في أبعاد التضييق على الحريات في العراق

عبد الرحمن دارا سليمان
sulimaner@yahoo.fr

2010 / 12 / 7

ظاهريا، لا تنمّ طبيعة القرارات الصادرة عن مجلس محافظة بغداد ومثيلاتها التي صدرت في وقت سابق عن مجلسي محافظتي بابل والبصرة والهادفة للتضييق على الحريات المدنية، سوى عن فوضى السلطات المحلية وحدود صلاحياتها ومرجعياتها القانونية والدستورية . غير أنّ في خلل هذه الفوضى العارمة، ثمّة قوى متنفذة تتلمس بدقة طريقها في الظلام، وهي بالتأكيد، قوى خبيرة وموّجهة وتدرك تماما ماتفعل، وفي الوقت المناسب .

ومن المفارقة السوداء، أن تبدو القوى الديمقراطية والمدنية في العراق هذا اليوم ، محشورة في زاوية ضيقة في نظرهم، وكأنها تدافع عن أحقية " الملاهي والبارات غير المرخصة " في بلاد يعتقدون أنهم إستفردوا بمصيره نهائيا وللأبد، وأصبح لهم الكلمة الأولى والأخيرة في التحكّم بمقدراته، وتقع على عاتقهم مهمّة هدايته وفرض وصايتهم عليه، والجميع يعلم مدى إرتباط الكثير من عناصر هذه المجالس المحلية بمافيات الفساد والإبتزاز والرشوة وشبكات التهريب والمخدرات وتنفيذ الأجندات الإقليمية .

وإذ تبدو ظواهر الأمور هكذا في ظلّ الأوضاع الراهنة، الإّ أنّ بواطنها تشي بأن السعي الى التضييق وخنق الحريات المدنية، لا يخلو من أكثر من غطاء سياسي محلّي ومتنفذ، ومن دعم إقليمي ودولي متواطئين ضمنا مع هذه القرارات حين ندرك بأنّ هناك أكثر من مصلحة وأجندة سياسية واحدة، رغم تعارضاتها، تلتقي على إستمرار هيمنة الأوهام والخرافات على الساحة الإجتماعية والعمل على إبقاء الجمهور الواسع خارج السياسة وبعيدا عن الإهتمام بالشأن العام، وبالتالي أسيرا دائما، لحاجاته اليومية الضرورية في الأمن وضمان العمل وتوفير الخدمات العامّة .

إنّ هذه القوى المعادية لعودة مظاهر التمدّن الى المجتمع العراقي ، تدرك بغريزة الدفاع عن مصالحها الأنانية والمشبوهة، إحدى حقائق علم الإجتماع السياسي، وهي أنّ المجتمعات المقيدة والمخنوقة، لا يمكن لها أن تبلور معارضة جدّية لأنظمة الحكم المستبدة والجائرة فيها، وتخضعها للمسائلة الشعبية المستمرة، لأنّ فكرة التمدّن بإختصار، شأنها شأن أية فكرة حداثية أخرى، ستبقى حبيسة الأماني والرغبات، ما لم تترجم الى مؤسسات ومناهج تربوية وأندية ولقاءات يتواصل فيها الأفراد ويتبادلون فيها الآراء والأفكار فيما يتعلق بحياتهم ومصيرهم المشترك، ويطوّرون من خلال فسحة الحرية الممنوحة دستوريا ، الحوار والنقاش وسبل المنافسة النزيهة وتهيئة الاجواء الصحية لخلق قيادات وطنية فاعلة وحقيقية وعارفة لآليات عمل الدولة ومؤسساتها، وباستثناء ذلك لايمكن الحديث إطلاقا عن مجتمع وبناء إجتماعي يسعى نحو المدنية والتعددية وتجاوز الماضي الديكتاتوري والتصالح مع الذات .

وليس هناك ما هو أقبح من قرارات هذه المجالس المحلية ، الإّ إغماض العيون وصمت النخب السياسية المتنفذة والقيادات العليا وكأن مايجري في المجتمع لا يعنيهم من قريب أو بعيد . ففي هذا الصمت لحدّ الآن، الكثير من المداهنة واللامبالاة إن لم تكن التغطية وغياب الإرادة الجماعية لدى النخب وفقدان الشعور بالمسؤولية . إذ لا يمكن بتاتا للعملية السياسية أن تتقدم بدون إرادة تقدم لدى هذه القوى المتنفذة والمتحكمّة بالسلطة والنفوذ وموارد البلاد وبدون التصدّي الحازم لكل محاولات الإرتداد التي تراهن على الجمود والتأزم وتفاقم التأخر والسيطرة الهمجية على الأفراد والجماعات .

ولقد عبّرت مؤسسة "المدى" أصدق تعبير في هذه المرحلة عن ضمير الشعب العراقي وتطلعات نخبه المثقفة والساعية للدفاع عن الحقوق المدنية والحريات العامّة ، من خلال الإعتصام الجماهيري وتنظيم التظاهرات، كما عبّر الكثيرون من المثقفين عن موقفهم الصائب في رفض هذه الإجراءات اللامدروسة حفاظا على توجهات البلاد المنصوصة عليها دستوريا، ولا ينبغي التوقّف عن الإستنكار والإعتصام والتظاهرات والمطالبة بموقف واضح وصريح من القيادات والرموز السياسية العليا والمراجع الدينية إزاء هذه القرارات لوضع حدّ نهائي لهذه الفوضى التي يعتاش في ظلها طيور الظلام .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن