ماذا يحدث ؟

أسعد محمد تقي

2011 / 3 / 1

مرة واحدة , وفي شتاء واحد , سقط زين العابدين بن علي في تونس وبات نظامه جزءا من الماضي . وتلاه حسني مبارك في مصر وهو الذي التصق بكرسي الرئاسة لثلاثين دون أن يهتز هذا الكرسي وبدأت ملامح التغيير ذاته تبدو على وجه النظام اليمني ورئيسه علي عبد الله صالح وكذا الحال في البحرين وقبل ذلك في الجزائر والمغرب وأخيرا في ليبيا القذافي ويلوّح البعض بالنهج نفسه في العراق منذ وقت , وإن كان هذا التغيير لم يأخذ مداه بعد في هذه الدول كما هو الحال في تونس ومصر ...
ولكن ... ماذا حدث لكي تبدأ الأوضاع السياسية بهذا التدهور العاصف والمثير ؟
على المرء أن يلتفت قليلا ربما إلى الوراء , إلى التأريخ القريب للعلاقات الدوليّة وما ترتّب على التغييرات التي طرأت على ميزان القوى العالمي وما استلزمته من تغيير في حدود الخارطة السياسية العالمية:
كانت سبعينات القرن الماضي هي الختام لمرحلة طويلة بعد الحرب العالمية الثانية, مرحلة التوازن الدقيق في الحرب الباردة، بعد أن انتهت الحرب الساخنة وسكتت المدافع والطائرات إثر صرختي الختام في هيروشيما وناكازاكي اليابانيّتين.. بعدها عرف العالم إن أيّة مواجهة بين المعسكرين اللذيْن أفرزتهما الحرب العالمية الثانية سيحيل كوكبنا كله الى هيروشيما.
ولكن ما أن اقترب عقد السبعينات من نهايته حتى لاحت في سماء العلاقات الدولية بوادر التغييرات الدراماتيكية اللاحقة؛ فبالرغم من الانتصار الفييتنامي وهزيمة الجيوش الأمريكيّة فيها والتغيرات العاصفة التي أسقطت اثنتين من دكتاتوريات العالم الكريهة وهما حكم سالازار في البرتغال وحكم فرانكو في اسبانيا ودخول شبه الجزيرة الأيبيريّة ساحة الديمقراطية, إلا أن الولايات المتحدة, ومن ورائها الغرب الأوربي, استطاعا أن يتغلّبا على نتائج هذه الأحداث، وفي نهاية السبعينات تمكنت الولايات المتحدة من استدراج الاتحاد السوفييتي الى أفغانستان حيث المأزق الذي لا نهاية له الذي أرهق الأقتصاد السوفييتي الذي وجد نفسه مضطرّأ لركوب هذا المركب بعد تفاقم خطر المنظمات الأسلاميّة التي كانت تقودها الولايات المتحدة عبر ضباط مخابراتها وخبرائها العسكريين. وكان هذا الخطر، الى جانب الثورة الأيرانيّة التي أخذت هي الأخرى الطابع الأسلامي، دافعا للخوف من امتداد تأثير الأسلام السياسي إلى الجمهوريات السوفييتية في آسيا الوسطى..
وما أن حلّ عقد الثمانينات حتى ظهر خرقٌ آخر كان على الأقتصاد السوفييتي مواجهته؛ وهو الأستجابة لمتطلبات الحفاظ على التوازن بعد إعلان الولايات المتحدة في عهد رونالد ريغان عن برنامج حرب النجوم, ومعه بدأت الحرب العراقيّة الأيرانيّة بالقرب من الحدود الجنوبيّة للإتحاد السوفييتي. وما أن حلت نهاية عقد الثمانينات حتى كان الأمر قد توضح وأصبح جليا أن الإتحاد السوفييتي لم يعد قادرا على المواجهة خاصة في عهد غورباتشوف وإعلانه البريسترويكا والغلاسنوست. وكانت بداية التسعينات قد جلبت تهديدا آخر صار معه من الصعب بقاء الأتحاد السوفييتي على ما هو عليه؛ إذ تجمعت الجيوش الغربية بقيادة الولايات المتحدة لطرد القوات العراقية من الكويت , الأمر الذي خططت له الولايات المتحدة بدفعها صدام حسين الى ارسال قواته لاحتلالها, وقد استخدمت الولايات المتحدة صواريخ كروز, وهي صواريخ قابلة لحمل الرؤوس النوويّة, وغيرها من الأسلحة المتطوّرة وقد اعتبرها البعض رسالة شديدة اللهجة الى القيادة السوفييتية مفادها إن بالإمكان أن تكون مديات هذه الصواريخ أطول قليلا ليكون هدفها موسكو وليس بغداد.. وسرعان ما تفكك الأتحاد السوفييتي بعد أن تآزرت عليه هذه الأوضاع والصراع بين غورباتشوف وبوريس يلتسين الذي كان يعمل على تفكيكه.. وكانت هذه هي نقطة نهاية الحرب الباردة وبروز الولايات المتحدة كقطب أوحد لا ينافسه أحد في تقرير الشؤون العالمية. وكان من نتيجة ذلك أن اغتنمت الولايات المتحدة هذه الحقيقة وراحت تتمدّد الى مناطق نفوذ جديدة بعضها كان مناطق نفوذٍ لحليفاتها الأوربيات والبعض الآخر من مناطق نفوذ الأتحاد السوفييتي السابق. وكان من نتيجة هذا المسار لسياسة أمريكا في العالم الثالث أن تمكنت من الهيمنة على بعض الدول التي تملك فيها فرنسا علاقات واسعة مثل تونس والجزائر والمغرب وحتى بعض الدول الأفريقية من المجموعة الفرانكوفونيّة مثل ساحل العاج وغيرها. ففي تونس حققت اختراقها الكبير عبر دفع زين العابدين بن على الى سدة الرئاسة في عام 87 بعد إزاحته لبورقيبة واتهامه بالخرف وعدم القدرة على ادارة البلاد، وفي الجزائر جرى الخرق الأمريكي عبر تقديم العون والمساعدات لقوى الإسلام السياسي المتطرفة وفي مقدمتها الجبهة الأسلامية للأنقاذ, حتى حققت فوزا كبيرا في الأنتخابات الجزائرية البرلمانية. إلا أن الجيش الجزائري تدخل ومنع وصول هذه الجبهة الى سدة الحكم. وكان من نتائج هذا ان اندلعت أعمال القتل والأرهاب التي أدّت الى سقوط الآلاف من الأبرياء ضحايا القتل العشوائي. وفي النهاية جيء بعبد العزيز بوتفليقة كحل وسط، وهو المعروف بعلاقاته الطيبة بالغرب عموما وأمريكا خصوصا، فهدأ الوضع السياسي في الجزائر على قاعدة الإيمان بالاقتصاد الحر والفساد الإداري وسرقة أموال الشعب الجزائري. وكانت المغرب هي الأخرى قد تعرّضت للضغوط من أجل فتح أبواب اقتصادها وسياستها للنفوذ الأمريكي، ولكنها كانت قد انحازت منذ زمن مبكر تحت قيادة ملكها الحسن الثاني الى المخططات الأمريكية وابقت على أقل قدر من المساحة للمصالح الفرنسية والأسبانية وباقي الدول الأوربية .. وفي مصر كانت الأمور قد بدأت تنحو منحى أمريكيا منذ مجيء السادات، ولكنها تكرّست نهائيا بعد مقتل السادات في بداية الثمانينات من القرن الماضي ومجيء نائبه حسني مبارك الذي أدار دفّة الأمور في مصر وفق المصالح الأمريكية بعد أن جرى دفع الأقتصاد المصري الى دائرة اقتصاد السوق، مما خلق هوّة واسعة بين أصحاب الثروات وعامة الشعب المصري؛ شغيلته وفلاحيه ومثقفيه وباقي الطبقات التي سحقتها حرية السوق والقوانين الرأسمالية. وكانت مصر في كل هذا منقادة تماما الى التوجيهات الأمريكية وتحتل مكانا بارزا في خارطة حلفاء الولايات المتحدة لإدارة وتنفيذ السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط عموما. وقد كان للمساعدات الأمريكية وللعلاقة مع إسرائيل دور كبير في تقييد مصر بهذا الإتجاه. وقد تميّز هذا المسار كلّه بتغليب المصالح الأمريكية على ماعداها، رغم وجود علاقات وثيقة اقتصادية وسياسيّة لمصر مع الدول الأوربية وروسيا إلا أنها تراجعت كثيرا لصالح مثيلتها الأمريكية..
أمّا في ليبيا فقد استطاعت الولايات المتحدة, بعد أن وصل العقيد القذافي الى السلطة في انقلاب عسكري في عام 69 (والبعض يميل الى الأعتقاد بأن هذا الأنقلاب وغيره من التغييرات آنئذٍ هو جزء من الحصاد الذي جنته الولايات المتحدة على إثر الهزيمة المنكرة للدول العربيّة في حرب حزيران عام 67) استطاعت أن تزيح النفوذ الأوربي وخاصة إيطاليا باعتبارها دولة المتروبول القديمة التي كانت تحتلها. وبالرغم من أن ليبيا امتلكت علاقات اقتصادية وعسكرية واسعة مع الإتحاد السوفييتي ولاحقا مع روسيا الإتحادية إلا أن الولايات المتحدة تمكنت من بعثرة هذه العلاقات تحت ثقل القوة السياسية والمعنويّة للقطب الأوحد. وقد فتحت خرقا كبيرا للحكم الليبي استطاعت معه تحديد مسار السياسة الليبية عبر الضغط على القذافي, هذا الخرق هو حادثة تفجير طائرة بان أمريكان فوق خليج لوكربي. وقد قدَّم العقيد الليبي تنازلات هائلة على شكل تعويضات ومواقف سياسيّة واقتصادية وأشهرها اعلانه التخلي عن البرنامج النووي وتسليمه دون ضجيج لمعدات ليبيا النووية للأمريكان.
وفي اليمن كانت الولايات المتحدة قد استغلت موضوع ضرب البارجة الأمريكية قبالة السواحل اليمنيّة وراحت تجْهِز على ماتبقى من الاستقلال الشكلي لليمن عبر ارسال لجان التحقيق وإلحاق ذلك بإرسال قوات لحماية هذه اللجان, وجرى دفع القاعدة الى القيام بأعمال ارهابية واسعة, وكان هذا مبرّرا كافيا لتقديم المساعدات لليمن لمحاربة القاعدة. وقد ترافق هذا كله بتحويل اليمن الى قاعدة للحفاظ على المصالح الأمريكية في منطقة جنوب البحر الأحمر ومضيق باب المندب الذي بإمكان من يسيطر عليه أن يتحكم بقناة السويس والى حد ما بالسياسة المصرية. وبالنتيجة فإن المصالح الأمريكية كانت هي من يحتل الجزء الأكبر في كل شؤون اليمن, اقتصاديّة كانت ام سياسية أم عسكريّة.
لقد أقبلت سنوات القرن الحادي والعشرين والعالم كلّه يتلفت فلا يجد أمامه سوى الولايات المتحدة, قوّة عظمى وحيدة اليها يعود البت في جميع شؤون الكرة الأرضية. وخلال العقدين الأخيرين أنجزت الولايات المتحدة الكثير على طريق تعزيز نفوذها السياسي والأقتصادي في الكثير من بقاع العالم واستطاعت التخلص مما علق في تاريخها من انتكاسات وهزائم تحت الوهج الباهر لاستعراضات القوة هنا وهناك وخاصة في مرحلة التسعينات, الأمر الذي شجّعها على دفع مشاريعها, الحالمة بإعادة رسم خارطة مصالحها, إلى التطبيق وفق السطوة اللامحدودة التي صارت تمتلكها؛ فكان احتلال أفغانستان تحت ذريعة ضرب برجي التجارة في نيويورك. وكانت أصابع الاتهام تشير الى القاعدة التي بات العالم كله يسمع بها ليل نهار وصار يعرف قائدها بن لادن من كثرة مايتردد في الإعلام العالمي الذي تديره أمريكا. فكانت الحرب التي انتهت عملياتها الأولية بالاحتلال، وتبيّن بعد ذلك أن الأمر كان الخطوة الأولى في تنفيذ مشروع واسع لإعادة رسم خارطة منطقة واسعة سُمَيَت الشرق الأوسط الكبير, تمتد من شمال غرب أفريقيا حتى شبه القارة الهندية وقد تفرض الظروف توسيع هذه الخارطة وقد اختاروا المركز من هذه البقعة؛ العراق ليكون منصة الأشراف على تنفيذ هذا المشروع الكبير؛ مشروع اعادة رسم خارطة الشرق الأوسط.
أما العراق فقد جرت محاولة احتلاله في عام 91 إلا أن القوات الأمريكية وجدت نفسها أمام الانتفاضة الشهيرة, انتفاضة آذار من ذلك العام، وهي الانتفاضة العفوية التي كانت الخلاصة للغضب العراقي من النظام الفاشي الذي تسبب في دمار وخطايا لا حد ولا حصر لها، ووجدت امريكا نفسها أمام اختيارين، فإما التوقف مؤقتا بانتظار ترتيب الأمور بعد أن تطلق يد صدام حسين في تصفية معارضيه وسط سيل من احتجاجاتها الشكلية وسيل آخر من الشتائم تظهر استياءها من سلوك صدام حسين الفاشي وحرصها على حقوق الإنسان وحرية الشعب العراقي، وإمّا أن تقوم هي بنفسها بهذا العمل التصفوي وتكمل احتلالها للعراق وهذا الأمر كان سيكلفها الكثير ويسيء لسمعتها وشعاراتها الرسمية باعتبارها قائدة معسكر الحرية والديموقراطية فاختارت الأوّل واستكملته بعد اثنتي عشرة سنة من الحصار والمعاناة للشعب العراقي بالاحتلال الذي نفذته في عام 2003، ومنذ ذلك التاريخ وأمريكا تعاني استنزافا حقيقيا نتيجة خطئها القاتل في فتح جبهتين: أفغانستان والعراق. وقد قادها هذا الحال الى مواجهة النتيجة على شكل أزمة اقتصادية خطيرة امتدّت الى حليفاتها الأوربيات وبالتالي الى جميع انحاء العالم تقريبا ولكن مركزها هو الولايات المتحدة... كان هذا الاستنزاف المستمر على ثلاث جبهات أكبر وأثقل مما يتحمله الأقتصاد الأمريكي.
وقد اضطرّت الولايات المتحدة الى الخوض في محاولات عديدة للتغلب على الأزمة بتحميل اوربا وباقي حلفائها الجزء الأكبر منها, كما كان الحال في الأزمات السابقة وخاصة أزمة الدولار في بداية السبعينات من القرن الماضي, حيث تدخلت الحليفات الأكثر غنى, ألمانيا واليابان ودول النفط الخليجية, لشراء الفائض من الدولار لكي يستعيد قوته التي تهالكت بعد أن ضخت أمريكا الكثير منه الى السوق لتغطية تكاليف ونفقات الحرب في فييتنام. ولكن الأمر هذه المرّة لم يكن كالسابق إذ أن حماس الحليفات الأوربيات وحتى اليابان لم يكن كعهده عندما كانت هذه الحليفات واقعة تحت تأثير الخوف من الجار الشرقي, الإتحاد السوفييتي, ولذلك كان التلكّؤ في مد يد العون هو سيد الموقف. ولم تفلح المحاولات الأمريكية للتغلب على الأزمة عبر تقديم المليارات لدعم المؤسسات والبنوك المهددة بالأفلاس، وكان هذا خروجا على القانون المقدّس للرأسماليّة, وأعني به عدم تدخل الدولة في آليّة الاقتصاد الذي يجب أن يبقى حرّا تماما وبعيدا عن نفوذها, وها هي سنتان تمرّان على الإقرار بوجود أزمة اقتصادية خطيرة والأزمة لا زالت لم تلن ولم تتراجع بشكل مريح لا يهدد بالعودة العاصفة لها. لقد اضطرّت الولايات المتحدة الى إعادة النظر في مسار الحلول المعقولة لهذه الأزمة التي قد تهدد تماسكها كدولة اتحادية واكتشفت مرغمة إن عليها أن تدرك ضرورة الأستعانة بالتعاون الدولي والقبول بما يفرضه هذا التعاون من التزامات متبادلة ومتكافئة مع اوربا بشكل خاص ومع روسيا والصين وباقي الدول الفاعلة في الشؤون الدولية... وبالطبع فأن هذا الإدراك يعني من بين أمور كثيرة ضرورة القبول بالمشاركة في جميع مفاصل الاقتصاد العالمي المهمة وهو ما يعني أن يعاد النظر في حصص المشاركة في هذا الاقتصاد وإعادة النظر فيما حققته الولايات المتحدة من اختراق لمناطق النفوذ لحلفائها وللدول الأخرى مثل روسيا والصين ايضا، وبالطبع فأن إعادة النظر هذه لايمكن أن تتم تحت إدارة نفس الأنظمة والقادة الذين عملت الولايات المتحدة على ايصالهم الى السلطة لكي يتصرفوا وفق ميزان القوى القائم آنذاك في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي وأغلبهم جرى اختيارهم أو جرى تعزيز وجودهم وفق متطلبات الحرب الباردة وأيضا وفق ما كان يبدو واضحا من بوادر تحول الولايات المتحدة الى قطب أوحد، وهو ما يعني بوضوح أنه صار على أمريكا أن تطيح بعملائها من الرؤساء والقادة والمساعدة على إقامة البديل الذي يستجيب للتوازن الجديد القائم على المشاركة الواسعة للدول الكبرى في المنافع الأقتصادية والشؤون السياسية في منطقة واسعة لن تقتصر على شمال أفريقيا وحده.
ويبدو أن الولع الأوربي بالديمقراطية هو الذي دفع الى أن تكون البدائل متوافقة مع متطلبات العولمة ومع إدراك الجميع أن التفاهم الدولي ممكن كبديل لأستخدام القوة في التعاملات الدولية. كما يبدو أن الاجتماعات الدوليّة وخاصة الثمانية الكبار وقمة العشرين ومنتدى دافوس الأقتصادي قد أفلحت في رسم صورة واضحة للتوازن الدولي الجديد وما يجب أن يكون عليه التقسيم الجديد للنفوذ تبعا لذلك. ومن الواضح أن قرارا قد اتخِذ برفع اليد عن عدد من القادة الدكتاتوريين من الديناصورات الحاكمة على مدى عقود . والجهة التي اتخذت هذا القرار تدرك جيدا أن رفع اليد عن هذا الحاكم أو ذاك سيجعله أمام مساوئ إدارته والموبقات التي ارتكبتها أجهزته بحق شعبه وبالتالي فأن الإطاحة به ستكون سهلة جدا. ولكن الأمر الخطير الذي لم يحسب الجميع له حسابا هو الوعي الذي تحقق للشعوب على أثر التطورات العاصفة في مجال الاتصالات والمعلومات وقدرة الشباب والمثقفين من الطبقات الكادحة على تشكيل هذا الوعي باتجاه تحقيق مطالب شعوبهم وتحقيق الأستقلال لبلدانهم, فكان أن تجاوزت حركة هذه الشعوب التي استغلت انكشاف ظهور حكامها الدكتاتوريين, ما كان يدور في خَلَد الدول الكبرى عن حدود المطالب التي ستكون الهدف وربما تصوّر البعض أنها لن تتعدى التخلص من حاكم دكتاتور ليحل محله نصف دكتاتور، إلا أن الأمر كان أبعد من هذا؛ ففي تونس صار الشعب التونسي يطالب ليس بإزاحة بن علي بل بإزاحة النظام وقواعده كلها وانشاء نظام ديمقراطي يستجيب لمتطلبات التطوّر الحر والمستقل لتونس. وفي مصر صار من الواضح أن تصاعد مطالب الحركة الوطنية المصرية التي أظهرت رقيّا خاصّا في السلوك الجماهيري الشعبي قد تجاوز ما هو مُتَصَوّر عن حدود التغيير الى الاستقلال الكامل غير المنقوص وإلغاء كل ما يحدّد الحريات الديمقراطية والمؤسسات التي ستنبثق منها. وفي اليمن صار على الجميع مواجهة المطالب بتغيير النظام وطرد رئيسه، وفي الجنوب أصبح مطلب الانفصال عن الشمال ملحّا بعد أن أدرك الجميع أن توحيد الشطرين كان احتلالا للجنوب من قبل الشمال أكثر منه توحيدا والشمال والجنوب كلاهما يطالبان بالديمقراطية والاستقلال الكامل. وفي ليبيا راح العقيد القذافي يوزع شتائمه كما فعل الآخرون, وان بشكل أكثر سوقية, على المحتجين على قبح نظامه والمطالبين بتنحّيه وتنحّي نظامِهِ بالكامل عن أكتاف الشعب الليبي الذي شبع سخفا من تصرفات العقيد ونرجسيته.
ولمواجهة هذا المد الوطني والتيار العاصف للرغبة بأرساء أنظمة ديمقراطية متحررة تسودها العدالة, راحت أمريكا باعتبارها الحليف والسيد للحكام المُهَدّدين من قِبَل شعوبهم, راحت تحاول فرملة التغيير وتهدئة الاندفاع نحو التحرر الكامل عن طريق استبدال الحاكم المطرود بآخر من نظامه والأبقاء على المؤسسات ذاتها التي أوجدها المخلوعون. ففي تونس استبدل بن علي بمحمد الغنوشي وهو من بطانة زين العابدين بن علي، وظلت المؤسسة العسكرية على ما هي عليه وظل الفاسدون في أماكنهم، ولكن الحركة الوطنية التونسية بقيت على اصرارها على اجراء الإصلاحات وتحويل النظام الى الديمقراطية وتلبية حقوق الطبقات والفئات الفقيرة وكثيرا ما أجبرت هذه الحركة السلطة على طرد الوزراء الذين كانوا من سياسيي العهد السابق ولكن القوى الخارجية كانت تدخل على خط التغيير, فلكي يضعفوا التماسك الذي برز أثناء الأطاحة ببن علي صار من المفيد السماح للتنظيمات الرجعية للإخوان والسلفيين للدخول على خط السياسة التونسية فكانت عودة راشد الغنوشي زعيم تنظيم الأخوان في تونس.
وفي مصر حاولت الولايات المتحدة أن تختصر الأمر باستبدال مبارك برئيس مخابراته عمر سليمان فلم تقتنع الجماهير المصرية التي أدهشت العالم بانضباطها المثير ولم تقتنع الجماهير بأحمد شفيق الطيار السابق ووزير الطيران المدني إلا أن المصريين أصروا على مطالبهم بسقوط النظام كله وجاء انبثاق المجلس الأعلى للقوات المسلحة كمحاولة أخرى لمواجهة التغييرات الجذرية التي تطالب بها الحركة الوطنية المصرية.
الولايات المتحدة تريد التغيير ولكنها لا تريده تغييرا جذريا، إنها تريده تغييرا يقتصر على تشكيل حكومة تعكس التوازن الدولي الجديد وفيها من سيقوم بدوره في الحفاظ على المصالح الأمريكية ولكن هذه المرّة ضمن حزمة من المصالح الدوليّة وبالتوافق معها. ويبدو ان هذا النهج سوف يسري على كل التغييرات التي ستحصل في البلدان الأخرى ... ولكن الشيء الملفت للنظر هو هذا الذي يحدث في ليبيا: اصبحت المواجهة دموية الى حد بعيد ووجد الغرب ان الشعب الليبي أعلن غضبا يتناسب والعنت الذي كان يمارسه العقيد منذ اربعين عاما أو يزيد. وهذا الغضب لايمكن السيطرة عليه إلا بالقضاء على المحتجين أو تلبية المطالب الجذرية التي يطالبون بها، وكلا الطريقين شديد المرارة. وبدلا من العمل على تسريع حركة التغيير فيها صارت الولايات المتحدة تعلن عن انها بصدد دراسة الأوضاع هناك مرة, وإنها وضعت عدّة خيارات للتعامل مع الشأن الليبي مرة أخرى, وأخيرا أعلنت أنها ستلجأ الى فرض العقوبات على ليبيا ونظامها، وهو ما يعني أنها تريد القول ان النظام باق. لكن هذا لم يفتّ بعضد الشعب الليبي واستمرت الاحتجاجات وتطوّرت الى عصيانات مسلحة مما ينذر بخروج الأمر عن السيطرة كليّا، ومن المحتمل أن الولايات المتحدة وبريطانيا ودول اوربية اخرى تفكر في التهيئة لعمل عسكري من قبيل الاحتلال المباشر تحت ذريعة حماية الشعب الليبي من بطش العقيد ومرتزقته خاصّة وإن ليبيا قد وقّعت اتفاقيّة مع إحدى الشركات الروسية على تسويق النفط الليبي بواسطتها وهو ما يستوجب العقاب الصارم، وهذا العمل هو ترجمة أو صياغة أخرى للعبة جر الحبل والتي طرفاها الشعب من جهة والدول الكبرى وبالأخص أمريكا في الجهة الأخرى: الشعب يريد تغييرا جذريا واستقلالا كاملا والدول الكبرى تريد إعادة تقسيم المصالح والنفوذ وفق ميزان قوى جديد يسود العالم هذه الأيام, مجرّد إعادة تقسيم لا غير.
إن اللعبة نفسها تجري في كل مكان، لكن الشعوب ستكون هي الأقوى هذه المرة لأنها أدركت الضعف الذي اعترى سطوة الولايات المتحدة فراحت تطالب بحصّتها.. حصتها التي لن تكون أقلّ من الاستقلال.. والحرية.. والديمقراطيّة !



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن