عودة الحمار ( الجزء الثاني )

محمود يوسف بكير

2010 / 8 / 26

نشرنا في هذا الموقع منذ فترة قصة رمزية قصيرة جدا بعنوان " خناقة على من يركب الحمار " ولأنه من المفيد تذكر الجزء الأول حتى يفهم الجزء الثاني فإننا نعيد نشره هنا متبوعا بالجزء الجديد من باب التسهيل على قراء الموقع .

خناقة على من يركب الحمار
(الجزء الأول)
الحمار حيوان طيب ومطيع ووديع ويمتلك صبراً لا حدود له وهو رمز للعطاء بلا مقابل تقريباً لذلك يتخذه الحزب الديمقراطي في أمريكا شعاراً له ، بالإضافة إلى أنه قنوع ويرضى بالقليل فليس عنده مشكلة أن يأكل أي شيء أو أن ينام في أي مكان والأهم من كل هذا أنه لا يعترض على نوعية من يركبه فهو يدرك أنه مركوب مركوب ، وهو يؤمن إيماناً عميقاً أنه خلق لغرض واحد إلا وهو أن يمتطى وأن يسير حسبما توجهه عصا الراكب في طاعة أبديه عمياء ، ولهذا كله يتعرض الحمار كثيراً للظلم والامتهان .
رأيت حشداً كبيراً من البشر يلتفون حول مجموعة من الأشخاص يتجاذبون فيما بينهم حماراً مسكيناً ويتجادلون في صخب لا يخلو من عنف على من يركبه وكان الحمار كالعادة مجللا بالصمت ينظر إلى الأرض في انتظار حسم هذه المعركة حتى ينطلق بالراكب المظفر إلى حيثما يشاء .
كان من بين المتعاركين رجل سمين يرتدى ثياباً فاخرة وتبدو عليه أمارات الصحة والسطوة والقوة يرفع صوته الجهوري ويدعى أنه من نفس البلد التي ينتمي إليها الحمار وأنه يعرفه منذ الصغر وأن أباه كان يأخذه على حجره فوق ظهر هذا الحمار ومن ثم فهو أحق الناس به . لقيت إدعاءات الرجل تأييداً من بعض الحشد من أناس تبدو عليهم أيضاً علامات الغنى ويرتدون نظارات سوداء.
رأيت رجلاً آخراً ذا لحية كثيفة ويرتدى جلباباً أبيضاً وتقف وراءه امرأة منقبة بالسواد، رأيته يصرخ في وجه الحضور بأنه يحمل رسالة من جهة عليا تأمره أن يخلص هذا الحمار المسكين من سطوة هذا الرجل السمين الذي يستغل الحمار أسوأ استغلال ويسيء معاملته وبدأ يتوعد الجميع بأنه لن يبرح المكان إلا وهو وزوجته على ظهر هذا الحمار وإلا فالموت للجميع وشهر سيفه عالياً وعلى الفور اندلعت من أغلبية الحشد أصوات مؤيده ومباركة .
هناك أيضاً رجل أبيض يرتدى ما يشبه ملابس الكاوبوي الأمريكي يحاجى الجميع وهو يربت على ظهر الحمار بحنان مصطنع أنه أتى لتحريره من الظلم والقهر والهوان الذي يتعرض له وسط هذه البيئة المتخلفة التي لا تعي أن للحمير حقوقاً كما هو الحال للبشر ولقي هذا الكلام استحسانا من البعض وعندها هم الرجل ذو اللحية للاحتكاك به ولكن الرجل الأبيض أخرج بسرعة مسدساً من جيبه فالتزم الرجل الملتحي الصمت .
ظهر أيضاً من بين الحشد رجل يرتدى نظارة طبية وبدأ في إلقاء محاضرة معقدة عن حقوق الحمار التاريخية في إطار الصراع الحضاري والمذهبي ومعطيات التحليل الميكروكوزمي الهيكلي وتداعيات اللبرالية الراديكالية وإفرازاتها المخاطية.... الخ . ولكن أحدا لم يفهمه و لم يلق تأييداً ذا بال فتراجع إلى الخلف .
ظهر أناس آخرون من مشارب مختلفة كل يدعى أنه أحق بامتطاء الحمار ولكن بدا واضحاً أن الحمار سيكون على الأرجح من نصيب واحد من الثلاثة الأقوياء إما الرجل السمين أو الرجل الملتحي أو الرجل الأبيض .
وفجأة لاحظت من مكاني أن الحمار يبدو متململاً وغير سعيد بما يحدث حوله وما هي إلا لحظات حتى انطلق بشكل مفاجئ للجميع نحو ترعة غير بعيدة وانطلقنا جميعاً خلفه نحاول اللحاق به ولكنه كان يبرطع بسرعة غير عادية ورأيناه من بعيد يدرك حافة الترعة ويلقى بنفسه فيها ولما وصلنا إلى ذات الموقع لم نعثر له على أثر. البعض قال أنه انتحر غرقاً والبعض قال أن الحمار يجيد العوم ولابد أنه عبر الترعة إلى البر المقابل وانطلق هارباً بعد أن قرر أن ينعم بحريته لأول مرة في حياته .
اعترتنا جميعاً حالة من الذهول لما حدث فلم يكن أحد يتصور أن يثور الحمار إلى هذا الحد ويعرض نفسه للغرق طمعاً في الحرية والكرامة .
أصيب الرجل السمين بصدمة كبيرة وقرر مغادرة المكان، وعلى الفور تبعه مؤيدوه من أصحاب النظارات السوداء . البعض فسر هذا بأن الرجل السمين يخشى أن يعود الحمار للانتقام منه على ما فعله به فيما مضى ، أما الرجل الأبيض فقد اختفى أيضاً وقيل في هذا أن مبرر حضوره قد انتهى لأن الحمار أصبح حراً وطليقاً ، أما الرجل الملتحي فقد بدا سعيداً للغاية وقيل في هذا أنه يعرف أن الحمار سيعود إليه كي يجرب حظه معه .
والله أعلم .

الجزء الثاني

بعد مرور فترة قيل أنها لم تكن بالطويلة وقيل أنها لم تكن بالقصيرة ظهر الحمار في أحد الميادين العامة وشوهد الرجل الملتحي وجماعته وهو يحاول ترويضه بحزمة كبيرة من البرسيم . ولما كان طموح الحمار أكبر من هذا بكثير فقد بدا مترددا في أكل البرسيم لأنه يعلم بذكائه الفطري أنه فخ و أنه أثناء انشغاله بالأكل فان الرجل الملتحي سوف يمتطيه على الفور.
انتشر خبر عودة الحمار بسرعة ولأن للرجل السمين عيون في كل مكان فقد حضر على الفور ومعه ابنه وسط حشد من أتباعه مرتدي النظارات السوداء ، وفي تفسير سر حرصهم على ارتداء النظارات السوداء دائما قيل أنهم إما لصوص أو مخبرين ولذلك يتعين إخفاء هويتهم .
ووسط حشد كبير من الناس الذين يكتفون عادة بالمشاهدة ، بدأ الجدل المعتاد بين الرجل السمين والرجل لملتحي حول أحقية كل منهما بامتطاء الحمار ،ولوحظ أن الرجل الأبيض لم يكن حاضرا وقيل في هذا أنه لم تعد لديه رغبة في ركوب الحمار ذلك لكونه مشغولا ومهددا بالإفلاس في بلده ،ولكن أحد أتباع الرجل السمين أدعى أنه أرسل برقية تأييد تزكي ابن الرجل السمين لركوب الحمار .
وفي خضم احتدام الجدل والفوضى حول الحمار الملتزم بصمته الأبدي ، ظهر رجل وقور يرتدي نظارة طبية كان مؤيدوه ينادونه " بالدكتور " .
وبدأ الدكتور يتحدث عن أنه حضر خصيصا من أوروبا لإنقاذ الحمار المسكين ووضع حدا لاستغلال الرجل السمين له ومساعدته على اختيار أسلوب الحياة الذي يرتضيه لنفسه ، ولكن الرجل السمين اتهمه بأنه لا يعرف شيئا عن الحمار لسبب بسيط وهو أنه لم يراه من قبل كما أن أتباع الرجل السمين بدأوا يروجون إشاعة بين الحضور بأن شهادة الدكتوراه التي يحملها لم يكن موضوعها الحمير من قريب أو بعيد ،كما أن حمير أوروبا مختلفة تماما عن الحمير المصرية ومن ثم فأن الدكتور لا يصلح لركوب الحمار على الإطلاق ومن الأفضل له أن يعود من حيث أتى .
ولكن الدكتور لم يهتز لهذه الادعاءات وبدا يكيل للرجل السمين الاتهامات بأنه لم يرحم الحمار المسكين وأنه لسنوات يركبه ومعه جميع أفراد أسرته حتى أصيب الحمار بالهزال الشديد من فرط الاستغلال وسوء المعاملة وسوء التغذية ونفى ألدكتور اي رغبة له في ركوب الحمار ولكنه فقط لا يطيق أن يراه في هذا الوضع البائس .
تحمس جمهور المتفرجين لكلام الدكتور وبدأت همهمات تؤيد رأيه وتؤكد على إخلاصه .
أصيب الرجل السمين وأتباعه بحالة هياج شديد وبدأوا في سباب الدكتور وتهديد المتواجدين باستخدام القوة لو تجرا أي منهم على التفكير في امتطاء الحمار.
بدا أن الدكتور يحاول أن يقول شيئا ولكن صوته الضعيف ضاع وسط صياح ووعيد أتباع الرجل السمين ،وبدا أيضا أن الدكتور دخل في جدال حاد مع أتباعه لسبب غير مفهوم.
ومع احتدام الجدل تلفت الجميع نحو الرجل الملتحي الذي يتميز بقوة الصوت وكثرة الأتباع من الملتحين والملتحفات بالسواد. بدأ الرجل وأتباعه في التهليل والتكبير وترديد دعاء حسبنا الله ونعم الوكيل ولكن أصحاب النظارات السوداء ومعهم مجموعة من البلطجية الذين ظهروا فجأة بدأوا في صفع كل من يردد هذه العبارة على قفاه بقوة حتى صمت الجميع وسط حالة من الخوف والاستياء.
وبدأ البلطجية في ضرب وامتهان أي شخص تبدو عليه ملامح السخط والاستياء ممن يحدث ، واتقاءا للامتهان والأذى حرصت الأغلبية المتواجدة على إخفاء مشاعرها الحقيقة تجاه الرجل السمين وابنه ،بل أن البعض بدأ يتملقهما علنا وسمع أحد أتباع الرجل الملتحي وهو يقول لجاره "إن هذا أسلوب محمود في مثل هذه الظروف الصعبة "ويطلق عليه التقية أي إظهار مالا تبطن اتقاءا للأذى. البعض قال أن التقية هي اللفظ المؤدب للنفاق والتملق .
ومع غروب الشمس بدأ المتجمهرون في الانصراف. أما الدكتور فقد ظهرت عليه علامات الاستياء من عدم تفاعل الحاضرين معه واكتفاءهم بالفرجة أو الهمهمة، بالإضافة إلى عدم اتفاق أتباعه وشوهد وهو يبتعد وحيدا وقيل أنه يفكر في العودة إلى أوروبا مرة أخرى. وقرر الرجل السمين وابنه مغادرة المكان أيضا ولكنه ترك أتباعه يحاصرون الحمار .

أما الرجل الملتحي فقد شرع هو وأتباعه في إقامة خيمة قريبة من موقف الحمار وبدا أنهم يعدون لشئ ما في صباح اليوم التالي .
أما الحمار فقد انبطح أرضا من فرط تعبه وإجهاده وبدا أنه ينظر إلى السماء في انتظار مصيره المجهول .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن