الشاهد الوحيد

كُليزار أنور

2004 / 9 / 25

قصة قصيرة
بقلم : كُليزار أنور
كاتبة من العراق
بأقدامي أحرقت المسافات الطويلة .. ووصلت .. تقترب الصورة .. تتوضح معالمها أكثر فتندفع أقدامي في جريٍ سريع .. تبدو مدينتي أمامي على البعد كقلعة قديمة منخورة بالقنابل ..شعرتُ بقلبي يغوص في صدري وينعصر بشدة .. فالموت الساكن قد غطى المدينة .. والدمار قد أكل من كل أطرافها وشوارعها ومنازلها .. الجو هنا معبق برائحة الحرب .. الرصاص الفارغ يملأ المكان .. يرسم خرائط غريبة على الأرض .. تبدو مدينة هامدة حزينة مغسولة بالحريق والدمار .. الصمت يغطي أُفقها الواسع .. كوجهِ طفلٍ سرقوا منهُ الأمل !
عندما وطئت قدماي باب منزلي .. داهمني فيض من الألم والحسرة لما رأيتُ بيتي بهذا الشكل .. أحسستُ بحرقةٍ تكوي دواخلي .. ذرفتُ دموعاً صامتة .. آه .. لشدّ ما تمنيتُ أن أتحول إلى ذرةٍ من ذرات الهواء حولي .
الحديقة جافة وقد تشققت أرضيتها والأشجار على وشك الموت .. لم يبقَ منها سوى الرمق الأخير من الحياة .. فتحتُ صنابير المياه كلها باتجاه الحديقة لترتوي بعد ذلك العطش .. وأخذت عيوني تتفحص جدران بيتي .. امتلأني حزنٌ موجع .. فالرصاص قد نخرَ الجدران بمختلف القذائف .. الأبواب ما زالت مفتوحة كما تركناها .. أدخل إلى الصالة .. التفت حولي .. أتفقد المكان شبراً .. شبراً ..لم يبقَ منهُ شيء .. كل ما فيه قد التهمتهُ الحرب .. وما بقي منه .. قد نُهب .. مَن نهبهُ ؟ .. لا أدري ! .. ويشهد لذلك آثار أقدام على الأرض .. تركَ علامات حزينة وباهتة .. بيوت العناكب غطت كل الزوايا والغبار كوّنَ طبقة على الأشياء الباقية المبعثرة هنا وهناك .
أقف أمام النافذة .. أتطلع نحو الحديقة .. ذوائب الأشجار تتحرك وأسأل : - هل سينقذها الماء ؟ .. لا يهم ! حتى وإن ماتت سأزرع غيرها من جديد .. أرفع نظري إلى السماء .. العصافير تمرح على أسلاك الكهرباء .. تنزرع عيناي هناك .. لحظات وكأنها سنين طويلة .. الصور تتزاحم .. ففي تلكَ الليلة التي كانت بلا تاريخ أمطرت السماء بغزارة .. لم يكن يمطر فيها سوى القنابل والرصاص والبارود .. ليلتها .. أفقنا على أصوات القذائف التي تهز الأرض .. ضياء الرصاص يلهب سماء المدينة يغطيها بسماءٍ اخرى من الدخان .. دوي الانفجارات وعويل صفارات الإنذار يشرخ صمت الليل .. الوقت يمضي وقصف الطائرات مستمر لا يعطي للروح بعض الأمان .
انفجار قريب يدوي في الوجود .. إنهُ قريبٌ جداً – قلت في نفسي – ياترى يانصيب الدمار أي البيوت اختار هذهِ المرة ؟ .. ففي الحرب .. يختار الموت ضحاياه بالصدفة !
ارتسم على الوجوه الهلع .. إنهُ فزع الحرب .. كل ما استطعنا أن نفعلهُ هو انتزاع الأرواح من براثن الموت .. لم نفكر بأي شيء آخر .. ففي مثل تلك اللحظات يتحول التفكير إلى شظايا.. ومضينا ليلتها نحو مدناً اخرى أكثر أماناً .
القذائف تتهاوى علينا كالمطر .. جموع الناس تفر بأرواحها فقط .. بكاء الأطفال قد اختلط بدعاء المسنين ونفير الإنذار .. وحده الصراخ يتفجر في أرجاء المكان .. ولم يكن لمدينتنا ذنب سوى انها في الفوهة .. قدرها أن تكون مدينة على الحدود !
توقفت الحرب وحطت أوزارها ، فالحرب مهما طالت ..لا بد أن تنتهي في يومٍ ما .. وأول ما فكرتُ فيه بعدها .. بيتي .. نعم بيتي !
تتلاشى الصور كلها كومضةِ ضوء .. مازالت العصافير تمرح على أسلاك الكهرباء .. وذوائب الأشجار تتحرك .. أبتعد عن النافذة .. أدخل غرفة مكتبي .. لا شيء هناك .. حتى مكتبتي سرقوها ! .. وانتبهت فجأةً .. هناك شيء ما " لوحة الموناليزا " لم يأخذوها ! .. أتعجب في سري .. ألم يُغرِ لغز ابتسامتها أحد ؟ .. إنها ساقطة على وجهها .. أندفع نحوها .. أرفعها بهدوء .. يا إلهي ..لم تتأذَ ! .. الفرحة تسري في شعاب الروح .. إنها أجمل ما أملك ! .. رُحماكِ سيدتي .. ألم تتحملي هذهِ المأساة .. فسقطتِ ؟! .. الموناليزا .. الشاهد الوحيد على ما جرى !
- مازلتِ تبتسمين سيدتي ؟ .. رأيتِ كل ذلك وما زلتِ تبتسمين ؟ .. لو عَلِمَ دافنشي بأنكِ سَتشهدي هذا كله .. لَما رسمكِ ! .. أي غموض يُفسر ابتسامتكِ .. وأي لغزٍ يحويها ؟؟ .. ربما كانت ابتسامة سخرية !
مسحتُ عنها الغبار .. وثبتُها في مكانها .. لتبقى الشاهد الوحيد !



gulizaranwar@yahoo.com


قصة قصيرة
عنقود الكهرمان
بقلم : كُليزار أنور

رنّ الجرس في ساعةٍ متأخرة .. رنينه يشرخ هدوء الليل .. أصمت بإصغاء .. يرن مرةً اخرى .. قلتُ لنفسي : مَن سيأتينا في هذهِ الساعة المتأخرة .. تحركتُ بتمهل ، فقد يكون ما أنا فيه مجرد تخيل .. ويرن للمرة الثالثة .. أُوقظ زوجي الراقد بجانبي :
_ خالد .. خالد .. أحدهم يدق جرس الدار .
_ ليسَ هناك أحد .. نامي !
غطى رأسهُ وعاد إلى نومهِ . ويرن من جديد .. خرجتُ من الغرفة .. أنرتُ ضوء الصالة .. فمنطقتنا أمينة ، ولا داعي لأي خوف .. وفتحتُ الباب .. امرأة ورجلان .. المرأة سلمت عليَّ أولاً وبعدها الرجلان .. وبادرت السيدة :
_ هل تسمحين أن ندخل ؟
خجلتُ أن أقول لها : " مَن أنتم " وبشكل لا إرادي مددتُ يدي إلى الجهة اليمنى لأسمحَ لهم بالدخول ، فقد يكونون أقارب زوجي !
ودخلت هي قبلهم .. وبعدها الرجل الأول .. انحنى نحوي بطريقةٍ وديةٍ ، فحركتُ له رأسي بتودد رداً بسيطاً على تحيتهِ الجميلة .. أما الثاني .. مد كفه لمصافحتي .. وترددتُ بعض الشيء قبلَ أن أمدّ له كفي .
جلسَ الرجلان في صدر الصالة والمرأة وقفت إلى جانبي لتجلس حيث أجلس .. فقلتُ بكرم : أهلاً وسهلاً.
وبعد تردد لم أستطع اخفاؤه أو تبريره :
_ لأوقظ لكم خالداً .
فردت السيدة بطيبة :
_ لا تقلقيه ، فنحن زواركِ .
بنظرة تحمل الشك والتساؤل معاً تطلعتُ إليها .. وشعرتُ بنوع من الخوف .. إذن ، هم ليسوا أقاربه كما ظننت .. ياربي .. ماذا يريدون مني في هذا الليل ؟ .. ومَن يكونون ؟ .. فأنا لم أفعل شيئاً !
نهضت لأقوم بواجب الضيافة على الأقل .. فدعتني السيدة للجلوس ! بدأت أنفاسي تضيق وأحسستُ بانقباضٍ مرعب .. اضطربت عندما حدقتُ في عينيها .. وربما توقف القلب عن النبض في تلك اللحظة .. وقفتُ مدهوشة وكأني نسيتُ كل شيء ! عيناها تلمع ببريقٍ أحمر .. شعرتْ بخوفي فقالت بهدوء :
_ نعلم انهُ وقتٌ متأخر ، لكننا لا نستطيع أن نزوركِ في النهار .
الخوف تشعبَ إلى كل جسمي بقشعريرة برد .. وبومضةٍ رأيتُ قافلة من صور الجان تعبر مخيلتي ، لكن تبادر إلى ذهني في الحال – كما قرأنا عنهم – ان الجن ليسوا كالبشر .. نظرتُ إلى الرجلين .. عيناهما تلمع بنفس البريق .. تمالكتُ نفسي بعض الشيء ورديت بصوت خافت يكاد يسمع :
_ بماذا أستطيع أن أخدمكم ؟
رفعَ إليّ – الرجل الذي حياني – وجهه .. وقال :
_ بالحقيقة نحنُ قصدناكِ في خدمة .. ولأننا نعرف طبيعة مجتمعكم ، فقد جلبنا معنا امرأة لكي تطمئني .. ولكي تسمحي لنا بالدخول .
لم أستوعب ما كان يقوله من الرعب الذي سيطر عليّ .. فقاطعته:
_ اسمح لي .. مَن أنتم ؟ .. وماذا تريدون مني ؟
نهضَ الرجل وتقدم باتجاهي وجلس بجانبي :
_ اطمئني ، فقد قصدناكِ بخير .
لم أجب مؤثرةً الصمت .. وأكمل بعدما شعرَ بأنهُ استطاع أن يُهدئني :
_ سيدتي .. أنتِ كاتبة راقية جداً بنظرنا .. وكنا نقرأ ونتابع لكِ في مجلة " اليوم " روايتكِ " عنقود الكهرمان " وكما تعلمين نشرتِ الجزء الأول فقط .. والثاني لم يُكمل .. لماذا ؟
_ أجئتم في هذا الليل لتسألوني هذا السؤال ؟
_ نحنُ لسنا من الأرض .
حينَ قالها أردتُ أن أصرخ . دقات قلبي تزداد وترتفع .. تقرع في رأسي كناقوسِ كنيسةٍ قديمة .. ترتجف يداي .. ويجف فمي .
انصرفت عيناه عني بعدَ أن كان يُحدق فيّ ملياً .. اقتربت السيدة أكثر مني .. وأحسستُ بملامسة فخذها لفخذي .. ووضعت يدها على كتفي :
_ أرجوكِ .. اهدئي .. واطمئني .. لسنا هنا لنضركِ .. بل بالعكس .
فجاوبتُ بحدة :
_ بكل بساطة .. المجلة أُغلقت !
فردَ الرجل الثاني من مكانهِ :
_ والجزء الثاني موجود لديكِ ؟
_ بالتأكيد .
_ زيارتنا من أجلِ هذا .
وتقدم هو أيضاً .. ووقفَ أمامي ، فقلت :
_ وضحوا لي أكثر ؟
_ ما نشرتهِ هنا كان يُنقل إلى مجلةٍ اخرى لدينا .. وأنا رئيس تحريرها .
قاطعتهُ بابتسامة :
_ وهل تنشرونها بالعربية ؟
فابتسم لابتسامتي :
_ لا .. بلغتنا !
وجدتُ نفسي عاجزة عن التعبير بصدق عما أشعر بهِ وأُريد قولهُ .. شعرتُ أن عينيّ اغرورقت من شدة التأثر لهذا الفرح المفاجئ ! .. وذلك الخوف المرعب تبدد إلى فخر وزهو لا يوصفان .. فأكمل :
_ لدينا مندوبون في الأرض ، وهم يقومون بترجمة الأعمال الجيدة .. وروايتكِ لاقت الاستحسان لدينا .. وبعدَ أن انقطعت توقفنا نحن أيضاً عن تكملتها .. والغريب .. وصلتنا رسائل كثيرة – بالآلآف – تطلب تكملة الجزء الثاني .. ولم ندرِ ماذا نفعل ؟!
_ أتعرفون .. مر على انقطاعها أكثر من سنة .. ولم يسأل عنها أحد هنا .
_ انها رواية من طرازٍ خاص !
أحسستُ بالاشراق ينبع من أعماقي .. فنهضت .. ودخلتُ غرفة المكتب .. وأخرجتُ من الدرج الجزء الثاني والثالث من روايتي " عنقود الكهرمان " .. وضعتها في ظرفٍ أبيضٍ كبير .. وكتبتُ عليهِ بخطٍ واضح : " إلى قرائي أينَ ما كانوا " !
قدمتُها للسيد فابتسم حين قرأ تلك العبارة على الظرف .. وصافحني بقوة هذهِ المرة .. وسألني :
_ كم تطلبين ؟ قولي ما شئتِ وسيكون لديكِ ؟
_ لا شيء .. إنها هديتي لقرء غرباء يسألون عني .
فتقدمت السيدة نحوي .. وأخرجت علبة حمراء من جيبها .. علبة ما رأيت بجمـالـها
وتصميمها البارع :
_ هدية متواضعة جداً لك .
وضعتها على الطاولة القريبة منها ..صافحوني .. وخرجوا وبقيتُ أنتظر لأعرف كيفَ سيغادرون ! .. ابتسمت .. وابتسامتها لم تظهر سوى في عينيها .. لم تُغير تعابير وجهها .. فقط أضاءتها .. وكأن نوراً نبع من داخلها فأضاء وجهها .. وقالت :
_ أرجوكِ .. اغلقي الباب .
قبلتُ رجاءها وعدتُ إلى الصالة .. فتحتُ العلبة ، فتلألأ ما بداخلها وسطعَ أمام عينيّ .. سحبتُ السلسلة فتدلى منها " عنقود من الكهرمان " !



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن