كانت لهم اسماء - قصة قصيرة

الياس المدني
magking61@yahoo.com

2004 / 9 / 27

لم يكن اتخاذُ القرارِ صعباً. لم تكن هناك حاجةٌ للنقاش الطويل او حتى للتوضيح، فالمسألة واضحة للعيان. فهي ابنة الجنوب الثائر التي تربت في كنف امها بعد اغتيال والدِها كانت تعرف ان قراره للالتحاق بالتعبئة العامة هو نتيجةٌ طبيعة لتربيته، وفاءا لدماء جدِه ودفاعا عن مستقبلهما كافراد. كانت تعلم ان قراره جاء ايضا للدفاع عن تراب الوطن الذي كانت تقدسه.
لم يكن قرارُه هذا مظاهرة لوطنيته التي حرص على ابرازها في كل مناسبة، بل حاجةٌ ذاتيةٌ للتعبير عن انتمائه لهذه الفئة القليلة من الناس التي اختارت طريقَ المقاومة لتحرير الارض واعادة الحقوق. كانت تعلم ذلك. فقط قبلته ودعت الربَّ ان ينصره. لم تنزف الدموع ولم توصيه بان ينتبه الى نفسه. بل قالت انها فخورةٌ به وبامثاله وان عليه ان يقاتل وان يرفع رأسها كما فعل الابطالُ اثناء الاجتياح في السنة السابقة.
كانت تدري ان شقيقها التوأم رامي لن يتخلفَ ايضا عن تلبية النداء. تعرف انه ورامي سيبقيا معا وسيدافعا عن ارض الجنوب وشعبَاهما حتى لو دفعا الدم الغالي ثمنا لذلك. قبلتهما ودعت بالنصر.
في معسكر التجمع بعدرا لم يخب ظنُه بابناء وطنه. مئات من الشباب في مختلف الاعمار ينتظرون ستار الليل كي يتجهوا الى الجبهة. كانت المعنويات عالية. الاناشيد الوطنية تنطلق من الحناجر وتهطل مثل ندى الصباح من مكبرات الصوت لتنعشَ القلوبَ ولتثيرَ رغبةً عارمةً على القتال. من سيتردد عن التوجه الى القتال وفي اذنه لا زالت تدق كلمات الاغاني والاناشيد الثورية؟ من سيبقى مشاهدا وهو يسمع "طالع لك يا عدو طالع" او "جر المدفع فدائي" وصوتَ ابي عرب الحنون وهو يغني لفلسطين، لكل مدينة وقرية؟
استطلعا ورامي الوجوه الباسمة المليئةَ بالاصرار وتخمنا المكانَ الذي سيتم نقلهم اليه. كانت وجوه فتية، اطفالٌ كتب عليهم ان يحملوا البندقية كي يعيشوا، شباب عليهم ان يخطوا بالدم تاريخَ شعبِهم ومستقبلَ الابناء. كان يدركون ان الكثير منهم لن يعود، ولكن هذا هو ثمن الحرية الذي يجب ان يدفع. كانوا يعرفون ان افق الحرية يقاس بعدد الشواهد على قبور الشهداء، بعدد اكاليل الغار على رؤوس الجرحى وبعدد اليتامى ودموع الامهات. من قال ان الحريةَ توهب؟ من قال ان النصرَ يأتي باسما والانسانُ مستلقيا على السرير؟ لقد اخطأ من ظن ان ضريبة الدم يمكن ان تكون وهمية.
حدثه رامي عن ابيه الشهيد، عن طفولته قرب ساحة رياض الصلح في صيدا، عن لعبه على شاطئ البحر. كاد يشتم رائحة الزوارق وكاد رزاز الامواج يصل وجه حينما لمح عيونا تبتسم اليه من بين الجميع. بدا له ان رواية رامي اخذته فعلا الى طفولته البعيدة في مخيم قرب جرش، فها هو يرى وجه عيس البيرومي صديق طفولته يبتسم له، والى جانبه احمد المجدلاوي الذي عرفاه في فترة من ايام الطفولة. رأى طيفين نهضا من بين الوجه الشابة واقتربا فاتحين ذراعيهما.
مضت سنوات عديدة منذ لقائِهم الاخير. عيس البيرومي واسرته انتقلوا الى الكويت، اما احمد المجدلاوي الاردني الاصل، فلم يسمع عنه شيئا منذ رحيلهِ مع اهله الى عمان. والان يتخيل طيفيهما. لا يعرف من اين اتت الحاجة لتذكر اصدقاء الطفولة. هل هو الحنين الى الشقاوة البريئة؟ هل هي حاجة الى الاختباء خلف ذكريات الطفولة الهادئة خوفا مما هم قادمون عليه؟ يتهيأ للانسان في ساعات الضغط الشديد والعصبية اشياء غير عادية فهل يدخل تخيله لعيس البيرومي واحمد المجدلاوي ايضا في هذا الاطار؟
في ذلك المخيم قضى رغم بؤس الحياة اجمل ايام حياته. هناك تعلم انه فلسطيني، تعلم حب الوطن، تعلم قسوة الحياة. هناك ايضا تعلم ان يعتز بفلسطينيته، كما تعلم ان اولوياتَ الحياةِ عنده تختلف عن اولويات الحياة لدى الاخرين.
في اكتشافاته الصغيرة العظيمة تلك صاحبه رفيقان: عيس البيرومي واحمد المجدلاوي.
حاول ان يطوف بعينيه على العيون السوداء التي احتلت ساحة الملعب، غير ان تلك العيون الضاحكة والايد الممتدة لتعانقَه لم تكن خيالا ولم تكن اطيافا بل صديقاه القديمان.
**
في الطريق الوعر من دمشق الى الجنوب اللبناني اخذت عشرات الشاحنات تنقل المتطوعين تحت ستار الليل. قبعوا قرب بعضهم في شاحنة المرسيدس الخضراء. ومن بين ضجيج المحركات وصلت الى الاذان اغان وطنية على لحن دلعونة. كانت الحناجر تردد كلماتَ الشوقِ لحبيب خلف الاسلاك الشائكة، لحبيب سرقت احلامه الغربة، لقرية يسقيها ندى الاجساد وعرق المعاول، لحيفا التي نامت حالمةً عند اقدام الكرمل، ليافا التي نزلت تغسل قدميها بالبحر، لعكا الصامدة، للعيون الصغيرة التي ترقب المستقبل في غزة، للايادي الغاضبة في الضفة، لجفرا التي ما فقدت الامل ولازالت تنتظر عودة الحبيب. كان صوتٌ حنونٌ جهوريٌ ينطلق من داخل الشاحنة يغني المقطع قبل ان تردده حناجر رفاق الطريق. صوت شبيه جدا بصوت مغني الثورة ابو عرب مما احال التفريق بين الصوتين لولا هذه النبرة الشبابية التي ميزت صوته الجميل.
مضت ساعات الليل الحزيراني القصيرة والقافلة تصارع الطريق الوعر في جبال لبنان الشرقية. اصبحت معالم الاشياء واضحة للعين في هذا الضوء الرمادي. تلك الاشجار الشامخة وهذه الصخور التي تعترض طريق القافلة تلك الاجمات الشوكية التي تنتظر مطر الربيع الذي كأنه منع من الهطول هذه السنة. كان البعض قد اغمض عينيه عندما اخذ الشفق الاحمر يلون الافق واخذت الارض الوعرة تكشف اسرارها امامهم.
خلال هذه الساعات القليلة ولدت بينهم صداقة عميقة. كانوا يعلمون انهم يُوْدعون حياتهم ومستقبلهم في ايدي بعضهم البعض. اربعة عشر شاباً، اربعة عشر املاً واربعة عشر صخرة من ارض كنعان عاهدوا انفسهم وعاهدوا امهاتهم ان يعيدوا الماضي العتيد وعاهدوا اطفال شعبهم ان يصنعوا لهم المستقبل. في ضوء الشفق بدت وجوههم السمراء مليئة بالبراءة والامل.
**
رائحة البارود والحرائق تصل الى انوفهم ببطئ. رويدا، رويدا اقتربت اصوات الانفجارات من اذانهم لتصعقها بشدة. توقفت السيارة عند منعطف مطل على وادي جميل، وفي البعيد رأوا بيوت راشيا الفخار تغتسل باشعة الشمس الذهبية.
استقبلهم ابو العبد الشاب الاسمر الطويل ذو العينين السوداويين الثاقبتي النظر. رحب بهم بحرارة وقدم شرحا تلخيصيا للحالة على هذا القاطع من الجبهة. اخبرهم بان القوات المشتركة تتصدى منذ يوم امس لقوات العدو في هذه المنطقة الجبلية الوعرة، وانه رغم منع القوات عن الغازية التقدم فقد منيت الكتيبة بخسائر كبيرة من الابطال الذين لم يتوانوا عن تقديم ارواحهم لوقف تقدم العدو. قطعت كلماته بين الحين والاخر الانفجارات العنيفة والقصف المتوالي. كانوا يقفون على جانب الطريق الاسفلتي الضيق عندما توقفت قربهم سيارة المرسيدس المسرعة التي ظهرت فجأة من خلف المنعطف.
- شو بتسوا هون؟ صرخ رجل في الخمسينيات عمره وهو يطل برأسه من المقعد الخلفي. ليش ما بتقاتلوا؟
- حاضر – رد ابو العبد بلهجته البدوية الجميلة – ولكن هاي مجموعة المتطوعين وتوهم وصلوا وبدي ..
لم يدع الرجل ابا العبد يكمل كلامه عندما صرح به بلهجة الامر ان يتوجهوا فورا الى الخندق. انطلقت السيارة باقصى سرعة تاركة ورائها رائحة الكاوتشوك المحروق ومغطية على اصوات الطلقات وانفجارات القنابل.
لم يكن من السهل على المتطوعين التأقلم مع اصوات الرشاشات والبنادق خاصة وان الطلقات هطلت حولهم بكثافة والمروحيات الاسرائيلية تحلق عاليا وهي تطلق صواريخها على مواقع المقاومة. اما المضادات الارضية فقد كانت عاجزة عن فعل أي شيء. استمر القتال لساعات عديدة. تعلموا خلالها اهمية الحفاظ على ارواحهم. فالشجاعة ليست ان تقتل – كما قال ابو العبد – بل ان تبق ثابتاً في موقعك وان تمنع العدو عن التقدم. تعلموا الا يطلقوا النار بشكل عشوائي. تعلموا ان يقتنصوا اللحظة لكي يكون اطلاق النار مفيدا.
ترائت له عيونها وهي تضحك له. تذكر كيف قابلها لاول مرة، كيف عانقته بحرارة عندما عاد من سفره الطويل. تذكر وصيتها ويدها تلوح له ولرامي عندما غادرا يوم امس. كانت رائحة عطرها الياسميني تطغى على رائحة البارود، وصوتها الحنون يطغى على اصوات الانفجارات. في هذا الخندق وراء الساتر الترابي الذي يفصل بينه وبين الموت تذكر الحديقة المليئة بعرائش الياسمين والورد الجوري.
نظر الى رامي، عندما هز انفجار عنيف الخندق. حنى رأسه كردةِ فعل طبيعية وشعر بالم شديد في ظهره، اثر ارتطامِه بشيء مصاحب لكمية هائلة من الغبار التي سقطت فوق رؤوسهم. كان واثقا ان حجرا او غصن شجرة اصابه في ظهره. مد يده يلامس مكان الالم فشعر بشيء لزج على البدلة الخضراء. سحب يده خائفا بسرعة ونظر الى كفه الملطخة بالدم الاحمر، فكاد ان يقفز من هول المفاجئة. مد رامي يده خلف ظهره وقد جحظت عيناه. اخرج يدا مقطوعة وقد تشبثت بقوة ببندقية. كانت يد عبد الكريم الشاب ذي السابعة عشرة من عمره، الذي رافقهم الرحلة من دمشق وتركهم هنا ليترقب انتصارهم من مكان ما عال في السماء.
اختفت الشمس خلف الافق الذي حددته الوان الغبار والدخان الاسود عندما امرهم ابو العبد بمغادرة الموقع والانسحاب الى الخلف. خفت قليلا اصوات الانفجارات التي تخللها بين الحين والاخر اطلاق رصاص كثيف.
لم يدري كم مضى من الوقت عندما فتح عينيه ووجد رامي وقد غفا مستنداً بجسمه النحيل الى شجرة زيتون فبدا كجسد واحد، مثل الام التي احتضنت رضيعها. يرتكز الى الشجرة ويستمد منها القوة وارادة الحياة. بينما استلقى عيس على جانبه الايمن وقد عانق بندقيته. هكذا يجب ان يكون العناق. بدا كعاشق ضم الى صدره حبيبته بحنان، وتوحدا بصمت، ثم اغمضا عينيهما فلم تعد تعرف اين ينتهي احدهما ويبدأ الاخر. اما احمد المجدلاوي الذي فقد جلس ساهماً ينظر الى السماء ويتمتم باشياء بدت كالدعاء. عندما سأله ماذا يدعو اجاب بابتسام انه لا يدعو بل يكرر بعض قوانين الفيزياء كيلا ينساها، اذا انه لم ينه امتحاناته بعد ويريد ان يقدمها بعد الحرب. تأمل رفاقه فخطر بباله عبد الكريم الشاب الصغير الذي مضى عصر اليوم. فكر بامه، بخطيبته التي تركها في دمشق، فكر باشلاء الجثث التي رأها لاول مرة في حياته، اجزاء تبقت من ابطال المقاومة.
ارتفع من جديد صوت اطلاق النار الكثيف. عادت القذائف لتتساقط عليهم بغزارة. هرعوا بامر من ابو العبد الى خندق قريب. هدير محركات الدبابات اختلط باصوات القنابل والرصاص. فقد اخترقت قوات العدو خطوط الدفاع الامامية واخذت بمحاولة الالتفاف عليهم. عندها سمعوا من بين زخات الرصاص اوامر صدرت من مكان ما عبر اللاسلكي بالانسحاب. حاول ابو العبد توضيح شيء، الا أن الصوت امره باخلاء الموقع فوراً والانسحاب الى النقطة المحددة في عين عطا.
في الطريق الى عين عطا سارت مجموعات المقاومة بصف طويل بين الجبال. رغم الخسائر الكبيرة والجراح التي منيت بها ورغم الانسحاب من الموقع الذي دافعت عنه باستماتة الا ان المعنويات كانت عالية جداً. اخذت الاصوات تردد اغاني الثورة، من بين الجميع تميز الصوت الحنون نفسه الذي لم يمل الغناء منذ صعود الشاحنة في دمشق. في هذه الوديان، لم يكن صوته شبيها بصوت ابو عرب، بل كان الصوت نفسه والنبرات الحنونة تذكر بتاريخ قرانا ومدننا الواقعة على بعد عدة عشرات الكيلومترات. كانت اصوات الاناشيد مسموعة عن بعد، فقد حملتها الوديان واخذ الصدى يرددها.
فجأة علت اصوات الطلقات النارية، عدة رشات متوالية، اسكتت الاصوات الجميلة التي كانت تهتف لفلسطين، للثورة وللفداء. كانت المجموعات قد وصلت الى نهاية مضيق بين جبلين وبدأت فسحة واسعة بين الوديان زرعت فيها سنابل القمح واشجار زيتون. سقط خمسة مقاتلين كانوا في مقدمة الفصيلة وجرح اثنان منهما الملازم ابو العبد الذي اخذ يصيح باتجاه الخندق الذي اطلق منه الرصاص والواقع في الطرف الاخر من الحقل بان يتوقفوا فنحن رفاق. صاح ايضا على افراد فصيلته الا يطلقوا النار. توقف اطلاق الرصاص وطُلِبَ من الفصيلة التقدم.
هرع الجميع باتجاه افراد المجموعة الاولى الذين سقطوا وبسمة ملائكية تعلو وجوههم. سقطوا والجبال لازالت تحمل اغانيهم الى فلسطين، سقطوا وهم يعانقون السلاح. سالت الدماء الزكية على الارض لتسقي السنابل الخضراء .
كرر ابو العبد نداءه بألا يطلقوا النار على اخوة السلاح. صرخ من الالم ومن الرغبة في الحفاظ على ارواح الفتية. حمله اثنان بين حمل الاخرون الجريح الثاني وجثث الشهداء وساروا بهم بسرعة باتجاه الخندق السوري طلبا للنجدة. وصلت الفصيلة وسط حقل القمح عندما عاد اطلاق النار بكثافة.
لم يكن اطلاق النار من الخندق السوري هذه المرة، بل انطلق من عدة جهات من الجبل. رمى بنفسه بين السنابل وقد احتار امره، وجد الى جانبه احمد المجدلاوي وقد استلقى على بطنه قابضاً عليه بكلتي يده وبندقيته امامه. سأله بشك ان كان كل شيء على ما يرام، الا ان احمد صديق الطفولة الذي عاد ليلتقي به قبل يومين لم يجب. امسك به وادار رأسه نحوه ففاجأته نظرة زجاجية باردة مليئة بالالم. سقط احمد وهو يفكر بالامتحانات وانهاء السنة الدراسية.
تساقط الرصاص حوله وقذائف الهاون انفجرت قربه. اختلطت اصوات الانفجارات مع صراخ الجرحى وطلقات المقاومة الشرسة. فكر بسرعة برامي وعيس البيرومي. اين هما الان، هل شاهدا سقوط احمد المجدلاوي؟ هل سقطا ام انهما يطلقان النار باتجاه الجبل مثل كل من بقي على قيد الحياة؟ لم ينتظر طويلا. كان موقعه مكشوف وقد تركزت الطلقات عليه. رفع رأسه فرأى الجنود الاسرائيليين يطلقون النار من وراء الصخور البعيدة عشرت الامتار عنه. لم يكن وحيدا في معركته هذه. كانت اصوات الكلاشنكوف المميزة والمدافع الرشاشة لرفاق السلاح خير رفيق في هذه اللحظات الصعبة. رأى الموتَ يعانقه. رآه يمد يده نحوه. لكن ارادته بالاستمرار في الدفاع كانت اقوى. فصله عن قوات العدو سور حجري منخفض، رفع فوهةَ بندقيتِه واطلق عددا من الرصاصات. صوب مرة ثانية، ضغط الزناد ونهض راكضا. سمع صفير قذيفة الهاون وهو يركض فرمى بنفسه خلف السور. وجد على يمينه عيس ورامي يطلقان النار. نظر اليهما بفرح واخذ باطلاق النار على العدو. حاولت سيمفونية الموت قطع نشيد الحياة، المعزوفة الشاذة تحاول ان تطغى على صوت اليرغول الاصيل. تطايرت احجار السور والتي تشكل آخر فاصل ما بين الحياة والشهادة ولم يبق منه سوى امتار قليلة تصد بصدرها حقد العدو.
كادت اصوات بنادق الرفاق ان تصمت، بدأ الحزن يدب في قلبه وهو ينصت الى الوصلات المتقطعة من بنادق الكلاشنكوف. لم يعد يسمع انات الالم ولا صرخات البسالة. حاول ان يَعُدَ الاماكن التي لازالت تقاوم ليقدر عدد الاحياء لكنه لم يستطع. ضاعت صرخاته الحماسية المتكررة في الصدى فلم تجاوبه غير الجبال. في هذه اللحظة تناثرت حولهم طلقات كثيفة. رفع رأسه قليلا ليحدد مصدرها. فقابلت عيناه نظرات الجندي الاسرائيلي الحاقد. اراد ان يطلق النار عليه، لكن البندقية تعطلت. فبادر الجندي باطلاق نار كثيف. صرخ على رامي وعيس البيرومي كي يغطوا عليه. فقد اصبح في متناول الجندي الاسرائيلي:
- وينه هذا ابن الكلب؟ خليني اشوفه – هتف عيس البيرومي.
- لا ترفع راسك. بس طوخ باتجاه اليسار - صرخ بصديق طفولته.
- خليني بس اشوفه ابن الشرمـ …
لم يكمل جملته. نهض من مكانه ليرى كيف يغطي على صديقه واطلق عدة طلقات. لم يصرخ ولم يتألم. لم ينزف كثيرا من الدم. فقط شهق شهقة عميقة وعانق بقايا السور الحجري. لم تسقط بندقيته من يده بل نظر الى صديق طفولته وفي عينيه ابتسامة رائعة. ابتسامة تعجز الكلمات عن وصف جمالها. نظر اليه ونطق اخر كلماته: "اسف" ثم سقط رأسه على صدره وهو يعانق صديقه بقوة.
عيس البيرومي كان منذ طفولته عنيداً.لم يكن يصدق الا ما يراه. كم مرة طرده المدرس من المدرسة على ما كان يسميه قلة الادب. كان شجاعا لا يتردد عن طرح الاسئلة المحرجة. كان يفكر. كرر مراتً عديدة انه ان لم يفهم الشيء لا يمكن له ان يحفظه. كان شقياً بكل ما تعنيه الكلمة. بعد ساعات الدوام تفنن في اختراع الالعاب واكتشاف قوانينها. كان "زعيم الشلة".
تذكر حادثة وهما في الصف الثالث عندما طلب منه المدرس في الخيمة التي كانت تشكل مدرسة الوكالة ان يعتذر.
- عن ايش يا استاذ؟ ما هم ما حاربوش، بكل نابلس ما كانش في ولا جندي اردني ما انا كنت هناك. انت كنت بنابلس يا استاذ؟
صرخ المدرس به وطرده من الخيمة فحمل كيس الخيش وقال وهو يخرج:
- يا ريتك يا استاذ كنت بنابلس يوم ما احتلوها الاسرائليين لكنت ما قلعتني.
خرج ولم يعتذر.
بعد انتقالهم الى الكويت انهى دراسته الثانوية. ثم انتقل الى مدريد لدراسة الطب. بعد انهاء السنة الاولى فاجئه العدوان الاسرائيلي على لبنان فلم ينتظر. في اليوم التالي وصل دمشق.

خفت حدة الرصاص الموجه اليهم. كانت الذخيرة مقبلة على النفاذ. نظر الى رامي وهو يعانق جسد عيس البيرومي والدموع تهطل من عينيه.
- رحمة الله عليه. هم السابقون ونحن اللاحقون – قال رامي.
- استشهد وهو بغطي علي – اجابه صديقه.
غرق في بحر الحزن بعد فقدان صديقي طفولته. نظر الى رامي فتذكرها . اعاد ما قاله رامي منذ قليل "نحن اللاحقون"، بدا له وجهُ امِه، رأى وجهَ امِ عيس البيرومي وامِ احمد المجدلاوي، تخيل وجهَ امِ رامي. "من سيحمل الخبر اليهن؟ هل سيبكين ام انهن سيطلقن الزغاريد؟" اسئلة كثير راودت خياله. نظر الى جسد ابن مغني الثورة ابي عرب الذي سقط على مقربة منهم. جف حلقه وقد فرغت مطرة الماء.
- من قال نحن اللاحقون؟ هتف فجأة الى رامي – الله مجعولك تفكر بالموت.
- ولك وين الحياة؟ مش شايف كل اصحابنا استشهدوا يعني هم احسن منا؟
- احسن ولا مش احسن..
في ايام طفولته كان للشهداء اسماء. كان الشهيد هو فلان ابن فلان من المكان الفلاني. وكانت الامم تحصي كم هنا من اليتامى وكم بقي من الارامل. عندما كان للشهداء اسماء، كانت لهم اضرحة وكان الاشبال والزهور يزورون قبورهم.
عندما كان للشهداء اسماء كانوا بشرا ولكنهم احبوا الارض فمضوا. مضوا رافعي الرأس بصمت ودون وصية، دون كلام. ففي حضرة صاحبة الجلالة الشهادة يفقد الكلام معناه وتتفكك الكلمات إلى جمل لا تعبر حتى عن ذاتها. ما الحاجة للوصية، ما الحاجة للكلام وهم على يقين انهم قد تركوا خلفهم شعباً من البواسل؟
مضت اربع ساعات حينما سكت صوت الرصاص والانفجارات ثم سمعوا صوت محركات طائرة الهلكبتر وهي تبتعد عن المكان.
في فضاء الشمس الحزيرانية يقسم الفلاحون البسطاء الذين لازالوا يزرعون القمح في مرتفعات عين عطا، انه منذ يوم المعركة اصبحت الارض اكثر نتاجاً، واقسموا انهم دائما في العاشر من حزيران في لحظات الاستراحة حينما يسندون اجسادهم الى اشجار الزيتون وحينما يستلقون على الارض مصغيين، تحمل الرياح اليهم صوتاً حنوناً لشاب يتردد صداه بين الجبال هو يغني الدلعونة لحبيبته الاسيرة ويعاهدها على التحرير والعودة.
**
اعترافات لا بد منها:
خلال الساعتين التاليتين للمعركة، احتلت القوات الاسرائيلية كل منطقة عين عطا. انسحب المقاتلون التسعة الذين بقوا احياءا باتجاه مواقع الجيش السوري. في اليوم التالي حيد المبعوث الامريكي فيليب حبيب القوات السورية التي اخلت القاطع الشرقي ورفضت تقديم أي امداد لهم سوى عرضها عليهم بنقلهم الى منطقة ظهر ابو الاحمر حيث عادوا للانضمام للقوات المشتركة لمواصلة القتال.
لابد من الاشارة الى ان الرجل الذي رأوه للحظات في سيارة المرسيدس وامرهم بالتوجه الى الخنادق كان احد قادة القوات المشتركة، هرب من جبهة القتال غير آبه بما جرى. بعد الحرب تمت ترقيته الى رتبة اعلى، فكان احد الحجج التي تذرع بها المعارضون لشق الصف الوطني الفلسطيني.
في معركة عين عطا سقط 41 شهيداً من قوات المقاومة، استشهد 5 افراد من الخندق السوري. كان لك منهم اسمه. حتى هذه اللحظة لم يعرف لماذا اطلق افراد الخندق السوري النار على القوات المشتركة وهو يسمعون اناشيد الثورة. وكيف تسلل الانزال الاسرائيلي على بعد عشرات الامتار عن خندقهم ولم ينتبهوا له ولم يسمعوا صوت الهلكوبتر.
مضى الشهداء، تفرق المقاتلون، وجفرا لازالت تنتظر.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن