مؤسسة البناء المتمدن

هايل نصر

2010 / 11 / 28

في وقت عز فيه البناء, وفيه نشطت معاول الهدم, ليس لتدمير ما تبقى مما يمكن اعتباره إلى وقت قريب بوادر نهضة, وإنما كذلك للعمل على إطفاء إي بارقة أمل في مستقبل زاهر, أي أمل في مواكبة حقائق ومعطيات القرن الواحد والعشرين. في هذا الوقت جهد العديد من أصحاب الضمائر الحية والروح عالية المسؤولية ممن يهولهم ما تتجه إليه أوطانهم, إلى التحدي وقول كلمة حق, وقول كلمة الحق تضع قائليها عكس التيار السائد بغير حق, وتعرضهم للملاحقة بأنواعها.
في وقت ازداد فيه إحكام غلق الأبواب التي يمكن أن تسمح بإدخال النور أو الهواء النقي, انتشرت الفضائيات واستبشر المتفائلون بفتح فضائي, وبإطلالة على العالم من خلف الحدود المحكمة الإغلاق, ودخول العالم لعالمهم عبر "بوابة الحارة" . ولكن سرعان ما تحول التفاؤل تشاؤما وخيبة أمل, فلم تأتي السنون بالربيع, وإنما عملت هذه الفضائيات على نقل الفكر الرسمي, والترويج الرسمي لتكون امتدادا"فضائيا" له, إضافة لترويج الفكر المغرق في ظلامه, الداعي إلى الكراهية والتعصب ورد الآخر, إلى درجة عدم الاعتراف بحقه في الحياة, والتحريض على كل ما هو حضاري وعصري وتنويري. شوهت, غالبيتها, في برامجها آداب الحوار وأصوله. وهل, على سبيل المثال, تبقى من مصداقية لتلك البرامج والمواضيع المطروحة فيها, والشخصيات القادمة لمساندتها, عندما يرى المشاهد والمستمع هؤلاء الذين يقدمهم المذيع, مُعد التحريض والتهويش, على إنهم مفكرين ومثقفين جاءوا ليعرضوا أمامه حقيقة عز قولها, أو ثقافة مفقودة, أو نقدا موضوعيا يحترم العقول, فلا يرى فيهم من بداية الحلقات إلى آخرها ومنذ سنوات, إلا ديكة مؤهلاتهم الأساسية القدرات الفائقة على كيل الشتائم وتلقيها؟ !!.
في الوقت الذي بدأ عصر الانترنت كفتح ينقل المعلومة والمعرفة والفكر الحر إلى كل أركان المعمورة, بما فيه الجزء الأكثر تخلفا, المنطقة العربية, والأكثر محدودية في استعمال هذه الوسيلة, ذهبت بعض مواقع الانترنت مذهب الفضائيات ففتح المستبدون والظلاميون على صفحاتها مواقع وصفحات, ومع ذلك بقوا عاجزين عن احتكار أو تسويد كل الصفحات.
في هذا الوقت, وجد المتعطشون من العرب ومن الناطقين بالعربية على الانترنت ذاته ما عز وجوده, من فكر حر ومواضيع غابت أو غُيّبت عن تلك المنطقة عقود وعقود, وأخبارا تنقل الحقيقة كما هي, وتعري البغي لتظهره بغيا على حقيقته وكما هو.
يكفي تصفح ما تنشره بعض المواقع المسؤولة تجاه الإنسان وحرية الإنسان وكرامة الإنسان, ليعود بعض الأمل بان الفساد لا يمكنه الوصول إلى كل مكان, ولن يمس أصحاب الضمائر والأفكار الحرة, وإلا لكان على الدنيا السلام.
وبقيت الانترنت الأمل والوسيلة الحرة لتسجيل الفكر الحر ونقله, للإعلام الحر, للحوار الحر. تكفي, على سبيل المثال ــ لا ندعي معرفة كل المواقع أو الإطلاع عليها, والتي لابد أن تكون قد اطلعت عليها مؤسسة ابن رشد قبل منح جائزتها حيث لا نعتقد أنها تُمنح اعتباطا أو تحيزا ــ قراءة صفحات في مؤسسة الحوار المتمدن ليجد القارئ, إضافة إلى التحليلات التي تحاول بقدر الإمكان أن تكون موضعية دون ادعاء, والنقد الذي يحاول بالقدر نفسه أن يكون بناء, والتعليقات, وان خرج بعضها عن الموضوعية يبقى ضمن آدابها,. إضافة إلى ذلك هناك محاولات البناء التي تجهد مقالات وكتابات عديدة أن تقوم بها, تتعلق بمفهوم بناء دولة القانون والديمقراطية. بمفهوم حقوق الإنسان والحريات الأساسية. بمفهوم المساواة بين الرجل والمرأة. بمفهوم العلمانية وتعايش الجميع في ظلها. بمفهوم نبذ التطرف والإرهاب. بمفهوم إعادة العدالة للعدالة, والنزاهة للقضاء. وإعادة مفهوم أدبيات المحامين للمحاماة. ونقل التجارب الخلاقة للآخرين في هذه المجالات. وبكلمة العمل على نقل القارئ من أفكار قرون الظلام إلى قرننا الواحد والعشرين.
مواضيع ودراسات مهنية متخصصة تقدم مجانا, وبعد عناء, لتعميم الفائدة والمساهمة في اغناء الفكر والعمل المهني, منها ما يرسل إلى مواقع تعتبر نفسها نقابات تمثل أعضاء مهنها, فإما أن ترفضها لمقدمتها المضيئة, أو لاستنتاجاتها المنطقية, وكأنّ مهمة تلك المواقع ــ التي من المفترض أنها أنشئت لتثقيف أعضاء المهنة بثقافة المهنة وليس بثقافة السلطة ــ هي غلق أبواب المعرفة والتطور في وجه أعضاء المهن. ومع فهذه ذلك تصلهم بطريق غير مباشر عبر الحوار المتمدن, إذا لم يكن محظور عندهم حضور الحوار المتمدن وكل ما يمت إلى التمدن والحضارة بصلة.
على صفحات الحوار المتمدن كتابات لا تروق للجميع, ولا تتلاءم مع فكر الجميع, ولا تعبر عن تطلعات الجميع, فهي متنوعة المشارب والاتجاهات, حتى ولو كان الخط الأساسي الذي أراده مشرفو الحوار هو اليسار والتقدم, ومع ذلك يتعايش الجميع مع هذا الواقع, الاختلاف في الآراء والاتجاهات, والتعددية التي فيها غنى, وقبول الآخر واحترام فكره. أليس في هذا مثال صالح للمجتمعات التي تخاف التعددية؟.
اعتبارات وحسنات محسوبة لمؤسسة الحوار المتمدن التي تساهم ليس فقط في الحوار من اجل اغنائه شكلا ومضمونا مع كل النتائج التي تترتب على ذلك, وإنما كذلك في البناء "المتمدن" بتقديم مواده وركائزه التي يساهم فيها الآلاف من المشاركين, ابتداء من بناء الفكر المتنور, المنفتح على الفكر الإنساني, وتجارب الآخرين في البناء, و الانعتاق من أوهام الذين يريدون لنا أن نبقى آثارا (لاتزار), وماض يُمجّد دون معرفة علمية لحقيقته, ودون ــ بحكم الزمن نفسه ــ إمكانية عيشه, عاجزين عن أن نكون في الحاضر, من مكوناته وفاعلين فيه, ومدركين لحقائقه, وعن التفكير في المستقبل لان المستقبل يعد له فقط الأحياء وصناع الحياة, ويكمله القادمون الجدد اليها.
اعتبارات لو أخذت بها كاملة مؤسسة ابن رشد لما تأخرت بمنح جائزتها للحوار المتمدن إلى اليوم, و لفكرت, للتكفير عن تأخيرها, بمنحها هذه الجائزة للعام أو الأعوام القادمة, في غياب المنافسين في هذا المجال, غياب لا نرجو أن يكون طويلا.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن