تلميع وجه الرأسمالية بعرق العمال

منال نصر الله
manalnasrullah@yahoo.co.uk

2010 / 10 / 15

اطلع العالم كله تقريبا على أوضاع ال 33 عاملا الذين انحبسوا في نفق تحت غياهب مناجم النحاس، ولمدة قياسية يمكن مقارنتها بمدة بقاء اهل الكهف في ظلمات كهفهم نائمين ، وبمسافة في قعر الارض قياسية ايضا اذا ما قورنت بمواصفات كهفهم . فأنها حالة مأساوية دراماتيكية لم يمنحنا التاريخ المعروف حالة مثلها ، الا اذا كان يحدث ونجهله اثر التعتيم هنا اوهناك،و في مثل هذه الحالات اذا ما قرأناها بلغة نظرية المؤامرة.

الآن وقد حدث ما حدث في شيلي، لابد ان يعترف كل انسان انها كانت قصة غير عادية وذات طابع انساني، وتعتبر معجزة في زمن قد ولى فيه حدوث المعجزات.وانا شخصيا لم استطع ان امنع دمعي في كل مرة يخرج عامل فيها الى سطح الارض ليستقبله احد المقربين بحرارة وشوق .وخاصة انني كعراقية اعرف كيف يكون شوق الانتظار محرقا للقلوب ، وما اظن ان "صداما" قد استثنى عائلة من الشعب العراقي لم يُذقه مرارة انتظار احد افرادها سواء في حروبه او في اعماق سجونه أوالقبور الجماعية وغيرها كثير من اساليب القمع والتغييب.

كانت التغطية الاعلامية للدراما الانسانية شاملة ودقيقة ، خاصة ان هناك محطات مثل سي ان ان التي كنت من خلالها اتابع اخر التطورات ،اذ قد بثت هذه القناة التلفزيونية كغيرها من القنوات ك بي بي سي واي بي سي وسواها الخبر منذ بداية حدثه على مدار الساعة ،وقد كان هناك 1000 صحفي خيموا في مكان الحدث منذ اليوم الاول وهم يغطون الحدث بادق تفاصيله خاصة بعد 17يوم من الانهيار في النفق الرئيسي للمنجم وهذه المدة التي تم بعدها اثبات وجود المحاصرين في عمق 622 متر في احد الانفاق العرضية بعد انهيار النفق الطولي المؤدي اليهم.


لا اود ان يقال عني انني متشائمة وارى النصف الفارغ من الكأس ، لكن هناك دلالات كثيرة تشير ان هذا السيرك الاعلامي المبهرج ما كان الا لاستعادة ماء وجه النظام الرأسمالي في هذه الدولة ، خاصة ان العمال قد كتبوا ضمن رسالتهم التي بعثوها خلال المسبار الى السطح (انهم على قيد الحياة وانهم متحدون)، اذ اكدت احدى الزوجات في البداية انها متأكدة بان زوجها على قيد الحياة، وبعد ان علم العمال الاخرون وتم اثبات وجودهم، سألتها الصحافة كيف علمت بان زوجك مازال حيا، فكانت اجابتها انها الاحساس،المهم، كان لزاما على الحكومة ان تتصرف وبسرعة لاسباب اهمها واكثرها وضوحا لوجودها فوق السطح ويمكن لاي فرد ان يستشعرها .

النقطة الاولى هي ان شيلي اول دولة منتجة للنحاس في العالم ، ما يدعوللتساؤل ماذا سيكون وضع الحكومة وبرنامجها الاقتصادي لو اعلن العمال الاخرين الموجودين على السطح الاضراب عن العمل في حال تقاعسها او في حال ناقشت الامر بشكل سلبي ليس لصالح المحاصرين، وهنا نعلم ان كلمة" المتحدون" في رسالتهم تعني معاني كثيرة.وخاصة اذا عرفنا ان هناك عمليات مماثلة من الاضرابات قد حصلت مرات عديدة. وكانت هناك نقطة يمكن لاي شخص ان ينتبه لها وهي ان الجميع الموجودين قد ارتدوا خوذا خاصة بعمال المناجم ،وحتى العمال المحاصرين كانوا مصرين على ابقاء خوذهم طالما كانوا على الشاشة، واجروا مقابلة مع والد احد الرجال المحاصرين وقال انني نبهت ابني كي لا يعمل في هذا المجال الخطر فكان جواب ولدي انه هناك عمل يجب ان ينفذ بوجودي او بعدمه. وكانت ساحة انتظار العوائل كساحة المهرجان، وحتى المهرجين كانوا موجودين للترفيه عن الاطفال.ولم يفسد صفوالانتظار الا بعض حالات الزعل بين افراد بعض العوائل عن اختيار من سيجني اموال شركات الاعلان والتصريحات لبعض الوكالات الاخبارية .والمتابع رأى شركة اديداس كيف اختارت الابنة الاجمل والاصغر سنا لترتدي جاكيتة عليها علامتها وقدمت الكرة المختومة بعلامتها لوالدها الخمسيني الذي كان لاعبا في شبابه فركلها برجليه بعيدا ليحضن الرئيس ووزير المناجم والاصدقاء فطلب الرئيس الشيلي الكرة ليسلمها مرة اخرى للرجل، فتلقفها ووضعها على صدره ،وهو مستلقي على السدية.
ان هذا الهوس الاعلامي لم يأتي من فراغ ، اذ أن هذا المضمار يحتاج الى دماء جديدة ورجال أقوياء البنية واذكياء، ويمكن الرهان الان على ان هناك كثير من الشباب يودون لو كانوا معهم ليحصلوا على هذه الشهرة والمعاملة الحكومية لهم كابطال.

ويجدر هنا ان نذكر ان اقتصاد شيلي يخضع لتقلبات الاسعار العالمية ،لعدم تنوع مصادره، وهي تعتمد بالدرجة الاولى على عنصر النحاس فهي اول دولة منتجة له، ثم الصيد البحري ، اما شركات خمر الكروم فهي في تنامي بطيء ،واخيرا وليس اخرا استخراج الذهب ، ولديهم السياحة مزدهرة نوعا ما. والشيليون يعيشون حالة تقشف بعد الازمة الاقتصادية التي عصفت بأمريكا وبعض الدول لاقتصادية الضعيفة. وحينما اعلنت الحكومة مد يد العون الى عوائل المحاصرين عن
استحقاقتهم من اموال التعويضات ظهرت اكثر من امرأة لتدعي بوجود علاقة ما بينها وبين الرجال المحاصرين للصحافة، سُجلت ست حالات ادعت فيها النساء انهن زوجات او عشيقات للحصول على المعونة واعدادهن كان تصل الى ستة لرجل واحد.


النقطة الثانية والاهم كانت هي تفويت أي فرصة على الاحزاب اليسارية لاستغلال اي دور غير مسؤول للحكومة اتجاه الشعب عموما والعمال خصوصا، علما ان الانتخابات التي اوصلت الرئيس الحالي سباستيان بينيرا الى الحكم ، كانت متقاربة النتائج تقريبا اذ حصل اليساري ادواردو فري نسبة 42% بينما حصل اليميني ورجل الاعمال سباستيان 52% حيث ان هذه النتيجة ارتفعت لصالح اليسار عن انتخابات الفترة الاولى لسباستيان حيث كانت النتيجة 49 % مقابل 32% لمنافسه اليساري ..اي كان هناك تصاعد في رغبة الشيليين للعودة باتجاه اليسار.

ويعرف المهتمون بالشأن الشيلي وخصوصا حركة اليسار في امريكا اللاتينية، ان الشيليين قد انتخبوا الاشتراكي الديمقراطي سلفادور ألليندي سنة 1970 واستطاع ان يجمع حوله الفقراء والطبقة العاملة وحتى رجال الكنيسة الكاثوليكية تعاونوا معه في ثورته ضد الفساد المالي والسياسي وقته. ولم يرق حينذاك هذا الوضع لامريكا ، اي ان تكون معظم حكومات امريكا اللاتينية يسارية، فاستثمرت بعض المشاكل التي واجهت خطته الاقتصادية في 18 شهر الاخيرة من حكمه، والتي اثبتت نجاحها في المدى البعيد وساهمت في ارتفاع النمو الاقتصادي للشيلي. وهكذا قام القائد العسكري بينوشيه سنة 1973 بانقلابه غير الاخلاقي ،وقتل سلفادور ألليندي ليستحوذ على الحكم عنوة وكان اهم شعاراته هو (ان يجعل من شيلي امة من رجال الاعمال وليس من البروليتاريين. كان بينوشيه دكتاتورا بمعنى الكلمة وسارقا لاموال الشعب وتبنى سياسة اقتصادية اضرت بذوي الدخل المتدني ( اي جعل الفقير افقر والغني اغنى) وكانت جميع اطروحاته تخدم الرأسمالية شأنه شأن اي خادم للرأسمالية انتهى بفضائح ومحاكمات والاتهام بالخرف.

وبين سقوط حكومة بينوشيه1990 والى استلام سباستيان بينيرا للحكم تداول الحكم الوسط واليسار، وسموا هذه الفترة بالعودة الى الديمقراطية.

عموما،هناك نقاط كثيرة لكن على رأسها عدم افساح المجال لعودة اليساريين للحكم في هذه الدولة ، وهذا ما نلاحظه في معظم الانتخابات التي جرت في اوربا حيث صعود اليمين المتطرف والوسط الى سدة الحكم وكذلك الحال في العالم العربي وحتى روسيا التي كانت مركزا للحركةالشيوعية شئ انما يدل على ان هناك يد خفية تدعم اليمين لخدمة الرأسمالية واهدافها.

وكانت اجراءات الحكومة الحالية انسانية فعلا وبحجم وقوع الحدث نفسه ، اذ انها هرعت لامريكا للحصول على المساعدات بدءا بالمسح الجيولوجي وعملية الحفر التي اشرف عليها ضابط امريكي والى الخدمات الطبية التي قدمتها وكالة ناسا الفضائية الامريكية. ولا ننسى انهم تلقوا التعليمات بكيفية التعامل مع الاعلام ايضا حال وجودهم في غيهب المنجم وبعد الظهور، وكيفية التعامل مع شركات الاعلانات كونهم اصبحوا مشاهير .

وهكذا سوف يبدا احد من العمال بجولة غنائية واخر يكتب ذكرياته والجميع يصبح اغنياء وينسى قصة الجشع التي تؤدي الى هذه الكوارث الى جانب كارثة الفقر والمرض والجهل … الخ فلا تمر سنة والا نسمع فيها عن حوادث انهيارات المناجم هنا وهناك وعساها اخر الاحداث.لنفرح مع عوائلهم ونتمنى ان تتغلب قوى الخير على قوى الشر ومحورها، ولا داعي للتسمية بعد ما سبق من شرح.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن