لكي لا يتحول المسيحيون الى متحف الذاكرة

سعد سلوم
Saadsalloum@yahoo.com

2010 / 12 / 12


خلال السنوات الماضية كنت أخبر الأب "بطرس حداد" بمخاوفي من ان يتحول المسيحيون الى جزء من الذاكرة كما تحول يهود العراق، كنت اخبره انني لا اريد لأبنائي ان يزوروا المتحف العراقي في العام 2020 ويجدوا قسما خاصا بالأقليات، قسما خاصا بالمسيحية يعرض إيقونات مسيحية وتماثيل كنائس تحولت الى متاحف وقسما خاصا بالصابئة المندائيين يعرض صور ملائكة متشحة بالبياض على ضفاف نهر دجلة وكأنها صورة عن زمن فضائي سحيق مع تعليق بالانكليزية والعربية يقول "المعجزة المندائية : ظلوا يعيشون طوال الفي عام في المكان نفسه وعلى ضفة النهر نفسه يمارسون الطقوس ذاتها الى ان تبخروا من المكان في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين"، وسيسألني ابني "ما المقصود بالمعجزة : بقاءهم طوال الفي عام برغم الابادات والحروب والاديان الجديدة السائدة ام تبخرهم خلال سنوات؟!. وللاجابة على هذا السؤال سوف أطلب مساعدة مدير المتحف العراقي الذي كان مسيحيا ذات مرة.
كنت أنشر مخاوفي أمام رجل لا يعلن عن مخاوفه، وحين دخل المستشفى بعد حادثة كنيسة سيدة النجاة اتصلت به تليفونيا فجاءني صوته ثابتا وكأنه رجل لا يستعد لملاقاة الموت "أن هذا الظلم يجب ان ينتهي". وكانت هذه العبارة بمثابة وصية.
حين زرت الراحل في المستشفى في ايامه الأخيرة مع زملائي في المبادرة المدنية للحفاظ على الدستور: السيدة "هناء أدور" والدكتور "سامي شاتي" كان صوته أكثر ضعفا ووهنا لكن نظراته تشي بهذه القوة الناعمة التي تخاطب القلب، القوة التي تتحدى كل عواصف الواقع وتريد ان تنتصر على الموت.
ومن المستشفى التي يرقد فيها خرجت لزيارة صديق مسيحي يتأهب للرحيل، وكان قد تأخر عن رفاقه الذين هاجروا في العيد، أردت ان اقنعه بالعدول عن رأيه، فقد كان أخر لقاء جمعنا معا يحمل بصمات الاصرار على البقاء في العراق مهما تكن التحديات، قال لي بلهجة غاضبة هذه المرة "انتم المثقفون تتحدثون بطريقة جميلة لكنكم لا تغيرون الواقع".
أراني شجرة نسبه ولم اكن أعلم انه يهتم بجذوره إلى هذا الحد، كانت رسما ضخما منقولا عن أخر، والاخير منسوخ من سلسلة منقولة ومضاف اليها عبر مئات السنين، ما كان فخورا به هو ان عائلته تعود حسب رسم الشجرة الى جد أعلى كان يعيش في بغداد اوائل القرن الثامن عشر، وسيتعين عليه عد هذا الامتداد البغدادي العريق ان يهجر كل هذه الذكريات ولا يأخذ معه للخارج سوى نسخة النسب هذه، وحين سيريها لأحفاده سيقول " كنا نسكن مدينة اسمها مدينة السلام قبل ان تتحول الى ساحة حرب، وعشنا لالاف السنوات على ارض بلاد ما بين النهرين التي أنمسخ اسمها ورسمها الى بلا ما بين القبرين".
وبعد وفاة الاب حداد أرسلت لي صديقتي التي تعمل في مركز الثقافة السريانية التابع لاقليم كردستان رسالة تعزية تقول فيها "عزاؤنا انه لم يمت غدرا أو مبعثر الاشلاء"، وقبل ان يتاح لي المضي بالتفكير بأن الموت على فراش المرض اصبح نوعا من الامتياز استملت منها رسالة وداع، كانت تحزم متاعها الرمزي من الذكريات وتستعد للهجرة بعد ان ظلت عائلتها في الخارج تلح عليها لمدة عشر سنوات متتالية لمغادرة وطن يحس سكانه الاصليون فيه بالغربة.
طويت ورقة بأسئلة ارسلها لي الدكتور "خوشابا حنا الشيخ" لايصالها للاب حداد لكي يجيب عليها ضمن مشروع بحثي جديد، وحرت كيف اخبره بأن الاب حداد توقف عن الاجابة على الاسئلة، وان رحيله سيترك السؤال عن مصير المسيحيين في العراق والشرق الاوسط مفتوحا، واننا نحن مسؤولون عن الاجابة هذه المرة.
ذهبت الى الأستاذ "ضياء جرجيس عزيزة" الذي تجمعه بالاب حداد صداقة قديمة، وهو من مالكي اقدم المطابع في بغداد، والذي مارس بعمله الطباعي تقليدا مهنيا عائليا بدأ منذ ثلاثينيات القرن الماضي مع والده جرجيس عزيزة احد أصحاب أولى المطابع الحديثة في بغداد، طلب لي القهوة التي لا اشربها عادة واستشرته حول أعداد طبعة ثانية من عدد مسارات الخاص عن مسيحيي العراق، دس عزيزة التبغ في غليونه وتنهد بحسرة " قبل ايام ودعنا الاب حداد الى الابد، واليوم صباحا ودعت ابنتي وزوجها وحفيدي..سيغادران البلاد الى الابد ايضا، وسيتعين علي ان احتفل بعيد الميلاد وحيدا هذا العام".
أستذكرنا زياراتنا المشتركة للاب حداد خلال السنوات الماضية، فحين كنت اعمل على عدد مسارات الخاص عن مسيحيي العراق منذ العام 2006 كان المرحوم حداد على صلة وثيقة بالعمل وقد أستعنت بصلاته العديدة للاتصال بباحثين للكتابة حول الموضوع، وقد تولى كتابة دراسة للمجلة عن مسيحيي بغداد بين الماضي والحاضر استغرق انجازها ثلاث سنوات، وقد كنت اراقبه عبر الايام يختلس من وقته المزدحم بالالتزامات ليكتب بقلم حبر اسود دراسته التي يمليها مباشرة من الذاكرة.
وقد ارهقته بطلباتي الكثيرة التي كان يقابلها بابتسامته المعروفة وحسه الساخر"هل سنصبح جزءً من التاريخ؟". كان يقول لي ذلك وهو يقلب الكتب التي تزدحم بها منضدته ثم يتكأ على عصاه ليخرج من بين الادراج صورة قديمة للملك فيصل الاول خلال زيارته للاباء الكلدان في العام 1933.
وحين بدأت الكتابة عنه ضمن مشروع لكتابة تاريخ العراق من خلال مائة شخصية عراقية معاصرة، كان دائم الالحاح من ان هناك شخصيات أخرى تستحق الكتابة عن تجربتهم اكثر منه، كان تواضع العلماء وسحر المؤرخين المشغولين بعملهم يضفي على تهربه طابعا قدسيا.
وقد شكى لي من ان ترجماته لادب الرحلات عن لغات عديدة لم تكن تحظى بالاهتمام فهناك مخطوطة تعين عليه الانتظار خمسة عشر عاما حتى رأت النور وصدرت عن دار المأمون أخيرا، وكانت بعض كتبه قد صدرت عن دار الوراق في لندن دون رخصة منه او من دون علمه وتكرر الامر ذاته مع دار الموسوعات في بيروت، وقد تعين عليه خلال السنوات السابقة ان يطبع كتبه بنفسه، وقد كانت سعادته بالغة حين نشرت له في مجلة مسارات رحلة "أوجين فلاندان" المترجمة عن الفرنسية مع العدد الخاص عن علي الوردي.
أما فهرسه الضخم والمفصل عن مخطوطات البطرياركية عن المخطوطات السريانية والعربية في خزانة بطرياركية الكلدان في بغداد، والذي يمثل جهد سنوات طويلة لعمله مشرفا على ارشيف البطرياركية والمخطوطات في الدار البطرياركية منذ العام 1989، فإنه -على ما اعتقد- ما يزال مخطوطا مودعا في احد الادراج دون نيل فرصة للطباعة.
وفي الأيام الأخيرة التي كنت أزوره فيها في غرفته الأثيرة في كنيسة "سلطانة الوردية" كنت المح روايات لهمنغواي وتشارلز ديكنز على منضدته وهي جزء من الكتب المهداة الى مكتبته من العوائل المسيحية التي تهاجر خارج البلاد، وكان يبتسم بحزن بالغ قائلا "لست مطالعا شغوفا للروايات لكن ابناء كنيستي يغادرون البلاد ولايحملون معهم من متاع سوى نسخة شخصية من الكتاب المقدس و يتركون كتبهم الاخرى لي".

بين المتنبي وكنيسة النجاة

وقبل حادثة كنيسة النجاة كان الاب حداد قد تعرض الى ضربة أولى في حادثة تفجير شارع المتنبي وهو السلوى الوحيدة المتبقية له، اذ يلتقي بأصدقاءه القدامى ويتبادل معهم الاحاديث والافكار والمطبوعات في مكتبة المثنى او مكتبة الرباط، واذكر ذلك اليوم الذي اشيع فيه بوجود انتحاري بحزام ناسف في السوق فركض الناس في جميع الاتجاهات وتعثر الاب حداد وسقط في الشارع وديس بالاقدام الى ان ساعده بعض المارة للوقوف على قدميه والتراب يعلوه، ولم يساعده ثقل قدميه على العودة الى المتنبي الذي ظل يحلم بزيارته مرة اخرى قبل ان يودعنا الى الابد.
ظل الراحل ملازما مكانه في الكنيسة يطل على العالم الخارجي بين الحين والاخر من خلال زيارات الاصدقاء وبعض الباحثين الذين يزورنه بين الحين والاخر للحصول على استشارة او مصدر، بعدها اضحى يمشي بصعوبة بالغة وبالاتكاء على عصا، وقد شهدت زيارة لكنيسته من قبل احد الصحافيين الايطاليين الذي بادره الاب حداد بالحديث بايطالية طليقة فأنفرجت اسارير الصحفي قبل ان يقفز من مكانه وهو يشاهد نسوة مسلمات متشحات بالسواد يشعلن الشموع تحت تمثال العذراء، وأجاب الاب حداد على استغراب الصحفي بابتسامة معبرة، فقد كان امر طبيعيا طوال سنوات خدمته في كنيسة العذراء ان تحضر عوائل مسلمة لحضور قداس يوم الاحد، وكانت النسوة يقطعن المسافات من مدينة الصدر او محافظة ديالى ليشعلن شمعة تحت تمثال العذراء او يطلبن تنظيف الكنيسة ايفاءً بنذر قديم.
وحين سافرت الى المانيا في بداية تموز الماضي تخمرت لدي فكرة إخراج عدد خاص من مجلة مسارات عن العلاقة بين الغرب والعالم الاسلامي، يتضمن مشاركات من جانب مثقفين غربيين معنيين بالحوار بين الجانبين مع استكتتاب عدة مفكرين اصلاحيين من جانب العراق والعالم العربي، وكنت افكر بمفاتحة الاب حداد للكتابة حول الجانب التاريخي للعلاقة والاب يوسف توما حول تأثيرها المعاصر على مسيحيي العراق والمشرق العربي.
وعندما عدت في بداية شهر ايلول من السفر أتصلت بي الصديقة الدكتورة "سحر نافع شاكر" لتقول لي ان الاب حداد كان يسأل عنك طوال الاشهر الماضية، واتفقنا على زيارته معا، وسألتها عن مشروعها للكتابة حول كنيسة سلطانة الوردية وهو مشروع كنا قد اتقفنا عليه في إطار عدد مسارات الخاص عن مسيحيي العراق، وكنت مدفوعا بالفضول لمعرفة شيء عن تاريخ هذه الكنيسة وعن "الوردية" وهي أكثر العبادات المريمية شعبية وانتشارا في الكنيسة.
كانت أخر مرة ارى فيها الأب حداد خارج كنيسته في منتصف أيلول – سبتمبر الماضي حين طلبت منه مرافقتي لزيارة المطران الدكتور "جاك اسحق" عميد كلية بابل الحبرية للفلسفة واللاهوت، وقد استقبلنا المطران في مقر مجلة "بين النهرين" المعروفة، وكنت وقتها أود الكتابة عن كلية بابل الحبرية وتجربة مجلة "بين النهرين" الفصلية الحضارية التي تأسست في العام 1972 والتي كان يرأسها تحريرها الاب يوسف حبي 1938-2000 ويرأسها تحريرها الان صاحب امتيازها المطران اسحق، وضرورة دعم دوام هذه التجربة.
وقد استبشرت خيرا حين حدثني المطران عن قرب عودة كلية بابل الى بغداد، وقد وجدت الخبر مدعاة للاحتفال والكتابة السريعة في الصحف على شكل دعوة لتشجيع هذه الخطوة بعد ان انتقلت هذه الكلية الى ناحية عنكاوا في اربيل منذ العام 2006 بسبب الظروف الامنية الرهيبة في منطقة الدورة التي تحولت من فاتيكان العراق الى مكة افتراضية لتنظيم القاعدة في تلك الايام الرهيبة.
جاء تأسيس الكلية بناء على يد البطريرك روفائيل الأول بيداويد بعد تسنمه مقاليد بطريركية بابل الكلدانية العام 1989م، إذ عبّر عن رغبته في تأسيس كلية دينية عالمية، يتلقى فيها العلوم الدينية طلبةٌ من مختلف الطبقات؛ كهنة، ورهبان، وراهبات، وعلمانيون من كلا الجنسين. وبعد بحث ونقاشات مستفيضة بين المطارنة دامت زهاء سنتين، أصدر البطريرك بتاريخ 18/8/1991 مرسوماً بتأسيس هذه الكلية اللاهوتية بهدف تدريس الفلسفة واللاهوت لتلاميذ المعهد الاكليريكي البطريركي، والرهبان، والراهبات، والعلمانيين، وفق نظام خاص. وكان عميدها الاول الأب يوسف حبي.
وقد خطت كلية بابل خطوة مهمة بانتماء الكلية بقسمها اللاهوتي الى كلية اللاهوت الأوروبية (روما) بتاريخ 19/11/1997، وقد صدر مرسوم مجمعي بتاريخ 28/11/1997، جدّد المجمع للتربية الكاثوليكية انتماء كلية بابل (قسم اللاهوت) الى كلية اللاهوت الأوروبية لمدة خمس سنوات بتاريخ 15/11/2000. وكذلك استطاعت الحصول علی عضوية في «رابطة الكليات والمعاهد اللاهوتية في الشرق الأوسط»، بقرار اتخذته الرابطة في اجتماعها النظامي الذي عقدته في (لبنان) للمدة من 27 ولغاية 29 أيلول 1994.
وهذه الكلية الحبرية تعدّ أهم المراكز العلمية الدينية المسيحية في العراق، إذ إنها استقطبت طلاب العلوم الدينية المسيحية وتخرج فيها مفكرون وعلماء في المجالات اللاهوتية والفلسفية المختلفة، وبرغم كونها مركزا تثقيفيا للتعليم والبحث في عقيدة الكنيسة والكتاب المقدس واللاهوت والفلسفة القديمة والمعاصرة، الا ان وجودها في العراق فتح المجال لاهتمامها المركز على تاريخ الكنائس الشرقية وطقوسها وتنظيماتها وقوانينها وروحانيتها واعلامها وفنونها ومفاهيمها اللاهوتية، فضلا عن البحث في جذور حضارات وادي الرافدين بشكل خاص، وفي حضارات الشرق الأوسط بشكل عام.

الأب توما وتجربة مجلة الفكر المسيحي

وفضلا عن هذه التجربة الرائدة هناك تجربة أخرى جديرة بالانتباه والاحترام، وهي تجربة الاب الدكتور "يوسف توما" من خلال تأسيسيه لجامعة بغداد المفتوحة للعلوم الانسانية، فهذا الاب المدهش يريد ان يقيم وسط الخراب الماثل وسط ثقافتنا الجامعية القائمة على التلقين جامعة من طراز فريد، لا تمنح شهادة جامعية بل تثير سؤال الدهشة الاولى للمعرفة من خلال تدريس الطلاب الفلسفة واللاهوت والميثولوجيا وعلم النفس واللغات بطريقة حرة بعيدا عن سلطات المناهج التقليدية وطرائق التدريس المتحجرة التي تسود طرائق تدريسنا الجامعية.
كما يقوم الأب توما بأصدار مجلة "الفكر المسيحي" التي يرأس تحريرها منذ العام 1995، وكان الاب حداد يكتب فيها بانتظام زاوية "عبرة من الأمس" وقد جمعت مقالاته في المجلة في كتاب نشر في العام 2003.
تعد مجلة الفكر المسيحي أقدم دورية عراقية متواصلة الصدور، اسسها جماعة (كهنة يسوع الملك) في الموصل سنة 1964، وتُصدرها، منذ 1995، رهبانية الآباء الدومنيكان في العراق. وقد أحدث الاب توما تغييرات حاسمة في اخراجها وتبويبها وسياسة تحريرها لتصبح في متناول قراء من مجتمع متعدّد الأديان والثقافات، لتقدّم تفاعل المسيحية مع عالم اليوم وحياة الكنيسة في العراق والعالم، بنظرة منفتحة على التعايش المشترك بين مختلف الطوائف والمذاهب والقوميّات.
كما أصدركملحق لمجلة الفكر المسيحي مجلة للصغار بـ16 صفحة حاول ان يزرع من خلالها حب الفلسفة لدى الاطفال في وقت تقوم فيه ثقافتنا السائدة بزرع بذور العنف من خلال لعب الاطفال الحربية وبرامج الالعاب العنيفة وسائر برامج التلفاز التي تمسخ اسئلة الطفولة المبكرة.
بعد حادثة كنيسة سيدة النجاة أتصلت بالأب توما لأطمئن عليه، كان صوته مختنقا وكأنه يكتم أكثر مما يعلن، فهو من النخبة المسيحية المثقفة القليلة التي يعلو صوتها بمقاومة الثقافة الاقصائية، وقد أعلن في حوار لي معه شعاره "ايتها الأغلبية السائدة لا تسحقينا".
أخبرني انه تلقى ما يزيد على ثلاثين أتصالا من وكالات محلية واجنبية تطلب تعليقه على الحادث، وكان غضبه واضحا على الاهتمام الإعلامي الذي لا تحركه سوى البنادق الموجهة على الرؤوس، وما بين أغلبية صامتة في الخارج واغلبية ساحقة في الداخل ضاع صوت البحث عن عدالة، ولم تتحرك بِرَكة الاهتمام الراكدة الا حين ترمى جثة وسطها، فما أغرب صوت العدالة الذي لا يظهر الا على خلفية صوت انفجار أو صور اشلاء مدماة..
حس المؤرخ وايمان رجل الدين
كشفت الحروب العراقية المتتالية او المتناسلة عن الوجه المعقد والثري لهذه الارض، ومنها هذه الجماعة المسيحية الأولية التي تعيش على تخوم التاريخ، وان مصير أقدم الجماعات المسيحية في العالم يتشابك مع مصير هذه الارض "ما بين النهرين" التي هي مكان انطلاق ابراهيم ابو الانبياء في رحلة ستؤسس العالم القديم على نحو مغاير، ارض شكلت مصدر انثربولوجية وروحانية الكتاب المقدس، وتكونت فيها على ارض بابل رؤى اهم الكتب المقدسة على الاطلاق "التوراة".
هي بالتالي تتجاوز كونها موطنا للإقامة بالنسبة للمسيحي الى كونها مكانا مرجعيا من الناحية الروحية والتاريخية للديانات الابراهيمية الثلاث، اليهودية والمسيحية ثم الاسلام عندما تكامل البعد الرمزي لأهميتها مع ما شغلته المدينة الكونية "بغداد" مركز حضارة العصور الوسطى الاسلامية.
وبرغم كره الاب حداد للنقاشات السياسية تبعا لمزاج رجل دين ظل متعلقا بالجانب الرمزي والروحي، الا انني حين أخاطبه كمؤرخ كنت ألمس لديه هذا الحس الهائل بالامتداد التاريخي والرغبة في تفسير الحاضر في ضوء الماضي، برغم خطورة الماضي والغامه التي تنفجر في كل مكان وسيوله الذاكرة الحية التي يعاد انتاجها والتلاعب برموزها من قبل بعض النخب التي تعيد تعريف الهويات في ضوء المصالح السياسية.
لذا حين كنت أطرح قضية مسيحيي العراق أمامه من جانب التوازن بين مبدأ حكم الاغلبية والحفاظ على حقوق الاقليات فحسب، كنت اؤكد انها تتجاوز الجانب الحقوقي او السياسي لتدخل في المجال الرمزي، اذ يشكل المكون المسيحيي وبقية المكونات المكونات الرصيد الحضاري والاحتياطي الرمزي لنشأتنا الاولى، فهي جماعات قديمة احتفظت بعادات وطقوس لالاف السنوات، وحفظت لنا اشكال من اللغة الارامية في نوع من الاستمرار المعبر عن قوة هذه الجماعات وقدرتها الدفاعية ضد الذوبان الكامل في ثقافة الأغلبية السائدة.
وحين نتحدث عن حضاراتنا الاولى او نشأتنا الاولى تبرز لنا مشكلة الانقطاع التاريخي عن تلك الجذور فلو بعث حمورابي او سرجون الاكدي في سيناريو فيلم هوليودي وارادا التوجه لسفارة بلدهما لما اختارا السفارة العراقية بالتأكيد، وسيكون من الصعب عليهما ان ينظرا الى العراق المعاصر على انه امتداد تاريخي لحضارتهما، وسيجد السفير العراقي ان ملابسهما ولغتهما غريبة بما يكفي ليعد تعريفهما بوصفهما حاملين لجنسية بلده. من هذه النقطة بالذات كنت اتحدث مع الاب المرحوم "حداد" حول اهمية الاقليات بوصفها رصيدنا الحضاري، فهم ورثة الحضارات القديمة وصلتنا بها، وهم بهذا المعنى الجسر الذي يصلنا برصيدنا من الشعوب القديمة للعراق، واذا كان لي ان اتخيل العراق كشجرة فأن المسيحيون والمندائيون وغيرهما من المكونات الاصيلة سيكونون جذور هذه الشجرة، ولا استطيع ان اتخيل حياة لهذه الشجرة بدون جذورها مهما تم حقنها بفيتنامينات الحداثة أو خرائط بناء الدولة وخطط مجتمعات ما بعد الصراع.
وكان اهتمام مجلة مسارات بقضية الاقليات التي ترقى الى صدور عددها الاول في نيسان 2005 فرصة لتعميق علاقتي بالاب حداد ولاستكشاف معرفته العميقة بطبيعة التعايش بين المسيحيين والمسلمين في ظل الحضارة الاسلامية في عصرها الذهبي في القرن الرابع الهجري والتي يطلق عليها آدم متز "عضر نهضة الاسلام" في مقارنة واضحة بعضر النهضة الاوربي، لا سيما وان الرجل كان متابعا شغوفا لجميع إعداد المجلة، لا سيما اعدادها الخاصة عن الايزدية والمندائية ويهود العراق، وهي متابعة كشفت لي معرفته الممتازة بتاريخ ومعتقدات هذه الاديان.

إعادة الاعتبار لإقليات العراق

أجد اننا ازاء سؤال حقيقي لا بد ان نتصدى لاجابته : هل يمكن تخيل العراق من دون مسيحيين؟ وأجدني بشكل شخصي أمام تنفيذ وصية الراحل "يجب ان ينتهي هذا الظلم"، وما بين التخيل والوصية مسافة لا بد من قطعها منذ هذه اللحظة.
والخطوة الاولى تبدأ من التصدي بحزم لآليات التمييز والاقصاء التي تسود ثقافتنا الراهنة، فلا يمكن طرح سؤال الهوية في العراق اليوم وفق فهم الانظمة السابقة عن نموذج الدولة-الامة والهوية الادماجية التي لا تعترف بالتنوع الثقافي، لقد مضى زمن الاغلبية الساحقة التي تذوب في ثقافتها السائدة ثقافة الاقليات، واعتقد اننا يجب ان نعمل كأعلام ومجتمع مدني ومثقفين في جبهة واحدة ضد الثقافة الاقصائية التي باتت تشكل وعي الاجيال الجديدة.
ولست اطرح هنا سوى افكار أولية للمناقشة يمكن ان ننطلق منها او نعمل من خلالها على ترسيخ بعض الجهود السابقة، وأجد أولى الخطوات الجيدة ما قام به بيت الحكمة من تحويل قسم الدراسات الإسلامية في بيت الحكمة الى قسم دراسات الأديان، والذي يترأسه الان الصديق المبدع الأستاذ الدكتور "جواد مطر الموسوي" رئيس جامعة واسط، ويصدر عن القسم مجلة تحمل الاسم نفسه، نرجو ان تخطو خطوات تأسيسية في مجال تعميق العلاقات بين الاديان في العراق، وبرغم كونها مجلة محكمة ويتم تبادلها في أطار أكاديمي الا انها قد ترسخ تقاليد جديدة في مجال الكتابة الأكاديمية حول الاديان في العراق.
ويندرج ضمن هذه الجهود المبكرة الاهتمام بكتابة التاريخ على نحو غير انتقائي، وهو ما يسبب حساسية لبعض المكونات التي لا تجد كتابة للتاريخ خارج اطار التاريخ العربي الاسلامي، فكأن العراق المسيحي قبل 636 م غير موجود، وهناك مشاكل اخرى تتعلق بكتابة التاريخ المعاصر تجعل بين ايدينا نسخا عديدة من التاربخ تتصارع لاحتلال ساحة التفسير السائد، ولا تترك امام الأقليات سوى دور المراقب، لذا ليس ترفا أن ندعو اقسام التاريخ في جامعاتنا لاعادة النظر في مناهج كتابة التاريخ، وعدم اهمال الكتابة حول الاقليات في العراق، وقبل مدة قليلة زارني في الجامعة باحث من الحلة يريد ان يكتب حول تاريخ المسيحيين في العراق وشرح لي الصعوبات التي واجهها لتثبيت موضوعه لاطروحة الماجستير وفي مقدمتها عدم تشجيعه على الخوض في هذا الموضوع بحجة عدم وجود المصادر؟!.
ولا يقل دور وزارة التربية اهمية عما ذكرت سلفا بالنسبة للمستويات الجامعية، اذ اجد ضرورة لتدريس مادة "الاديان المقارنة في العراق" التي تصاغ وفق مناهج علم الاجتماع ويخصص لتدريسها خريجو قسم علم الاجتماع، وتدريس هذه المادة سوف يرقى بتدريس الدين من كونه مادة ايديولوجية الى مادة معرفية، ثم انه يوفر تدريبا على التسامح وقبول الاخر، بما يتجاوز تدريس التربية الدينية وصولا الى التعرف على وجود الاخر ويحول احترام الاخر من واجب ديني او وطني الى قيمة انسانية، لذا أجد ان على وزارة التربية ان تعيد تعريف اهدافها بصدد تدريس مادة التربية الاسلامية المشحونة بخلفية الصراع السني الشيعي.
فضلا عن ان تدريس الاديان المقارنة سوف يندرج ضمن الجهود التربوية للحفاظ على الذاكرة التاريخية، لا سيما صلة هذه الاديان بفترات تاريخية وحضارات قديمة لا نجد لنا صلة حية بها، او جماعات انقرضت واختفى معها جزء من الذاكرة العراقية مثل يهود العراق الذي لا تحفظ الاجيال الجديدة عنها سوى ذكرى مشوشة ومزيفة تماما.
كما اننا كمجتمع مدني امام تحد فتح المجال امام المشاركة الايجابية للاقليات في الحياة العامة، وحماية خصوصية هذه الاقليات وضمان عدم ذوبانها في ثقافة الاغلبية والمحافظة على هويتها ولغتها ومشاركتها في وسائل الاعلام العامة ودعم مبدأ تكافو الفرص الخ، وكل ذلك لا يمكن ان يتحقق من دون تشريع قانون منفصل لحماية الاقليات، وهو ما يمكن العمل عليه بالشراكة بين منظمات المجتمع المدني المتخصصة واللجان البرلمانية ذات الشأن .
وفي سياق ذلك تقديم الدعم لمنظمات المجتمع المدني التي ترصد الانتهاكات في مجال حقوق الاقليات وتراقب التمييز ضدهم في مختلف نواحي الحياة، و في أطار جهود المبادرة المدنية للحفاظ على الدستور فإنها قد ادرجت موضوع "حماية الاقليات" كأحدى الاهداف التي تعمل عليها وعلى نحو مطابق لاهدافها العامة.
ومن جانب أخر ندعو الى دعم مجلس الاقليات العراقية وتحويله الى مؤسسة مستقلة ممولة من المال العام تضطلع بمساعدة الحكومة العراقية على نحو استشاري أو تقوم بتصميم برامج الحكومة تجاه الاقليات، هذه البرامج التي تضمن حقوق الاقليات وتوفر حماية لها، وان يعمل المجلس بالتنسيق مع لجنة حكماء الاقليات في البرلمان.
كما ان تشكيل "لجنة حكماء الاقليات" داخل البرلمان تبذل جهودا لصياغة "اعلان مبادىء" يتضمن تحديدا للرؤية، فالاقليات في العراق تعاني من ضعف الرؤية، لا سيما في مجال تحديد هويتها، فهي اما ان تكون مندرجة ضمن هويات اكبر مثل الشبك والايزدية والكاكائية الذي يميل الخطاب الرسمي الكردي الى اطلاق صفة الكرد الاصلاء عليهم، او تكون متشظية بين انتماء طائفي او عرقي مثل الكرد الفيلية او متشظية على نحو اكثر تعقيدا مثل الشبك الذين ليس هناك تحديد دقيق لهويتهم الاثنية بين كونهم عربا او اكرادا او اتراكا حسب بعض الباحثين اوحتى ايرانيين الخ وتوزعهم الطائفي بين السنة والشيعة، او ان تكون موزعة بين هوية دينية قديمة وهوية سياسية بازغة مثل المسيحيين المنقسمون بين هوية دينية تتحدد من خل العلاقة مع الكنيسة وهي هوية متصدعة باربعة عشر طائفة، وهوية سياسية ناشئة تحاول ان تضفي البعد الاثني على مسيحيي العراق من خلال جمعهم بالانتماء الى الشعب "الكلدو اشوري السرياني" وهي اطول تسمية لشعب في التاريخ، ولكنها تسمية متصدعة ايضا بتوجهات احزاب تمثل طوائف مختلفة دون وجود افق واحد او استراتيجية موحدة.
كما نجد ضرورة لتوفير الدعم لبعض التجارب التي تركز على الحوار والتعايش بين الاديان مثل تجربة الاب يوسف توما في جامعته المفتوحة، لاسيما منتدى الحوار الذي تضمه، والذي نشط خلال العامين الماضيين في تقديم تصورات جمعت بين مثقفين من مختلف الاديان والطوائف، ولدي رغبة بدعم هذه التجربة التي قد ترتقي بجهودنا المشتركة الى ما قام به معهد الدراسات الاسلامية المسيحية في جامعة القديس يوسف في لبنان، والتي تسعى لتثبيت مبادىء الانفتاح على اساس المعرفة والاحترام المتبادل، لا سيما وان الحلقة بدأت تجذب مفكرين اصلاحيين ورجال دين مسلمين ومثقفين .
واخيرا توفير اطار قانوني مناسب لتفعيل المادة 125 من الدستور التي تنص على أن " يضمن هذا الدستور الحقوق الادارية والسياسية والثقافية والتعليمية للقوميات المختلفة كالتركمان والكلدان والاشوريين وسائر المكونات الاخرى، وينظم ذلك بقانون"، فضلا عن العمل على تضمين حماية الاقليات في التعديلات الدستورية المرتقبة.



النص في الاصل شهادة ألقيت في بيت المدى الثقافي لاحياء ذكرى الاب الدكتور بطرس حداد وبمناسبة اربعين شهداء كنيسة النجاة



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن