نهاية بطل!

فتحي الضَّو
faldaw@hotmail.com

2010 / 11 / 7

نهاية بطل!

فتحي الضَّـو

faldaw@hotmail.com
كان يوم الثلاثاء الماضي يوم عُرسنا الديمقراطي. ذهبت وزوجي بصحبة بناتي وابنائي إلى مركز الاقتراع، لممارسة حقوقنا المشروعة التي كفلها لنا الدستور بحكم الجنسية الأمريكية المكتسبة، والتي نحملها جنباً إلى جنب مع جنسيتنا السودانية المتوارثة. وبهذه وتلك أصبحنا من زمرة ما اصطلح على تسميتهم بـ «السودانيين الأمريكيين» ولم يشترط علينا متنطع أن نتخلى عن هويتنا الأصلية. بل حتى وإن فعلنا فلن يخرج علينا مانع أثيم ليحرمنا حقوقاً إنسانية كـ «حقنة» التطبيب، بمثلما نطق أحد فرسان العصبة الحاكمة لبني جلدتنا. فقد قالها يومذاك وكأنه سيصرف عليهم من إرث والده. المهم إننا تهندمنا وتأنقنا كيوم زفافنا تماماً، وكنا قد قضينا الأيام الماضية نقرأ في برامج المرشحين حتى نختار القوي الأمين الذي يحقق طموحاتنا، لأنه لو لم يفعل لجاز لنا أن نحاسبه حساب منكر ونكير. نظرت إلى أُسرتي فإذا هم جميعاً سعداء كأن ليلة القدر هبطت عليهم على حين غرَّة. أما أنا فكنت جزلاً يمشي متبختراً فوق عهنٍ منفوشٍ. ولم لا، فتلك هي المرة الثانية في حياتي وأنا أمارس هذه المتعة الحضارية الراقية بالرغم من أنني تجاوزت منتصف العقد الخامس. وكانت المرة الأولى قبل عامين في ذات البلد الأمين. يوم أن منحنا صوتنا لرئيس لم يجىء بغتةً على ظهر دبابة لمجرد أنه رأى ذلك في منامه، كما أنه لم يبدأ خطواته بكذبة بلقاء ليكُتب عند شعبه كذاباً. بل حتى بعد أن انتخبناه ودخل البيت الأبيض لم ينسنا في اليوم الأسود، فقد دأب وطاقمه يمطرونني كما الملايين بسيل من الرسائل الإلكترونية.. يطلعونني فيها على كل خطوة، ويسألونني رأيي أنا العبد الفقير إلى ربه، في حين ظللت أتبرع به سنين عددا لآذان لا تسمع وقلوب لا تخشع. يُذكِّرونني دائماً أنهم في سدة السلطة من أجل خدمتي، ولم يقل أحد منهم إنه ظل الله في الأرض، أو ادّعى تفويضاً ربانياً وقال إنه الحاكم بأمر الله!
يا سلام على الديمقراطية حينما تكون طوع بنانك، فقد خيروننا بين التصويت الإلكتروني أو بالقلم، فاخترت الثاني حتى أسمع خشخشته على الورق كأجمل سيمفونية تُشنف أذني. ومنحنا أصواتنا جميعاً للمرشحين الديمقراطيين، ولم يكن انحيازنا للحزب الديمقراطي بغضاً في الحزب الجمهوري، ولكن حباً في الأول من فرط تعطشنا لتسميته. وبالرغم من أن عملية التصويت يفترض أن تأخذ بضع ثوانٍ، إلا أنني مطيت الثواني مطاً كأنني أعوض حرمان السنين. وعندما أُعلنت النتيجة صبيحة اليوم التالي لم أر مزوراً يفتري على الله كذباً بشعيرات تدلت من ذقنه وهو يخج صناديق الاقتراع خجاً. ولم نسمع أحداً يطعن في السجل الانتخابي ويدّعي أنه زوّر بليلٍ، كما لم يُذكّرنا آخر بأحابيل مفوضية الانتخابات وحواتها السحرة. جرى كل شيء بسلاسة ويسر كما الماء العذب النمير، لذلك تقبلنا النتيجة بروح طيبة. وتحدث رئيسنا (المنتخب ديمقراطياً) وعبّر عن سعادته رغم الخسارة، وقال بشجاعة نادرة إنه (يتحمل المسؤولية) وأكد أن الشعب الأمريكي لم يعد انتخاب نواب الحزب (لأنه محبط من أدائهم في الفترة الماضية) ثمّ وجه رسالة للجمهوريين وهنأهم بالفوز، ولم يذر على أسماعهم المثل التاريخي (بلوها واشربوا مويتها) كما لم يذكر لهم الحديث الشريف عن (لحس الكوع) بل قال لهم قولاً كريماً (يتعين على الديمقراطيين والجمهوريين إيجاد أرضية مشتركة حتى يمكنهما حل المشكلات التي تواجه البلاد) فشعرنا جميعاً إننا منتصرون رغم مرارة الخسارة!
مثلي مثل كل من تتناصفه هذه الهوية المزدوجة، ما أن فرغت من نصفي الثاني حتى عدت إلى نصفي الأول، حيث توجد الضبابية على عكس الشفافية التي غادرتها للتو. فوجدت عصبتنا تتحدث بعد أكثر من عقدين من الزمن عن إصلاح في الزراعة والصناعة والتعليم والصحة والخدمة المدنية. وهذا يعني – يا هداك الله - أن السنوات العشرين التي مضت (هي لله) ولعلك أدركت يا أيها الصابر على البلايا والرزايا مثلي، لمَ يمقت الإنسان الأنظمة الشمولية. فأنت لا تستطيع أن تحاسبها على موبقاتها، وهي تستغل هذه الخصيصة في استباحت أموال الدولة وهبر إمكانياتها، فتسخرها من أجل متعتها، فتكبر كروش منسوبيها وتضمر بطون الشعب، وتتسع ذممهم وتضيق روح الناس. وحتى نكون على بينة من أمرنا، وامتداداً لحديث المقال الماضي عن ما سموا بــ (الدستوريين) وهم كتائب الولاة والوزراء والمستشارون وجيش الأعضاء التشريعيين وهلمجرا.. سوف نرى في هذا المقال كيف أن الرفاهية التي سبحوا في بحورها كانت رقصاً على جسد وطن مثخن بالجراح!
بمثلما يفعل الجراد في حقل نضير، فلننظر للدمار الذي حاق بهذا البلد في القطاعات الإنتاجية منذ أن سطوا على السلطة بليل. وذلك من خلال مقتطفات صادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء في ابريل 2010 وجاءت كالتالي: انخفضت مساحة القطن المزروعة في العام 1990 من 702 ألف فدان إلى 215 ألف فدان عام 2008 أما الإنتاج فانخفض من 408 ألف طن متري عام 1990 إلى 107 ألف طن متري عام 2008 والصمغ العربي كان انتاجه عام 1990 حوالي 26 ألف طن متري ليصل في عام 2008 إلى 8 ألف طن متري. أما إنتاج السمسم والفول السوداني والذرة سنجد تذبذباً مدهشاً في معدل نمو إنتاج يعكس العشوائية الاقتصادية الماثلة، فمعدل انتاج السمسم كان في العام 1991 يساوي 42,9- (بالسالب) وقفز عام 2004 إلى 227,9 بالموجب وفجأة في العام 2005 انخفض بشكل حاد ليصل إلى 30,8- (بالسالب) واستمر في التذبذب إلى أن بلغ عام 2008 نحو 44,6 بالموجب. وقس على ذلك الفول السوداني والذرة، وما زالوا يتحدثون عن النفرة الخضراء والنهضة الزراعية واخواتهما (الجدير بالذكر أن الأستاذ يسن حسن بشير سبق واستخدم ذات الأرقام بتوسع في مقال له بهذه الصحيفة «الأحداث» 12/5/2010 ولا حياة لمن تنادي) على كلٍ هذا دمار لم يقدم على مثله سوى جيش هولاكو حينما اجتاح بغداد عاصمة الخلافة العباسية!
ولكي تكتمل صورة التدهور المريع في ذهنك عن هذا البلد الذي يُسمى سلة غذاء العالم، انظر قول وزير الزراعة عبد الحليم المتعافي لصحيفة الأحداث 4/9/2010 (السودان يستورد سنوياً حبوباً تبلغ قيمتها مليار وسبعمائة مليون دولار، وأن من جملة هذا المبلغ 600 مليون دولار تذهب لسد الفجوة في القمح) ثمّ تأمل ما كشفه المهندس عبد الجبار حسين عثمان الأمين العام للنهضة الزراعية في حديث للصحافة 31/8/2010 (شهد النصف الأول من العام الجاري 2010 ارتفاعاً كبيراً في فاتورة استيراد الأطعمة والأغذية من الخارج بلغت جملتها 2 مليار دولار، حيث استورد السودان في الفترة من الفترة من الأول من يناير وحتى يونيو الماضي قمحاً ودقيقاً بقيمة 700 مليون دولار، وسكراً بقيمة 500 مليون دولار وزيوت نباتية بقيمة 250 مليون دولار، والألبان ومشتقاتها 250 مليون دولار وخضر وفواكه 50 مليون دولار وأطعمة مختلفة 250 مليون دولار. وهي ذات الأرقام التي أكد عليها وزير المالية علي محمود للشرق الأوسط 16/10/2010 وزاد عليها بحاجيات للرفاهية فقال: (أجريت دراسة عن صادراتنا وواردتنا ووجدت إننا نستورد ما يساوي أكثر من تسعة مليارات دولار كل سنة، منها مليار للسيارات، وقرابة مليارين للقمح ومائة مليون دولار للزيوت وقرابة مائة مليون لأثاث، ومثلها لفواكه ولعب أطفال وسلع كمالية) كما أن القطر الذي يعد الأكبر عربياً وافريقياً في تصدير الثروة الحيوانية، قال د. فيصل حسن إبراهيم وزير الثروة الحيوانية والسمكية لصحيفة الخرطوم 18/8/2010 إن وزارته استوردت في النصف الأول من العام الجاري لحوماً بما قيمته 3,5 مليون دولار، وأسماكاً بمبلغ 4,5 مليون دولار، وألباناً بقيمة 60 مليون دولار! وأرجو ألا يثير هذا ولا ذاك حفيظتك، ويرفع ضغط الدم في بدنك!
وإذا تجاوزنا المادي إلى المعنوي، فانظر الدمار التربوي في قطاع التعليم وفق ماجاء في صحيفة الرأي العام 19/7/2010 (كشفت ورشة عمل نظمتها لجنة التربية والتعليم والبحث العلمي بالبرلمان بالتنسيق مع الصندوق القومي لرعاية الطلاب، عن وجود احصائيات وصفتها بالمخيفة عن تعاطي المخدرات في الجامعات، وتفشي ظواهر الانحلال الأخلاقي والزواج العرفي وتبادل الصور والأفلام الفاضحة وسط الطلاب) وقال بروفسير أحمد الطيب عميد جامعة السودان إن (هناك إحصائية مخيفة عن تعاطي المخدرات في الجامعات واضاف أسبوعيا نضبط في جامعة السودان ما بين 5 -7 متعاطين) ولكى تقف على حجم المستهلك من هذه السموم، فدونك ما ذكره اللواء شرطة دكتور حامد منان مدير الإدارة العامة لمكافحة المخدرات في سمنار عن تعاطي المخدرات وسط الطلاب قال (تمّ ضبط 19 طناً العام الحالي، يتناول منها طلاب المرحلة الثانوية ما نسبته 20%) وفي باب الدمار الأخلاقي لا يذهلنك قول مجدي عبد اللطيف مدير دار المايقوما لرعاية الأطفال لصحيفة الرأي العام 3/11/2010 عن تزايد عدد الأطفال مجهولي الأبوين كل عام، وقال إن اغسطس الماضي استقبلت الدار حوالي 81 طفلاً. ودونك تزايد حالات الطلاق الذي تعددت أسبابه!
بيد أن الدمار أعلاه كانت فاتورته المعلنة أكثر من 50 بليون دولار، وهي عبارة عن عائدات النفط منذ أن تمّ تصديره في العام 1999 وبالطبع هي أموال لو فرشت على أرض المليون ميل مربع لغطتها بلا ريب. ولابد أنك تتساءل مثلي يا قارئي الكريم عن ديون السودان التي وصلت خلال العقدين المنصرمين إلى أكثر من 35 مليار دولار. هذا قيض من فيض، بالرغم من أن حديث الأرقام يجلب الهم ويكدر النفس، ومع ذلك أنك لا تستطيع تغافل الفقر الذي استشرى بأرقام فلكية، ومن عجب أن السلطة الباطشة طربت لنسبة ذكرها صندوق النقد وقال إنها 46% في بلد ظلّ يُصدّر لنحو عشر سنوات أكثر من نصف مليون برميل يومياً. كما لا يمكن لراصد أن يتجاهل جيوش العطالى الذين حارت بهم السبل، دع عنك عشرات الآلاف من الذين دفنوا تحت التراب في الجبهات المفتوحة، وأعداداً مثلهم يعيشون في معسكرات الذل والهوان، واضعافهم مبعثرون في فجاج الأرض بحثاً عن الأمن، وآخرون توخوا الرزق الحلال فلاحقتهم تهم الارهاب حتى في المنام!
فيا أيها المتشبثون بالسلطة.. زرعتم الخوف والرعب مكان القمح والذرة، قطفتم الرؤوس عوضاً عن إشاعة الأمن، نثرتم الجثث بدلاً عن بث الطمأنينة، توضأتم بالدماء وتطهرتم برجس من عمل الشيطان، أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف. مددتم الظلم وحسرتم العدل، أحللتم الحرام وحرمتم الحلال، استطبتم الفساد وكرهتم النزاهة.. فبعد أكثر من عشرين عاماً في السلطة المطلقة أجيبونا بحق واحدٍ أحد.. هل تريدون أرضاً بلا شعب أم شعباً بلا أرض.. أم سلطة على أنقاض شعب وحطام وطن!!



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن