القصور والعجز الذاتي في أحزاب وفصائل اليسار العربي ... دعوة الى النهوض والتوحد

غازي الصوراني
cdideology@hotmail.com

2004 / 9 / 15

منذ نشوء الأحزاب الشيوعية العربية في عشرينات القرن الماضي، و نشوء الحركات والأحزاب القومية في العقدين الرابع والخامس منه، ثم اقتراب بعضها من الاشتراكية، وتبني البعض الآخر للماركسية بعد هزيمة الخامس من حزيران 1967م، تعرضت مسيرة هذه الأحزاب لمتغيرات سياسية واجتماعية ناتجة عن تراكمات بطيئة ومتسارعة -تفاعلت واتسعت بتأثير مباشر من العوامل أو الظروف الموضوعية، الداخلية أو المجتمعية، والخارجية، ساهمت في تعميق الأزمة العامة، المتشابكة في مظاهرها السياسية والاقتصادية والاجتماعية من ناحية، والمتجذرة تاريخياً -في مجتمعاتنا - طوال القرون السابقة على القرن العشرين من ناحية ثانية، ما جعل حركة تلك التراكمات مرهونة في مسارها (أو نقطة تحولاتها) بآليات وأدوات التطور الداخلي المشوه والتابع، أو بآليات الهيمنة الخارجية، دون تأثير واضح أو ملموس لأحزاب اليسار العربي في مسار وحركة هذه التراكمات التي وصلت طوال المئة عام الماضية -في اكثر من منعطف- إلى ذروة نشاطها، أو نقطة تحولاتها، معلنة ميلاد "مرحلة جديدة" أو بالأحرى أزمة جديدة، إن على صعيد الوطن العربي كله، أو على صعيد أي قطر من أقطاره، ومع كل إطلالة لهذه المرحلة أو الأزمة المتجددة، اعتادت أحزابنا، الشيوعية واليسارية القومية، إن تخرج إلى جماهيرها ببيان أو خطاب سياسي يعلن بان " شعبنا يتعرض اليوم لمرحلة جديدة اكثر قسوة، وأشد خطراً مما سبقها… الخ" وهو خطاب يعيد إنتاج ذات المعاني أو المضامين رغم اختلاف الألفاظ في هذه المرحلة عما سبقها، ورغم إدراك النخب القيادية في هذه الأحزاب، أن مجتمعاتنا العربية انتقلت، وتنتقل عند كل منعطف أو مرحلة جديدة إلى درجات من الهبوط والتراجع الذي يصيب شكل وجوهر تطورهما السياسي -الاقتصادي-الاجتماعي، اكثر  انحداراً وعمقاً مما سبقها، ذلك إننا لم نستطع طوال حركة تراكم وتعاقب تلك المراحل أو المنعطفات، في التاريخ الحديث أو المعاصر، ان نحقق عبر أي منها خطوة أو نقلة نوعية إلى الأمام -عدا تجربة اليمن الجنوبي التي حملت منذ بدايتها عوامل تفجرها وانهيارها- يستوي في ذلك صراعنا التناحري مع العدو الخارجي أو صراعاتنا السياسية وتناقضاتنا الطبقية الداخلية التي كانت - ومازالت- محصلتها أو نتيجتها الرئيسية، تقدم الشرائح الطبقية العليا واستحواذها على الثروة والموارد من ناحية، وتحكمها في مقدرات ومصالح الأغلبية الساحقة من الجماهير الفقيرة من ناحية ثانية، نستدل على ذلك بوضوح شديد من قراءتنا -على سبيل المثال- لتطور العلاقات الاجتماعية منذ بداية القرن العشرين إلى اليوم، حيث تحكم في مقدرات شعوبنا حفنه من كبار الملاك، أشباه الإقطاعيين بالتجاور مع القمم العشائرية، والنخب القبلية من المشيخات أو "الأمراء"، على مساحة الوطن العربي كله، ثم وفي سياق التراكمات الاجتماعية وضرورات تحولاتها المعاصرة، ولدت المرحلة الجديدة وأدواتها "البورجوازية" المشوهة، التابعة، من أحشاء الرموز والعلاقات الطبقية السابقة عليها دون أي شكل من أشكال التناقض أو القطيعة معها، أو إزاحتها، كما حصل في علاقة البورجوازية الأوروبية مع نقيضها الإقطاعي، بل على العكس عندنا، تشكل نوع من اختلاط المسئوليات والمصالح، ارتبط بظاهرة اختلاط أو تداخل الطبقات أو الأنماط الاجتماعية للشرائح العليا، وهي ظاهرة مازالت ممتدة حتى يومنا هذا، بهذه الدرجة أو تلك، وفق شكل تطور هذا البلد أو القطر أو ذاك، ولما كان من المستحيل في ظروف التطور المشوه والتابع- أن ترتقي شرائح "البورجوازية" العربية إلى "بورجوازية وطنية" أو أطر طبقية متبلورة ومستقلة في تحديد مصالحها السياسة والاقتصادية، فقد تحولت تدريجياً بحكم واقعها وتبعيتها إلى النمط الكومبرادوري الذي اصبح في ظروف العولمة الراهنة سمه رئيسة لمعظم بلدان الوطن العربي، التي بات وصفها اليوم بدولة الكومبرادور، وصفاً معبراً عن طبيعة التحالف الحاكم في كل منها من ناحية، ومعبراً أيضاً عن حالة الرضوخ والاستسلام لنظام العولمة الإمبريالي المهيمن من ناحية ثانية في مقابل تصاعد النزعة العنصرية الصهيونية ، ليس على حساب الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني فحسب، بل باتجاه التوسع صوب المحيط العربي والإقليمي كله، بعد أن تطور التحالف الإمبريالي الأمريكي الصهيوني ، تحالفاً عضوياً غير مشروط، دفع بالدور الوظيفي لدولة العدو الإسرائيلي، إلى حالة إمبريالية صغرى على الصعيد الإقليمي كله، في حين تحولت معظم بلدان النظام العربي ، من علاقة التبعية طوال الخمسين عاماً الماضية، إلى حالة تقترب من الاحتواء الكامل لسياسات وشروط الإمبريالية الأمريكية، التي بدأت تمارس في ظروف العولمة الراهنة دورها الجديد مع حلفاء الأمس ، الحكام العرب ، وهو دور يقوم على الهيمنة المباشرة، وإملاء الشروط ، بعد إن تم شطب كل أشكال التحالف الظرفي السابق معهم، وتجييره لحساب التحالف العضوي الإستراتيجي مع "إسرائيل" تحت بصر وسمع النظام العربي الذي أصبحت معظم دوله-المحكومه بالمواقف والمصالح الكومبرادورية- تمارس دورها في إلحاق شعوبها ومجتمعاتها بمنظومة العولمة الأمريكية.
 
والمفارقة أننا في ظل سيطرة الشرائح الكومبرادورية، والبيروقراطية العليا ،على منظومة الدولة القطرية العربية، في إطار العولمة، نلاحظ نضوج الظروف الموضوعية الداخلية في المجتمعات العربية بصورة واسعة، اكبر بما لا يقاس ،من أي مرحلة سابقة طوال العقود الماضية، في مقابل تراجع وانهيار العامل الذاتي أو الأحزاب اليسارية العربية التي فقدت إلى حد كبير دورها الطليعي والجماهيري ، الذي فرضته بنضالاتها في مراحل وعقود سابقة لم تكن الظروف الموضوعية ناضجة فيها بهذه الحدة أو الوضوح، المعُبَّر عنه في تنوع اشكال المعاناة والحرمان والاضطهاد الطبقي والقومي المسلط على الجماهير الشعبيه الفقيرة ، بصورة لم تعهدها من قبل، ما جعلها تبحث عن مخرج لازمتها عبر الانتماء إلى مختلف الحركات والتيارات الدينية من جهة أو الى الاحباط واليأس من جهة ثانية .
 
المفارقة الثانية في هذا الجانب، تتجلى في فقدان شعوبنا، أو مجتمعاتنا العربية، للأفكار التوحيدية المركزية الوطنية، أو القومية، أو التقدمية الأممية، التي سادت منذ ثلاثينيات القرن العشرين حتى نهايته، حيث تراجعت وغابت مع بداية هذا القرن الحادي والعشرين، لحساب الرؤية أو الفكرة المركزية الدينية السلفية من ناحية أو لحساب الليبرالية الجديدة ، وصورتها العربية المشوهة في إطار مقتضيات العولمة الرأسمالية من ناحية ثانية، ما يجعل من البحث عن أسباب فشل اليسار العربي ، قضية ملحة تتخطى ضرورات البحث في العوامل الخارجية أو الظروف الموضوعية- على أهميتها- لتذهب صوب مواجهة أسباب هذا الفشل ،وتشخيصها وتحليلها في اطار العامل الذاتي أو العلاقات الداخلية لاحزاب اليسار العربي، والتداعي لإعادة  بناء هذه الأحزاب عبر برامج واليات تنظيمية وفكرية وسياسية، تتوافق مع الحاجة الملحة للتغييرالداخلي الديمقراطي الجذري ،المطلوب البدء بالخطوات اللازمة له باعتباره هدفاً مركزياً يستجيب للظروف الموضوعية الراهنة التي باتت مثقلة بنضوج ثمارها ،  التي قاربت عبر تراكماتها المندفعة بعوامل داخلية وخارجية، إلى الوصول إلى حالة من السقوط والتعفن في مستنقع المجتمع العربي الذي تتزايد فيه مظاهر التخلف والخضوع والاحتواء ،في موازاة "نجاح" الاستراتيجية الأمريكية -الصهيونية في تحقيق مشروعها في السيطرة والاستحواذ على مقدرات شعوبنا وإعاقة تطورها، وهي استراتيجية مازالت حتى اللحظة قادرة على تحقيق المزيد من أهدافها العدوانية ، طالما ظلت القوى الشعبية اليسارية، الماركسية، معطلة فاقدة للقدرة على التواصل والنمو والتوسع في أوساط جماهيرها ، بسبب تشوهها الأيديولوجي ،وتراجع هويتها الفكرية الواضحة المعالم ،الذي أدى إلى تراجعها التنظيمي والسياسي ،وعجزها في ظروف موضوعية تفرض على جماهيرنا الشعبية الفقيرة أشكالا غير مسبوقة من المعاناة والاستغلال والقهر الوطني والقومي والطبقي، بحيث بات قطاعاً واسعاً من هذه الجماهير يصرخ بعفوية وصدق: أين قوى اليسار؟ وما سر غيابها في اللحظة الراهنة التي تتطلب حضورها وممارستها لدورها في موازاة السلطات الكومبرادورية -البيروقراطية الحاكمة من ناحية، وفي موازاة الحركات الدينية الماضويه وتعصبها الذي دفع -وسيدفع-صوب  المزيد من الأزمات من ناحية ثانية؟ تتساءل هذه الجماهير،التي عرف بعضها، وعاش بعضها الآخر، صمود ونضالات قوى اليسار في مرحلة تاريخية سابقة، يترحمون عليها اليوم، دون إدراك للحالة التي وصلت إليها أحزابنا اليسارية، الشيوعية والماركسية، من تفكك وتشرذم وتراجع يؤذن بانهيارها، فلماذا وصلنا إلى هذه الحالة من التشتت والضعف؟
في محاولة الإجابة على هذا السؤال، لابد من دعوة كافة المناضلين في صفوف الأحزاب والفصائل اليسارية العربية، إلى التواصل ،دونما تعصب أو جمود ، مع تاريخها النضالي ، الذي ترك بصماته في تاريخ وعقل وذاكرة هذه الأمة، شَرط أن يكون ذلك التواصل، مدخلاً لاستكمال التجربة التنظيمية أو أحياؤها أو الدعوة إلى التوسع فيها عبر مراجعتها ونقدها، انطلاقاً من قناعتنا بأهمية تفعيل دور ونشاط العامل الذاتي ونقصد بذلك ، الحزب الماركسي في بلادنا، الذي تعرض وواجه -ومازال- في مسيرته النضالية وتوسعه التنظيمي، لظروف وممارسات  قاسية من الأنظمة الحاكمة من ناحية وعلاقات اجتماعية متخلفة و معقدة محكومة للماضي، بكل ما يحتويه من سلفية مغلقة وتراث وعادات وتقاليد من ناحية ثانية، وهي علاقات مازالت حتى اللحظة ركيزة رئيسة من ركائز العلاقات الاجتماعية المؤثرة -بهذه الدرجة أو تلك عَلى وعي كافة الشرائح والقوى الاجتماعية عموماً ، والوعي العفوي للجماهير الشعبية خصوصاً، رغم نضوج الظروف الموضوعة -التي أشرنا إليها- وما أفرزته من أشكال المعاناة والحرمان والاستغلال والاضطهاد للأغلبية الساحقة من الجماهير العربية، لكن، يبدو أن استمرار تشوه وتخلف العلاقات الاجتماعية، ارتبط دوماً بتشوه وعجز عملية التطور الاجتماعي العربي، تاريخياً وراهناً ،عن إستكمال مقومات مشروعها النهضوي ،الحضاري، الصناعي من ناحية، وتفتيتها وتجزئتها ومن ثم تعمق  تبعيتها وتخلفها من ناحية ثانية، الأمر الذي أتاح إمكانية استمرار الأنماط الاجتماعية القديمة، وتداخلها مع الأنماط الرأسمالية المشوهة الحديثة والمعاصرة، دونما أي تغيير جوهري في منظومة القيم السلفية والاجتماعية المتوارثه في الوعي الاجتماعي والعفوي العام، خاصة وان النخب الحاكمة - التقليدية والكومبرادورية- الجديدة حرصت على استمرار بقاء تلك القيم وتسخيرها في خدمة مصالحها الطبقية، الأمر الذي أضاف مزيداً من التعقيدات والأحمال الثقيلة في وجه الأحزاب اليسارية العربية التي قد تواجه اليوم، رفضاً مزدوجاً يتمثل الجانب الأول والأخطر منه في الطبقة الحاكمة لدول النظام العربي، التي تدرك بوعي خطر الحركات والأحزاب اليسارية، على وجودها، وهي بالتالي تعلن وتمارس عداؤها وملاحقتها واضطهادها لقوى اليسار ،من موقع وعيها بمصالحها، أما الجانب الثاني فهو يتمثل في الرفض العفوي غير الواعي أو المدرك لمصالحه في أوساط الجماهير الشعبية من جهة، أو غير المدرك لدور ومصداقية اليسار، في نضاله من اجل إلغاء كل أشكال الاستغلال والاضطهاد والمعاناة ،التي تتعرض لها هذه الجماهير من جهة ثانية، هنا  تتبدى المهام الصعبة والمعقدة أمام الحركات والأحزاب اليسارية العربية، في نضالها من اجل تحقيق أهدافها، وهي مهام تصبح اكثر  صعوبة وتعقيداً مع حالة الهبوط الليبرالي وسمات وعيه المشوه في بلادنا ، والانتشار الكمي الهائل للتيارات الدينية، جنباً إلى جنب مع أزمة اليسار على الصعيد العالمي وانهيار التجربة السوفياتية، وما تلا هذه التحولات من مقولات رأسمالية حول "نهاية التاريخ" وسقوط الايديولوجيا "وفشل الاشتراكية" ،وانتصار الرأسمالية…الخ ، إلى آخر المفاهيم الطارئة من الديمقراطية الليبرالية وحقوق الإنسان والحكم الصالح والجندر..الخ التي تصب في خدمة العولمة الرأسمالية، وتقوم بدورها في تخفيف بشاعة ممارساتها واضطهادها واستغلالها للشعوب الفقيرة في كوكبنا .
كل هذه المؤشرات،الداخلية والخارجية، تشكل معاً وحدة واحدة ،تتفاعل كل عناصرها ومكوناتها ضمن برامج محددة، تهدف إلى عرقلة نشاط الأحزاب والحركات اليسارية الماركسية في كل أركان هذا الكوكب ، ما يفرض على هذه الأحزاب أعباءً إضافية ، معنوية ومادية ثقيلة ، تضاعف من حجم المسئوليات والدور والتضحيات الملقاة على عاتقها، الأمر الذي يفرض على هذه الأحزاب إعادة النظر في كافة مظاهر ومؤشرات التراجع التنظيمي والفكري والسياسي، وإعادة بناء العلاقات الداخلية فيها وصولاً إلى وحدة الحزب التي تجسد -بصورة نوعية- وحدته وهويته الفكرية، وتوحده التنظيمي، ووحدة موقفه السياسي في هذه المرحلة الأكثر صعوبة وقساوة من كل ما سبقها من مراحل ، بحيث باتت أحزاب وفصائل اليسار العربي، أو ما تبقى منها، عبر مجموعات أو أنوية أو أفراد، أمام اختيارات صعبة تحمل في طياتها كثيراً من المعاناة والمخاطر، من هنا يأتي إدراكنا بأهمية المراجعة من اجل إعادة البناء والنضال من اجل تحقيق أهدافنا وبرامجنا التي تجسد وحدها صورة المستقبل الذي تتطلع إليه مجتمعاتنا وجماهيرنا العربية في هذه المرحلة من اجل النهوض والتقدم، فبما أننا لا نريد، ولا نستطيع، إن نتحرر من تاريخنا وليس بوسعنا إن نتجاهل الحاضر الراهن ، وظروفه وملابساته المعقدة، فقد بات التواصل مع الماضي النضالي شرطاً ومدخلاً للبحث في الضرورات المتغيرة، ليس فقط في إطار الحاضر بكل ضغوطاته، ولكن أيضاً في إطار المستقبل برحابته وأبعاده الوطنية والقومية وتلاحمها الوثيق بالبعد الإنساني في الإطار الأممي الذي يجب أن نسهم في بنائه واستعادته لدوره على الصعيد العالمي .
ذلك اننا نتفق انه بدون أن نمتلك رؤية فكرية مستقبلية ،مشرقه وزاهرة، تطغى على الحاضر وتتخطاه، سيكون من العسير علينا ان نتقدم كأحزاب أو حركات يسارية من جهة ،وتصبح عملية التحرر القومي، والتغيير السياسي والاجتماعي الداخلي، غائبة أو مغيبة لحساب المزيد من الهزائم والتراجعات ،في ظل استمرار نمو عوامل التخلف والارتهان والخضوع من جهة ثانية، إذ ليس من المبالغة في شئ حينما نعيد التأكيد بوعي وإدراك ومسئولية ،أن قوى اليسار الماركسي العربي ،أحزابا أو انوية أو مجموعات أو أفراد، وبالرغم مما تتعرض له من تفكك وتشرذم، مازالت هي القوى القادرة على امتلاك الرؤية الفكرية، السياسية، الاقتصادية والاجتماعية، النقيضة لرؤية العولمة ونظريتها الليبرالية الجديدة وممارساتها المتوحشة، ذلك إن رؤيتنا تمثل اليوم -كما بالأمس ،النقيض الواقعي والممكن والحقيقي ،لكل مؤشرات الهزيمة والتخلف والانحطاط السياسي والاجتماعي في بلادنا، في هذه المرحلة، ليس على المستوى القطري، وإنما على المستوى القومي العربي بما هو كتلة اقتصادية وجغرافية وحضارية واحدة، تشكل وحدتها اليوم ضرورة من ضرورات مواجهة العولمة الرأسمالية من ناحية، واطاراً تقدمياً انسانياً يشكل جزءاً لا يتجزأ من المنظومة الأممية التقدمية من ناحية ثانية ،وفي هذا السياق، يتجلى المغزى من أهمية البحث في الضرورات المتغيرة، بما تحتويه من صفة التواصل والاستمرارية، التي قد لا تنفع معها بعض الرؤى والآليات السابقة، لكي نباشر في عملية التجديد والتجدد، وبناء إطار الحركة اليسارية أو الاشتراكية العربية-كاطار في المدى المنظور- باعتبارها العملية الوحيدة، التي ستولد ديناميات الفعل والقدرة على تحقيق هدف أن نكون حزباً عربياً طليعياً وجماهيرياً في آن معاً ، وهو أمر مرهون اولاً بتفعيل دور من بقي في إطار اليسار العربي ،أحزابا أو فصائل أو  انوية أو مجموعات أو أفراد ، صامداً ومكافحاً متمسكاً بمبادئه وهويته الفكرية، دون أي لبس أو تلفيق باسم الليبرالية أو غيرها من المفاهيم الهابطة، ذلك إن تفعيل الدور المطلوب يتطلب إعادة القراءة العميقة للماركسية ،واعتمادها كمنهج وطريقة في كل تطبيقاتها على واقعنا العربي، على أن يترافق ذلك مع إعادة تشكيل الحياة الداخلية لهذه الأطر والمجموعات بما يخدم هدفنا المركزي في وحدة اليسار العربي  بالمعنى التنظيمي والفكري والسياسي ، وفي ترابط وتماسك هذه العناوين وتجسيدها لكافة تفاصيل ومكونات الواقع العربي المعاش، أما الأمر الثاني فيقوم على إدراكنا بأهمية تفعيل العلاقة الجدلية بين القطرى والقومي، وتوحدهما كشرط لازم لعملية التغيير والتقدم الداخلي المنشود من ناحية، ولتوفير الإمكانات المطلوبة في مواجهة الهينمة الإمبريالية/ الصهيونية وادواتها في بلادنا من ناحية ثانية، إذ أن هذه العلاقة الجدلية، ترتقي اليوم، بصورة لاخيار فيها، ولا مناص منها، بحيث أصبحت مخرجاً جبرياً وحيداً -علاوة على موضوعيته- لخلاص شعوبنا ونهوضها وتقدمها، بما يقتضي منا التعامل مع هذه الجدلية، المخرج، بوعي وبتفاعل اختياري إيجابي، وهو الموقف، الكفيل وحده، بتأمين الإمكانات الحقيقية الواقعية، لحركة  اليسار العربي وآلياته المتصلة والمتشابكة والفعالة ،التي ستعيد إحياء نشاط ودور اليسار العربي بأشكال ومضامين جديدة، تقوم على ترابط آليات الفعل الوطني والقومي صوب وجهة موحدة تنطلق من وحدة المسار والمصير اليوم وفي المستقبل، وفق رؤية تقدمية ماركسية متجددة وموحدة في إطارها الإنساني الاممي الأشمل راهناً ومستقبلاً.
ولكن رغم توافقنا -بهذه الدرجة أو تلك- على هذه الرؤية التي تدعو إلى وحدة  اليسار العربي، عبر الحوار الهادئ والموضوعي من اجل إغناء الفكرة ،وترسيخ القناعة بها، قبل البدء بأي خطوة عملية صوبها، نتقدم بالسؤال: هل ثمة إمكانية للخروج من الأزمة الراهنة ،الفكرية والتنظيمية والسياسية، التي تصيب كافة أحزاب اليسار العربي؟ وهل ثمة إمكانية لتقدم هذه الأحزاب إلى الأمام لتعلب دورها في مواجهة المرحلة الجديدة؟ ونجيب بلا أي لبس أو غموض ، و بكل صدق ووضوح و ثبات ، نعم هناك إمكانية واسعة للخروج من هذه الأزمة التي تصغر كثيراً أمام تاريخنا النضالي و أمام مكامن القوة التي نمتلكها ، المتمثلة في وجودنا المادي في كافة أقطار الوطن العربي و العالم كله ، إلى جانب وجودنا في وجدان و عقول قطاعات واسعة من جماهيرنا الشعبية العربية ، بل و امتداد هذا الوجود لدى قطاع هام في أوساط المثقفين العرب ، و أخيراً هذا الرصيد الواسع المتناثر على مساحة الوطن العربي من الكوادر و الأعضاء و الأصدقاء الملتفين حول أحزاب و فصائل اليسار بعواطفهم و عقولهم فخورين بماضيها متطلعين إلى دورها كنواة للنهوض الوطني و القومي والانساني.
في ضوء ما تقدم فإننا نسجل هنا ، بلا أي تردد أو مكابرة أو مبالغة ، بل برؤية تنطلق من الفخر و الثقة و الاعتزاز ، ان أحزاباً  تمتلك هذا التاريخ النضالي ، و هذه الطاقات الكامنة ، الى جانب قدراً عالياً  من الثقة والاحترام من قطاعات واسعة من جماهيرنا الشعبية الملتفة حولنا ، كل ذلك كفيل عبر تكاتف وتفاعل الارادات أو العامل الذاتي في مختلف أقطار و مناطق بلداننا العربية ، أن ينقلنا –عبر آليات منظمة ورؤية واضحة تملك القدرة للإجابة على أسئلة الجماهير ، إلى ما نتطلع إليه من دور طليعي رائد للحركة الاشتراكية العربية من أجل تحقيق مهمات التحرر القومي و الديمقراطي و إلغاء كافة أشكال الاستغلال و الحرمان صوب التقدم والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية في بلادنا.
ولكن ذلك كله ، لا يعني أن عملية الخروج من الأزمة ، عملية سهلة أو بسيطة ، ذلك لأن طبيعة الأزمة ليست كذلك ، فبالرغم من دور العامل الذاتي ، كعامل رئيسي من عوامل الأزمة ، إلا أن هناك عاملين أساسيين كان لهما –وما زال- تأثيرهما في تواصل تراكم الأزمة واتساعها على صعيد العامل الذاتي في معظم الاحزاب اليسارية العربية :
أولا: التراكمات و الآثار الضارة الناجمة عن انهيار الاتحاد السوفيتي من ناحية، و حالة التفكك و التراجع التي أصابت بلدان النظام العربي، نتيجة سياسة الانفتاح و الخصخصة ،و الاتفاقات مع العدو الإسرائيلي من ناحية ثانية و هي تراكمات استمرت في حركتها التصاعدية داخل أحزاب اليسار العربي ، عبر حالة الترهل و الإرتخاء التنظيمي ، و الضعف العام الذي أصاب الرؤية الأيديولوجية –على صعيد الممارسة- والمتمثل في غياب الدور الفعال للكوادر الحزبية القادرة على متابعة بناء قواعد هذه الأحزاب فكريا وفق منظومتها المعرفية الماركسية-اللينينية ، وما نتج عن ذلك –بصورة تراكمية- من إرباك العديد من الأعضاء حول الموقف من هذه المنظومة من حيث المبدأ عبر التساؤل : هل نحن ماركسيين أم لا ؟ ما الذي نتبناه من الماركسية وما الذي نتركه؟! وما هو موقفنا من الليبرالية الجديدة التي يروج لها البعض ؟ أسئلة مشروعة لا بد من الإجابة عليها بوضوح وحسم في سياق تفعيل العلاقة الجدلية بين النظرية من جهة، والواقع الاجتماعي العربي بكل تفاصيله من جهة أخرى .
وفي هذا المناخ الى جانب ظروف النضال الصعبة والمعقدة ، كان من الطبيعي أن تعيش المفاهيم النظرية الفكرية ، واللوائح التنظيمية الحزبية –ضمن حالة فوقية- متمحورة على الذات لدى بعض الكوادر القيادية ، بمعزل عن واقع الجسم القاعدي التنظيمي في المجرى العام أو النشاط الوطني الرئيسي لهذه الأحزاب ، وبالتالي ، لم يكن ممكنا ، في مثل هذه العزلة ، إرساء أسس النظرية وتطبيق الآليات الحزبية في نظام حزبي فكري ، سلوكي متكامل في إطارها ، ولذلك كان من الطبيعي ولادة ونشوء وتطور العلاقات ذات الطبيعة الشخصية في إطار العمل النضالي ،التي اتخذت صورا متعددة من الإعجاب أو الاحترام الى الاستزلام والتكتلات أو المحاور سواء في السياق الوطني العفوي العام أو في السياق الانتهازي أو المصالح الأنانية الحزبية الضيقة .
ثانيا: مرحلة ما بعد كامب ديفيد و أوسلو و وادي عربة ، وما فرضته هذه المرحلة من أبعاد وتراكمات جديدة في مسار الأزمة واستمراريتها ، حيث تجلى وتكشف بوضوح في هذه المرحلة ، ضعف العامل الذاتي ، التنظيمي بصورة محددة لدى كافة أحزاب اليسار العربي ، في مواجهة اشتراطات ومتطلبات ومغريات الظرف الجديد ، الى جانب تزايد حالة التشتت في البنية التنظيمية ،وعدم الوضوح الفكري والسياسي ، المترافقة مع تفكك وضعف حالة الالتزام الحزبي الذاتي، وسيادة روح الارتجال والاتكالية ، والعلاقات الشللية ،التي اتخذ بعضها مظهرا أو طابعا مناطقيا ، أو عصبويا متخلفا من جهة ، أو طابعا سياسيا أو شعاراتيا عجز عن إنضاج رؤية موضوعية ، سياسية فكرية تنظيمية ، بالمعنى الشمولي الإيجابي الذي يؤشر على آليات الخروج من الأزمة من جهة أخرى ، و مما لا شك فيه أن لهذه المظاهر جذورها التاريخية ، إلا أنها ظهرت على السطح بصورة جلية مع هذه المرحلة التي اتسمت عموماً بخضوع معظم أطراف النظام العربي و السلطة الفلسطينية ، و ما فرضته هذه المرحلة من محددات و رؤى و آليات و برامج سياسية و مطلبية ، لم تكن وثائق و أدبيات احزاب اليسار العربي قادرة على الإجابة على كل الأسئلة المثارة مع بداية هذه المرحلة و استحقاقاتها ، و بالتالي كان طبيعياً أن تخسر هذه الأحزاب عددا من الكوادر القيادية والأعضاء الذين وجدوا في هذه الحالة من التشتت فرصة للمغادرة سعيا وراء المصالح الشخصية أو لاعتبارات موضوعية وذاتية أخرى  ، وكان من الطبيعي أيضا أن تسود حالة من التعارضات و التناقضات أحياناً حول مسائل التكتيك السياسي حيال العديد من القضايا ، و عدم الوضوح في بعض الجوانب ذات العلاقة بالقضايا الديمقراطية أو المجتمعية الداخلية في كافة الأقطار العربية ضمن خصوصية هذا القطر أو ذاك ، مما سمح ببروز بعض مظاهر التبعثر و التسيب و الفوضى في الفكر و السياسة و التنظيم و إرادة الفعل .
و في ضوء هذه العوامل ، بارتباطها أو اتصالها مع عوامل الأزمة و تراكماتها التاريخية السابقة ، مع اعترافنا بحركة و تناقضات الواقع الموضوعي من حولنا محلياً ، و عربياً و دولياً ، لم يكن ممكناً مواجهة كل أبعاد الأزمة ، و لم يكن ممكناً عدم الإقرار بتداعياتها و تراكماتها في المرحلة الجديدة ، خاصة مع افتقادنا لتحديد الفهم الموحّد لطبيعتها ، إذ كان ذلك الفهم أو الموقف الموحد حول طبيعة هذه المرحلة غائباً أو متأرجحاً بين عدة اتجاهات تفاعلت و تعارضت فيما بينها حول تعريف المرحلة ،هل هي مرحلة تحرر قومي و ديمقراطي أم هي مرحلة الثورة الديمقراطية أم الثورة الاشتراكية ؟ و قد انضوت معظم هذه التفاعلات و التعارضات ضمن ثلاثة اتجاهات أو محاور، لم يستطع أي منها التعبير عن نفسه بوضوح أو التقدم بمشروع سياسي فكري تنظيمي للحوار على طريق الخروج من الأزمة بسبب حالة التراجع و التشرذم التي أصابت هذه الأحزاب ، و بالتالي لم يكن أمام هذه الإتجاهات سوى طرح أفكار أو تصورات عامة تراوحت بين المواقف الراديكالية شبه العدمية في الفكر و التنظيم ، و الثاني دعا إلى الإبتعاد عن النظرية الماركسية باسم الديمقراطية و الليبرالية و الحزب المفتوح لكل الجماهير ، و الثالث ارتأى الحفاظ على الأوضاع كما هي دون تغيير . وفي تقديرنا إن كل هذه الاتجاهات لم تكن –موضوعياً- سوى تعبير عن حالة هروب إلى الأمام بالنسبة للاتجاه الأول ، أو إلى الخلف بالنسبة للاتجاه الثاني ، أو الانغلاق و الجمود بالنسبة للاتجاه الثالث ، دون أن يمتلك أياً من هذه الاتجاهات القدرة على التحول إلى محور استقطاب داخلي فعال .
 وفي هذا المناخ ، استمرت بعض العلاقات الحزبية الداخلية -فيما بقي من أحزاب وفصائل اليسار-، محكومة بالطابع الشخصي أو الشللي، ومتلفحة بغطاء سياسي أو فكري يتراوح بين حالة أقرب الى اختزال علاقة الأعضاء عموما ، والشباب منهم بصورة خاصة بحدود المهام الوطنية العامة والفعل السياسي اليومي والأنشطة الميدانية ، الأمر الذي انتج حالة من الانفصال ما بين السياسة وأيديولوجيا الحزب أودت بدورها الى حالة أقرب الى الهبوط الليبرالي بوعي أو بدون وعي . بما يدعونا من منطلق الالتزام الواعي، بالحرص على هذه الأحزاب بكل ما مثلته تاريخيا ، وبما هي عليه في الحاضر ، وبما يمكن أن تمثله أو تفرزه بصورة موضوعية في المستقبل ، إلى الوقوف أمام هذه الظواهر السلبية بروح نقدية بناءة هادئة ومتزنة ، لإيضاح سبل العلاج والمحاسبة الرفاقية ، التي تحرص على إلغاء هذه المظاهر والممارسات السالبة والعلاقات الشللية ، دون أن يعني ذلك إلغاء الحق في إبداء الرأي أو طرح وجهات النظر الخلافية وفق أنظمتها و لوائحها الداخلية ، وقواعد التعددية المحكومة بمبدأ المركزية الديمقراطية ، من أجل الوصول بحركة اليسار العربي الى حالة التجانس والوحدة العامة النسبية في الفكر والسياسة والتنظيم ، فمن غير الجائز أو المقبول أن تستمر الحياة الحزبية الداخلية محكومة بمنطق إدارة الأزمة بالأزمة ، بمعزل عن مواجهة أسبابها ومعالجتها بصراحة ووضوح ، وبروح عالية من المسؤولية ، إذ أن عدم مواجهة الأزمة –بكل أبعادها- هو في حقيقة الأمر تأجيل لها يتيح إمكانية المزيد من تراكماتها ومخاطرها .
بعد كل ما تقدم ، لا بد لنا من أن نواجه أنفسنا بالسؤال التالي ، إذا كانت الأوضاع الراهنة المتمثلة في استلاب الوطن ، و استمرار هذه الغطرسة و العدوانية الهمجية الأمريكية - الصهيونية ضد شعوبنا من جهة و الفساد و الفوضى و المحسوبيات و نهب الخيرات و سرقة قوت الشعب و العديد من المظاهر الأخرى المرتبطة بمصالح التحالف البيروقراطي – الكومبرادوري في بلدان النظام العربي من جهة أخرى تشكل أرضية و مناخاً محفزاً ودافعاً للإنتساب إلى حركة اليسار ، فلماذا لم تتوسع هذه الأحزاب تنظيميا في هذه المرحلة من الصراع و التناقضات الخارجيه و الداخلية ، ولماذا أيضا لم تستطع هذه الأحزاب توفير الكوادر اللازمة للبناء التنظيمي ومتابعته ؟ والجواب بصراحة يكمن في استمرار ذيول هذه الأزمة ورواسبها بالإضافة لعوامل أخرى موضوعية وذاتية متعددة . إذن ، ما هو المطلوب لتفعيل هيكلية أحزابنا اليسارية العربية لكي تعمل وفق إيقاع منتظم يتناسب مع معطيات المرحلة وضروراتها النضالية القومية والديمقراطية؟.
إن رسم أو وضع تصور لمغادرة الأزمة وتجاوزها يجب أن يبدأ أولا بالحلقة التنظيمية -شرط وضوح الهوية الفكرية الماركسية ومنهجها- ، نظرا لأولويتها كحلقة مركزية توفر الأرضية المناسبة للحلقتين الفكرية والسياسية بصورة موضوعية ومنضبطة من جهة ، ولأن مغادرة الأزمة لا يمكن أن تتم دفعة واحدة أو عبر القطيعة مع الحلقات الأخرى من جهة ثانية .
لذلك كله تتبدى أهمية "الارتقاء بالنقاش والتصدي للمعضلة التنظيمية بكل أبعادها الى المستوى الذي يؤمِّن لنا كأحزاب قطرية راهناً ، و كحزب موحد مستقبلاً شروط مغادرة دوائر الأزمة الى دوائر النهوض".
إن نقطة البدء لعملية التصدي للوضع التنظيمي المأزوم ، و الارتقاء بالمعايير الحزبية و تفعيل العامل الذاتي كعقل جمعي ، تتطلب توفير عنصر الوحدة الجدلية بين الوعي و الممارسة لدى كل عضو من اعضاء  هذا الحزب أو ذاك ، في كل ما يرتبط بمفهوم الحزب و دوره ووظيفته و آلياته ، و ذلك بهدف توفير عناصر القوة لإغناء و تطوير البناء التنظيمي و أداءه ، انسجاماً مع الخيار الواعي الطوعي الحر الذي شكل نقطة البداية لكل رفيق عند اكتسابه لعضويته الحزبية ، إذ أن ذلك الخيار كان تجسيداً و تتويجاً لقناعة الأعضاء و إدراكهم للأهداف العظيمة التي قامت من أجلها أحزابهم الشيوعية أو الماركسية العربية .
بالطبع ، إن الحاجة إلى توفير عناصر و مقومات القوة للحزب ، لا تتوقف عند ضرورات التصدي للوضع التنظيمي المأزوم فحسب ، بل تفرضها أيضاً طبيعة المرحلة الراهنة التي يتفجر فيها الصراع و التناقض الأساسي مع الإمبريالية الأمريكية و العدو الصهيوني- كصراع قومي-  بكل أشكاله السياسية و الجماهيرية و المسلحة كما يجري اليوم في فلسطين و العراق ، وغداً في غيرهما من الأقطار العربية المدرجة على البرنامج الامبريالي الهادف الى مزيد من السيطرة على بلادنا واعادة تجزئتها وتفكيكها ، الى جانب تفرد الطغم الحاكمة في الأنظمة العربية عبر رموزها البيروقراطية و الطبقية ، بنهج سياسي و ممارسات داخلية راكمت العديد من مظاهر الفساد و التسيب و غياب القانون ، و دفعت بشعوبنا و مسيرتها القومية التحررية و الاجتماعية والحضارية الحديثة الى مآزق و منعطفات خطيرة عبر مسلسل من التنازلات طوال العقود الثلاثة الماضية التي ولّدت مزيداً من عوامل الاحباط واليأس .
 إن هذه المؤشرات تؤكد على تعمق و تزايد علامات المأزق السياسي العربي ببعديه الوطني الداخلي و القومي العام بسبب طبيعة و أداء الأنظمة العربية في هذه المرحلة ، لحساب ترسيخ أسس و مصالح الكومبرادور و التحالف الطبقي الحاكم في بلادنا ، ارتباطاً بدوره في خدمة المصالح الإمبريالية .
و في ضوء ذلك لم يكن ممكناً لأطراف و مكونات الأنظمة العربية و عناصرها الأساسية الداخلية المسيطرة ، أن تتوحد في بؤرة مُرَكَّزة من التفرد ، بدون ذلك التراكم في توحد المصالح المشتركة بين أطرافها المكونة لبنيانها الأساسي البيروقراطي العسكري و المدني من جهة و البنية الطبقية الرأسمالية الكومبرادورية والطفيلية العليا من جهة أخرى ، هذه العلاقة أو التوأمة القائمة على المنافع المتبادلة أصبحت اليوم –في سياق التنازلات السياسية الجديدة و المتلاحقة- مكشوفة في تشابكها وخضوع أطرافها لمقتضيات حركة رأس المال العالمي ، الأمر الذي يفسر بصورة منطقية وواضحة ووحيدة ، استجابة هذه الأنظمة و انحناءها أمام الضغوط الأمريكية /الصهيونية .
أمام هذه الظروف والمستجدات الصعبة ، تتضح الأهمية و الدور التاريخي لقوى اليسار العربي المعتمدة أساساً على نشاط و فاعلية و حيوية نضال الجماهير الشعبية باعتبارها القوة الوحيدة ، القادرة على التصدي لكل من يحاول أو يسعى إلى التفريط بحقوقنا الوطنية و القومية ، التي تتداخل وتتقاطع مع الأهداف الديمقراطية والمطلبية الداخلية ، بما يدعونا إلى النضال من أجل توفير عناصر وعوامل القوة المنظمة و الجماهيرية من خلال مشروعنا القومي السياسي الديمقراطي الاقتصادي الاجتماعي البديل للمشاريع القطرية الرثة و أنظمتها .
و هذا يتطلب إعطاء المسألة التنظيمية الداخلية ، الأولوية القصوى في جهودنا الجماعية المشتركة ، لتطوير نضالنا الحزبي و تأهيله بصورة تجعله قادراً على مواجهة استحقاقات هذا النضال في هذه المرحلة رغم كل الصعاب و التضحيات ، باعتبارها الحلقة المركزية التي تبدأ منها الحركة الجماعية العربية الموحدة لكل قوى اليسار، و التي  يجب أن يمتد اتصالها و يتشابك ، مع أوسع قطاعات جماهيرنا الشعبية على مساحة الوطن العربي كله ، إذ أن هذه الحلقة المركزية تمثل حجر الأساس، لكل فعل راهن و مستقبلي في نشاطنا المستقبلي ، و بدونها سيبقى الحديث عن تطوير دور هذا الحزب أو ذاك  و تفعيله على صعيد التحرر الوطني أو على صعيد البناء الاجتماعي –الاقتصادي الديمقراطي الداخلي ، حديثاً لا يرقى إلى مستوى الأفعال الملموسة بعد أن بات واضحاً الأفق المسدود في وجه أي عمل قطري يسعى متفرداًفي نضاله ضد المشروع الامبريالي الصهيوني في صورته الراهنة  .
إن الإدراك الواعي الاختياري الحر، لكل حزب أو فصيل في هذا القطر أو ذاك ، على ان مصير الحزب و دوره الوطني في بلده ، مرهون بدوره القومي باعتباره نواة و أداة من أدوات التغيير الديمقراطي على مساحة الوطن العربي، بات أمراً ملحاً وهدفاًمركزياً، لكن ذلك يتوقف على مكانة و قوة البنيان الداخلي لاحزابنا و التزامها المطلق بأهدافها التي تجسد انتماؤها و تعطيه معناه الحقيقي ، بمثل ما تجسد وحدة إرادتها و نشاطها ، المعبرة عن روح فقراء وكادحي هذه الأمة ، الذين يمثلون قاعدة و أداة نهوضها ومستقبلها الذي نتطلع اليه.
و لكي نحافظ على الدور الطليعي و الجماهيري لأحزابنا ، و السير به في الطريق الصائب لتحقيق أهدافها و أداء رسالتها ، فإن نجاحنا مرهون بقدرتنا على تتبع و كشف و مواجهة كافة القضايا و المتغيرات السياسية و الحياتية التي تتغير و تتبدل –صعوداً أو هبوطاً- بلا انقطاع أو سكون ، الأمر الذي يطرح علينا إظهار وضوح الرؤية و الموقف ، و قوة المبادرة و الإصرار على المواجهة و الحل انسجاماً مع أهدافنا القومية و الاجتماعية والحضارية معاً ، و كل ذلك يعتمد بدرجة اساسية على عاملين رئيسيين من النشاط، هما:
1-النشاط والانتاج النظري في السياسة والفكر والتنظيم ، لرفع وتعميق درجات الوعي، بما يكفل التطبيق الخلاق لمقولة الديمقراطية المركزية التي تضمن بدورها الإختيار الأمثل للقيادة المؤهلة بعيدا عن اي شكل من اشكال التكتلات أو المحاور الشخصية التي تؤثر بدورها على عملية انتخاب الهيئات القيادية لألى تصبح هذه الهيئات –في معظمها- محكومة للعلاقات الداخية المأزومة، التي لا تنتج سوى قيادة فاقدة –بهذه الدرجة أو تلك- للخبرة والوعي والكفاءة الأمر الذي يعيد انتاج عوامل الأزمة وترسيخها من ناحية ، ويكرس ظاهرة التفرد والتكتلات من ناحية ثانية.
2-الممارسة أو النشاط العملي، التنظيمي الداخلي، والنقابي، والجماهيري العام بكل متطلباته السياسية والمطلبية.
ومن الجدير بالملاحظة والاهتمام، أن تطبيق هذين العاملين، سيظل مرهوناً في تحققه ببناء الكادر المؤهل معرفيا وتنظيميا وعلى صعيد الممارسة ، للقيام بدوره الطليعي -داخل احزابنا- في تعزيز روح الفريق ، و ترسيخ العقل الجمعي ، و الانضباط العام و تهيئة المناخ الإيجابي الطارد لكافة مظاهر الخلل و التسيّب و الشللية و الثرثرة و الرخاوة الحزبية بكل أشكالها ، و من هنا تبرز الأهمية الكبرى في الوقوف مجدداً أمام القوانين الأساسية للحزب التي تحدد –نشاطه- و تعكس جوهر و محتوى أهدافه و مهماتـه[1] :
 
أولاً : ترسيخ نضوج الموقف الأيديولوجي في مختلف الهيئات القيادية للحزب :
ان القضية الأولى في هذا الجانب تتبدى في ضرورة ممارستنا لعملية التراكم المعرفي بصورة متواصلة كمدخل نحو التحول النوعي المطلوب في وعينا –بالمعنى الذاتي أو بالمعنى الجمعي في داخل أطرنا الحزبية الراهنة - وصولا الى حالة نسبية لوعينا الخلاق والمتجدد للماركسية ومنهجها ، انطلاقا من تمييزنا للمنهج المادي الجدلي التاريخي الذي ينبع من إيماننا (الجدلي وليس الدوغمائي) بأنه الأساس النظري الجوهري للماركسية الذي يشكل روحها الحية ، على ان يستند هذا الفهم على كون المنهج هو الذي جعل ويجعل الماركسية دليلا ومرشدا للعمل وليست عقيدة جامدة، وهذا ما أعلنه وأكده ماركس وانجلز مرارا ، وهو ما أكده من بعدهما لينين الذي أشار في معرض تناوله لخصائص تطور الماركسية التاريخي بقوله : "ان هذه الصيغة الكلاسيكية تبين بقوة رائعة وبصورة أخاذة هذا المظهر من الماركسية الذي يغيب عن البال في كثير من الأحيان ، وإذ يغيب هذا المظهر عن البال ، نجعل من الماركسية شيئا وحيد الطرف ، عديم الشكل ، شيئا جامدا لا حياة فيه ، يفرغ الماركسية من روحها الحية ، وينسف أسسها النظرية الجوهرية ، ونعني بها الدياليكتيك أو مذهب التطور التاريخي المتعدد الأشكال والحافل بالتناقضات ، ونضعف صلتها بقضايا العصر العملية والدقيقة ، التي من شأنها ان تتغير لدى كل منعطف جديد في التاريخ" .
وتطبيقا لهذا المنهج الخلاق اخضع ماركس وانجلز ولينين –والعديد من المفكرين الماركسيين المعاصرين- أفكارهم وطروحاتهم النظرية للدياليكتيك المادي ، وامتثلوا دائما للحقيقة النسبية ونتائج البحث العلمي . وبهذا المعنى فان الفهم الصحيح للماركسية كأيديولوجية، يتطلب النظر إليها في نسبيتها وتاريخيتها ، أي أنها بالرغم من عظمتها الكبيرة إلا أنها تخضع للقوانين ذاتها التي تحكم نشأة وتطور المعرفة والفكر والنظريات ، وعلى هذا الأساس فان التمسك بالماركسية – في هذه المرحلة - ومتابعة رسالتها الإنسانية الثورية لا يكمن في تقديسها والدفاع اللاهوتي أو الأعمى عنها ، وانما بنقدها الدائم ،وتجديدها، واعادة إنتاجها، في واقعنا ارتباطا بمعطيات الممارسة الاجتماعية، والتملك المعرفي للواقع الاجتماعي التاريخي عبر تطوره المستمر على الصعيد الوطني في كل قطر كمنطلق نحو البعد القومي العربي والإنساني معا . وذلك انسجاما مع قناعتنا والتزامنا بالمنهج المادي الجدلي باعتباره جوهر النظرية الماركسية وهو الشيء الأكثر ثباتا فيها والذي يتضمن في شموليته منهج التحليل الطبقي العلمي للواقع المعاش من ناحية ، والمقاربة الإنسانية العميقة والرؤية العلمية للكون والعالم وتناقضاته من ناحية أخرى .
و إذ نؤكد تمسكنا بالمنهج ونسعى لتطبيقه في الممارسة العملية ، فاننا ننطلق في ذلك من كون الماركسية هي نظرية النسبية التي لا ثابت فيها إلا التغير والحركة وان منطق المنهج المادي الجدلي التاريخي ينسجم كل الانسجام مع الطبيعة الموضوعية للظواهر والعمليات الخاضعة لجدل التغير والحركة .
وفي هذا السياق فان تناولنا لضرورات ووجوب البحث عن أشكال ووسائل العمل لتجديد الماركسية والدفاع عن الخيار الاشتراكي ، يستدعي منا ان ننطلق أولا من الاعتراف بوجود أزمة في كل أحزابنا اليسارية العربية، تتجلى بوضوح شديد في ذلك الانهيار التام الذي شهده النظام الاشتراكي في بداية العقد التاسع من القرن الماضي ، وهو أمر يفرض علينا التمييز بين النظرية وتطبيقاتها في بلدان المنظومة الاشتراكية المنهارة ، على أساس ان ذلك الانهيار لا يعني على الإطلاق انهيارا للماركسية، كما يحاول ان يروج لذلك خطاب الإمبريالية المعولمة الراهنة وأدواتها الليبرالية (معظم المنظمات غير الحكومية ومجموعة من المثقفين اليساريين السابقين علاوة على الانتاج الفكري الهائل للنظام الرأسمالي عبر وسائل الاعلام والفضائيات وغير ذلك من الأدوات) . فالماركسية كما هي وكما يجب ان نفهمها هي نظرية ومنهجا كونيا شاملا، وطريقة واسلوباً في العمل ،ليست مرتبطة بهذا البلد أو ذاك في هذه الحقبة الزمنية أو تلك ، فإذا كانت أزمة بلدان المنظومة الاشتراكية (والاتحاد السوفييتي بصورة خاصة) قد بينت أنها أزمة بنيوية مستفحلة قادت –عبر تراكم طويل- الى الانهيار ، فان أزمة النظرية الماركسية لا تمس جوهرها ومنهجها المادي –الجدلي ، ولذا فإنها تعتبر أزمة نمو ناجمة عن الجمود العقائدي و عدم الوعي بأفكارها و منهجها أو ناجمة عن عدم قراءة أدبياتها الرئيسة ( خصوصاً ماركس) من قبل غالبية القيادات اليسارية العربية، الى جانب الممارسات والتطبيقات الخاطئة والاستخدام الخاطئ للمنهج والتنكر لروحه وحركته المستمرة، وهي ناتجة أيضا عن التخلف عن مواكبة التطورات العلمية المتسارعة والمذهلة التي شهدها العالم خلال العقود القليلة الماضية ، فالمنهج المادي الجدلي، نشأ وتطور وما زال كمنهج علمي، يتزايد الاعتراف بنجاعته وقوة منطقه المتماسك وصحة قوانينه العامة والخاصة وصلاحية مفاهيمه ومقولاته، التي لم يستطع أحد ان يتجاوزها أو ان يدحضها . أما أزمة الاشتراكية وانهيارها في الاتحاد السوفييتي وبلدان المنظومة الاشتراكية ، فإنها بالنسبة لنا لا تعني ويجب ان لا تعني انهيار الفكرة الاشتراكية، أو الخيار الاشتراكي لشعوب امتنا العربية ولشعوب هذا الكوكب ، بل بالعكس ان الأزمة والانهيار أكدا الفكرة والخيار ، فالنقد الموجه للصيغة الاشتراكية التي كانت قائمة بالفعل هو نقد يمس بالأساس قضية التحرر الإنساني ، والحرية ، والديمقراطية الاجتماعية والسياسية ، والمساواة والعدالة ، وإزالة الاضطهاد والاستغلال ، والازدهار الشامل للإنسان والتطور النوعي للقوى المنتجة وللإنتاج ، وازدهار العلم والثقافة والتكنولوجيا وغنى الحياة الروحية ، والعلاقة المتناغمة للإنسان مع الطبيعة وغيرها ، فالمتمعن بهذه القضايا ،يرى أنها هي ذات القضايا التي يعبر عنها الحلم الإنساني تاريخيا ، والتي سعت وتسعى البشرية للوصول إليها ، إذ ان الحلم الاشتراكي والمشروع الاشتراكي العلمي يصبان في صلب هذا المسار . لذلك فان تتبعنا للتطور التاريخي للبشرية في اللحظة الراهنة من وصول الإمبريالية الى طورها المعولم الراهن، الذي أدى الى تزايد إذلال واستعباد وإفقار اكثر من 85% من شعوب كوكبنا ، يلاحظ بوضوح بروز الحاجة الى الاشتراكية والى الأيديولوجيا الماركسية بصورة اشد واكثر إلحاحا وقوة من أي مرحلة في التاريخ الحديث والمعاصر، فالحكم على الاشتراكية لا يكون بما أصاب التجربة السوفيتية من انهيار ، وانما الحكم الصحيح على الاشتراكية والماركسية يكون عبر توحش الرأسمالية المعولمة وأزمتها التي لا تتمثل في عجزها عن تقديم حلول للمشكلات الأساسية للواقع الإنساني فحسب ، بل وبشراستها العدوانية واضطهادها واستغلالها لشعوب العالم الثالث بوجه عام ، وشعوبنا العربية بوجه خاص .
هكذا تبرز الماركسية كضرورة تتطلع إليها الشعوب المضطهدة في بلادنا ، كما في البلدان النامية والمتخلفة في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية ، وهو أمر يتطلب منا ، وبروح عالية من المسؤولية والالتزام ، السعي الجاد لامتلاك المعرفة الحقيقية للماركسية ليس من مصادرها الكلاسيكية-ماركس وانجلز ولينين فحسب، وانما عبر الاطلاع والمتابعة لكل ما أنتجه المفكرون الماركسيون المعاصرون في التاريخ الحديث والمعاصر ، انطلاقا من اعترافنا بأن معرفتنا الحقيقية بالماركسية -كما يقول أ.محمود العالم -  معرفة محدودة ، وأحيانا مسطحة ، واليوم ونحن نتساءل عن مصير الماركسية وأزمتها فإن تساؤلاتنا وإجاباتنا ستكون بالضرورة محدودة بحدود معرفتنا بالفكر الماركسي السابق واللاحق .
إن دعوتنا الى الخوض في هذه العملية المعرفية في إطار الالتزام بالنظرية الماركسية – اللينينية ومنهجها ، تعني أننا الى جانب استرشادنا بالمنهج المادي الجدلي في رؤيتنا وتحليلنا للواقع العربي المهزوم و المأزوم ، ونضالنا من أجل تغييره و تجاوزه ، فإننا نسترشد أيضا بكل ما هو ديمقراطي وتقدمي في تراثنا الوطني والقومي العربي من ناحية ، وكل ما هو إيجابي في التراث التقدمي للبشرية جمعاء ، وعلى هذا الأساس تتحدد بوضوح الهوية الفكرية والأيديولوجية لحركة اليسار العربي ووحدته المستقبلية.
أما القضية الثانية في هذا الجانب ، فإنها تتجسد في إيماننا بدور الجماهير الشعبية ، كصانعة للظروف الإنسانية و الأحداث التاريخية ، إيمان عميق لن يتزعزع ، و لكننا نؤمن أيضاً بأن الطابع العفوي لحركة الجماهير لن يؤدي بها إلى تحقيق أهدافها بعيداً عن العقل المنظم و القيادة الطليعية المدركة و الملتزمة بأهداف هذه الجماهير ، كما ندرك أيضاً أن بروز القيادة الثورية في هذا البلد أو ذاك في زمان ومكان محددين ، لا يكون تعبيرا عن شكل من أشكال الصدفة أو القدر ، بقدر ما هو تعبير عن نضوج حالة موضوعية من التطور السياسي أو الاجتماعي أو كليهما تفاعلت بالضرورة مع المعطيات الذاتية في القائد أو المجموعة القيادية، ومن ثم تحديد الدور والمهام وحجم المسؤوليات ، وفي هذا السياق يقول لينين "لم تتوصل أية طبقة في التاريخ الى بسط سيادتها لو لم تكن قد رفعت ممثليها الطليعيين القادرين على تنظيم حركتها وقيادتها" ،ولكن الشرط الأساسي الذي حدده لينين في مواصفات القيادة، هو انحيازها الكامل الطبقي والسياسي ، الى الطبقة العاملة أو الفقراء والكادحين ، وكما قال "لا تركيب الحزب ، بل من يقوده وما هو محتوى نشاطه وتكتيكه السياسي هو الوحيد الذي يحدد كون الحزب حزبا عماليا أو مناضلا من أجل قضايا الكادحين والفقراء .
إن الأهمية الكبيرة للقوة القيادية في الحزب ، تكمن في أن أي حركة ثورية لا تستطيع ان تكون سليمة ومتينة، دون منظمة ثابتة من القادة تحافظ على قوة الحزب واستمرارية دوره ، فكلما اتسع الجمهور الذي ينهض الى النضال ويؤلف قاعدة هذه الحركة ،ويساهم فيها، تكون الضرورة لمثل هذه المنظمة أمرا ملحا ، وبشكل رئيسي من أناس يجعلون من النشاط الثوري مهنة لهم ، فبقدر ما يضيق تركيب أعضاء هذه المنظمة تزداد صعوبة كشف أو اصطياد أعضائها ، و في هذا الصدد فإننا لا ندعو إلى علاقات حزبية سرية مغلقة ، و لكننا نؤكد على أهمية احترام قواعد السرية في العمل الحزبي ، التي لا يجب إهمالها في أشد الظروف علنية ، فالنشاط الحزبي السري ، كسمة عامة من النشاط السياسي - في كل أحزابنا- قضية لا بد من الإلتزام بها و تطبيقها في ظروفنا الراهنة بما يقتضي إلغاء أشكال العمل السري المكشوفة و الباهتة التي استخدمت طوال العقود الثلاثة الماضية .
المسألة الأخيرة في هذا الجانب ،ترتبط بمواصفات القادة الحزبيين حيث تدلل تجارب الأحزاب الثورية ، على انه مع نمو دور ومسؤولية القادة ، تزداد المتطلبات وتتعاظم المخاطر التي قد يتعرضون لها ، ولذلك فالقائد الحزبي المعاصر ، بالإضافة الى استيعابه للنظرية المادية الجدلية والاشتراكية العلمية ، و معرفته بتفاصيل الخارطة الطبقية أو الواقع الاجتماعي الاقتصادي من حوله ، يجب ان يكون حاملا لأكبر ثروة من المعارف ، الى جانب التخصص في ميدان معين من ميادين العلوم الذي أصبح سمة هامة من سمات العصر الراهن ، لمعرفة اتجاهات الثورة العلمية وثورة المعلومات والتكنولوجيا ونظريات الإدارة الحديثة ، وإدراك ومتابعة المتغيرات السياسية والاقتصادية المعولمة المتسارعة التي نعيشها اليوم .
 
ثانياً : تطبيق الأسس الحديثة و المعاصرة في إدارة الحزب :
على أحزاب و قوى اليسار العربي ،  وهي تواجه التطورات المتسارعة في هذه المرحلة ، وملابساتها وتعقيداتها ومخاطرها الجدية على قضايانا الوطنية و القومية وأوضاعنا المجتمعية الداخلية ، أن تدرك أهمية الحاجة الى تطوير العمل المنظم واستخدام اكثر الوسائل والأشكال والأدوات التنظيمية فاعلية ، وهي عملية تتطلب الارتقاء بالمستوى العلمي لكوادرها والإحاطة بمستلزمات التطور المعاصر واستثمار المنجزات العلمية في نشاطها استثمارا واسعا بما يتيح لها مواكبة تجدد الحياة والارتباط الوثيق بها . ولهذا طالب لينين بأن "من الضروري لنا وبكل ثمن أن نتعلم ، وثانيا أن نتعلم ، وثالثا أن نتعلم ، وبعد ذلك أن نتفحص أن لا يكون العلم عندنا حروفا ميتة ، بل أن يدخل العلم في اللحم والدم ، وأن يتحول بشكل كامل وحقيقي الى عنصر مكوِّن من عناصر أسلوب الحياة لأجهزة الحزب التي يجب عليها :-
أ-  أن تتعرف الى الحياة جيدا بمعنى أن تتفهم واقعها بكل تفاصيله .
ب- أن تستوعب فن القيادة وأن تظهر المبادرة والحمية والهمة العالية والدأب على العمل في مواجهة القضايا وإيجاد الحلول لها .
واليوم ، ونحن في عصر العولمة ، فقد غدا العلم قوة إنتاجية هائلة ، تأكيدا لموقف ماركس الذي رأي في العلم "القوة التاريخية الثورية المحركة" ، هذه القوة مصدر هائل لتحسين العمل الحزبي من جهة ووسيلة كبرى من وسائل تطوره وانضباطه في كل ظروف العمل بأشكاله العلنية والسرية من جهة أخرى .
وبالنسبة لأحزابنا في هذه المرحلة ، فإن نشاطها العلمي ومنطلقاتها في هذا الجانب تتحدد بعاملين أساسيين :-
أولا: فهمها لقوانين النظرية الماركسية اللينينية ، أو المادية الجدلية ومقولاتها ، ودورها في تطبيقها الخلاق على واقعنا المباشر ، إذ أن معرفة هذه القوانين الموضوعية والقدرة على تفعيلها ، أمر غير ممكن بدون الارتباط بالحياة أو الواقع المتغير الذي تعبر عنه هذه الاحزاب والفصائل وتنتمي إليه .
ثانيا: التوجه الجاد عبر رؤية وبرنامج محددين ، نحو إلغاء الأساليب أو العقلية التقليدية القديمة أو ما يسمى "بالريفية" التي ما زالت سائدة في العلاقات الداخلية في معظم احزاب اليسار العربي ، والتي تتجسد تعبيراتها أو رواسبها في كثير من المظاهر :-
1-الفردية بكل أشكالها في معظم المراتب والهيئات التي تعيق توليد الروح الجماعية ، عقلا وفعلا، وما تؤدي إليه من تضخم العلاقات الشخصية الضارة والانفلاش والشللية وروح التآمر والانتهازية .
2-العشوائية في التخطيط والتنفيذ والمتابعة والتقييم .
3-الاسترخاء الفكري ، وأحيانا الفوضى والانتقائية الفكرية إلى جانب ضحالة الوعي ، التي لا تعبر عن وضوح الرؤية أو الموقف الأيديولوجي في حدوده الدنيا ، وهذه قضية لا بد من إيلائها أهمية قصوى في العمل المكثف لتجاوزها
4-الاعتماد على الذاكرة في كثير من القضايا ، وعدم احترام الوقت من جهة ، الى جانب الفراغ الناتج عن غياب المهمات الفكرية أو السياسية أو الميدانية وفق الخطط المرسومة من جهة ثانية .
إن مجموع هذه السمات ، وغيرها ، تعكس العقلية المتخلفة أو الريفية في إدارة الحزب ، هذه العقلية تشوه عبر الممارسة ، مفاهيم الحرية والانضباط والعمل الجماعي ، واحترام العقل والعلم والديمقراطية والعلاقات الرفاقية .
إن التطورات المتلاحقة في الظرف الراهن ، تشير بوضوح الى تزايد استعداد الأنظمة العربية لتقديم المزيد من  التنازلات الخطيرة ، لصالح المشروع الإمبريالي / الصهيوني ، تبتعد الى حد كبير عن مضامين اتفاقات " السلام" المزعومة ،حرصا من هذه الأنظمة على الخروج من مأزقها الذاتي لحماية وتكريس مصالح التحالف الطبقي المسيطر، دون أي اعتبار لمصالح الجماهير الشعبية الفقيرة و تطلعاتها في التحرر القومي والديمقراطية و العدالة الإجتماعية وتكافؤ الفرص والتوزيع العادل للثروة والدخل .
وبالتالي فإننا ، بقدر وعينا بحجم الضغوطات و العقبات في هذه المرحلة ، ندرك أيضا أن أحزاب اليسار العربي في هذه المرحلة بالذات ، رغم ضعفها و تراجع تأثيرها ، إلا أنها تتحمل المسؤولية القيادية الأولى والأساسية في إطار القوى الوطنية الديمقراطية في أقطارالوطن العربي ، وهو أمر واقع ، عليها أن تقبله بثبات وعزم ووضوح ، فليس ثمة خيار آخر ، والمهم أن تنطلق في حركتها من فهما للواقع بأبعاده الوطنية المحلية ، والقومية والعالمية ، بما يمكنها من التعامل مع الصراع ،بشمولية واعية لا تلغي خصوصية الواقع في هذا القطر أو ذاك ، ولكنها تؤكد على ترابطه مع مجريات وحركة الدوائر من حوله ، مدركة ان فهم الصراع التناحري مع العدو الصهيوني أو التناقضات السياسية الداخلية يستوجب التعامل معه في سياق النضال القومي و الديمقراطي معاً ، فتلك هي الضمانة لإعطاء هذا الصراع "مضامينه وتجلياته كاشتباك تاريخي موضوعي" ، خاصة وأن هذه الاحزاب ، رغم كل المظاهر السلبية ذات الطابع المؤقت والطارئ التي تعرضت لها ، هي مؤسسات لها جذورها الحية ، و آمالها المستقبلية الكبيرة التي تجسد آمال شعوبها .
إن اتفاقنا على هذه المضامين المتطابقة بين مفهومي الحزب والمؤسسة في أطر اليسار العربي ، يفرض عليها إدراك الضرورة القصوى للتفاعل المتواصل بين هذه المؤسسة ، الحزب ، من جهة ، وبين بيئتها الخارجية من جهة أخرى ، ذلك لأن هذا التفاعل الضروري بين مكونات الحزب الداخلية وبيئته الخارجية ، محليا وقوميا وعالميا ، يشترط تطوير المكونات الداخلية ، كمنهج وأدوات وعلاقات وسلوك في كل دوائر الحزب ، إن أمكن ، وبمبادرات ذاتية في كثير من الحالات ، باتجاه استخدام التكنولوجيا المتقدمة عموما ، و مفاهيم الإدارة الحديثة خصوصاً في تحضير ومتابعة وإنجاز أعمالها وهذا بدوره يتطلب إعادة النظر في طبيعة الأداء الإداري العام في كل هذه الأطر ، فالادراة الصحيحة في الحزب هي تتويج لعلاقات حزبية راسخة ومنظمة ، وهي بالتالي جزء من التنظيم ، بل إنها تمثل العقل الذي يسيِّر النظام في الحزب ، ويرسم خططه ، ويحكم علاقات الأفراد بصورة تحول دون بروز أو ولادة العلاقات المشوهة أو الشللية أو الاستزلام ، وهي أيضا ، توجه الطاقات والقدرات لبلوغ الأهداف ومراقبة سير العمل وتقييم النتائج لأعمال كافة اللجان المتخصصة و الجماهيرية معاً ،وفق قواعد التخطيط والتنظيم والتنفيذ والقيادة والتوجيه والرقابة ، في إطار الأهداف أو الخطة العامة الموضوعة .
أخيرا ، إن الحزب ، أي حزب ، عندما يفتقد مبادئ التنظيم العصري الجيد ، التي تؤهله لمعرفة الواقع الراهن بكل جوانبه ، تزداد أعماله اضطرابا وفوضى ، وفي هذا الجانب فإن أول المؤشرات على ضعف هذا التأهيل ، يكمن في غياب امتلاك احزاب اليسار العربي للمعلومات والبيانات وتنظيمها ،الذي يشكل بدوره أحد الأسباب في ضعف فاعلية وظائف وأهداف هذه الأحزاب،وفق نصوص وثائقها التي تؤكد بحق على أنها " تناضل من اجل مصالح الفقراء والكادحين عمالا وفلاحين ، باعتبار أنها الحزب المنحاز لقضاياهم وبالتالي فإنها –من حيث المبدأ- تمثل المرجعية الأخيرة أو الرئيسية الهامة ، لكافة المعلومات المتعلقة بهذه الشرائح الكادحة والفقيرة في مجتمعنا" ، فهل تمتلك احزابنا ، الرؤية الواضحة ، والبيانات والمعلومات التفصيلية في هذا الجانب  ؟  .
 
ثالثا: آليات الخروج من الأزمة وتفعيل الحلقة التنظيمية كحلقة مركزية :
إن "وحدة الحزب تأتي حصيلة لفعاليته القصوى سياسيا وفكريا وعمليا ، وهذا غير ممكن إلا إذا تم الارتقاء بالمعايير التي تحكم العمليات التنظيمية المتنوعة" عبر التفاعل بين الرؤى الثلاث ، السياسية ، والفكرية ، والتنظيمية ، كشرط ابتدائي للنجاح ، أو بداية تلمس الطريق نحو الخروج من الأزمة . وإن أهمية الحلقة التنظيمية هنا ، تتبدى في كونها حجر الأساس أو الحلقة المركزية بالفعل ، إذ أن التفعيل الحقيقي أو الثورة الحقيقية للحزب ، لا تحددها قناعته الفكرية أو أيديولوجيته فقط ، فلكي تتمتع الأفكار بقوة تحويليه ، من الضروري أن يكون التنظيم عاليا عبر وحدته وقوته الداخلية لدعم قوة الأفكار بقوة التنظيم ، وبقوة ووضوح الموقف السياسي ، والقضايا المطلبية الديمقراطية ، و هي وحدة مشروطة بمستوى كفاءة الهيئات و الأفراد و البنى و الممارسة ، و هذه العوامل بدورها مرهونة بتوفر العوامل و المقومات التي تجعل من التنظيم حزباً طليعياً ، قادراً على تحقيق رسالته الداخلية ،  و ذلك يتحدد فقط عبر وعي كوادر و قواعد الحزب–من حيث المبدأ- بأن حركتهم المتصلة و المتواصلة عبر الهيئات و المراتب ، هي التي تحدد أولاً و أخيراً نشاط حزبهم ، بوصفه عملية متحركة تمتلك القوانين المتحكمة أو الضابطة للحركة العامة من جهة ، و القوانين التي تحدد و تعكس جوهر و محتوى أهداف الحزب و مهماته باعتبارها الأساس في تحديد أو اختيار الوسائل و الأساليب و الأشكال النضالية الحزبية و الجماهيرية القريبة و البعيدة في آن واحد من جهة أخرى .
و السؤال هنا ، هل بإمكان الأحزاب و الفصائل اليسارية ممارسة نشاطها و فعاليتها في هذه المرحلة الصعبة ، وفق هذه القوانين أو هذه الأسس ؟ الجواب بلا تردد ، نعم بشرط أن تبدأ هذه الأحزاب ، بالتوجه الجاد ، الجماعي بتطبيق مفهوم الالتزام التنظيمي الذي يعني قيام العضو بتنفيذ المهمات الموكولة إليه وفق خطة و برنامج الحزب ، و ذلك على قاعدة الخيار الديمقراطي الواعي الذي شكل المدخل الأول لهذه العضوية . ذلك ان تطبيق مفهوم الالتزام وفق هذه المعايير هو الذي يجسد معنى الانتماء الحزبي كشعور يلازم العضو بالولاء للحزب و القضية التي يناضل من أجلها ، بكل أبعادها الأيديولوجية و السياسية و التنظيمية ، إنه أيضاً الشعور الذي يوفر للعضو إحساسه بأنه عضو في جماعة منظمة له ما لها و عليه ما عليها . 
و في هذا السياق ، فإن من المفيد أن نتذكر دائماً أن الحزب القوي هو الذي يخلق الإطار الجماهيري و ليس العكس ، فالعمل الجماهيري لا يستطيع أن يؤطر خلية حزبية واحدة ، بهذا المعنى يكون الالتزام في الحزب مقياساً أولياً لاختبار كيفية تطبيق البرنامج و المهام و النظام الداخلي ، في سياق الأداء العام أو الممارسة العملية للهيئات و المراتب الحزبية ،و هي ممارسة محكومة بعوامل التراجع و الضعف عبر العديد من السمات العامة المشتركة -بهذا القدر أو ذاك- لجميع أحزابنا و فصائلنا و حركاتنا اليسارية في كل بلدان الوطن العربي ، و أهم هذه السمات :
- العجز عن نشر مفاهيم الوعي الاجتماعي المرتبطة بمراحل تطور القضايا السياسية الوطنية والقومية في تشابكها مع الواقع الطبقي من ناحية ومع مفاهيم الحداثة والتنوير والعلمانية والتقدم الحضاري من ناحية ثانية ، وقد نتج عن ذلك عجزا آخر تمثل في غياب الكتلة الاجتماعية في اوساط الجماهير الفقيرة ، القادرة على التعاطي مع تلك المفاهيم .
-       لم تتناول الاحزاب الشيوعية وحركات اليسار القومي ، موضوعة الربط الجدلي بين النظرية والواقع العربي المعاش بكل تفاصيله ، ما أبقى النظرية أو حدود الفكر النظري –كما يقول أ.محمود العالم- "بعيدة عن شروط الواقع الذي يعمل فيه"[2] .
-     فشل هذه الاحزاب والفصائل في تحويل معظم القضايا التي تتبناها في برامجها الى قضية عامة تتبناها الجماهير الواسعة وتتجمع وتناضل من اجلها سواء على الصعيد العام او على صعيد النقابات والمؤسسات المهنية والطلابية ، التي باتت في هذه المرحلة محكومة  -الى حد كبير- لسيطرة الدولة واجهزتها .
- التراجع العام في الأوساط الجماهيرية الشعبية الفقيرة نتيجة العجز عن التواصل مع هذه الجماهير في مواقع اقامتها او اماكن عملها او نقاباتها ، الى جانب العجز عن اقامة الاطر الديمقراطية او المؤتمرات الشعبية المعبره عن قضاياها ومصالحها ، واللجوء بدلا من ذلك الى اشراك العديد من الشرائح والنخب "البورجوازية" او المثقفين الليبراليين عبر تحالفات هشة او مؤتمرات لا يتجاوز تأثيرها محيط قاعاتها ، وكل ذلك انعكاس للتراجع الفكري والسياسي والتنظيمي العام بحيث كادت هذه الأحزاب أن تصبح إطارا طارداً للعضوية بدلاً من أن تكون جاذباً لها .
- ضعف المعايير الفكرية و التنظيمية التفصيلية الناظمة للتوحد التنظيمي ، و عدم تبلورها عبر برامج و عناوين سياسية و مطلبية و أيديولوجية واضحة ، و آليات و جداول عمل محددة و ثابتة تساهم في تعميق عملية الالتزام و الوحدة الفكرية و السياسية و التنظيمية ، في هذا الحزب أو ذاك ، و في هذه الحال ، فإن غياب هذه الآليات و البرامج و متابعة تنفيذها بصورة دورية يسهم في تزايد حالة التراجع و الإحباط الراهنة .
- الإرباك و التراجع الفكري أو الأيديولوجي العام في بنية هذه الأحزاب و ضعف حجم الكادر أو الأعضاء المستوعبين لخط الحزب و رؤيته الفكرية و التنظيمية و السياسية بصورة عميقة نسبياً ، و في هذا الجانب فإن تقاعس المبادرة و العامل الذاتي عند الكادر عموماً يشكل العامل الرئيسي في هذا التقاعس الذي يصل عند البعض الى درجة غياب الحس بالمسؤولية الناتجة عن ضعف الهمة أو الحافز الداخلي ، إن استمرار هذا الضعف في البنية الكادرية مع استمرار غياب التكليفات و البرامج المعدة سلفاً بصورة مركزية ، و غياب النقد و المحاسبة التنظيمية على مظاهر التقصير ، سيسهم في زيادة تركيم عوامل الأزمة و الرخاوة الحزبية، خاصة فيما يتعلق بالهوية الفكرية لمجمل أحزاب اليسار في بلادنا .
- العجز عن تنظيم واعداد القادة ، وكذلك العجز عن اكتشاف قيادات جديدة طبيعية نابعة من بين الجماهير ، وتحويلها الى كوادر حزبية طليعية وجماهيرية في آن ، الامر الذي يفسر افتقار الاحزاب والحركات اليسارية العربية لمثل هؤلاء القادة على المستوى الشعبي ، وهو سبب هام من اسباب فشل هذه الاحزاب في ايصال مرشحيها في اية انتخابات للمؤسسات النيابية وغيرها في بلادها.
 على أي حال إن إدراكنا للأزمة التي تعيشها أحزابنا و تقديرنا لصعوبتها و استمرار تراكماتها على جميع المستويات التنظيمية و الفكرية و السياسية ، لا يعني على الإطلاق أن هذه الأزمة بكل مظاهرها و تراكماتها التاريخية و الراهنة ، تشكل عنواناً أولياً أو تناقضاً رئيسياً يهدد وجود هذه الأحزاب أو يعيق حركتها نحو المستقبل الذي تتطلع إليه شعوبنا ، فهذه الأزمة بالرغم من طابعها البنيوي الشمولي و التاريخي ، إلا أنها لا تتخطى في شكلها و حركتها و مضامينها و حقيقتها حالة أو شكل التناقض الثانوي ، ذلك لأن العوامل الرئيسية في مكونات هذه الأزمة و صيرورتها حتى اللحظة ، تعود في جانب كبير منها إلى قصور العامل الذاتي و عجز بعضه عن دفع الاستحقاقات النضالية و التنظيمية و السياسية و الفكرية ،و بالتالي لا مجال لتحميل العامل او الظرف الموضوعي و صيرورة حركته التاريخية و الراهنة و المستقبلية دوراً رئيسياً في هذه الأزمة ، بالعكس إنه أحد أهم المنطلقات و العوامل المحفزة لوجود لهذه الأحزاب و استمرار دورها ، و لكن الإشكالية تكمن في أن العامل الذاتي لم يستطع التكيف الإيجابي مع متغيرات العامل الموضوعي المتسارعة في بلادنا ، و على الصعيد العالمي كله ، و يبدو أنه لم يكن مؤهلاً لذلك ، خاصة و أن هذه المتغيرات قلبت كثيراً من المعادلات ، فانهيار الاتحاد السوفيتي و المنظومة الاشتراكية ترك أثراً عميقاً و سالباً ليس تجاه التجربة الاشتراكية فحسب ،و إنما باتجاه النظرية الماركسية بمجملها لحساب الديمقراطية الليبرالية الهابطة ، بعد أن فقدت معظم الأوساط اليسارية –على المستوى العالمي- صوابها ووعيها و أخذت تتنكر لماضيها و شعاراتها و مرجعيتها و تلتحق بأيديولوجيا الخصم الإمبريالي الرأسمالي بأشكال و صور متعددة ليس أولها التخلي عن النظرية و حزبها ، و لن يكون آخرها هذا العدد الهائل من المنظمات غير الحكومية المحشوة بأطر و كوادر يسارية سابقة و مهزومة ، و لذلك فإن القلة من أصحاب الإرادات الواعية –و في القلب من هؤلاء ما بقي متماسكاً منهم ، احزابا او مجموعات او افراد- استمروا على ولائهم لحركة و مستقبل الكادحين و الفقراء أو الطبقة العاملة بوصفها طبقة ثورية ، عبر تمسكهم بولائهم للفكر (الوعي) المنبثق من الماركسية كنظرية ثورية تغييرية في ملامستها وتفاعلها المباشر مع واقعهم المعاش .
و أخيراً ، لا بد من الإشارة إلى عامل هام و خطير من العوامل الموضوعية المؤثرة بعمق في ظروفنا الراهنة، و هو نتاج أساسي لمتغيرات و تراجعات هذه المرحلة ، و نقصد بذلك ، ظاهرة انبعاث الحركات السياسية الدينية التي شهدها الربع الأخير من القرن العشرين و التي لم تقتصر على دين دون غيره ، حيث يمكن ملاحظة انبعاث هذه الحركات في بلدان أوروبا الشرقية و أمريكا اللاتينية و آسيا و أفريقيا بتفاوت درجاته و أسبابه و نتائجه بينها ، حسب درجة التطور الاجتماعي الاقتصادي في كل منها ، و لكن هذه الحركات انطوت في بلادنا –و في البلدان الإسلامية عموماً- على مضمون اقتصادي اجتماعي لا يتناقض في جوهره مع مضامين الرأسمالية العالمية و آلياتها عبر تيارات و جماعات يحكمها التطرف –الكامن أو الظاهر- و يجمعها وحدة الهدف و الغاية في شعار "الإسلام هو الحل" لإقامة المجتمع المسلم أو الدولة الإسلامية عبر إحياء نظام الخلافة العثماني أو التوافق مع النظام الإسلامي الفارسي في إيران. و هي أهداف أو مشاريع تنتمي إلى الماضي لا يمكن أن تملك مقومات التطور و الحياة في المستقبل ، رغم كل هذا الالتفاف الجماهيري العفوي  حولها ، و الذي لم يكن ممكناً وجوده و اتساعه بهذا الشكل لولا حالة الانكسار و الهزيمة التي أصابت حركات التحرر الوطني و القومي و التقدمي في العالم العربي كله .
أمام هذه المتغيرات النوعية العميقة ، التي أدت الى نشوء ظروف موضوعية عالمية ، وإقليمية و قومية ، ومحلية جديدة ، كان من الطبيعي ان تتوالد ، بل وتتفاقم مؤشرات الأزمة وعواملها في البنيان الداخلي لجميع الحركات والأحزاب الشيوعية و اليسارية التقدمية في كل بقاع العالم ، بهذه الدرجة أو تلك من التأثير ، وفق طبيعة ومكونات هذا الحزب أو ذاك ، ودور واستعداد القوى الطليعية فيه من حيث الإرادة والوعي ، في التعامل مع هذه المتغيرات الهائلة الجبروت ، والصمود في مقاومة أدواتها ومؤثراتها الجديدة .
والآن ، وبعد مضى عقدين من الزمن ، على هذه المتغيرات ونتائجها المدمرة ، فإن بعض الأحزاب والقوى اليسارية والقومية ، تراجعت أو تفككت ، ولم يبقى إلا العدد القليل منها لم يفقد إرادته أو صوابه أو بوصلته السياسية والأيديولوجية ، الأمر الذي يتطلب تكثيف النشاط الفعال لاستنهاض العامل الذاتي (الحزب) بصورة مباشرة اعتمادا على مبادئ القيادة الجماعية والنقد والنقد الذاتي ، واخيرا المركزية الديمقراطية التي يسعى البعض –بوعي او بدون وعي- الى شطبها رغم اهمية هذه المقولة ودورها ومضامينها .
فالمركزية الديمقراطية هي المبدأ الناظم لعلاقات الحزب الداخلية ، ووحدة إرادته ، ووحدته في تنفيذ المهام المعبرة عن وحدته التنظيمية في إطار العلاقات الديمقراطية الموضوعية الواعية داخل الحزب ، إذ أن الجوهر الحقيقي لقانون المركزية الديمقراطية يتمثل في كونه قانون للنشاط الهادف إلى بناء الحزب و تقدمه ، على أساس أن المركزية الديمقراطية هي صيغة تستهدف تداول الصلاحيات و المسؤوليات وفق أسس ديمقراطية ، و ليست مبدأ لفرض سلطة القرار ، و بهذا المعنى فإن جوهر هذا القانون يهدف إلى إقامة شرعية حزبية حقيقية، تقف على أسس ديمقراطية مستمدة من القاعدة الحزبية و من مبدأ التمثيل و الإنتخاب في سياق التفاعل الداخلي للكوادر و الأعضاء أو العامل الذاتي ، الكفيل بتطوير العملية الديمقراطية الواعية داخل الحزب عبر قيام كل عضو بتنفيذ مسؤولياته و القيام بواجباته .
إن غياب تطبيق هذا المبدأ ، بصورة موضوعية  وواعية ، و بروح عالية من الإلتزام و المسؤولية ، يؤدي إلى تغييب آليات الديمقراطية الحزبية الداخلية ، و يفسح الطريق لاستفحال مفهوم المركزية بصورة أحادية تصيب الحياة الداخلية لأي حزب ماركسي بضرر بالغ .
و لذلك فإن الضمانة الحقيقية لتفاعل مفهوم الديمقراطية و حيويته ، بما يضبط و يحول دون استفراد مفهوم المركزية ، تكمن في وعي جميع الأعضاء و التزامهم بتطبيق مبدأ القيادة الجماعية كمبدأ أساسي من مبادئ القيادة الحزبية ، الذي "يجنب الحزب الدكتاتورية و الفردية و عبادة الشخص ، و يضمن المشاركة الجماعية في اتخاذ القرار و تنفيذه في كافة المراتب و الهيئات القيادية" بصورة جماعية تأخذ بعين الإعتبار قواعد التعددية في الرأي و الحوار ، و تعتمد مبدأ النقد و النقد الذاتي كوسيلة لتشخيص الجوانب العملية في الممارسة ، و الآراء و المفاهيم أو الطروحات النظرية،  بما يساعد على تكامل الموقف الإيجابي الجماعي العام ، بمثل ما يساعد على تكامل المعرفة بالنسبة لتحديد الأهداف و الاختيار الأصوب للآليات أو الوسائل اللازمة لتحقيقها .
و في الميدان العملي فإن للنقد دوره في الممارسة و التطبيق ، إذ أنه وسيلة لتدقيق سير النشاط الحزبي من حيث صحته أو خطأه ، ووجهته ، و مدى فاعليته أو نقاط ضعفه أو الوسائل أو الأساليب المستخدمة فيه ، و بهذا فإن تطبيق مبدأ النقد و النقد الذاتي كفيل برفع الهمم ووقف حالة الركود أو الجمود الراهنة هنا أو هناك ، لدى هذا الحزب أو ذاك، و هو الكفيل أيضاً بكشف و رفض المواقف الإنتهازية  و الشللية اليسارية العدمية أو اليمينية و يوفر إمكانية التجدد و حفز الفعاليات و النشاط البنّاء والارتقاء والتقدم في مسيرة الحزب .
إن تفعيل هذه المبادئ أو المرتكزات الأساسية ، المركزية الديمقراطية و القيادة الجماعية و النقد  و النقد الذاتي، يرتبط بمدى وعي هذه الاحزاب بالنظرية الماركسية اللينينية ، كنظرية و منهج في آن واحد ،إذ أن هذا  الوعي بالنظرية و منهجها هو المدخل و الحافز لوعي كافة القضايا الوطنية و المطلبية الحياتية في مجتمعاتنا بكل أبعادها و تفاصيلها عبر ترابطها على الصعيد القومي العام ، فذلك هو الطريق الوحيد الذي يمكنها من التعبير عن مصالح شعوبنا و حقوقها من جهة ، و مصالح الفقراء المسحوقين و الكادحين الذين يشكلون الأغلبية الساحقة في بلادنا من جهة أخرى ، و في هذا السياق فإن امتلاك الوعي لا يمكن اعتباره قضية شخصية ، بل هو واجب على الاعضاء يفرضه عليهم التزامهم الطوعي بمبادئهم التقدمية الديمقراطية الإنسانية .
إن وعي أحزابنا بمجمل هذه القضايا النظرية و التنظيمية يتطلب البدء بعملية تغيير نوعي في طبيعة و أداء العلاقات الحزبية الداخلية الراهنة بكل عناوينها و مسمياتها ،بما يؤدي إلى التطبيق الخلاق بين النظرية و الممارسة ارتباطاً بوعي الواقع العربي من حولنا من ناحية ، و بما يجسد مفهومي الالتزام و الانتماء للحزب من ناحية ثانية ، و هذا يتطلب تنفيذ الخطوات التالية :
 
أولاً : الالتزام بوتائر و آليات العمل الحزبي :
إن الالتزام بتطبيق آليات العمل الحزبي ، ليس أمراً جديداً على أحزابنا و فصائلنا اليسارية العربية  ، بقدر ما هو دعوة إلى الارتقاء مجدداً للتصدي للمعضلة التنظيمية، و نقلها إلى المستوى الذي يؤمِّن لها شروط مغادرة دوائر الأزمة إلى دوائر النهوض ، عبر الإمساك بالحلقة التنظيمية التي تعتبر بحق ، الحلقة المركزية الأولى في عملية النهوض .
ثانيا : ترسيخ الوعي الأيديولوجي بالنظرية الماركسية اللينينية ، و القضايا التنظيمية و الوطنية و الاجتماعية المحلية و العربية ، و القضايا العالمية المعاصرة ، الاقتصادية و الفكرية و السياسية ، و صياغة البرامج التثقيفية لهذه الغاية .
و في هذا السياق فإن مهمة البرنامج التثقيفي ، التركيز على الترابط بين القضايا الوطنية و القومية في الصراع ضد العدو الامبريالي/الصهيوني ، و الوعي بالتركيب الطبقي في مجتمعاتنا و بقضايا التنمية و العدالة الاجتماعية و المشاركة الشعبية ، و مكافحة الأيديولوجيا البورجوازية و كافة مظاهر التخلف و التبعية الى جانب التربية العلمانية التي تقوم على النظرة العلمية الى العالم ، وفهم تطور العلاقات الدولية الراهنة ومتغيراتها ، تلك هي المهمات الأساسية التي يتوجب على احزاب وفصائل اليسار في بلادنا، التركيز عليها كغاية أساسية من غايات البرنامج التثقيفي على قاعدة أن النشاط الأيديولوجي في أي حزب من هذه الأحزاب لا يتم بمعزل عن المشاركة العملية للأعضاء في كل ما يتعلق بمهماتهم العملية ، النضالية و الوطنية و القومية  و الديمقراطية المطلبية و الاجتماعية بكل صورها .
 
و في كل الأحوال فإن الاهتمام بترسيخ الوعي الأيديولوجي داخل الحزب ، على أهميته الفائقة لكوادره و أعضاءه  ، إلا أن النجاح الحقيقي يكمن في قدرة هذه الأحزاب على توجيه هذا الوعي نحو ما يرغب و يفكر به الرأي العام العربي عموما ، وجماهيرها الشعبية على وجه الخصوص ، تعبيرا عن مصالحها وطموحاتها ، فالأيديولوجيا كما يقول ماركس "هي التي يستطيع الناس من خلالها أن يعوا حقيقة الصراع و أن يشتركوا في مباشرته" ، و هذه العملية لا يمكن أن تتم بدون دور الحزب كعقل وقائد جمعي ، وكمحرض رئيسي ، وبالتالي فإذا كفت أيديولوجيا ومواقف أي حزب  عن الاستجابة لطموحات الجماهير والإجابة على الأسئلة التي تشغلها ، فإن معنى ذلك أن هذه الاحزاب بدأت تفقد تأثيرها على الجماهير . وبناء على ذلك فإن جوهر التزام أحزابنا يكمن في ترسيخ الوعي الأيديولوجي والوطني و القومي والمجتمعي  ، في صفوفه ، بما يستهدف أن تتوفر لها في كل الظروف و المتغيرات ، القدرة  في الإجابة على أسئلة الجماهير و قيادتها نحو تحقيق أهدافها ، و بهذا المعنى تصبح –بالفعل- أمام رؤية متحركة تتخطى الحزب إلى عموم الشعب ، و دورها يتركز بالضبط في قدرتها على أداء وظيفتها كحامل حي لهذه الرؤية ، أما نجاحها فهو مرتبط بما تمثله هذه الرؤية المتكاملة من قوة جذب على المستوى الوطني و الديمقراطي المحلي من جهة و على المستوى القومي العربي و الإنساني من جهة أخرى عبر المشاركة الفعالة في أنشطة و فعاليات العمل الجماهيري بكل تفريعاته السياسية والاقتصادية والثقافية والمجتمعية .
 
ففي ظروف النضال الوطني والمجتمعي الذي تخوضه شعوبنا بمختلف قطاعاتها وشرائحها الطبقية ، تبرز الأهمية المحورية للعمل الجماهيري وضرورات المشاركة الواسعة في إطاره ، باعتباره أحد روافع النضال الأساسية ، التي لن يكون بمقدور أحزابنا أن تؤدي رسالتها التاريخية ، إلا إذا اعتمدت بجدارة على الجماهير الشعبية وجذبتها الى حركة نضالها من منطلق الأهداف والمهمات والشعارات التي تنسجم مع المصالح والحاجات الحيوية لهذه الجماهير .
 
إن تعزيز علاقات أحزاب وفصائل اليسار العربي بالجماهير ، لا يمكن الوصول إليه أتوماتيكيا عبر الاكتفاء بإصدار البيان والبقاء في المكاتب ، إذ أن الكلمة المحكية المسموعة مباشرة في آذان الجماهير تملك تأثيرا طاغيا أكبر بما لا يقاس من كلمات البيان على أهميته ودوره ، فالعلاقة المباشرة مع الجماهير في مواقعها ، عبر المشاركة في الأنشطة والفعاليات ، هي إحدى الوسائل الهامة لتواصلها مع الجماهير والتعبير عن قضاياهم ، خاصة وأنها تملك رصيدا من الاحترام والمصداقية ، لا بد لها من زيادته لكي نصل بأحزابنا ، و بحركتنا الإشتراكية العربية الموحدة ،  الى المستوى الجماهيري الذي نتطلع إليه ، تلك هي أهمية مشاركتنا المطلوبة بوعي وبصورة جادة وفعالة حاملين معنا مبادئنا وأفكارنا ومثالنا القدوة بين الجماهيـر.
 
في كل الأحوال فإن أية محاولة لاستنهاض أحزاب وفصائل اليسار العربي، ينبغي أن نبدأ بنقد تجربتها سواء على صعيد النظرية أو الوعي الأيديولوجي ، أو على صعيد ممارستها لدورها طوال المرحلة الماضية، خاصة وأننا نعيش اليوم ، أمام نتيجة مفزعة تتجلى في هذه الهوة المتزايدة الاتساع بين الجماهير من ناحية وأحزاب اليسار العربي من ناحية ثانية، وأحد الأسباب المباشرة في ذلك يعود –كما اشرنا- الى فشل هذه الأحزاب في تحويل قضاياها وبرامجها وأفكارها الى قضية عامة تتبناها الجماهير الفقيرة والمضطهدة وتتحرك من أجلها، وهنا تتبدى الحاجة الى إثارة وتفعيل عملية النقد الذاتي البناء ، الذي يستند الى الحاجة الموضوعية الضاغطة لتجديد وإعادة بناء قوى اليسار العربي عبر ممارستها لعملية التقييم والمراجعة المنهجية العلمية القاسية لكافة برامجها وسياساتها ورؤاها الأيديولوجية، وصولاً الى التطبيق الخلاق لهذه الأسس على ضوء المتطلبات والضرورات المستقبلية لواقعنا القومي العربي كوحدة مجتمعية واقتصادية وسياسية واحدة، بعد أن أصبح واضحاً أن إمكانية تحقيق برنامج النضال السياسي الوطني والديمقراطي في هذا القطر العربي أو ذاك ، هدفاً لا أساس له في ظل الحراك الاجتماعي الشاذ والمتغيرات الطبقية الداخلية في كل الاقطار العربية من ناحية ، وفي ظل انحياز ميزان القوى العالمي لصالح المشروع الأمريكي الإمبريالي المعولم من ناحية ثانية .
    أخيراً، وفي مواجهة هذا الواقع، فإن البديل الذي يمكن أن يوفر الأساس الموضوعي ، والقاعدة المادية لمجابهة التحالف الإمبريالي الصهيوني وأدواته وشرائحه الطبقية البيروقراطية- الكومبرادورية الحاكمة في بلادنا ، يتجلى في ضرورة وعي كافة القوى اليسارية العربية ، للعلاقة العضوية المترابطة والجدلية في آن معاً، بين مفهومي القومية والماركسية، تمهيداً لتوليد آليات المشروع القومي النهضوي العربي، وفق رؤية ديمقراطية تقدمية وإنسانية واضحة ومحددة ، تقوم على أن صراعنا ضد هذا التحالف، هو في جوهره صراع عربي- قومي في أساسه دون استبعاد خصوصية وحجم الدور الطليعي الكفاحي لهذه القوى في هذا القطر العربي أو ذاك، وفق موقعه أو تماسه مع مكامن الخطر الداخلي أو الخارجي في إطار الصراع العام وبرامجه وأهدافه وشعاراته التوحيدية على المستوى القومي العربي كله، بحيث يتوجب استناد هذه الأهداف الى تحليل ظاهرة استشراء العدوانية العنصرية الصهيونية التوسعية على مساحة الوطن العربي كله، وليس في فلسطين فحسب، باعتبار هذه الظاهرة هي الحلقة المركزية للإمبريالية المعولمة في بلادنا، بما يفرض على قوى اليسار العربي بصورة خاصة، وفي إطار حركة التحرر القومي العربي، سواء في نضالها وصراعها التناحري مع العدو الإسرائيلي من جهة أو في صراعها السياسي الديمقراطي المطلبي داخل أقطارها من ناحية ثانية، أن تنطلق من كون الصراع مع الحركة الصهيونية ، هو صراع ومجابهة بالضرورة للإمبريالية الأمريكية والنظام الرأسمالي المعولم برمته، وبالتالي لامناص أمام هذه القوى المعبره عن تطلعات الجماهير الشعبية ، من أن تمتلك برنامجاً سياسياً ومجتمعياً تستند الى الماركسية ومنهجيتها ومضامينها، كأيديولوجية نقيضة لأيديولوجية النظام الرأسمالي وممارساته ومصالحه وادواته الطبقية في بلادنا .
  وفي هذا السياق فإن رؤيتنا في تطبيق المفاهيم والمنهجية الماركسية من ناحية، واستحقاقها التنظيمي على المستوى العربي من ناحية ثانية، تتجاوز حالة التجزئة القطرية لأي بلد عربي- رغم إدراكنا لتجذرها-، كما تتجاوزها كوحدة تحليلية قائمة بذاتها، نحو رؤية اشتراكية ديمقراطية قومية أممية ، تدرجيه ، تنطلق من الضرورة التاريخية لوحدة الأمة- المجتمع العربي، وتتعاطى مع الإطار القومي ( رغم توافقنا على تخلفه وعجزه ) كوحدة تحليلية ومجتمعية واحدة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، مدركين أن الشرط الأول للوصول الى هذه الرؤية- الهدف، يكمن في توحد المفاهيم والأسس الفكرية والسياسية والآليات التنظيمية لأحزاب وفصائل وحركات وأفراد التيار اليساري العربي داخل الإطار القطري/ الوطني الخاص كخطوة أولية، تمهد للتوحد المعرفي والسياسي الذي يسبق التوحد الحزبي أو التنظيمي المطلوب تحققه كضرورة تاريخية عاجلة لمجابهة نظام العولمة وهيمنته واستقلاله لمقدراتنا.
 
  إن هذه الورقة، دعوة للحوار حول مختلف القضايا النظرية والقضايا السياسية والمجتمعية ، على قاعدة الترابط الجدلي الوثيق بين الرؤية القومية المعبره عن مصالح العمال والفلاحين وكافة الفقراء والكادحين في بلادنا من ناحية ، وبين الماركسية في حركتها وتجددها ارتباطاً بواقعنا المباشر من ناحية ثانية، مدركين أن هذا الحوار سيدفع- مع غيره من العوامل- الى إعادة إحياء الدور الطليعي لقوى اليسار العربي للخروج من أزمته الذاتية الخانقة ، صوب النهوض المطلوب والممكن، ذلك أن هذه القوى تتحمل وحدها مسئولية إنضاج الفكرة المركزية- بكثير من الهدوء والتدرج والعمق – الهادفة الى توفير العوامل المؤدية الى ولادة وإعلان الحزب الاشتراكي العربي أو حركة الاشتراكيين العرب، وفي الزمان والمكان المناسبين، رغم كل الصعوبات والتعقيدات التي تفرضها الهجمة العدوانية لنظام الرأسمالية، الإمبريالي / الصهيوني المعولم على بلادنا، ورغم ما يعتري هذه المرحلة من ادعاءات القوى الليبرالية الهابطة تجاه ضرورات الماركسية وراهنيتها اليوم وفي المستقبـل .
 


[1]  انظر، د.عبد الحميد بخش –النهج- العدد الأول- آب 1983- ص161.
[2] أ.محمود العالم-مجلة عالم الفكر-العددان الثالث والرابع-الكويت-يونيو 1998-ص219 .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن