الشعب السوري ما بينذل .. من درعا بدأ الحل!

فادي عرودكي
fadi_arodaki@hotmail.com

2011 / 3 / 19

أكتب مقالي هذا بعد أن تخضب تراب سورية الغالية بدماء بضعة شهداء من أهالينا الأحرار في درعا تم قتلهم بالرصاص الحيّ من قبل زبانية وأزلام النظام السوري الذين قاموا بالتصدي بشكل عنيف – كعادتهم – لأي مظاهرة سلمية ذات مطالب عادلة. ولكن الجديد هذه المرة هو كمّ المتظاهرين غير المسبوق، وطبيعة الهتافات – السلمية الحضارية - التي نادى بها المتظاهرون. من يعرف سورية يعلم جيدا مقدار التضحية التي يقدّمها أي شخص يبدي رأيه الصريح غير المطرّز بالنفاق و"تمسيح الجوخ" في النظام السوري، أو حتى يجرؤ على أن يهتف مطالبا بالـ"حرية". ناهيك عن أن يخرج هذا الشخص إلى الشارع صادحا بذلك .. وفي ذلك "إيهان لشعور الأمة" و "إضعاف للروح القومية" وغيرها من التهم "التيك أواي" التي يتم إلصاقها بالأحرار السوريين لإضفاء شرعية على اعتقالهم، وهي شرعية مزيفة أصلا لبطلان الأصل، وإذا بَطُلَ الأصل بَطُلَ الفرع.
خرج السوريون في سوق الحريقة في دمشق يوم 17 شباط/فبراير الماضي بعدد جاوز 1500 متظاهر معترضين على اعتداء شرطي على أحد المواطنين، وهذه التظاهرة هي بادرة جديدة لم يعتدها المواطن السوري. تم عزل الحادثة عن أي معنى سياسي لها – رغم أن فيها الكثير من المعاني السياسية التي ربما لا يعنيها حتى المتظاهرين أنفسهم - وتعامل معها النظام بشكل سريع مُفْرِجا عن الشاب المعتَقَل. خرجوا وهتفوا "الشعب السوري ما بينذل" و "حرامية" وهذان هتافان لا يصدران بشكل فجائي ودون مقدّمات .. هذان هتافان يعبّران عن واقع يعيشه كل سوري، حيث أصبح السوري يحس بانعدام كرامته الإنسانية وكذلك أصبحت السرقات في سورية مقنّنة و"على عينك يا تاجر".
سبق هذه الحادثة وتلاها حوادث متفرقة لم تكن بالزخم نفسه ولكنها حتما دارت في نفس الفلك، رافق ذلك بكل تأكيد التراكمات السياسية لقمع السوريين وسلبهم حرياتهم الأساسية وحقوقهم الإنسانية التي اتفقت عليها جميع الشرائع. قوبِل كل هذا ببرود معتاد من قبل النظام، ووعود بالإصلاحات نسمعها منذ قدوم الرئيس الأسد إلى السلطة في عام 2000 وحتى الآن .. وطبعا هناك تحجّج دائم بأن الإصلاحات بطيئة و"لكننا نسير إلى الأمام"، ومن يتابع ردود فعل النظام عما يجري في المنطقة وعلى ما جرى في سورية نفسها يشعر بأن سورية تقع في كوكب آخر، وليست في قلب الحدث!
وككل نظام ديكتاتوري قمعي استبدادي، ارتكب النظام أخطاء غبية دون أن يستفيد من أخطاء الأنظمة الأخرى التي أُسْقِطَتْ فعلا أو في طريقها إلى السقوط، فعلى سبيل المثال اعتقل أطفالا في محافظة درعا وما زال يعتقلهم رافضا الإفراج عنهم .. ولا أدري ما هو الخطر الذي يشكّله ابن العاشرة على النظام السوري؟ وكانت بدأت تظهر حالة التململ الشعبي السوري على السطح، ساهم في ذلك إفادة السوريين من رفع الحجب عن الفيسبوك. تم الدعوة إلى تظاهرة يوم 15 آذار/مارس، واعتصام أمام وزارة الداخلية للمطالبة بالإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين – بعضهم ما زال مضربا عن الطعام منذ 8 آذار إلى هذه اللحظة – في اليوم التالي 16 آذار. خرج المتظاهرون بشكل سلمي حضاري رائع في سوق الحميدية، وهتفوا بعبارات حضارية جدا مطالبين بأبسط حقوقهم كالحرية مؤكدين على "سلمية" التظاهرة. عدد المتظاهرين ربما كان 150 متظاهرا أو أكثر، وقد لا يبدو العدد كبيرا للبعض ولكنه عدد هام جدا في دولة يقودها نظام قمعي بامتياز كالنظام السوري. تغاضى الإعلام السوري عن هذه المظاهرة-الحدث، ولكنه أعدّ العدة لليوم الثاني، وفعلا تعرّض للاعتصام بشكل عنيف همجي غير مستغرب ولكنه مقزز في آن. ضرب عناصرُ الأمن الكبارَ والصغارَ، لم يرحموا بروفيسورا قديرا كالدكتور الطيب التيزيني ذي 77 عاما، وكذلك لم يرحموا أطفالا تم صفعهم بقسوة واعتقالهم، عُمُر أحدهم عشرة أعوام. مِن ما يقارب 120 معتصما يومها، تم اعتقال حوالي الثلث، أُفرج عن بعضهم لاحقا وتم الاحتفاظ بـ32 حرا من أحرار سورية الحبيبة.
الإعلام السوري الحكومي وشبه الحكومية والدائر في فلك الحكومي روّج لرواية سخيفة عما حدث في يوم 16 آذار، واصفا ما جرى بأنه اعتصام مشروع لأهالي المعتقلين عكّره "مندسون" أفسدوا هذا الاعتصام .. ولم يفسّر لنا هذا الإعلام السخيف سبب اعتقال عوائل المعتقلين .. فعائلة الدكتور كمال اللبواني أصبحت كلها خلف القضبان! ويبدو أن النظام لم يعد يستطيع السيطرة على الأمور دون افتضاحه إعلاميا، فبدأت الأعصاب تفلت وبدأت همجية النظام تتبدى في أبشع صورها، وشاهدنا فيديوهات عما جرى في اعتصام وزارة الداخلية وكذلك فيديو آخر عن تصرفات موظفي السفارة السورية في مصر – قليلة الأدب (التصرفات) وقليلي الأدب (الموظفين)- بشكل يخجل منه كل سوري لديه أدنى احترام لذاته.
وجاءت جمعة الكرامة، يوم 18 آذار، لتعمّ مظاهراتٌ مختلفةُ التعدادِ محافظاتِ سورية، فرأينا المتظاهرين بالمئات في بانياس الساحلية ودرعا في الجنوب، ورأينا أيضا هتافات تنادي بالحرية في قلب الجامع الأموي في دمشق الفيحاء، حيث قام عناصر المخابرات بانتهاك حرمة المسجد وضرب المواطنين العزّل المطالبين بأبسط حقوقهم في داخل الحرم. كما خرجت مظاهرات في مدن سورية أخرى أذكر منها حمص. وأمام جموع المتظاهرين في درعا، الهاتفين للحرية وضد "الحرامية"، لم يستطع النظام القمعي سوى أن يستخدم الرصاص الحي ليردي بضعة شباب من خيرة شباب هذا الوطن شهداء، ليكونوا شعلة الحرية التي ستنير سورية بأسرها قريبا إن شاء الله. وثم سمعنا عن إرسال الجيش ومحاصرة المدينة وتحليق الطائرات المروحية، وكل هذا من أجل "فئة مندسة لا تتجاوز العشرات"، وهكذا على عادة النظام السوري يكون الكذب "عيني عينك".
لا يا سادة، قلناها مرارا وتكرارا، تلميحا وتصريحا، وناشدنا وطالبنا، بأن هناك مطالب سورية صريحة وواضحة لدى الشعب السوري. ليس بالضرورة أن يعبّر عنها الشعب السوري بمظاهرات مليونية، فآلة الهمجية التابعة للنظام السوري عوّدتنا التصرف بالهمجية المعتادة مع أي تجمّع سلمي فيه أقل انتقاد للنظام، ولكن عبّر عن هذه المطالب مثقفون سوريون كُثُر، ومن منابر عدة، مخاطبين مختلف الشخصيات التي بيدها القرار في سورية وعلى رأسهم الدكتور الأسد. تم التعبير عن هذه المطالب بشكل حضاري وسلمي وودّي وفي مناسبات عدة وعلى مدار 11 عاما، ولم يقابل النظام هذه الدعوات سوى بالقمع والاعتقالات، وليس آخرها فضيحة قضية طل الملوحي (التي طالبت بجمهورية الإحساس، فلم يستحمل ذلك عديمو الإحساس). وقامت دعوات أخرى تحمل نفس المطالب بالإصلاح عقب اندلاع الثورات العربية، وتكلمنا جديا بأن هناك قائمة من الإصلاحات التي يجب القيام بها في سورية إن رغب القائمون على هذا النظام في عدم جرّ البلاد إلى سيناريوهات مشابهة لما يحدث في بلدان عربية أخرى. قابل النظام ذلك بآذان صماء .. ويبدو أن شعرة معاوية الآن قد انقطعت بين النظام وشعبه. على "الإصلاحيين" في النظام السوري التفكّر سريعا وسريعا جدا والانحياز إلى المطالب الشعبية. كلما تأخرت الإصلاحات أكثر، وكلما زادت الدماء المهدورة، كلما ارتفع سقف المطالب الشعبية، ولا أعتقد أن الإصلاحات التي يريدها السوريون تعجيزية، ولا أعتقد أن أحدا يحب هذا الوطن يرغب في سيل المزيد من الدماء.
لقد تم تعديل الدستور السوري ليُتاح للدكتور الأسد أن يحكم البلد في ظرف 15 ثانية، لم يتم التفكير كثيرا في هذا الموضوع، لم يبالِ المشرّع السوري بقدسية الدستور واتخذ خطوته بتعديله بسرعة قياسية وبالإجماع. إذاً، ليس من الصعب على القيادة في سورية أن تتخذ خطوات جريئة كرفع حالة الطوارئ والإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين وإلغاء المادة الثامنة من الدستور وغيرها .. القيادة السورية قادرة على القيام بذلك وبالأخص في هذه الظروف، هذا إن كانت راغبة حقا في الإصلاح وترفض أن تُدْخِل البلد في نفق غير واضح النهاية، ولكنها حتما ليست نهاية محمودة للطغاة. القيادة السورية بيدها إنهاء كل هذا والسير بالبلد في اتجاه إيجابي يخدم الجميع، وإن كان الوقت ضيقا ولكن ما زال كافيا للقيام بالإصلاح المطلوب وإنقاذ البلاد والعباد.
لقد قدّم السوريون شهداء من أجل الحرية، ويبدو لي أنهم مصرّين على تقديم المزيد من الشهداء حتى تحقيق مطالبهم، وواجب كل مثقف عربي وسوري أن يقف داعما مناصرا لهذه الثورة المباركة ذات المطالب المحقة إلى حين تحقيق مطالبها. وواجب كل سوري أن ينحاز إلى الحرية، وأن يتحرّر من الهواجس والمخاوف التي يبثها النظام في الشعب كخطر التدخل الأميركي والنموذج العراقي والتخويف بعبد الحليم خدام أو رفعت الأسد .. فها هي مصر تلملم نفسها وتنتفض لتصبح أقوى مما كانت عليه، والشعب السوري أوعى وأكبر وأعظم من أن يسمح بتدخل أجنبي في البلد أو عرقنته، ورصيد خدام ورفعت الأسد الشعبي "صفر مكعّب" فكفانا ترّهات. إن هذه الثورة شعبية بأيادٍ شعبية سورية خالصة ومطالب محقة لا يختلف فيها اثنان، والحرية قادمة لا محالة، وعلى السوري أن يختار: إما أن يكون إلى جانب الأحرار الشرفاء، أو أن يرضى بالخنوع والطغيان، والتاريخ لا يرحم. عاشت سورية حرة، و"الشعب السوري ما بينذل".



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن