوب العالم المقهورة والمهمشة لمناهضة هذا النوع من العولمة ولتحقيق وحدة العالم. لكن ماينبغي التوقف عنده , أن الهوية العربية لها خصوصيتها , وخصوصيتها تنبع من خصوصية الواقع العربي المتخلف كما أشرنا أعلاه . ومشكلة التخلف منذ زمن بعيد , منذ نشوء السيطرة الاجنبية والاستعمارية وأن القابلية للاستعمار لم تتشكل في واشنطن أوموسكو على حد تعبير( تيزيني) ,وانما تشكلت تحت قباب جوامع ومساجد العالم الاسلامي من سمرقند , وبخاري وبغداد , دمشق, القيروان , ويتجسد
التخلف العربي في الثقافة الرافضة للديمقراطية.والنتيجة المنطقية لهذا الواقع هو فشل الحياة السياسية بشكل عام والحزبية بشكل خاص وطغيان دور الافراد الزعماء على الساحة السياسية. لذلك يؤكد معظم الباحثين والمهتمين بالشأن العربي ضرورة الافادة من تجارب الماضي , من الجانب المضيء فيها وهو كبير, سيكون أمرا ضروريا في الحقبة القادمة, قبل أن يقود العجز عن المواجهة الى مايشبه اليأس من القدرة على تغيير هذا الواقع , ومن شأن اليأس أن يولد المغامرات من كل الانواع.
الهوامش....
- 1 كريم مروه , الثقافة العربية , مجلة النهج (العدد 48) , 1997,ص11.
2- ناظم عبد الواحد الجاسور , موسوعة علم السياسة , ط1 عمان دار مجدلاوي للنشر, 2004,ص384
3- سويم العزي , علم النفس السياسي , ط1, الاردن , الثراء للنشر, 2010, ص113_114.
4- ابراهيم الحيدري , اعادة انتاج الهوية العراقية , مجلة الثقافة الجديدة ( العدد 317) , 2006, ص95_96.
5- ناظم عبد الواحد , مصدر سابق , ص38.
6- الطيب تيزيني , فصول في الفكر السياسي العربي,ط2, بيروت , دار الفارابي , 2004 , ص115 .
7- اسماعيل نوري الربيعي , العرب والاستعمار , ط1, الشارقة , دار الثقافة والاعلام , 2000م, ص8_9.
8- شاكر العيساوي , في تحديث العقل العربي , مجلة الطريق اللبنانية ( العدد الاول ) , السنة الستون ,2001, ص 25_27.
9- حسن حنفي واخرون , العرب والغرب , عمان , جامعة فيلاديلفيا , 2003, ص 228
10- نفس المصدر , ص 345-367
11- شاكر العيساوي , مصدر سابق ص35.
12- حليم بركات , المجتمع العربي المعاصر , ط6, بيروت, مركز دراسات الوحدة العربية , 1998,ص 34-50.
13 - نفس المصدر , ص 50-59.
14- نفس المصدر ,ص 221-223.
15- عبد العظيم جبر حافظ , * التحول الديمقراطي في العراق *,مؤسسة مصر مرتضى للكتاب العراقي , العراق بغداد , 2009, ص167-174.
16- نفس المصدر ,ص 174-175
17- منصور ابراهيم , افكار لزمن قادم , دمشق , دار الشموس للدراسات والنشر,1999, ص117.
18- حسن حنفي واخرون ,مصدر سابق , ص 223.
19- سويم العزي , مصدر سابق ,ص 117-118
20- نفس المصدر , ص120-122
21 - ورد كاسوحة,* ازمة الثقافة السياسية والحزبية عند الشباب العربي* , مجلة النهج , العدد (69), ص179- 181.
22- نفس المصدر , 182- 186.
23- نعوم تشومسكي , الربح على حساب الشعوب , ترجمة أسامة اسبر , سورية , بدايات ,2007,ص 9-10.
24- سويم العزي , مصدر سابق , ص 123-128
25- حسن حنفي واخرون , مصدر سابق , ص 447 . 26- نفس المصدر ,ص 449-451.
27- منصور ابراهيم , مصدر سابق ,ص 103- 107.


1- ابراهيم , منصور . افكار لزمن قادم . دمشق دار الشموس للدراسات والنشر,1999.
2 – بركات, حليم . المجتمع العربي المعاصر . ط6 بيروت, مركز دراسات الوحدة العربية , 1998.
3 – تيزيني, الطيب . فصول في الفكر السياسي العربي.ط2, بيروت , دار الفارابي , 2004.
4 – جبر, عبد العظيم حافظ .التحول الديمقراطي في العراق .مؤسسة مصر مرتضى للكتاب العراقي , العراق بغداد , 2009.
5- الحيدري, ابراهيم . اعادة انتاج الهوية العراقية . مجلة الثقافة الجديدة ( العدد 317) , 2006.
6 - حنفي, حسن واخرون . العرب والغرب . عمان , جامعة فيلاديلفيا 2003
7- الجاسور , ناظم عبد الواحد . موسوعة علم السياسة . ط1 عمان دار مجدلاوي للنشر, 2004
_8- العزي, سويم . علم النفس السياسي .ط1 الاردن , الثراء للنشر 2010
9 - العيساوي ,شاكر .في تحديث العقل العربي . مجلة الطريق اللبنانية ( العدد الاول ) , السنة الستون 2000
10 - مروة, كريم . الثقافة العربية .مجلة النهج ( العدد 48 ) , السنة الثالثة عشر خريف 1997
11- نوري, اسماعيل الربيعي . العرب والاستعمار . ط1 الشارقة دار الثقافة والاعلام , 2000م.
12- تشومسكي , نعوم . الربح على حساب الشعوب . ترجمة أسامة اسبر , سورية بدايات ,2007



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن