الأمكنة الكمائنُ 4: مَأوى آموجنيْ

دلور ميقري

2010 / 10 / 9

غروبُ عقل شقيقي، الكبير، شاءَ أن يَتوافقَ مع حال آخر، مُماثل.
إنها " آموجنيْ " ( أيْ: امرأة العمّ )؛ ذات المَقام المُستطير في العائلة. لقد أضحَتْ على حال لا يَسرّ، ما أن أقتربَ سنّها من مُنتصف الحلقة السابعة: استهلّتْ مُذ ذاك الحين، وحتى وفاتها بعد خمسة أعوام، جولاتٍ دائبَةٍ على منازل الأقارب والمَشفوعة بلغو لا طائل من ورائه؛ اللهمّ إلا تأكيد خرَف صاحِبَتِهِ. رَجُلها، الذي توفيَ عندما كنتُ بعدُ طفلاً غريراً، كان له الترتيب الثاني، في السنّ، بينَ أولاد " الحاج حسن "؛ الجدّ الوَجيه.
الترتيب الأوّل، كانَ للعمّ الأكبر سناً؛ " موسى بك " ـ كما عرَّفته سيرَة ُ " قدري جميل باشا "، في إشارَة لمُساهمته خلال ثلاثينات القرن الماضي في النشاطات اللغويّة للعلامَة البارز، الأمير " جلادت بدرخان ". هذا الأمير، كانَ بدَوره يُنادي عمّنا تحبّباً بلقب " سِمْبيل سُوْر " ( أيْ: ذو الشارب الأحمر )، حينما كانَ يلتقي معه غالباً لدى المَلاّك المَشهور " حسين بك الإيبش ". وكانَ العمّ وكيلاً للملاك في إقطاع هذا، الشاسع؛ الذي كانَ مَركزه ثمة، في قريَة " البيطاريّة " في برّ الشام.
" إذا كانَ جدّكَ زعيمَ الحيّ، فإنّ والدي كانَ زعيمَ سبعة بلدان "، هكذا كانت تردّدُ دائماً ابنة عمّنا الأكبر مُمازحة ً زوجَها، " الأستاذ حسين "، وعلى مَسْمَع من حَماتها اللدودة. " آموجني "، من جهتها، كانت أيضاً تكنّ كُرْهاً لا يُوصَف لكنتها تلك. الخصامُ، المُحتدَم بينهما يومياً، كانَ يُوقفهُ أحياناً تدخلٌ، غاضبُ العبارات، من لدُن والدُنا. على مَرأى من أعيننا، نحنُ الصغار، وَصَلَ الحنقُ مرّة بعمّنا، الحاج، أن صَفَعَ ابنة أخيه بقسوَة، بعدما تعنتتْ في مشادةٍ مع الحَماة ، مُعتادَة. في ذلك اليوم، كنتُ سأكونُ جدّ سعيدٍ، لو أنّ الصفعة كانت من نصيب المرأة الأخرى، الضاريَة.
أطفالاً كنا، إذاً، حينما دأبَتْ " آموجني " على الكيْد لنا. شغفنا بالشاشة الصغيرة، كانَ يُجبرنا على تحمّل الإهانات؛ طالما أنّ جهاز التلفاز، العائد لمُلك أبن عمّنا الأستاذ، مَضروبٌ عليه حصارُ أمّه الحَقود. عشراتُ المَرات، يَومياً، كنا نطرَدُ كالكلاب الشاردَة من قدّام باب منزلهم. من ناحيتي، كانَ يَبلغ فيّ التأثرُ حدّ ذرف الدموع، عندما كانَ صوتُ التلفاز يَتناهى إلى أذنيّ خلل نافذة حجرَة امرأة العمّ، المُطلّة على الزقاق.

مَأوى " آموجنيْ " ذاك، كانَ مَبذولاً حَسْب لأحبار السّوء؛ من آل جدّها " سِنجُوْ مُوْسو ".
هذا السلوكُ، كانَ جارياً كذلكَ في حياة العمّ: كانَ يَبذلُ الولائمَ، فطوراً أو غداءً أو عشاءً، لأقارب زوجته أولئك. عندئذ، كانَ هوَ بأحسَن مزاج طالما أنّ ستّ الحسن راضيَة ً. وتقسِمُ والدتنا، أنّ حَماتها لم تدعَ مرّة واحدة قط، على سٍماط كرَم الابن ذاك. بل وبلغَ من لؤم امرأته، أنها رَفضتْ يوماً حتى مُجرّد إيواء الحماة، العجوز المَريضة، لحين انتهاء أمّنا من حضور عُرس إحدى قريباتها. ولكنّ عمّنا، كانَ مُتفان في مُنى امرأته ـ كما يُمكن للمَرء المُلاحظة من وقائع عدّة، عائدَة لذاك الزمن السّعيد.
العمّ، كانَ قبلاً مُقترناً بامرأة ذات حُسْن وحَسَب ونسَب. إلا أنه طلاقه جدّ سريعاً وعلى غرّة، بعدما عشقَ بوَله ابنة " سنجو موسو "؛ التي كانت آنذاك ـ وبحَسَب الأمّ دائماًـ مُفتقدَة ً تلك الصّفات، المُقترَنة بالزوجَة الأولى. امرأته الجديدة، على أيّ حال، كانت بَدورها متزوّجة. رَجلها، كانَ ابن عمّها أيضاً. عاشت معه قرابة خمس سنين، دونما أمل في ذريّة. بعيدَ طلاقها منه، تزوّجَ هوَ بامرأة من " بَرْزة " وعاش معها عُمْراً مديداً بلا أولاد. كان الرّجلُ، الذي أذكرُهُ عجوزاً أشيبَ شعر الرأس، يُقيم في الزقاق؛ في الدّخلة، المَنعوتة باسم خال أمّنا. وكانَ يَمْحِضُنا، نحنُ " أولاد حاج حسين "، كراهيَة ً سوداء لم تكُ مَفهومة وقتذاك لمَداركنا الغضة؛ كراهيَة، مُريّشة النبال غالباً من جُعبتيْ عينيْه، المُظلمَتيْن.
زوجُ " آموجني "، الجديد، كانَ إلى ذلكَ غنياً بالمال والعقار والأراضي الزراعيّة. كانَ يَملكُ، فوقَ ذلك، عدّة " عبّارات " لحياكة السّجاد، الثمين، ونسج حَرير الأقمشة، الزاهيَة، المَنذورَة لأسواق الشمال السوري والعراقي؛ لنساء وجهاء الكرد، خصوصاً. إحدى عبّارات العمّ، كانَ مَكانها في الزقاق؛ في فسحَة رَحِبَة من منزل آل " علكيْ "، المُنتمين لعشيرة ستّ الحُسْن. من هذه المرأة، أنجبَ عمّنا عدّة بنين وبنات، كانَ قد ماتَ أغلبهم صغاراً، الواحد بأثر الآخر. لم يَبقَ منهم، إذاً، سوى أبنٌ وابنة. هذه الأخيرَة، كانت في صغرها سمراءَ ذات جاذبيّة وخفة ظلّ. في أحد الأيام تلك، المُزدهرَة، تناوَلتْ هيَ من يَد أبيها كيساً صغيراً، قالَ أنه يَحتوي على هديّة مُتواضعة لأمّها. حينما أخرَجتْ الغرضَ، وَجَدَتْ أنه حذاءٌ منزلي ( شبشب )، مُطرّزٌ بالحرير. حينما أبدَتْ الصغيرَة إعجابها بالحذاء، فإنّ والدها تأمّله هنيهة ثمّ راحَ يهزّ رأسه: " يجب أن يكونَ هذا من الذهب، لا من الحرير، لكي يَفتخرَ بقدَمَيْ أمّكِ "، قالها بوَله يَمِتّ للأيام القديمَة.

مَنزلُ العمّ، والحالة تلك، كانَ مُحرّماً على أبناء أخوته.
بالمُقابل، فإنّ لدّاتنا من أولاد أبن عمّ " آموجني "، كانوا ضيوفا يوميين ثمّة؛ مُكرّمين دائماً بالحَلوى والسّكاكر، وأقلّه بالترحيب والكلمات الطيّبة، المُطنبَة. إنهم أبناءُ " فيّو "، زوجُ شقيقتها، الوَحيدَة، والتي تصغرُها عُمْراً. هذه، وَجَدَت نفسها امرأة عقيماً، إثرَ ولادة ابنتها الوَحيدَة، المُتخلفة عقليا. وهيَ بنفسها من بادرتْ بكلّ أريحيّة إلى جَلب عروس لزوجها، لكي تسعِدُهُ بزينة الحياة. الذريّة، السّعيدَة، توالتْ من المرأة تلك الجَلِدَة، الوَلود؛ المُنحدرَة من ريف الشام.
غاضة الطرْفَ عن الآيَة، الكريمَة، التي تؤكّد أنّ الله لا يَزرُ هذه بوزر تلك؛ فإنّ والدتنا كانت تحيلُ إعاقة َ ابنة أخت " آموجني " إلى غضبِ الربّ: أمّها، كانت مُعتادَة على اعتراض فتاة مَنغوليّة، مُتشرّدة في الحارَة بلا أهل ولا مأوى. أحياناً، كانت امرأة عمّنا تشاركُ شقيقتها في إيذاء البنت المُعاقة، عبْرَ قذفها بالماء أو البصاق: " عندما رُزقتْ امرأة " فيو " بابنة مُشوّهة، أدرَكتْ هيَ أنّ الله أرادَ تذكيرها، دوماً، بما كانت تقترفه بحقّ البنت تلك، المسكينة "، قالتها الأمّ مُختتمَة الحكايَة.
من حُسْن فأل ابنة " فيو "، أنها وُلِدَتْ في زمَن آخر، أكثر رَحمَة. قبلاً، كانَ عُرْفٌ قديمٌ، ظالمٌ، يُبيح للأهل قتلَ الطفل، الوَليد، إذا ما ظهرَتْ عليه علاماتٌ تنبي بمَغوليّته. " محمّد عبو "، المُحتبي تلك العلامات، كانَ قد نجيَ من مَصير أقرانه، المَوْسومين. هذا الرّجلُ، كانَ مُشتهراً في طفولتنا بسَعيهِ، المَشكور، خلف الجنازات. في يوم ولادته، كانَ إذاً بينَ يَدَيّ القابلة، " بهيجة "، عندما توجّه إليها أحدُ والدَيْه بالقول: " عليكِ بقصف رَقبته، في الحال.. ". القابلة، هيَ شقيقة الزعيم " بكداش "، الوَحيدَة؛ ولقد رفضَتْ يومئذ قتلَ الصبيّ، الوَليد. مُذ ذاك الحين، على الأرجح، يؤرّخ بَطلانُ تلكَ العادَة الشنيعة، الإجراميّة.

" سارَة "؛ جَدّتنا لوالدنا، كانت أيضاً تعمَلُ قابلة، ثمّة في القسم الشرقيّ من الحيّ.
وربما أنّ نوعاً من القدسيّة، كانَ يُحوّط المهنة تلك؛ ما دام الجدّ الصارم، وزعيم الحيّ في زمنه، كانَ موافقا على عمل امرأته. لقد كانَ مُحالاً، في ذلك الزمن، مُجرّدُ التفكير بخروج الإناث من المنزل؛ أكنّ عازبات أم مُتزوجات. بيْدَ أنّ كرد المدينة، كانوا ولا غرو أكثر انفتاحاً وتسامحاً من مواطنيهم، الآخرين. هذا بالرغم من أنّ حقيقة، أنّ بعضهم كان يُغالي في تعصبّه بدافع التباهي لا بشعور من الإيمان، الدينيّ. على ذلك، نفهمُ تلكَ الواقعة، الطريفة، التي كانَ العمّ، الحاج، هوَ بطلها: من على ظهر الحصان، المُطهّم، أطلقَ النار باتجاه امرأته، لحظة خروجها من منزل أحد الأقارب في الطريق لمنزلهما. كانَ قبل ذلكَ قد شدّدَ عليها أمَرَه، بعدَم الخروج لأيّ مكان ولأيّ سبب كان. إلا أنها نجيَتْ، على كلّ حال.
آنذاك، لم يكُ العمّ تائباً إلى ربّ الكعبَة. كانَ مَعروفا في سهرات الرّاح والغواني، فضلاً عن إجادته للرقص خلال الأعراس والحفلات الأخرى. بالرغم من رجولته ووسامته، الفريدَة، فقد ابتليَ بامرأة مَوْصوفة بانعدام الجَمال. إنها " مزيّن "، الزوجَة الثانيَة. إلا أنّ سوءَ طباع هذه، كانَ يُسلي المَرءُ صفتها تلك، الأولى. كانت مُتكبّرة للغايَة، كونها شقيقة الآغا " طراد "؛ من رؤوس العشيرَة، " الزركيّة "، القاطنة في القسم الغربيّ من الحيّ.
إنها، إذاً، آموجني أخرى، لا تختلف كثيراً عن أبنة " سنجو موسو ". كنتُ آنذاك صغيراً للغايَة، مُتنقلاً باستمرار بين يَديّ هذه أو تلك من نساء عائلتنا؛ إلا " مزيّن "، التي كانت تتجنبُ، عادة ً، أطفالَ الآخرين. لا بل وكانت تتحيّنُ الفرَص للتنكيل بأخوتي، الأكبر مني سناً. ولكنّ كراهيتها لنا، نحنُ أولاد شقيق زوجها، كانَ لسببٍ مَفهوم، على الأقلّ: لقد ثبتَ عقمها، إثر مضيّ سنوات على اقترانها بعمّنا. بالمُقابل، كانت هيَ تصرّ على الجَزم، بأنّ رجلها غير قادر على الإنجاب طالما أنها كانت زوجته، الثانيَة. الأولى، ماتتْ مريضة وهيَ شابّّة بعد، بعدما عاشت مع زوجها شهوراً قليلة.

" ماما، حضّري لي بيجامتي، لأنّ آموجني دَعتني للمَبيت لديها في المنزل "
خاطبتْ بكرُ أسرتنا والدتها، بنبرَة عَسِرَة لطفلة في أعوام عُمْرها، الثلاثة. فما كانَ من الأمّ إلا إجابتها، ضاحكة ً: " لننتظر حتى المساء، فربّما غيّرَتْ امرأة عمّكِ رأيها ". قبل حلول ميقات المساء، كانت البنتُ الصغيرَة قد آبَتْ باكيَة ًمن منزل العمّ: " ماما، ضربتني آموجني بدون أن أفعل شيئاً سيئاً، وقالتْ أنها لا تريد رؤية وجهي أبداً ".
" مزيّن "، وعلى الرغم من اهتمامها بالأقاويل المُفيدة عزم رجلها على الزواج، مُجدداً؛ فإنها أصرّتْ على يقينها، بأنّ ليست هيَ السبب في عدَم إنجابهما ذريّة. الشقيق، الآغا، وكانَ صديقا حميماً للعمّ، كانَ قد حضرَ عدّة مرات لمُحاولة التوفيق بين الطرَفيْن. إلا أنه، أخيراً، تقبّلَ فكرَة زواج صهره بامرأة أخرى. وقالت أخته، مُعلقة على الخبر: " ليتزوّج، ولنرَ. سأبقى امرأته، لأنني على ثقة من عقمه ".
اقترنَ العمّ، إذاً، بصغرى خالاتي. شهرٌ على الأثر، وتعالتْ الزغاريد من القسم العلويّ من المنزل، مُستبشرة ً بتأكيد " الدايَة " أنّ الخالة حاملٌ. عند ذلك، تصاعدَ صوتٌ آخر من القسم التحتانيّ من منزل العمّ. " آموجني "، كانت إذاك تهاجمُ المَطبخ بجنون، مُحطمَة ً المطربانات الزجاجيّة والصحون البلوريّة والأواني الخزفيّة. ولم تكتفِ بذلك، المرأة الغاضبَة والمَجروحة الكبرياء. إذ قامت بعدئذ بتحطيم أصصَ أزهار " القرطاسيه "، الأثيرَة على قلبها، ناثرَة ً الحُطامَ والترابَ على الأرضيّة المُبلطة.
نكايَة ً بالعمّ، اقترَنتْ " مزيّن " بدَورها من رَجل آخر بعد طلاقهما بنحو العام. وبطبيعة الحال، كانَ العمّ ما يفتأ صديقا لشقيق امرأته تلك، السابقة. ومنه علمَ لاحقا، أنّ " مزيّن " المسكينة كانت لا تزال بدون أولاد.

قدّرَ للزوجيْن اللدودَيْن، المُطلقيْن، أن يتلاقيا ثانيَة ً في ظرفٍ غريب.
قبل ذلك، كنتُ قد أشبعتُ تنكيلاً ابنة العمّ، البكر. إذ كنتُ مُتآلفاً، في صغري، على تدليل خالتي لي، المُفرط. أما وقد أنجبَتْ هيَ بكرَها، فإنها راحتْ ولا غرو تهمل من شأني. وفي إحدى المرات، هتفتْ فيّ الخالة مازحة ً: " يا أخي، حلّ عن أبنتي. لدَيكَ أنتَ أمّ وهيَ لديها أمّ ".
طلعة مَقبرَة " رأس الحارَة "، كانت تفضي إلى زقاق " آل رشي ". هنا، في هذه التربَة، كانَ يُسجّى أقاربُ الأمّ، مُذ يوم رحيل جدّ أجدادها. ويبدو أنّ العمّ، الذي صارَ يُدعى بـ " الحاج "، كانَ ثمّة في ظهيرة، صيفيّة، تائهاً عن عنوان منزل أحد أصدقائه. المنزلُ، الذي طرقَ بابه للتوّ، كانَ يَقع على ناصيَة طلعة المَقبرة تلك. برهة على الأثر، وفتِحَ البابُ للعمّ على هيئة غريبة وأليفة، في آن: لقد كانَ وَجهاً لوَجه مَع " مزيّن ".
هكذا لقاء، كانَ مُستحيلاً لو كانا في زمن أسبق. أن تبادر المرأة، إلى فتح الباب بنفسها، كانَ من أشدّ المُحرّمات؛ بله امرأة العمّ، التي سبقَ أن انهالتْ عليها الطلقات لمُجرّد زيارة لمنزل لأقارب، البعيد عن منزلها ببضعة أمتار.
من جهتي، كنتُ مُعتاداً على المرور خلل الطلعة نفسها. وربما كنتُ ألقى " آموجني " بدون أن أعرفها أو تعرفني. ثمّة، كانَ يقيمُ أولاد " عبود "، المُنتمي والدهم لمنطقة " حوران " فيما والدتهم من عشيرَة " ألرشي ". كانَ أحدهم من جيلي، مُتميّزاً بالخبث والعبَث. في أحد الأيام، من عطلتنا المدرسيّة، الصيفيّة، كنتُ بعدُ غلاماً في الابتدائيّة. في مروري، وَحيداً، من تلك الطلعة، بُعيدَ اشتراكي بتشييع امرأة من الجوار، إذا بي ألمحُ على الأرض علبة من " الشيكلس "؛ وهيَ نوعٌ من اللبان المُمسّك، المَصنوع محلياً. كنتُ أتسلّى بمضغ حبّة منها، حينما استوقفني أبن " عبود ". قال لي مُشفقا: " هل بلعتَ الحبّة..؟ "
" لا، إنها في فمي ما تفتأ "
" أبصقها، حالاً؛ إنها مَسمومة. تلك المرأة، التي شيّعتْ اليومَ، ماتت عقب تناولها حبّة من نفس العلكة ". رَمَيتُ الحبّة، المَمْضوغة، والعلبَة أيضاً. ثمّ هُرعت مُروّعاً إلى المنزل. طوال الطريق، كنتُ أتطلع بأسى في وجوه العابرين والمُقيمين، علّ نظرَة أحدهم تكشف لي حقيقة حالي. وربما كانت تلك لحظة وداع للحارَة، الحبيبة. أخيراً، حينما لاحظت والدتي ما فيّ فإنني انفجرتُ باكياً. سَرَدّتُ على مَسمَعها، مُجهشاً مُنتحباً، حكاية العلكة المَسمومة، القاتلة. وإذا بها، على دهشتي، تنفجرُ ضاحكة ً: " يا بنيّ، كم أنتَ غشيمٌ. إنّ ذلك الولد، الماكر، قد استولى بالحيلة على العلبة. وهيَ الآن في يده، يتناول منها الحبّة وراءَ الحبّة ".



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن