الرجل الخطأ- الحلقة الثانية

حوا بطواش
hawa_sagas@yahoo.com

2010 / 10 / 22


أسفرَت زيارتي الى المكتبة عن لقاء غير متوقع مع عامر، الذي جمعتني به علاقة حب جميلة خلال سنوات دراستي الجامعية. فاجأني بدعوتي على فنجان قهوة، وانا قبلت دعوته. لم أكن قد رأيته منذ خمس سنوات، منذ ان هجرته وتزوجت من فراس، الرجل الثري الذي لم أستطع يوما ان أحبّ فيه شيئا، وأدركت سريعا أن زواجي منه كان خطأً فادحا. ترددت كثيرا، ولم أعرف ماذا أفعل. كنت محبطة. حتى جاءتني الفرصة كي أتركه الى الأبد، اذ اكتشفت علاقة غرامية يقيمها مع امرأة أخرى. طالبت بالطلاق وعدت الى بيت أهلي.

"بمَ انت شاردة؟" أعادني صوت عامر الى الواقع. رأيته ينظر اليّ من الجانب الآخر من الطاولة، منتظرا الجواب.

ارتشفت من فنجاني وقلت له بعد لحظة صمت: "بهذه الدنيا."

ثم تأمّلت حولي وقلت: "لقد تغيّر كثيرا."

"ما الذي تغيّر؟" سأل.

"هذا المكان." أجبت.

تأمّل حوله قليلا وقال: "ربما." ثم أمعن النظر الى عينيّ وسأل بجدية بالغة: "لم تقولي لي, ما أخبارك؟"

لا أدري كيف شعرت وأنا أراه يشجّعني على الكلام. لقد بثّ في نفسي شعورا غريبا بالإرتياح، تماما كما كان في السابق، وكأننا لم نفترق يوما. فوجدت نفسي أفضي له ما في نفسي من ألم وندم بسبب زواجي، وأخبرته عن زوجي وعن حياتي التعيسة معه وعن خلافاتنا وعن اسباب عودتي الى هنا.

أنصت اليّ عامر دون تعليق. ثم قال بنبرة حزن: "أنا آسف."

"وأنا آسفة." قلت وأنا أكبت دمعة في عيني. ثم أضفت قائلة: "لا أدري كيف أخبرتك بكل هذا. فأنت آخر شخص في هذه الدنيا كان علي اخباره بذلك."

فقال نافيا: "على العكس. بل أنا أول شخص كان عليك اخباره."

"ولكنني ظلمتك كثيرا." قلت بأسى وانا أتذكر مدى الجرح الذي سبّبت له حين هجرته.

فوجدته يقول بلهجة الحزن والأسى: "الدنيا هي الظالمة يا صوفيا."

فاجأني قوله، وصدمتني شهامته. بقيت جالسة معه في ذلك المكان ولم نتحدّث عني أكثر. بل أخبرني هو عنه، وعما فعل خلال السنوات الخمس الماضية، وأنا أطريت له على مثابرته في الدراسة وتمسّكه بطموحاته وتمنّيت له الخير والسعادة.

ثم قمت من مكاني. "عليّ ان أذهب الآن." قلت. "علي ان أطعم ليلى."

"ليلى؟"

"ليلى ابنتي. تركتها مع أمي."

وحين استدرت للذهاب... فوجئت به. "صوفيا!" قال وهو يمسك ذراعي ليستوقفني.

نظرت اليه... مندهشة... ثم الى يده على ذراعي. سمعته يقول وفي صوته رجاء صادق: "دعيني أراك ثانيةً."

فكّرت طويلا... وأعطيته موعدا في الغد.

حين عدت الى البيت, كانت أمي في انتظاري، والى جانبها تلعب ليلى بألعابها. كان وجه أمي متجهّما... عابسا. نهضت من مكانها ووقفت قبالتي.

"أين كنت الى الآن؟" سألت بلهجة حادة.

أحسست بشيء غريب، وكأنني عدت لأكون بنتا صغيرة كما في أيام المدرسة او الجامعة. لم أكن قد سمعت هذا السؤال منذ زمن.

أجبتها بنبرة طبيعية: "كنت في المكتبة. ألم أخبرك بذلك قبل أن أخرج؟"

"كنت في المكتبة الى الآن؟" قالت بغير تصديق.

"التقيت هناك بصديقة قديمة فدعتني لشرب قهوة في الكافيتيريا." قلت وأنا أبذل جهدي لإخفاء كذبي.

انقبضت ملامح وجهها لسماع ذلك، وقالت وهي تنتفض من الغضب: "ذهبت معها الى الكافيتيريا وجلست تشربين القهوة؟!"

"نعم. وهل ثمة خطأ في ذلك؟" تعجّبت. ثم أضفت: "انا لم أخرج من البيت منذ أكثر من شهر!"

فقالت ممتعضة: "صوفيا! هل جننت؟! ألم تفكّري ماذا ستقول عنا الناس؟"

أخذتني الدهشة لسماع قولها. قلت لها: "ولكنني لم أفعل شيئا يستدعي كل هذا الغضب. وماذا لو جلست في الكافيتيريا وشربت القهوة مع صديقتي؟ ما العيب في ذلك؟"

"العيب أنك الآن لا معلقة ولا مطلقة! والناس لا ترحم. ونحن عائلة لها سمعتها ويجب ان نحافظ عليها."

واستمرّ النقاش بيننا على هذا المنوال... حتى أحسست أن لا جدوى من قول المزيد، فبقيت صامتة أستمع الى توبيخها... حتى سكت عنها الكلام... فتركتها دون تعليق.

حين كنت بمفردي، سرحت بفكري وكلمات أمي ترددت كثيرا في ذهني. أحسست أني لا أستطيع المكوث طويلا في بيتها. فبيتها لم يعُد كما كان قبل ان أتركه. لقد تغيّر كثيرا. وغرفتي التي كانت غرفتي... لم تعُد غرفتي. لم يعُد لي مكان في هذا البيت. وحتى ان بقيت، فلن يختلف حالي كثيرا عما كان عليه في بيت زوجي، وربما سيكون أكثر سوءًا. فبيت زوجي كان بيتي... مملكتي، ولم يكن أحد يسألني أين كنت. أما هذا البيت... فهو ليس لي. أحسّ فيه وكأنني ضيفة غير مرغوبة بها.

ثم انتقلت أفكاري الى عامر. عامر الذي أحببته كثيرا، وجرحته كثيرا. ترى، هل سامحني؟
تذكّرت ذلك اليوم الذي افترقنا فيه. كم كان بائسا... مجروحا... محبطا... مصعوقا. ترى، هل سامحني؟

"الدنيا هي الظالمة، يا صوفيا!" قال. ولكن، هل يعني ذلك أنه سامحني؟

آه، كم هي قاسية هذه الدنيا! لو ان أهلي وافقوا عليه... لما كنت اليوم في مثل حالي! ترى، هل يمكن تصحيح الخطأ الآن؟!

أفقت من أفكاري على صوت رنة هاتفي. أخذته من على المنضدة وأنا أستغرب من يكون المتّصل! كانت هذه فادية.

"أهلا، فادية."

"كيف حالك صوفيا؟" سألتني كما في كل مرة اتّصلت بي في الأسابيع الماضية، وكأنها كانت تتوقّع أن يتغيّر شيء بحالي... او ربما هذا ما كان تتمناه. ولكنني أجبتها كما في كل مرة بجواب لا يجيب على سؤالها: "الحمد لله. وكيف انت؟"

"مشتاقة اليك والى ليلى." ردت. ثم سألت بعد لحظة: "اتّصلت بك اليوم ولم تردي."

"حقا؟ ربما كان ذلك حين خرجت. لم أحمل هاتفي معي."

"خرجت؟!" استغربت. "الى أين؟"

ابتسمت بيني وبين نفسي وانا أتذكّر لقائي المفاجئ مع عامر, وترددت في داخلي. هل أخبرها؟

يتبع...



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن