يوم التمديد 3/9/2004-( 1 من 2 )ـ

منذر مصري

2004 / 9 / 25

بعد أن أرجأت، لشهرين تقريباً، حيناً مضطراً وحيناً غير مضطر على الإطلاق بل لسبب سوف أبينه لاحقاً، سفري إلى بيروت للحصول على ال 20 نسخة المخصصة لي من كتابي ( الشاي ليس بطيئاً ) الصادر حديثاً عن شركة رياض الريس للكتب والنشر. استيقظت الجمعة الفائت 3/9/2004 الساعة الثامنة صباحاً، وملأت نصف الحقيبة الوحيدة لدي، بثياب خارجية كانت معلقة على الحائط، وأخرى داخلية، لا على التعيين، من الدرج. وأخذت سيارة أجرة من اللاذقية إلى طرابلس. ومن ثم، مفتقداً باصات الأحدب الكبيرة التي كنا، أنا وأخي ماهر، نحرص على أن نستقلها، منذ 30 سنةً، والتي ما عاد لها وجود، صعدت باصاً صغيراً تابعاً لشركة ذات اسم أجنبي لم أحفظه، من طرابلس إلى بيروت!! وصلت الساعة 2.30 ظهراً !!

من بداية الحدود، كان هناك صور كثيرة للرئيس إميل لحود، ملصقة على جدران ونوافذ مبنى الأمن العام وكولبات التفتيش بأنواعها. الأمر الذي لم أعهده سابقاً، لكني كنت أعلم أنه يوم التصويت في مجلس النواب اللبناني على مشروع التعديل المؤقت للمادة 49 من الدستور اللبناني وتمديد الفترة الرئاسية للرئيس لحود مدة ثلاث سنوات، وهي نصف الفترة الرئاسية الكاملة، إذن صور كثيرة يلمع على نحو زائد كعادته وجه إميل لحود ذو البشرة الزيتية وربطات عنقه السوداء والحمراء والذهبية. وصور أخرى للرئيس السوري بشار الأسد وكذلك للرئيس الراحل حافظ الأسد، وهناك أيضاً صور تجمع اثنين منها أو الثلاثة معاً، أما الصورة الأشد لفتاً للأنظار فهي اللوحة المتوسطة الحجم التي رأيتها في بيروت معلقة تحت أحد الجسور، ويبدو في مقدمتها الرئيس السوري الشاب واقفاً رافعاً يده وخلفه وعلى نحو أصغر حجماً الرئيس لحود بذات الوقفة ورفعة اليد... وكأنه ظل ملون. وعند مدخل كل من طرابلس وبيروت وفي الشوراع والساحات الصغيرة والكبيرة وتحت الجسور والمعابر، علقت يافطات ليست كثيرة ( أمن سوريا من أمن لبنان وأمن لبنان من أمن سوريا ) ( علاقة لبنان مع سوريا النموذج الأمثل للعلاقات العربية ) ( نعم للحود نعم للمقاومة ) ( إميل لحود الخيار اللبناني الحقيقي ) ( أميل لحود وثلاث سنوات أخرى من الإنجازات والانتصارات ) أما اليافطة الأشد التباساً فهي تلك التي قرأتها في بيروت وقد كتب عليها ( إن الانزعاج الأمريكي والإسرائيلي هو خير دليل على صواب قرار التمديد) والحق أنها حجة دامغة، ولا أحد يستطيع أن يماري فيها، ويناقش بها، مهما كانت أسبابه ودوافعه. وأن شباب حي.. لا أذكر ماذا، الذين علقوا هذه اليافطة، أناس ذوو فطنة زائدة، وتفكير عميق، وراسخو القدم في السياسة رغم كونهم ما زالوا شباباً.. لم أتقصد قراءة وحفظ ما كتب على كل اللافتات، على قلتها بالمقارنة بما يعلق عندنا في سوريا بمناسبة كهذه، كما لم أصدف تلك التي قرأت عنها في إحدى الصحف والتي تبايع أميل لحود رئيساً مدى الحياة، ولكني لم أصدف أيضاً أي يافطة تمثل التيار المعاكس الرافض للتمديد الذي لم يكن قليلاً، لا بالعدد ولا بالنوع، كما تبين، رغم كل الظروف.

في الدار تلقيت تهاني الجميع بكتابي، الجميع بادلوني السعادة، الجميع يكن لي مشاعر طيبة، نعم أنا طيب كفاية لأشعر بذلك، رياض الريس نفسه أبدى فرحاً برؤيتي، إلا أنه كعادته لديه ما يأخذه عليك، مهما كان: ( يا رجل نحن أسرعنا في طبع الكتاب في زمن قياسي لأجلك، وأنت تتأخر شهرين بعد صدوره ولا تأتي.) تحججت بسفري إلى الأردن ومجيء أخوتي جميعهم من مهاجرهم.. رغم أن السبب الحقيقي الذي لم أذكره له ولا في بداية هذه المقالة أعلاه، هو قلق قد يصل إلى خوف ليس سهلاً الاعتراف به، من رؤية كتابي وتقليبه بين يدي لأول مرة.. أنا رجل لا أعبد شيئاً ولا أحداً، وإذا فعلت فشرطي، أن لا يرى، وأن لا يكون موجوداً! فما أن يتبدى لي إلهي حتى أكفر به. وما أن، ينشر لي قصيدة أو مقالة، حتى أعافها وأكرهها. إلا أن تعليق رياض لم يقف عند هذا الحد، فقد سألني، بلهجة تشي بقدر من الاستنكار، إن كنت أحد الموقعين على بيان المثقفين السوريين واللبنانيين المنشور في كل من جرائد النهار والسفير والحياة وربما المستقبل أيضاً صباح اليوم؟ نعم بالتأكيد كيف لا. أجبت، اسمي موجود بين الموقعين، لأنه لا يمكن لي أو لأي مثقف سوري أن لا يوقع على بيان كهذا. رغم أنه، أو ربما لأنه، أقل الإيمان كما ترى، البيان يكاد لا يقول شيئاً لولا توقيته، حتى أنه لا يذكر بصراحة التجديد أو التمديد أو الاحتلال.. فقط الوصاية على الشعبين دون الإشارة لطرف محدد. فالمتواري والمجتنب ذكره في البيان هو الأهم.وأنه يجب الانتباه إلى كونه أول بيان تصدره المعارضة السورية، أو المثقفون السوريون على الأصح، بما يتعلق بسياسة النظام الخارجية، وبلبنان خاصة، الأمر الأكثر حساسية وإحراجاً من بين كل الحساسيات والإحراجات التي يتصف بها الوضع السوري. كما أنه أول بيان سوري لبناني مشترك. هذا وذاك يجعلانه، بياناً يتصف بالجدة حقاً، فيه ما ليس في البيانات الكثيرة السابقة التي وقعها المثقفون السوريون، والتي لا يمكن لأحد أن يحسم ما أدت إليه، ما أثرت به، في الواقع السوري الداخلي والخارجي، لا أحد يمكن له بشحطة قلم، أو بخبطة يد، أن ينفي مساهمتها في رسم صورة هذا الواقع كان ما يكون عليه الآن. هذا ما كان فحوى كلامي مع رياض، وقد قبله وقتها دون تعليق، دون إظهار استحسان أو معارضة في ذات الوقت.
وكعادتي كلما أمضيت في بيروت أياماً معدودة، وأحياناً ساعات، أذهب وأزور أصدقائي في جريدتي النهار والسفير، أما المستقبل فهي ذات عنوان بعيد غامض، قرب فندق، لم أستطع حفظ اسمه، ومبنى المخابرات السورية كما قال لي أحد سائقي السرفيس. خرجت من بيت عباس بيضون حيث أحط ضيفاً ثقيلاً كلما جئت لبيروت، و أخذت سيارة أجرة، إلى الشهداء، قلت له، فإذ به يمضي بي، لأني لم ألفظ كلمة ساحة، قال، مسافة طويلة إلى حدود بيروت الجنوبية، كما خمنت، مكان يسمى الشهداء، وليس ساحة الشهداء حيث يقع مقر جريدة النهار الجديد! رغم أني ذكرت له اسم جريدة النهار وذكرت محلات فيرجن الشهيرة.. ولكن لم يكن أي منها ضمن عناوينه المعروفة كما يبدو. ولما عدنا إلى المكان الصحيح الذي لا يبعد عن ( الطريف ) المكان الذي أتيت منه سوى مسافة دقائق لكنه استغرقني أكثر من نصف ساعة، لم يستطع السائق، المتحفظ في تعليقه على مسألة التمديد باعتبارها أمراً لا يهمه لا من قريب أو بعيد! أن يوصلني إلى أمام مبنى الجريدة بسبب إغلاق منافذ المنطقة التي يقع بها البرلمان اللبناني وتجري فيه عملية التصويت!! يوماً لم أكن قريباً لهذا الحد، وشاهداً على حدث كهذا. كانت قوات الجيش والأمن تحتل المكان برمته، والصحافيون وكاميراتهم في كل مكان.
لكني لم أمكث في الساحة لأراقب ما يجري، بل صعدت إلى الطابق الذي يعمل فيه الصديقان الشاعر عقل عويط والشاعرة جمانة حداد.. جمانة الأنيقة فوق العادة كعادتها، وعقل، كما لم أره من قبل، بعينيين حمراوين منتفختين، وكأنه لم ينم منذ بداية المشكلة!! قلت في سري.. أنا الذي أمنع نفسي من أبداء أي ملاحظة تتعلق بما يبدو عليه الآخرون من سمنة أو اصفرار، أو كبر في العمر أو غير ذلك من تعليقات، أجدها ليست في محلها. ما يحدث كان يعمل عمله بكليهما، جمانة وصل بها القرف لدرجة أنها لا تستطيع التكلم في الموضوع، ( ليس فقط من السوريين بل أيضاً من اللبنانيين، السياسيين والمسؤولين ) وعقل على أعصابه، أحضروا لمكتبه براداً غيروا لونه إلى فضي، تعاونا ثلاثتنا لوضعه في الموقع الملائم، لكنه هو من جلس على الأرض، سانداً ظهره على جانب الخزانة، وراح يدفع بها ليزيحها من مكانها قليلاً.. مردداً: يا لها من مهزلة، يا لها من مهزلة. وعندما جاءت تلك الصبية الفاحمة الشعر، والتي عرفتني بها جمانة ابنة الأستاذ جبران التويني، وعرفتها بي: ( منذر مصري شاعر من سوريا ) كان أول ما تلفظت به: ( وما هو رأيه بما يجري؟؟ ) فأجابها عقل سريعاً: ( رأيه... إنه..أحد الموقعين معنا على البيان ). لكني لم أستطع أن أمنع نفسي من التفاصح: ( هذا لا شيء، نحن السوريين، معتادون على عيارات أشد ثقلاً من هذا بكثير، كلها ثلاث سنوات، وتنتهي... بسيطة ) ثم جاءت أصوات المفرقعات وأضواء الألعاب النارية لتلعب دور البطولة في المشهد. فلم يجد أي منا أن هناك ما يستحق أن يقال أو يفعل،حتى ولا النظر من الواجهة الزجاجية، سوى بعض هزات الرأس مع تمتمات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن