الأزهارُ لنْ تموتَ, أبدَ الدهرِ

مديح الصادق
madih_sadiq@yahoo.com

2010 / 10 / 16

لا ترمِ المرأة ولو بزهرة , قالها بلا استثناء بحرف أو فعل أو اسم, ولم يسبقها بحصر أو تخصيص, ولم يغضب من قوله الرجال, سواء الذين استعبدتهم النساء جهرا, أم أولئك الذين يفتلون الشوارب في الصباح بعد ليل طويل من الدعابات, والحكمة تلك أدخلت البهجة في قلوب الحليمات من جنس حواء, في حين أشهرتها سيفا قاطعا, بلا حق مَنْ لا تُثمِر جنانُهُن سوى الأشواك والعلَّيق, وفي الأحوال جميعها تبقى المخلوقة التي من ضلع آدم خُلِقت نبعا غير ناضب يديم الحياة, وقطبا به يستقر مدار الكون؛ بل نجما تهتدي به عبر الدياجير قوافلُ العابرين, حصرا تلك التي سُقيت من ماء المكرمات

إذا عشقت حواء فحتما تعشق الجمال في الرجال, وللجمال وجوه تعددت قدر تعدد الأذواق, والألوان, والعطور, منهن من تهوى اللون والشكل, وأخرى يأسرها صوت شجي, أو موهبة بها تفرد فارس الأحلام, وهن كثيرات أولاء اللائي أحببن في الرجال اللاشيء, واهماتٍ بأنه الجمال, وهي معضلة كبرى ساعة يختفي القبح في رداء الجمال, كما يرتدي الشيطان جلباب الملاك, أو مثلما تلفع جاحد غريب الأطوار بالبياض, وأحكم العمامة مكملا هندامة بعصا زيتون أطول من قامته, بلحية أجاد رصف ذوائبها, وصوت رخيم يأسر الألباب, لا يطيل التأمل في وجوه النساء خشية أن يزلقه الشيطان, أو أن يُشاع عنه أنه مالح الطرف فتفسد بذلك حيلة أجاد حبكها مُذ زمن غير قريب

آخ, صرخت في حضنها ذات الاثني عشر ربيعا وهي ترصف لها شعرها, كالعادة, كل يوم, وحين يسرح المرء منا مستذكرا رحلة محطاتها عثرات, وشوطا من العمر لم تزل توجع ما مرت خلاله من غصات, فإنه قد يوجع نفسه, أو أقرب الناس إليه, و { غيداء } تلك - رغم صبرها وما عاهدت نفسها عليه من تحمل للأهوال - اعترفت مع نفسها أكثر من مرة أنها قد تفقد التوازن بين الفينة والأخرى, وابنتها التي بدأت تُنبئُ نبرة صوتها أنها على أبواب ولوج عالم غريب الملامح, تستجد فيه كل يوم أحاسيس ليست كما بالأمس, في عالم الليالي الحمراء, والسوداء, في بلد يعلمون أطفالهم - قبل طاعة الوالدين - رقما سهلا للبوليس كي يطلبوا النجدة في حال واجهتهم مضايقات من الأبوين, وهل يضايق الآباء أطفالهم ؟ اللهمَّ إلا حين يشتد خوفهم من أن صاعقة على وشك الانفلاق, فما يسمُّونه حرية في فعل كل ما يشتهي الفرد - وما أدراك ما أبواب الاشتهاء ؟ - لهو كارثة في منظور سيدة فاضلة تشربت في دمها مكارم أخلاق ورثتها من أبوين فاضلين, حرصا كل الحرص على أن تحظى وإخوانها الأربعة بما يستحقون من درجات الأدب والعلم, مع الشجاعة في حسم القرار وفق الحدود, وأسرة متدينة نهلت منها, ومما طالته بنفسها, أن لا خوف من الخالق طالما يصون ابن آدم يده واللسان عما نهى عنه, وما أقرته العباد

يتحدر دمعها وحولها قلوب تجلدت كالصخر من فرط ما أوغلت في أذى الضعفاء, والغربة التي ليست رغبة مسبقة للمرء لا تُنسيه الهموم مهما كانت مظاهر الحلاوة, أوتعددت وجوه الجمال؛ بل بالعكس قد تزيدها, كما تزيد جبالَ الثلج مواسمُ الشتاء, والطامعون في امرأة جميلة, رقيقة, غير خافٍ رقيها في السلوك والأخلاق؛ تباينت أهواؤهم بين قصد شريف على سنَّة الله, وبين نزوة لا تحمي الزهرة بعد شمَّة العطر, وأية سيدة مثلها لا بد أن تكون كحبة قمح في حلوق الرحوات, والزواج ستر, خصوصا للمُطلَّقات, وفي البلاد هذي - إن كنت من قوم { غيداء } - لابد أن ترتدي حزام الأمان ليل نهار فهي ملغومة, ملعونة, شوارعهم, والأزقة, والحانات

غيداء لم يشغل بالها خوف المُطلَّقات من أقاويل سوء أو إشاعات, بقدر خوفها على مُراهِقة تُطيل وقفتها, كل ساعة, أمام المرآة, تراقب ما يطرأ على جسمها الطري من تغيرات, والخوف هذا يبطن خوفا آخر؛ فالأعوام تدور دورتها, وتطوي الأعمار طيا, تقرِّب المسافات, وماذا سيحدث لو أن ابنتها بلغت المرفأ وعلى حصانه الأبيض أردفها ابنُ الحلال ؟ فمن يسامرها غير جدران الدار ؟ أم أن أخوة ترافقهم خيوط الفجر, لتعيدهم لعوائلهم عتمة الغروب, قادرون على ملء هذا الفراغ ؟ والوالدة المسكينة قد هذّ حيلها خريف العمر, وقد تعزف ابنتها عن الزواج - كما يحدث بكثرة هذا في بلاد الحريات - فيكون حالها كمن لم يرضَ بالجزَّة فصار مرغما على الرضا بكليهما, بالجزة والخروف
مسحت بلطف على شعر الصغيرة كي تخفف ما سببته لها حماوة الشسوار, انحنت لتمسح جبينها بالشفتين الرقيقتين { سودة عليّ } لم أكن قد قصدت, رائحة الكيك المحروق من الفرن مع الدخان, هرولت, فتحت الشبابيك, وأغلقت أبواب غرف النوم, على خدها ضربت, دمدمت بعبارات مبهمة, هو أمر طبيعي أن تجني مثلها حرقا للخبز أو الكيك, أو شياط الطعام, إن لم يكن دهسا تحت العجلات حين تأسر نفسك في شرنقة حبالها ما تراكم حولك من تالد الهموم

أهي ابنتها, وما تخشى منه على مستقبلها في عالم تحكمه الذئاب, وتستسلم لها طواعية النعاج ؟ أم أنه حنين خفي تحت الظلوع, تكابر خادعة نفسها لا تريد إخراجه للعالم أبعد من حدود التفكير ؟ فقد نعلن كرهنا المقيت لمن كنا نحب, وقد نؤذيه ما قدر الله لنا من سبل الإيذاء؛ لكننا نعجز عن قتل بذرة حب زرعناها سوية, في يوم طيب من أيام الصفاء, عجبي منك أيها الإنسان! أنت كالصبَّار, قشرُه أشواك, ولبُّه دواء, والنار مهما استعرت في الحقل فهي لا تحرق سوى الهشيم, قد نضغط الجرح البليغ بقبضة شديدة؛ ولا نفلح في كبت آه تكسرت بين الضلوع

بحركتها اللولبية السريعة تمكنت من إنقاذ جزء مما تعرض للحرق من الكيك, ابتسامة شفيفة علت محياها؛ لعلها نجحت في تصحيح موقفها أمام أولئك الذين أعدته لهم, بجانب بعض أصناف شهية من الطعام العراقي اللذيذ, شهي هو مثل طيبتهم, مثل ما يحملون من أنبل الخصال, والعلم, وحب للناس وللحياة, من كفَّيها الكريمتين ذاقوا الأطايب حتى زادوا طالبين المزيد, وطيبة النفس قد تغلب على طيبة الطعام

ُأحقا أن ما ألمَّ اليوم بها هو الحنين لماضٍ طوته كما تُطوى الذكريات المُرَّةُ, السودُ, وهل يستأهل مثل ذلك الماضي التعيس أن يُحنَّ إليه, وقد أثقل وطأته عليها إحساسها الدائم بذنب جنته على نفسها حين أخطات في الاختيار, مَن منا لا يحلم ؟ مَن منا لا تداعب يقظته الأمنيات ؟ وقد تتخطى أحلامنا المعقول واللا معقول, ألف ليلة وليلة , وواق واق, والمأساة أننا نصدقها, تلك الأحلام, ولا نفيق منها حتى تشج هاماتنا حوائط الملموس, والأدهى أن نتوهم الصدق فيمن بينهم وبينه خصام أبدي, وهي ليست جريمة هذا وذاك؛ لكنها لعبة لا رابح فيها, فالأول والثاني كلاهما خسران

رابحة أنا, ومعي راجحة كفة الميزان؛ فقد رافقتني ابنتي منذ انفصالي عنه, وجعلت من جفوني رداء يقيها من الشرور, وبين أضلعي افترشت لها مرابع الحب والحنان الأمومي, وخيرة الرجال رفضتُ عروضَهم للزواج, هذا إن كان لا تزال بقية من الأخيار على الأرض, ثعلب ماكر تقلَّد فروة الحمل, بصوته العذب الرقيق يغني التراتيل, والدعاء, تلاميذه في دار العبادة ينصتون خاشعين,مأسورين بكائن ليس ككل الناس, نصح وإرشاد, ونهي عن المنكر, إياكم والرذيلة فهي من رجس الشياطين, والمرأة من طينة آدم خلقت فأكرموها بما تستحق من حب وتقدير, شريكة الدنيا هي, وفي يوم الدين, لاتكذبوا, لا تزنوا, ولا تخونوا الأمانات, ولا ..., ولا ..., وما أكثر اللاءات في خطب له تقشعر لها الأبدان, وتتهاوى قلاع الجبارين, وتستسلم عاصيات النفوس؛ واستسلمتْ لسحره { غيداء } وصمَّت السمع عما حذرتها منه أمٌّ حريصة, خبيرة بالحياة, أو صديقات خبرن الشِعاب لقد تخيلتْ فيه سلوى تعوض لها فراغا بفقدان والد عطوف حنون؛ فلم تصدق ما قالته عنه الصديقات خشية أن تلقفه واحدة منهن إن هي تخلت عنه, ومن ذا الذي يعيب على رجل الدين وهو يشبه الملاك, في خلقته, والأخلاق ؟ فهو إذن مُبرَّأ من أي ذنب, وهاهو الحلم اللذيذ قد قطفت ثماره ملء اليدين, فكيف بها أن تفرط بكنز قبضت عليه, فأحكمتْ القبض ؟

وليتها لم تقبض عليه, ليته حلما لذيذا كان, يمر كما تمر بها كل ليلة كوابيس وأضغاث أحلام, في ليلة العرس كشَّر عن أنياب ذئب تعطَّش مسعورا للتمثيل بصيد طال صبره عليه, تجملّت كما تتجمل العرائس للزفاف, وارتدت أحلى الثياب, مما يؤدي الغرض المطلوب في الليلة تلك, وعطرا يذيب القلوب, وانتظرت طويلا كي يقول ما يجب أن يقوله مثله في الليلة تلك؛ بلا جدوى أدارت ظهرها, ولم يغمض جفنها حتى الصباح, وبعد شهر, وشهرين, أسعفتها معجزة المنشطات؛ فكان الله في العون, لكنه لم يُخفِ في سلوكه وإياها عقدة الشعور بالنقص, وصارت حياتها جزءا مما كان ينهى عنه من المحرَّمات, وكل يوم يمر يحجب الماء, والنور عن زهرة يانعة راهنت على أن الحياة بصحبته جنة من الجنان, وبعد البحث عن كتب كان يقرؤها لم تعثر إلا على صحائف فارغة بلا حروف أو سطور, فخافت على سطورها من الضياع, وفتشت في طيات جُبَّته فانصدمت بالبقع السوداء قد لوثت أبيض الرداء, وحين اشتهت تقبيله فاحت من جوفه كريهة تقطِّع الأمعاء, ويوم احتمت بها لم تكن سوى رقطاء, ولم تكن آيةً عصا الزيتون, فغادرته وتحت ردائها كنز عظيم

باص المدرسة خارج الدار يطلق البوق, في بلد عليك لزاما أن تقدره حق قدره, الوقت, وقد فات الموعد, والصغار بالانتظار, أكفٌّ كأجنحة العصافير الغضة طرقت برفق على الباب : عيد الأم هو اليوم, ونحن بانتظارك { يامس } أحضرنا الهدايا, والطعام, والألعاب, فأين منا أنتِ ؟. بسرعة البرق لملمَتْ الحاجيات, نظرة سريعة إلى قوامها الرشيق بالمرآة, ألقت في القمامة ما تبقى من كيك محروق, باقة زهر جميلة, من حديقة الدار, وإسطوانة شجية, لها طربتْ مجاميع اللواتي طلَّقنَ الرجالَ, أم الرجالُ هم المُطَلِّقون, فازدهرتْ مملكة المُطلَّقات, في الحي, وفي كل الأحياء



October - 2010



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن