حقيقة البدوى كداعية شيعى سرى : الفصل الأول

أحمد صبحى منصور

2011 / 4 / 6


الفصل الأول
حقيقة البدوى أو البدوى كداعية سياسى سرى
تمهيد ( استغلال الشيعة للزهد والتصوف ضد الدولة العباسية فى: حركة القرامطة ، وحركة الزنج ، وقيام الدولة الفاطمية، نشأة التصوف فى احضان التشيع معروف الكرخى والحلاج ، استغلال الدولة الفاطمية للتصوف حين ضعفت، صلاح الدين الأيوبى يحارب التشيع بالتصوف السنى.)

فى بداية أى حركة تكمن فكرة معينة وأصحاب الدعوات هم بالضرورة أصحاب ( أفكار) يبغون ترويجها فى سبيل هدف معين ،ودعوة البدوى أو حركته السرية سلسلة من مخطط طويل قام على أساس ربط التشيع بالتصوف أملا فى إنشاء حكم شيعى يعيد سطوة الدولة الفاطمية ،
ثم هو حلقة فى كتاب التآمر الشيعى ضد الدولة العباسية التى انفردت دونهم بالحكم والسيطرة.
وقد استغل الشيعة سلاح الزهد والتصوف فى الكيد للدولة العباسية، فحركة (الزنج) قام بها شيعى طموح انتحل النسب العلوى وجمع الزنوج وهم أدنى طبقات المجتمع فى العصر العباسى فثار بهم على الخلافة العباسية واستمرت ثورته من سنة 255 : 270 هجرية.
ولم تنته مؤامرات الشيعة ضد العباسيين فبعد ثمانى سنوات بدأت حركة "القرامطة" سنة 278 على يد حميد قرمط الذى " أظهر الزهد والتقشف" على حد قول المؤرخ ابن الأثير ، وتطورت قوة القرامطة فقطعوا الطريق على الحجاج وهاجموا الكعبة وأخذوا الحجر الأسود سنة 317 واستمر أمرهم إلى مابعد منتصف القرن الرابع .
وباظهار الزهد والتستر به نجح أبو عبد الله الشيعى فى استمالة البربر وتكوين الدولة الفاطمية فى المغرب فقيل عنه أنه أظهر لكبار البربر (العبادة والزهد ) أثناء الحج فى مكة حتى تمسكوا به وصحبوه إلى بلادهم وآزروه فى دعوته حتى تم قيام الدولة الفاطمية.
والطريف أن أعداء الشيعة تعلموا منهم استغلال الزهد فى إقامة الدول،فقامت فى المغرب دولة المرابطين الملثمين(448 : 553هجرية)بدعوة (الزاهد)عبد الله بن ياسين الكرولى ،ثم قامت هناك دولة الموحدين على يد الداعية (الزاهد)محمد بن تومرت سنة 514.
بل أن بعض أعداء الشيعة استغل الزهد فى الثورة على الفاطميين الشيعة كما فعل أبو ركوة الذى ثار على الخليفة الفاطمى الحاكم بأمر الله سنة317،وكان أبو ركوة أمويا إلا أنه تستر بالزهد أوحسب تعبير ابن الأثير (تظاهر بالدين والنسك ) ، وكان يجعل فى أسفاره ركوة كالصوفية فكنى بها.
ولم يكن الزهد السلاح الوحيد الذى استغله الشيعة سياسيا بل تستروا إلى جانبه بالتصوف ، بل أن التصوف فى حقيقته ابن شرعى للتشيع فلا خلاف فى أن " معروف الكرخى " هو أقدم الرواد الصوفيين.
ومعروف هذا كان من موالى على بن موسى الرضا رأس الشيعة فى عهد الخليفة المأمون ، وقد عهد الخليفة المأمون لعلى بن موسى الرضا بولاية العهد إلا أن الأمر لم يتم له . وبالطبع فإن شهرة على بن موسى الرضا ومكانته لدى الخليفة المأمون أتاحت القدر الأكبر للشيعة لنشر دعوتهم ، وبداية الطريق الجديد هو التصوف الذى يتغلغل الشيعة من خلاله سرا إلى شتى المجتمعات والأجتماعات . وكان معروف الكرخى وسيلتهم فى نشر التصوف، فمعروف تنتهى إليه كل ( خرقة )أو سلسلة صوفية ، وهو أستاذ سرى السقطى ، والسقطى هو شيخ الجنيد ، والجنيد هو" سيد الطائفة " فى تعبير الصوفية . أى أن معروف الكرخى نجح منذ بداية التصوف فى تكوين خلايا وتجمعات حوله حتى أنه لا يزال يحتل رأس القائمة حتى الآن فى كل سلسلة صوفية.
وإذا عرفنا الوجه الصوفى لمعروف الكرخى كالشيخ الأقدم لكل الطرق الصوفية،فإن الوجه الشيعى يظهر فى تاريخه ،فقد كان معروف هذا نصرانيا فأسلم (أو تصوف )على يد (مولاه) على بن موسى الرضا ، ولازم خدمته ، يقول عن نفسه " تركت ما كنت عليه إلا خدمة مولاي على بن موسى الرضا" . وظل ارتباط معروف بسيده الرضا حتى إنه مات على أبوابه حين كان يعمل حاجبا لديه، فقد ازدحم الشيعة يوما بباب الرضا ( فكسروا اضلع معروف فمات) .
والآثار الشيعية تظهر جلية فى صوفى شهير أشتهر بالصراحة هو الحلاج، وقد كانت العوامل السياسية هى السبب الخفى وراء محاكمته الطويلة التى انتهت بقتله سنة 309. فقد ظهر الحلاج فى عصر يموج بتيارات التشيع وتحركاته السياسية فى الشرق والغرب ، ففى الشرق استولى الحسن بن على الأطروش الشيعى على طبرستان ، وفى الغرب تم قيام الدولة الفاطمية فى المغرب واتجهت بحركات عسكرية للاستيلاء على مصر ، وفى المنطقة الوسطى كان القرامطة الشيعة يعيثون فى الأرض فسادا فيما بين العراق والشام والحجاز.
ونلاحظ نوعا من التوافق الزمني بين التحركات الشيعية السابقة وشكوك العباسيين فى الحلاج وهو تحت أيديهم وفى قبضتهم ، ففى العام الذى أعتقل فيه الحلاج وهو 301 كان الفاطميون يستولون على الاسكندرية والحسن الأطروش يستولى على طبرستان. وربما بدأت شكوك العباسيين فى الحلاج بعد قيام الدولة الفاطمية فى المغرب سنة 296، ولعلهم عرفوا بالصلة بين الحلاج والفاطميين فقد كتب الحلاج إلى بعض دعاته بأنه قد آن الأوان لقيام الدولة الفاطمية الزهراء . وحدث بعدها قيام الدولة الفاطمية فى المغرب ، وقد ذكر الخطيب البغدادى أن أهل فارس كانوا يكاتبون الحلاج باسم ( أبى عبد الله الزاهد) .
وهو نفس ما يطلقه الشيعة على أبى عبد الله الشيعى صاحب الدعوة الفاطمية فى المغرب ، أى كان للشيعة داعيتان بلقب واحد فى المشرق والمغرب وكلاهما تستر بالتصوف والزهد.
وهناك توافق بين مصرع الحلاج والتحركات المجنونة التى قام بهاالقرامطة، فقد قتل الحلاج سنة 309 ،وقد أنتقم له القرامطة بالهجوم على البصرة سنة 311 ثم الكوفة سنة 312 ، وفى نفس العام هاجموا الحجاج ثم عاودوا الهجوم على الكوفة سنة 351 وعاثوا فى العراق فساداً .
يؤكد ذلك أن الحلاج حين صلبه العباسيون اتهموه بأنه أحد القرامطة،ففى حوادث سنة 309 " أدخل الحسين الحلاج مشهورا على جمل على بغداد فصلب حيا ونودى عليه " هذا أحد دعاة القرامطة فاعرفوه ، ثم حبس إلى أن قتل سنة 309 ، وأشيع عنه أنه ادعى الألوهية وأنه يقول بحلول اللاهوت فى الأشراف فالحلاج على هذا شيعى قرمطي يقول بتأليه الأئمة من الأشراف حسب عقائد الشيعة. ومع صراحة الحلاج إلا أنه لجأ للتقية حين حوكم ، والتقية مبدأ شيعى يعنى نفاق الحاكم حين الضرورة والتستر باظهار عكس ما فى الباطن للنجاة، وذلك ما فعل الحلاج حين أحاطت به أدلة الاتهام فكان لا يظهر منه ما تكرهه الشريعة حتى إن القضاة احتاروا فى سبب موجب لقتله ثم عثروا فى أوراقه على آراء له فى الحج تفيد أن الإنسان إذا أراد الحج يمكنه أن يحج فى بيته بطريقة معينة ذكرها ابن الأثير فى تفصيل الحكم بقتل الحلاج . ويلاحظ الاتفاق بين الحلاج والقرامطة بالنسبة للكعبة والحج إليها ، إذ أن القرامطة حققوا عمليا ما ارتآه الحلاج نظريا ، إذ أن القرمطى أسس دارا أسماها ( دار الهجرة) ودعا أصحابه للحج إليها ، ثم فى العام التالى سنة 317 هجم على مكة فقتل الحجاج فيها حول الكعبة والقاهم فى بئر زمزم وضرب الحجر الأسود فكسره واقتلعه وحمله إلى(دار الهجرة) وظل فى حوزتهم أكثر من عشرين سنة .
ومع التيارات السياسية المتعارضة بين القرامطة والفاطميين – وهما أصدقاء الحلاج ورفاقه فى الدعوة . فإن الصلات العقائدية بينهما متينة ، وقد ذكر ابن الأثير إن المعز لدين الله الفاطمى أرسل لمقدم القرامطة كتابا يذكر فيه أن الدعوة واحدة وأن القرامطة إنما كانت دعوتهم إليه وإلى آبائه من قبله .
ولا شك أن مصرع الحلاج قد كشف الأصل الشيعى للتصوف لذا اضطر الصوفية المعاصرون للحلاج لإعلان التبرؤ منه، فافتى الشبلي بقتله ، وأفتى الحريري بضربه وإطالة سجنه وخاصمه الجنيد رأس الصوفية واتهمه بالسحروالشعوزة .على أن ذلك كله لم يغن عنهم نفعاً إذ لاحقتهم السلطة العباسية بالمحاكمات والاضطهاد حتى اضطر الجنيد- وهو اكثرهم نفاقاً وتقية إلى التستر بالفقه والاختفاء عملا بالتقية الشيعية ، حتى أنه (كان لا يتكلم إلا في قعر داره بعد أن يغلق أبواب داره ويأخذ مفاتيحها تحت فخذه ويقول:أتحبون أن يكذب الناس أولياء الله تعالى ويرمونهم بالزندقة و الكفر) .
بقى أن نذكر أن الشيعة عجلوا باستغلال التصوف عسكريا في حركة ابن الصوفي الذى ثار على ابن طولون في مصر سنه 256 منتهزا فرصة الصراع بين ابن طولون والخلافة العباسية .يقول ابن الأثير : (ظهر بصعيد مصر إنسان علوي ذكر أنه إبراهيم بن محمد بن يحيي بن عبدالله بن محمد بن علي بن أبي طالب، ويعرف بابن الصوفي ، وملك مدينة إسنا ونهبها وعم شره البلاد ، فسير إليه أحمد بن طولون جيشا فهزمه العلوي) .
وهكذا ..استغل الشيعة الزهد في حركة القرامطة والزنج كما استغلوا التصوف مع الزهد في إقامة الدولة الفاطمية في المغرب ،وساعدهم على انجاح حركاتهم ما عانته الدولة العباسية من ضعف بعد أن تحكم الموالي الأتراك في شئون الخلافة والخلفاء حتى أن الولايات المستقلة قامت في مصر والشام ممثلة الدولتين الطولونية والاخشيدية.وصارت أفريقيا (المغرب) تحت تحكم الدولة الفاطمية بخلافة شيعية مستقلة تتطلع للزحف شرقاً ،وتم لها النصر بفتح مصر سنه 358.
وكما قامت الدولة الفاطمية على استغلال الزهد والتستر به كما فعل أبو عبد الله الشيعى فإنها بعد استقرارها فى مصر لم تغفل عن استغلال التصوف، فكان خلفاء الفاطميين يطلقون على أنفسهم لقب الصوفية فى فاتحة رسائلهم ،وحين تمهدت الأ مور تماما أعلن الخلفية الحاكم الفاطمى الألوهية تشبها بالحلاج الصوفى, وتجسيدا لآرائه التى تقول بحلول اللاهوت فى الأشراف .
ثم ازدادت حاجة الفاطميين للتصوف فى القرن السادس الهجرى ،فقد ضعفت الدولة وتحكم الوزراء العظام فى الخلفاء الفاطميين وانفض المصريون عن الدعوة الاسماعيلية الشيعية أساس الدولة الفاطمية، فى نفس الوقت الذى ازداد فيه تيار التصوف بعد ما قام به الغزالى زعيم الفقهاء والصوفية من عقد الصلح بين الإسلام والتصوف وإعطاء التصوف مسحة إسلامية ومحاولة التقريب بينهما، لذا اضطر الفاطميون فى القرن السادس للتركيز على تيار التصوف الآخذ فى الانتشار باعتبار أن التصوف فى الأصل وليد للتشيع والشيعة أخبر بالتصوف وأدرى باستغلاله والاستفادة به. والفاطميون بالذات لاتزال دولتهم قائمة ودعاتهم موجودون وهم أحوج لاستغلال التصوف فى وقت ضعفهم .
ومع الأسف فإن طبيعة الاستغلال الشيعى للتصوف فى القرن السادس على يد الفاطميين كانت غامضة شأن النشاط الشيعى القائم دائما على التستر والتخفى ، ومع ذلك فإن هناك إشارات تنبئ عنه وتشير إليه، فالمقريزى يروى أن(الخليفة الآمر فى 524 جدد قصر القرافة واتخذ تحته مصطبة للصوفية ، فكان يجلس بالطابق الأعلى بالقصر ويرقص الصوفية أمامه بالمجامر والألويه) .
ويلفت النظر هنا أن الصوفية مغرمون دائما بالقرافة وما فيها من مشاهد ولذلك اضطر الفاطميون إلى (تجديد ) قصر القرافة ،وجعل الآمر منه مسرحا لأوباش الصوفية يرقصون أمامه ، ومن خلال الرقص يكون التشاور واللقاء فى ذلك المكان القصي البعيد .
ويذكر الشعرانى فى ترجمة الصوفى ابن مرزوق القرشى 564( انتهت إليه تربية المريدين الصادقين بمصر وأعمالها وانعقد إجماع المشايخ عليه بالتعظيم والتبجيل والاحترام وحكموه فيما اختلفوا فيه ورجعوا إلى قوله) معنى ذلك أن هناك طرقاً صوفية لم نسمع بها باتباع ومريدين بمصر وأعمالها وانتهت بمشايخ كانوا يرجعون فى كل شئونهم إلى ابن مرزوق القرشى الشيخ الأكبر لهم ..
وفى هذا العصر المتقدم لم تكن الطرق الصوفية معروفة أو مألوفة مما يدل على تفكير عملى وتخطيط ناضج يحظى بتأييد الدولة الفاطمية التى لابد أن تكون مستفيدة من هذا النشاط الصوفى المتشعب فى كل البلاد. ويلفت النظر أن ابن مرزوق القرشى لم يتعرض لنقمة الحكام شأن أغلب الصوفية فى عهده ولم يرد فى ترجمته ما يدل على كراهيته لأولى الأمر ،بل على العكس ورد فى تاريخه ما ينبئ عن تمكنه من فنون التستر والتقية الشيعية ،يقول الشعرانى عنه (حكى أن أصحابه قالوا يوما: لم لا تحدثنا بشئ من الحقائق! فقال لهم :كم أصحابى اليوم؟ قالوا :ستمائة .فقال استخلصوا منهم مائة ثم استخلصوا من المائة عشرين ،ثم استخلصوا من العشرين أربعة ،فكان الأربعة ابن القسطلانى وأبا الطاهر وابن الصابونى وأباعبد الله القرطبى فقال الشيخ :لو تكلمت بكلمة من الحقائق على رءوس الاشهاد لكان أول من يفتى بقتلى هؤلاء الأربعة ) . وتقسيم الدعاة إلى درجات هرمية ، وإعطاء الأسرار بقدر وحساب وكون الإمام سراً مغلقاً دائماً حتى عن كبار أتباعه، كل ذلك من أسس الدعوة الشيعية الى تظهر فى النص السابق عن ابن مرزوق القرشى. ومع ما يظهر من كثرة أتباع ابن مرزوق القرشى وانتظامهم طوائف وطرقا منظمة موزعة إلا أن هذه الطرق المتشعبة لم يعد لها وجود بعدالعصر الفاطمى ، مع أن الطرق الصوفية التى أسست فيما بعد لا تزال بيننا فى اتساع وتشعب وتفرع ,والتعليل واضح،أن الطرق التى أسسها ابن مرزوق أسست لغرض معين هو نشر الدعوة الشيعية أثناء الدولة الفاطمية خدمة لها فلما انهارت الدولة الفاطمية انهارت معها كل تنظيماتها العلنية والسرية .
ويتضح مما سبق أن الدولة الفاطمية أبان ضعفها استغلت التصوف المعلن فى نشر عقائدها الشيعية بين طوائف المصريين مستغلة الصلات العقائدية بين التصوف والتشيع وانتشار التصوف وانخراط الكثيرين فى صفوفه . وقد فطن لهذه الحقيقة باحث متخصص فى أساليب الشيعه فقال أن الفاطميين استعملوا صنفاً من الدعاة تستر بالتصوف وأظهر الزهد، وسبّب وجود هذا الصوفى الظاهر صعوبة التفريق بينهم وبين الدعاة الشيعة العاديين ، بل بينهم وبين الصوفية العاديين من أوباش الصوفية الراقصين أمام الخليفة الآمر فى قصر القرافة .
بيد أن ذلك كله لم يجد نفعا ، فازداد إعراض المصريين عن الدعوة الشيعية الفاطمية لأنهم رأوا ( الإمام المعصوم ) أو الخليفة الفاطمى ألعوبة فى أيدى الخصيان والجوارى والوزراء ، ولم يستطع الفاطميون بسبب التردي السياسي والضعف الذى وقعوا فيه أن يمنعوا الكيزاني ت 560 من نشر دعوته السنية التى تعارض التشيع . والكيزاني شاعر زاهد سنى أخذ يحارب الدعاية الشيعية الفاطمية بأشعاره السنية فالتفت إليه الكثير من المصريين وانضموا لدعوته ، وظلت طريقته حتى القرن التاسع فى عصر المقريزى، فنقم عليه المقريزى لميل المقريزى للفاطميين ، فيقول عن الكيزاني ( ابتدع مقالة أضل بها اعتقاده ، والطائفة الكيزانية على هذه البدعة مقيمون) .
ووجد الفاطميون أنفسهم فى موقف حرج ، فسلطتهم السياسية آخذة فى الضعف والوهن وعقيدتهم الشيعية الاسماعيلية تواجه الدعاية الكيزانية السنية المستترة هى الأخرى بالتصوف ، ولأن الفاطميون أقدر على استغلال التصوف وأدرى بنفسية الصوفية وأخبرهم بأهوائهم وأذواقهم فقد لعبوا بالوجدان الصوفي وعواطف المصريين حين أنشأوا مقبرة للحسين ادعوا أنها تضم رأس الحسين ،وقصدوا بهذا الفعل أن يستردوا ما خسروه سياسيا ودعائيا أمام كل أعدائهم ومنافسيهم .
والحق.. أن إنشاء المشهد الحسينى فى أواخر العهد الفاطمى ليدل على مهارة فائقة للفاطميين فى أستغلالهم للتصوف وفهمهم لنفسية الصوفية والعامة،فالحسين يحتل مكانة خطيرة فى العقيدة الشيعية والوجدان الصوفى والشعبى ،فهو كبير الأئمة عند الشيعة وسيد الأولياء عند الصوفية وصاحب الخطوة وسيد شباب أهل الجنة عند العامة والخاصة فى هذا العصر وما تلاه. ومنذ القرن الثانى للهجرة صيّر الشيعة من كربلاء مشهداً ومزاراً للحسين واحتلت كربلاء مكانتها فى الوجدان الشيعى ، ثم إذا ضعف الشيعة الفاطمية فى مصر التفتوا إلى استعارة قبس من كربلاء تلاعباً بعواطف المصريين المحبين لآل البيت، وتقربا للصوفية، وغرامهم بالأضرحة والمزارات معلوم ومعروف، فالصوفية إلى الأضرحة يحجون وعليها يعكفون ، والحسين أولى عندهم وأعظم شأنا ، فعند الحسين وضريحه يلتقى الصوفى السنى والشيعى ، وحتى من أعرض عن التشيع الفاطمى وانضم إلى الكيزانى الصوفى فلن يستطيع أن يمنع نفسه من تقديس مشهد الحسين.
يقول ابن تيمية: ( لم يحمل رأس الحسين إلى القاهرة فقد دفنت جثته حيث قتل ، وروى البخارى فى تاريخه أن رأس الحسين حمل إلى المدينة ودفن فى البقيع عند قبر أمه فاطمة ، وبعض العلماء يقول إنه حمل إلى دمشق ودفن بها . فبين مقتل الحسين وبناء القاهرة نحو مائتين وخمسين سنه، وقد بنى الفاطميون مشهد الحسين فى أواخر سنة 550هجرية ، وانقرضت دولتهم بعد هذا البناء بنحو أربع عشرة سنة ، وهذا مشهد الكذب ) وما يقوله ابن تيمية لا غبار عليه من الناحية التاريخية ،فلا علاقة للحسين بمصر فقد قتل فى العراق سنه 62هجرية وفى ثورته تلك كان اهتمامه وأتباعه واعداؤه بين الحجاز والعراق والشام ، ولا مكان لمصر يومئذ ، حتى إن الدولة الفاطمية حين انتقلت لمصر قوية متماسكة لم تفكر فى الحسين ولا فى رأسه وأغفلته تماما فيما شيدت من قصور ومساجد ، فقد أقامت مدينة كاملة هى القاهرة وجامعاً ضخماً – بدون ضريح - هو الأزهر وشيدت قصورا للخلافة والحاشية وخلت منشآتهم الأولى من أى مشهد علوى للحسين أو غيره. ثم إذا ضعفت الدولة الفاطمية وتحكم فيها الوزراء والخصيان وصار الخليفة (المعصوم) ألعوبة لا يستحق الاحترام - حينئذ اضطر الفاطميون لاكتساب ما فقدوه من تأييد فادعوا العثور على رأس الحسين بعد قتله بخمسة قرون دون أى سند من عقل أو منطق أوعلم، اللهم إلا خرافات التضليل الصوفية والشيعية التى أحاطوا بها ذلك المشهد المقدس والرأس المزعوم فيه.
إلا أن تلاحق الأحداث فى نهاية الدولة الفاطمية لم يمكنهم من استثمار ذلك المشهد سياسيا، فقد تنازع على الوزارة الفاطمية شاور وضرغام ، وسرعان ما تدخل فى النزاع قوى خارجية ممثلة فى الصليبيين ونور الدين زنكى وقواده شيركوه وصلاح الدين ، وانتهى الأمر بعلو شأن صلاح الدين وتأسيسه الدولة الأيوبية على أنقاض الدولة الفاطمية وتحول مشهد الحسين إلى ( ضريح صوفى) خال من أى رتوش شيعية سياسية.
وقد كان صلاح الدين الأيوبى بعيد النظر ، إذ أدرك أن الدولة الفاطمية دولة ( إيدلوجية) تقوم على دعوة وعقيدة لها اتباع ودعاة ، لذا فإن القضاءعليها لا يتم بمجرد موت (العاضد) آخر خليفة فاطمى أو قتل الحاشية الفاطمية من الأرمن والسودانيين ، وإنما القضاء الحقيقى على الدولة لا يكون إلا بحرب الفكرة الشيعية ، وقد استفاد من خصومه فاستغل مثلهم سلاح التصوف الموالي له، يدل على ذلك أن صلاح الدين بادر حين استتب له الامر بنقل قبر الكيزاني إلى مكان آخر اهتماماً به كرفيق له فى الدعوة ضد التشيع وكأستاذ له فى حرب التشيع الفاطمى بالتصوف المستتر بالسنة.، ثم استورد صلاح الدين صوفية من المشرق وعمر لهم خانقاه( سعيد السعداء) ، وكانت لهم طقوسهم فى تأدية صلاة الجمعة ، فاكتسبوا إعجاب المصريين حتى كانوا يخرجون للفرجة عليهم ، وسرعان ما ارتفعت الخوانق للصوفية العاملين فى خدمة الدولة الأيوبية ومذهبها السنى المناوىء للتشيع الفاطمى . ولم يكتف بذلك صلاح الدين بل أرسل من لدنه صوفية إلى الصعيد مركز التشيع الفاطمى ، وكان من مبعوثيه عبد الرحيم بن حجون أو عبد الرحيم القنائي الذى استقر فى قنا ، وكوّن فيها مدرسة لحرب التشيع باسم التصوف الرسمى السنى ، وكان من تلامذته أبوالحسن الصباغ ثم ابن دقيق العيد، وسنعرض لهذه الشخصيات فى أوانها.
والمهم أن عبد الرحيم القنائي كان صوفياً شيعياً سابقاً إلا أنه انقلب على رفاقه وانضم إلى السلطات الأيوبية وتأرجح بعض تلامذة مدرسته بين حرب التشيع الظاهر والمستتر والتعاطف مع بعض الشيعة الصوفية كما فعل ابن دقيق العيد الذى كانت له جولات فى حروب الشيعة فى الصعيد أشار إليها الأدفوي في كتابه ( الطالع السعيد فى أخبار نجباء الصعيد) ثم فى ختام حياته سلّم لبعض المستترين بالتصوف أو انخدع لهم كما سيأتى فى علاقته بالبدوي وأبى العباس الملثم.
والآن فقد وصل بنا ( التمهيد) إلى الحركة الشيعية المستترة بالتصوف فى القرنيين السادس والسابع الهجريين والتى كان البدوى خاتمة المطاف فيها .
وقبل أن نغرق فى هذه الدعوة السرية وظروفها المعقدة المتشابكة نلخص الحركات الشيعية السابقة لها والتى أشرنا إليها فى هذا التمهيد على النحو التالى:
1ـ - إن الشيعة بعد أن خدعهم العباسيون واستأثروا من دونهم بالسلطة لم يغفلوا عن الاستفادة بكل جديد فى الكيد للعباسيين ، استغلوا ترف العباسيين فأثاروا عليهم الطبقات الفقيرة فى حركة الزنج ، وحين قويت حركة الزهد الذى يعنى الاحتجاج السلبى على الترف العباسى فانهم حولوا الزهد السلبى إلى حركات ثورية تستر أصحابها بالزهد والتقشف لاستمالة الطبقات الفقيرة المحرومة ولاستقطاب الإعجاب الذى يكنه الناس للزهاد وتحويله إلى تأييد لهم فى ثورتهم ضد العباسيين كما فى حركة القرامطة وبداية الدولة الفاطمية فى المغرب.
2ـ - ثم إذا انحسرت الأضواء عن الزهد نوعا ما اخترع الشيعة إلى جانبه(التصوف) الذى بدأ متداخلاً مع الزهد – وإن كانت الفروق بينهما أساسية – ( فمعروف الكرخي) الرائد الصوفى الأول كان خادما ومولى للرضا كبير الشيعة فى عصر المأمون ، و( الحلاج) أشهر الصوفية كانت ميوله الشيعية أقوى من الكتمان .. وتحركاته ومحاكماته تتوافق مع تحركات الشيعة ضد الدولة العباسية ، ثم يثور شيعي في مصر ويلقب نفسه (بابن الصوفي ) وينتحل التصوف مع النسب العلوي .
وكما قامت الدولة الفاطمية بدعوى الزهد والتصوف فإنها لم تغفل عن الاستفادة بالتصوف في مصر فكونت طرقا صوفية فى الظاهر شيعية فى الباطن كما حدث مع ( ابن مرزوق القرشى ) واجتذبت لها الصوفية ، ثم إذا ازداد ضعفها ركزت على التصوف فأقامت قبر الحسين ليكون واجهة صوفية للدعوة الشيعية إلى جانب الأزهر الذى أقاموه مدرسة للتشيع الصريح من قبل .
3 - وظهر أن الآخرين استفادوا من مبتكرات الشيعة ، بل أن أعداءهم حاربوهم بنفس السلاح الذى اخترعوه، ( فأبو ركوه) تظاهر بالزهد والتصوف حين ثار على الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمي و(الكيزاني ) حارب التشيع المستتر بالتصوف ، بالتصوف المستتر بالسنة، و(صلاح الدين) سار على نهج الكيزانى فأقام الخوانق للصوفية الرسميين على حساب الدولة وتكفل باطعامهم والانفاق عليهم ثم أرسل بعوثا باسم التصوف لحرب التشيع فى الصعيد ، وازدادت الخوانق فى مصر الأيوبية ونعم الصوفية الرسميون بعطف الحكام الأيوبيين والمماليك فيما بعد ، بينما حرم من هذا العطف الصوفية الآخرون الذين كونوا لأنفسهم جماعات سرية بعيدة عن الدولة وخوانقها وأموالها ، وأولئك لاحقتهم الدولة بالشكوك والاضطهاد.
4ـ - ومن خلال هذه الحرب السرية بين الجانبيين اللذين انتحلا التصوف جعلاه مسرحاً للحرب بينهما سنعرض للحركة الصوفية الشعية فى القرنيين السادس والسابع ، تلك الحركة التى نفهم من خلالها حقيقة البدوى كداعية شيعى سرى مستتر بالتصوف ..
ولأن البدوى كان خاتمة المطاف فى هذه الحركة السرية فإننا سنبدأ ببحث جذور هذه الحركة فى المغرب ثم ننتقل معها إلى العراق حيث مدرسة أحمد الرفاعى الذى أسس شجرة الدعوة فى أم عبيدة بواسط .. وأثمرت هذه الشجرة دعاة ملأت بهم الأقطار فى الشرق ( فارس والتركستان) والغرب.. إلا أن الخطر المغولي والخوارزمي فى الشرق جعلهم يركزون على مصر فى الغرب خصوصا بعد انهيار الحكم الشيعى الفاطمى فيها، فكان البدوى فى مصر الحلقة الأخيرة من هذا المخطط الشيعى الذى بدأ ( بذرة و جذورا ) فى المغرب ثم ( استوى على سوقه) فى العراق ثم (أثمر) البدوى فى مصر.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن